رد: التقبيح والتحسين العقليان طرفان ووسط!
[FONT=Shorooq_N1]ملخص المسألة من كتاب التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه للدكتور عايض الشهراني
[/FONT]
* تعريف التحسين والتقبيح في اللغة والإصطلاح:
أولا: التحسين:
يرد الحسن في اللغة على معانى متعددة:
(1) خلاف السيء. وهو أعم المعاني وأشملها. (2) الجمال. (3) المرغوب. (4) المعرفة والإتقان.
واصطلاحا يراد به: النافع أو ما يعود به على فاعله نفع.
ثانيا: التقبيح:
يرد القبح في اللغة على معانى متعددة:
(1) خلاف الـحُسن. (2) الإبعاد والإقصاء والتنحية. (3) الكسر. (4) إنكار العمل المذموم. (5) الشتم.
واصطلاحا يراد به: الضار أو ما يعود به على فاعله ضرر.
والتعريف الإصطلاحى للتحسين والتقبيح هو منسوب إلى الإسفراييني, وقرره ابن تيمية في مواضع من كتابه.
* أول من أظهر هذه المسألة في المسلمين هم المعتزلة.
* أهمية المسألة:
- تصريح كثير من العلماء بأهميتها. كابن السمعاني وابن تيمية وابن القيم وابن نجيم والتفتازاني وغيرهم. قال ابن تيمية عنها: (وهذه مسألة كبيرة قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع).
وقال لما تكلم عن مسائل القدر والتحسين والتقبيح العقلى وأنواع الحكمة الناشئة من الأمر: وينبغي للعاقل أن يعرف أن مثل هذه المسائل العظيمة التي هي من أعظم مسائل الدين لم يكن السلف جاهلين بها ولا معرضين عنها. بل من لم يعرف ما قالوه فهو الجاهل بالحق فيها وبأقوال السلف وبما دل عليه الكتاب والسنة.
- لها تعلق بعلوم مختلفة. كعلم الكلام والأصول والفقه.
- مبنية على مسائل عقدية مهمة. كالقدر وخلق أفعال العباد وغيرهما.
- يترتب عليها مسائل مهمة. كوجوب الصلاح والأصلح, وشكر المنعم, واللطف, وكذا مسائل في الأصول والفقه.
- لها ارتباط وثيق بدليل القياس وتعليل الأحكام.
- تساهم القاعدة (إذا ضبطت) في ذكر محاسن الشريعة, وما تضمنته من حرص على جلب المنافع ودفع المضار.
قال ابن تيمية: ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحسن إلا لتعلق الأمر به وأن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها.
* اطلاقات الحسن والقبح:
الحُسْن والقُبْح يطلقان باعتبارات ثلاثة:
الاعتبار الأول: الحُسْن هو ملاءمة الطبع وموافقته، والقُبْح هو منافرة الطبع ومخالفته.
مثال ذلك: حسن إنقاذ الغرقى, وقبح إتهام الأبرياء, وحسن الحلو, وقبح المر, وحسن الفرح, وقبح الألم.
ومقصودهم بالملاءمه والمنافرة: ان يكون الفعل سببا لما يحبه الفاعل ويلتذ به، وسببا لما يبغضه ويؤذيه، فالملاءمه تتضمن حصول المحبوب المطلوب المفروح به، والمنافرة تتضمن حصول المكروه المحذور المتأذى به.
* وعبر بعضهم عن ذلك بملاءمه الغرض ومنافرته .
ومرادهم بالغرض هنا : ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل المختار .
وقال بعضهم: بأنه قد يعبر عن ذلك بالمصلحة والمفسدة، فيقال: الحسن ما فيه مصلحة، والقبيح ما فيه مفسدة.
قال الشربينى: (ومآل المعانى الثلاثة واحد، فإن الموافق للغرض فيه مصلحة لصاحبه ملاءمة لطبعه، لميله إليه بسبب اعتقاد النفع ، ومخالفه مفسدة له غير ملائم لطبعه).
والطبع هنا لا يراد به هنا المزاج, بل يراد به الطبيعة الإنسانية المائلة إلى جلب المنافع ودفع المضار.
الاعتبار الثاني: اطلاق الحُسْن على ما هو صفة كمال، والقُبْح على ما هو صفة نقص.
فالحسن: ما أشعر بالكمال؛ كصفة العلم والشجاعة والكرم.
والقبيح: ما أشعر بالنقص؛ كصفة الجهل والجبن والبخل.
وقد نازع ابن تيمية في اعتبار هذا القسم قسما مستقلا, فقال: ومن الناس من أثبت قسما ثالثا للحسن والقبح وادعى الاتفاق عليه: وهو كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص وهذا القسم لم يذكره عامة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة؛ ولكن ذكره بعض المتأخرين: كالرازي وأخذه عن الفلاسفة. والتحقيق أن هذا القسم لا يخالف الأول فإن الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال هو يعود إلى الموافقة والمخالفة وهو اللذة أو الألم فالنفس تلتذ بما هو كمال لها وتتألم بالنقص فيعود الكمال والنقص إلى الملائم والمنافي.
قال الدكتور عايض الشهراني:
والذى يظهر أن ثمة تداخل بين الإطلاقين، على أن بعض المحققين ذكر أن الإطلاق الأول باعتبار الملاءمة والمنافرة يختص بالأفعال، والإطلاق الثانى باعتبار صفة الكمال والنقص يختص بالصفات.
* حكم الإطلاق الأول والثانى:
ذكر جميع كبير من العلماء الإتفاق على أن الحسن والقبح بهذين الاعتبارين عقليان، أى يستقل العقل بإدراكهما من غير توقف على الشرع من غير خلاف عند أحد من العقلاء.
لذا يقول الرازى :: لا نزاع فى أنا نعرف بعقولنا كون بعض الأشياء ملائماً لطباعنا، وبعضها منافراً لطباعنا، فإن اللذة وما يؤدى إليها ملائم، والألم وما يؤدى إليه منافر، ولا حاجة فى معرفة هذا الملائمة وهذه المنافرة إلى الشرع. وأيضًا نعلم بعقولنا أن العلم صفة كمال والجهل صفة نقص.
قال القرافى: والأولان عقليان إجماعاً ، وانما وقع الخلاف فى الثالث.
وقال الطوفي :- تعليقاً على قول الرازى وغيره: إنهما بهذين المعنيين عقليان – ما نصه: (وفي هذا الإطلاق نظر وتجوز, فإنهما بالمعنى الأول إنما يعرفان بالطبع والحس والوجدان، والأمر قريب).
ومراده – والله أعلم – أن مصدر المعرفة بالنسبة للملاءمة والمنافرة هو الطبع والحس والوجدان؛ لأن ذلك غير مخصوص بالعقلاء ، كما سيأتي .
وقوله: "والأمر قريب" يحتمل أنه يريد أن حكاية الاتفاق على أن الحسن والقبيح بهذا المعنى لا يحتاج إلى الشرع حقٌ لا مراء فيه سواءً أكانا معتمدين فى ذلك على الحس أو الطبع أو الوجدان أو العقل.
وذكر ابن تيمية : أن إطلاق الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة، والذى أرجع إليه المعنى الثانى - وهو صفة الكمال والنقص كما سبق - قد يعلم بالحس والعقل والشرع أو بأحدها.
وقال: وهو أمر مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم). بل قال: (هذا موجود في جميع المخلوقات).
قلت: ولا شك ان الملاءمه والمنافرة قد يعرفها من لا يعقل، فلا يصح دعوى أنها عمليه عقليه صرفة، بل يمكن القول بأنها عمليه فطريه في أحيان كثيرة ، فُطرت عليها جميع المخلوقات.
وفى هذا يقول ابن برهان : عند كلامه عن هذا المعنى: وهو غير مخصوص بالعقلاء فإن البهائم تنفر عما يضرها وتميل الى ما ينفعها.
وهذا إنما يكون بالفطرة التى فطرت عليها جميع الأحياء من حيوانات ونباتات وغيرها، لذا فالذى يظهر أن منها ما يعرف بالعقل كما فى المبادئ العامة التى حُكى فيها اتفاق العقلاء كحسن العدل وقبح الظلم، ونحو ذلك، ومنها ما يكون بمجرد الفطرة، ومنها ما يعرف بالحس.
الاعتبار الثالث: أن الحُسْن هو استحقاق الثواب والمدح، والقبح استحقاق العقاب والذم.
وممن ذكر أن النزاع فى ذلك (الباقلانى وعبد القاهر البغدادي والجوينى وابن برهان وغيرهم) [SUP]([/SUP]
[1][SUP])[/SUP].
ذكر ابن برهان خلال مناقشته للمعتزلة، حيث قال: (معاشر المعتزلة أتعنون بقولكم: من الأشياء ما يحسن قبل ورود الشرع، ومنها ما يقبح قبل ورود الشرع أن منها ما تميل النفوس إليه، ومنها ما تنفر عنه؟ فإن عنيتم ذلك فهو مُسَلَّم إلا أنكم لا تنتفعون به بسبب أن هذا غير مخصوص بالعقلاء، فإن البهائم تنفر عما يضرها وتميل إلى ما ينفعها، وإن عنيتم بالقبح والحسن أن فاعل الحسن يستحق عليه الثواب، وفاعل القبيح يستحق عليه العقاب، فهذا هو مذهبهم على التحقيق، وهو الذى عنوه وأرادوه ووضعنا الكلام فيه وأقمنا البرهان عليه).
قلت: وهذا كلام صريح جداً فى التسليم بعدم الخلاف فى الحسن والقبح بمعنى ميل النفوس ونفرتها، وأن محل النزاع إنما هو فى ترتيب استحقاق الثواب والعقاب على الفعل بالعقل.
*** تحرير محل النزاع ***
* مواطن الاتفاق في المسألة ، هي ما يلي:
أولاً : الأحكام العقلية كالحسابيات والهندسيات ونحوها:
هذه الأحكام مما اتفق الجميع على كونها مدركة بالعقل ، ولا يتوقف دركها على الشرع .
ثانياً : الأحكام الشرعية التعبدية :
فهذه الأحكام مما لا خلاف بين العلماء أن مرجعها إلى الشرع دون العقل .
ثالثا : كل ما أمر الله به ورسوله ، وكل ما نهى عنه الله ورسوله :
فقد اتفق الجميع على أن المأمورات الشرعيه حسنه ، وأن المناهى الشرعية قبيحة .
* وأما مواطن النزاع في هذه المسألة :
فالظاهر لي أنها في الآتي :
أولا: الادراك العقلي لحسن الاشياء أو قبحها :
بمعنى أن الافعال والأعيان هل فى ذواتها حقائق متقررة هي أهلٌ لأن تراعى وتؤثر وتستتبع الرفع من شأنها أو شأن المتصف بها، وحقائق هي أهلٌ في نفسها لأن يعدل عنها ، وتستتبع الوضع من شأن من اتصف بها.
ثانيا: الحسن والقبح بمعنى كون الفعل سببا للمدح والثواب أو الذم والعقاب هل يعلم بالعقل أو لا يعلم إلا بالشرع؟.
أو بعبارة أخرى المجازاة على الافعال بذم أو عقاب أو مدح أو ثواب، هل تعرف بالعقل أو يستقل الشرع بها؟.
فهذا محل نزاع آخر بين من أقرَّ بالأول, وهو قضية إدراك حسن الأشياء والأفعال أو قبحها من الأشعرية ومن وافقهم من جهة وبين خصومهم من جهة أخرى.
* مذاهب العلماء فى التحسين والتقبيح :
لقد اختلف العلماء فى هذه المسألة اختلافا كبيرا، وقد حصل الخلاف حتى فى المذهب الواحد، بل قد يجد الناظر لعالم واحدٍ أكثر من رأي له في هذه المسألة، مما يدل على أنها من المسائل المشكلة لدى الكثير.
وهذا الاشكال أثر في قضية نقل الخلاف في هذه المسألة ونسبه الاقوال الى المختلفين.
وملخص ما بدا لي في هذه المسألة: أن العلماء اختلفوا فيها على ثلاثة مذاهب إجمالًا:
المذهب الاول : نفي التحسين والتقبيح العقلي :
وينسب هذا القول إجمالا إلى الأشعرية .
وعند إنعام النظر في نصوص القائلين بهذا القول إجمالا يظهر أنهم مختلفين على ثلاثة أراء:
الرأى الأول: نفي ادراك العقل لحسن الأشياء أو قبحها، وأن الافعال لا توصف بالحسن والقبح لذواتها، فليس في العقل حسنُ حسنٍ ولا قبحُ قبيحٍ، وليس للأفعال في نفسها صفة يكشف عنها الشرع، بل حسن الافعال وقبحها مستفادان من الشرع فحسب، ولو عكس القضية، فحسَّن ما قبَّحة أو قبَّح ما حسَّنه لم يكن ممتنعا ، وانقلب الامر .
ويرون أن لا مدح ولا ثواب ولا ذم ولا عقاب إلا بالشرع، فهم ينفون الأمرين معاً ، وهما :
(1) مجرد الإدراك العقلى لحسن الأشياء وقبحها .
(2) استحقاق المدح والذم على الفعل عاجلاً ، أو الثواب والعقاب عليه آجلاً بالعقل ، بل مردُّ الأمرين عندهم إلى الشرع فحسب .
وهذا الرأي ظاهر كلام الإمام الاشعري :، ففي كتابه (اللمع) وخلال مناقشته للمعتزلة فى مسألة: هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال فى الآخرة؟ قال ما نصه: (فإن قال: فإنما يقبح الكذب لأنه قبحه؟ قيل له: أجل. ولو حسنه لكان حسناً، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض).
قلت : وهذا نص واضح عن الأشعرى يصرح فيه بأن الأفعال لا تكون لعينها حسنة ولا قبيحة ألبتة، وإنما الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه، ولو عكس الأمر لانعكس.
وقوله فى تعريف الحسن والقبيح : (وأجمعوا على أن القبيح من أفعال خلقة كلها هو ما نهاهم عنه وزجرهم عن فعله ، وأن الحسن ما أمرهم به أو ندبهم إلى فعله أو أباحه لهم).
فهذا مذهب الأشعرى في المسألة يصرح فيه بأن العقل لا يدرك حسنًا ولا قبحاً أصلاً.
وهو ما نقله عنه الإمام السِجْزي : وانتقده عليه، حيث قال : (على أن الأشعرى يزعم أن العقل لا يقتضي حسناً ولا قبيحاً ، وهذا لعمري مخالفة العقل عياناً).
وقال أيضاً : (وقال الأشعرى : العقل لا يقتضي حسن شيء ولا قبحه ، وإنما عُرف القبيح والحسن بالسمع ، ولولا السمع ما عُرف قبح شيء ولا حسنه).
بل وصف الإمام السِجْزي : طريقة الأشعري هذه بالطريقة الشنعاء وأوضح أن الذى دعاه إليها المبالغة فى ردِّ ما عند المعتزلة .
وذكر السِجْزي أنه مما أحدثه الأشعرى فى الإسلام ، وكذا ذكر أبو القاسم سعد بن على الزنجانى أن هذا المذهب من بدع الأشعرى .
قال ابن تيمية :: (وهذا الأصل من الأصول المبتدعة فى الاسلام ، لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن العقل لا يحسن ولا يقبح ، أو أنه لا يعلم بالعقل حسنُ فعلٍ ولا قبحه ، بل النزاع فى ذلك حادث فى حدوث المائة الثالثة).
وهذا ما جرى عليه جمهور الأشاعرة وأكثر متقدميهم ، واختاره كثير من أتباع الأشعرى من أرباب المذاهب الأربعة.
وسأذكر فيما يلى طرفا من نصوصهم المتظافرة فى إفادة هذا الرأي والقول به .
فمن ذلك : قول الباقلانى :: (واعلموا أنه ليس تحت وصف فعل المكلف بأنه حسن أو قبيح صفة هو فى نفسه عليها يستحقها لذاته وجنسه أو لمعنى يقوم به أو لوجه فى العقل عليه ..... ، بل العقل لا يحسن شيئاً فى نفسه لما هو عليه من الصفة والوجه ، ولا شيئاً يدعو إلى ما هذه سبيله ، ولا يقبح شيئاً فى نفسه وما هو عليه ولا شيئاً يدعو إلى فعله.
كل هذا باطل لا أصل له، وإنما يجب وصف فعل المكلف بأنه حسن وقبيح إنه مما حكم الله بحسنه أو قبحه، ومعنى حكمه بذلك: ليس هو إخباره – تعالى – عن صفة هو فى العقل عليها، وإنما معناه: أمره لنا بمدح فاعل الحسن وتعظيمه وحسن الثناء عليه، والعدول عن ذمه وانتقاصه، لا معنى لوصفه بأنه حسن أكثر من ذلك، وكذلك معنى وصف الفعل بأنه قبيح إنه مما أمرنا الله تعالى بذم فاعله وانتقاصه وسوء الثناء عليه به).
قلت : فهذه ألفاظ صريحة فى القول بهذا الرأى.
ويقول الجويني :: (ثم من أحكام الشرع التقبيح والتحسين، وهما راجعان إلى الأمر والنهي، فلا يقبح شيء فى حكم الله تعالى لعينه ، كما لا يحسن شيء لعينه).
ونقل هذا المعنى أيضا عن (أبو الوليد الباجى، والغزالي، وابن السمعاني، وابن برهان, والشهرستاني، والايجي، والآمدى[SUP]([/SUP]
[2][SUP])[/SUP])[SUP] ([/SUP]
[3][SUP])[/SUP].
* القائلون بهذا الرأي:
هذا هو رأي جمهور الاشاعرة نقلته بعباراتهم ونصوصهم .
ووافقهم في هذا الرأي بعض الحنفية .
وقال به كثير من المالكية ، كأبي الوليد الباجي ، وأبي بكر ابن العربي والشاطبي وغيرهم .
وقال به كثير من الشافعية ، منهم مسبق النقل عنه آنفا .
ونسب هذا الرأى الى الإمام أحمد, لقوله: (ليس في السنة قياس ولا تضرب لها الامثال ولا تدرك بالعقول، وإنما هو الاتباع).
واختلف الحنابلة: فمنهم من قال بهذا الرأى كالقاضي أبي يعلى وأبي عبد الله ابن حامد وأبي الحسن ابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم ، ومنهم من خالفه ، كما سيأتي .
* موقف الحنابلة من رواية أحمد السابقة:
أوَّل أبو الخطاب رواية أحمد السابقة بقوله:
(وهذه الرواية إن صحت عنه ، فالمراد بها الأحكام الشرعيه التى سنّها الرسول r وشرعها).
ويرى ابن تيميه : أن مراد الامام أحمد من هذا الكلام الرد على من يجعل العقل معيارا على السنه بحيث يعرض عليه ما جاء على لسان الرسول r، فان وافق عقله أيده وإلا رفضه, وليس في كلام أحمد رد على من يجعل العقول موافقة للسنة أو يقيس عليها النظائر. حيث يقول : ما نصه:
(قلت: قول أحمد (لا تدركها العقول) أي: أن عقول الناس لا تدرك كل ما سنّه رسول الله r, فإنها لو أدركت ذلك, لكان علم الناس كعلم الرسول، ولم يُرد بذلك أن العقول لا تعرف شيئا أُمر به ونهي عنه.
وقال بهذا الرأي أيضا طائفة من الجبرية كالجهم بن صفوان وأتباعه.
ونسب هذا الرأي أيضا لأهل الحديث، والصحيح أن لهم قولين في هذه المسألة : نفي التحسين والتقبيح العقليين وإثباتهما ، قال بكل قول طائفة منهم .
وكذا قال بهذا الرأي طائفة من الصوفية ، إذ إن بينهم فيه اختلافا .
وهو قول ابن حزم الظاهري .
ونسب الرازي هذا القول الى الفلاسفة ، وهو خلاف المشهور عنهم .
الرأى الثاني: الاقرار بالإدراك العقلي لحسن ما هو ملائم وقبح ما هو منافر، وكذا حسن ما هو كمال من الصفات كحسن العلم والقدرة ونحو ذلك، وقبح ما هو نقص من الصفات، كقبح الجهل والعجز ونحو ذلك.
لكن هؤلاء لا يرون المدح بما حسن عقلا ولا الذم بما قبح عقلا من هذه الأمور في الدنيا، ولا يرون أنه يثاب على ما استحسنه العقل ولا أنه يعاقب على ما استقبحه العقل في الآخرة ، إذ لا مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب عندهم إلا بالشرع .
وفي هذا يقول الرازي :: (لا نزاع في أنا نعرف بعقولنا كون بعض الأشياء ملائما ، والألم وما يؤدي إليه منافر ، ولا حاجة في معرفة هذه الملاءمة وهذه المنافرة الى الشرع .
وأيضا نعلم بعقولنا أن العلم صفة كمال والجهل صفة نقص.
إنما النزاع في أن كون بعض الأفعال متعلق الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، وكون البعض الآخر متعلق المدح في الدنيا والثواب في الآخرة ، هل هو لأجل صفة عائدة إلى العقل أو ليس الأمر كذلك ، بل هو محض حكم الشرع بذلك... ومذهبنا أنه مجرد حكم الشرع .
وهذا قول جمهور المتأخرين من الأشاعرة ، كما أنه منقول عن بعض متقدميهم كما سلف. وتبع الأشاعرة عليه جمع من العلماء في شتى الذاهب .
فهؤلاء بعد إقرارهم بحسن الملائم وما هو كمال من الصفات ، وقبح المنافر وما هو نقصان من الصفات عقلا ينازعون في المدح والثناء على من اتصف بها أو الذم والانتقاص منه في الدنيا ، وعلى ترتب الثواب والعقاب على ذلك في الآخرة بمجرد العقل .
ولا شك أنهم بتسليمهم بهذين الأمرين - الملاءمة أو المنافرة والنقص أو الكمال - ومنعهم اشتمال الذوات والأفعال على صفات هي للحسن أو القبح ، وأهل لأن يمدح أو يذم بها فيه من التناقض ما لا يخفى.
إذاً هناك خلاف قوى فى قضية الإدراك العقلي لحسن أو قبح الأشياء وذواتها خالف فيه الأشاعرة مع تسليم بعض متقدميهم وكثير من متأخريهم بإطلاق الحسن والقبح على الملاءمة والمنافرة وعلى صفة الكمال والنقص.
وهذا ما أظهر تناقضا كبيراً لدى كثير منهم.
إذا يلزم – فى الحقيقة – من التسليم بالتحسين والتقبيح فى تلك الصور؛ إقرارهم بإدراك العقل لحسن الذوات والأفعال أو قبحها بصرف النظر عن حكمها الشرعي وجزائها الأخروي.
لذا يقول ابن تيمية : بعد أن ذكر تحريرهم لمحل النزاع وحكايتهم الاتفاق على إطلاق الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة وكذا الكمال والنقص – ما نصه : (وهذا الذى اتفقوا عليه حق، ولكن توهموا بعد هذا أن الحسن والقبح الشرعى خارج عن ذلك، وليس الأمر كذلك، بل هو فى الحقيقة يعود إلى ذلك، لكن الشارع عرف الموجود وأثبت المفقود، فتحسينه إما كشف وبيان وإما إثبات لأمور فى الأفعال والأعيان).
وهذا كلام دقيق جدا، حيث إنه يلزمهم إذا سلموا بالحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة أو الكمال والنقصان؛ إثبات ذلك فى الأعيان والأفعال، ويكون الشارع كاشفا ومبيناً لهذا الحسن أو القبح، هذا فيما ظهر لنا حسنه أو قبحه فى الجملة، أما ما خفي علينا فالشارع يثبته لنا حتى نعلمه، وذلك التحسين أو التقبيح العقلي لما ظهر لنا حسنه أو قبحه لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ولا إيجاب ولا تحريم, لأن ذلك إنما مرجعه إلى الشرع فحسب.
والأشاعرة يعارضون فى مبدأ وصف الأفعال بالحسن والقبح لذواتها، فلا يسوغ منهم بعد ذلك الإقرار بحسن ما هو كمال أو ملائم وقبح ما هو نقص أو منافر، إذ لا يمكن تحسين ما هو كمال إلا بعد إدراك كماله وكذا لا يمكن تحسين ما هو ملائم إلا بعد إدراك نفعه وملاءمته، وكذا فى جانب التقبيح أيضاً لما هو ناقص أو منافر.
فالتسلم بهذين المعنيين لو أعطى حقه والتزمت لوازمه لأدى إلى الاتفاق فى إدراك الحسن والقبح العقليين، وعادت المسألة فى قضية الإدراك إجماعية لا نزاع فيها .
فظهر أن التزام لوازم هذا التفصيل وإعطاءه حقه يرفع النزاع ويعيد المسألة اتفاقية ولكن الطائفتين تأبى التزام ذلك فلا بد لهما من التناقص.
وممن دلل أيضا على تناقضهم في ذلك (صدر الشريعة الحنفي ، والمقبلى ، وابن القيم).
يقول المقبلي: (نعم هاهنا شيء مما ينبغي صرف النظر إليه, وهو اعتراف الأشاعرة والاتفاق منهم ومن سائر الناس أن التحسين والتقبيح بمعنى الكمال والنقص ثابت في نفس الأمر، وهذا يكاد يلحق الخلاف بالوفاق، فإن الكمال يستتبع الرفع من شأن من اتصف به، والنقص يستتبع الوضع من شأن من اتصف به، ولا شك أن من الرفع المدح للمتصف بالكمال، ومن الوضع الذم للمتصف بالنقص، بل إطلاق الكمال والنقص مدح وذم).
بقي هنا أن أبين أمورا في غاية الأهمية ينبغي ضمها لما مضى، لتكون تصورا واضحا لهذا الرأي، ليظهر للعيان ويزول عن الناظر فيه مشكلة الإيهام, وهذه الأمور هي:
أولا: أنهم مع إقرارهم بحسن ما يلائم الفاعل وقبح ما ينافره، فهم ينفون إطلاق الحسن والقبح بهذا المعنى في حق الله تعالي، إذ الحسن في حق الله تعالي عندهم هو ما شاءه وقدره، والقبيح في حقه تعالي عندهم هو الممتنع لذاته.
ثانيا: جمهور الأشاعرة من أصحاب هذا الرأي وغيرهم يرون الجبر في مسألة التحسين والتقبيح العقليين.
فقد استدل كبار منظريهم بالجبر علي نفي التحسين والتقبيح، بل جعله الرازي وغيره من اقوى الأدلة في ذلك.
الرأي الثالث: الإقرار بثبوت الحسن والقبح العقليين فى أفعال العباد دون أفعال الله تعالى.
واختار هذا الرأي الرازى : فى كتابيه المعالم فى أصول الدين والمطالب العالية.
حيث قال فى المعالم: (فاعلم أن مذهبنا أن الحسن والقبح ثابتان فى المشاهد بمقتضى العقل، وأما فى حق الله تعالى فهو غير ثابت ألبتة).
وذكر ابن تيمية : أن هذا الرأى اختاره الرازى فى آخر مصنفاته.
وقال فى موضع آخر: أن هذا الرأي اختاره الرازي فى آخر مصنفاته.
وقال فى موضع آخر: أنه اختاره فى آخر أمره ، وذكر فى موضع ثالث أنه سلّم به فى آخر عمره .
ويلحظ أن هذا الرأى قد أشار إليه الجويني فى كتابه البرهان، حيث قال : (لسنا ننكر أن العقول تقضي من أربابها اجتناب المهالك وابتدار المنافع الممكنة على تفاصيل فيها ، وجحد هذا خروج عن المعقول ، ولكن ذلك فى حق الآدميين ، والكلام فى مسألتنا مداره على ما يقبح ويحسن فى حكم الله تعالى).
وهو ظاهر فى قوله بهذا الرأى فى هذا الموضوع.
والحق أن هذا الرأى يعتبر تطوراً تدريجياً لفكر من قال به من نفاة التحسين والتقبيح العقليين ، لكن لا بد لإيضاح هذا الرأى أيضاً من أن تضم إليه الأمور الثلاثة التى سبق ذكرها آنفاً خلال عرض الرأى الثانى للنفاة ، حتى يفهم المراد به حقيقة ، والله أعلم .
المذهب الثاني فى المسألة : إثبات التحسين والتقبيح العقليين :
وقد اشتهر هذا القول عن المعتزلة ، وتبعهم عليه كثير من أرباب المذاهب الأخرى ممن سيأتي نقله عنهم إن شاء الله .
وفيما يلى سألخص موقف المعتزلة من قضية التحسين والتقبيح من خلال كتبهم فى النقاط التالية :
أولاً : إن للعقل عند المعتزلة أن يعرف بعض المقبحات والمحسنات ، ولو لم يكن ثمَّ رسول ولا رسالة .
يقول القاضى عبد الجبار: (ومن كمال العقل أن يعرف بعض المقبحات وبعض المحسنات وبعض الواجبات، فيعرف قبح الظلم وكفر النعمة والكذب الذى لا نفع فيه ولا دفع ضرر، ويعلم حسن الإحسان والتفضل، ويعلم حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك مانع, وحسن الذم الإخلال بالواجب مع ارتفاع الموانع).
وشاهدي من هذا أن القاضي عبد الجبار جعل العقل موجباً ومقبحاً كالسمع ، فسواء كان الإيجاب عن طريق العقل أو السمع، فالأمر عنده لا يعدو كونه اختلافًا في الطريق فحسب من غير أن يؤثر في النتيجة, وهي التحسين أو التقبيح أو الإيجاب.
ثانياً : إنه إلى جانب كون العقل عند المعتزلة يمكن أن يدرك حسنُ الحسن وقبحُ القبيح من غير توقف على الشرع ، وأن الحسن أو القبيح قد يعرفان حتى من دون العلم بالأمر والنهي والآمر والناهي ، فهم ينكرون أشد الانكار على من يجعل الحسن حسنا للأمر به ، والقبيح قبيحًا للنهي عنه .
يقول عبد الجبار : (فلو قبح القبيح للنهي - وقد عرفنا أنه لا يحصل العلم بالقبيح إلا بعد العلم بوجه القبح على جملة أو تفصيل على ما تقدم - للزم فيمن لا يعرف الله أن لا يكون عارفاً بقبح قتل القاتل ولده وغضب ماله، وأن لا يفرق بين المسيء والمحسن، لأن علمه بالنهى يترتب على العلم بالناهي، ومعلوم أن الملحد كالموحد فى هذا الباب فى العلم بما ذكرنا من القبيح والحسن).
ثالثاً : إن الشرع عند المعتزلة لا يعدو كونه مقرراً لما رُكِّب فى العقول أصلاً، وأنه مجرد كاشف عن حسن الحسن وقبح القبيح لا أنه موجب للحسن أو القبح.
لذا يقول القاضي عبد الجبار: (واعلم أن النهى الوارد عن الله U يكشف عن قبح القبيح, لا أنه يوجب قبحه ، وكذلك الأمر يكشف عن حُسنه لا أنه يوجبه).
وبهذا يخالف المعتزلة الأشاعرة الذين يرون أن الشرع موجب لا مجرد كاشف .
رابعاً : إن المعتزلة بالغوا فى تمجيد العقل حتى جعلوه مقدماً فى النظر للتوصل إلى الأحكام الشرعية وأعطوه دوراً أولياً وسابقاً على الشرع .
يقول أبو الحسين البصري : (أما التوصل إلى الأحكام الشرعية ، فهو أن المجتهد إذا أراد معرفة حكم الحاثة فيجب أن ينظر ما حكمها فى العقل ؟ ثم ينظر هل يجوز أن يتغير حكم العقل فيها ؟ وهل فى أدلة الشرع ما يقتضى تقدم ذلك الحكم أم لا ؟ .
فإن لم يجد ما ينقله عن العقل قضى به ، والشرط فى ذلك : هو علمه بأنه لو كانت المصلحة قد تغيرت عما يقتضيه العقل لما جاز أن يدلنا الله تعالى على ذلك .
فإن وجد فى الشرع ما يدل على نقله قضى بانتقاله، لأن العقول إنما دلت على تلك الأحكام بشرط أن لا ينقلنا عنه د ليل شرعي).
قلت: فهذا ترتيب المعتزلة للأدلة، وإن كانوا قد قيدوا نظر العقل بعدم الناقل الشرعي, لكن هذا الترتيب في الاستدلال – من أصله – غير صحيح؛ لأن الواجب هو النظر في الأدلة السمعية أولا, فإن لم يوجد فيها ما يدل على الحكم الشرعي؛ انتقل عنها إلى الأدلة العقلية، أما أن يُجعل العقل مقدماً على النقل فى النظر فغير مُسلَّم.
وهكذا القاضي عبد الجبار يرى تقدم العقل على سائر الأدلة ، بل وعلى هيمنته عليها ، وأنها تابعة له ومترتبة عليه ، حيث يقول : (والدلالة أربعة : حجة العقل ، والكتاب ، والسنة ، والإجماع).
خامساً : إن العقل عند المعتزلة يمكن أن يوجب ويحرم ، وليس له مجرد إدراك ذلك .
قسَّم القاضي عبد الجبار الواجبات إلى قسمين : عقلي وشرعي، وقال: (فالعقلي: هو ما استفيد وجوبه بالعقل ... والشرعي: هو ما استفيد وجوبه بالشرع).
وفى هذا إيجاب صريح بالعقل لا يجد المعتزلة أدنى غضاضة فى البوح به.
بل إن القاضي عبد الجبار عقد فصلاً بعنوان : (فصل فى أن المكلف يعلم بعقله ما كلف من دون سمع).
وفى هذا العنوان ما لا يجعل مجالاً للشك فى أن المعتزلة يرون الإيجاب والتحريم وجميع الأحكام التكليفية بالعقل, سواء ما علمه العقل بالاضطرار أو بالاكتساب.
لذا يقول القاضي تحت العنوان السابق: (وبعد ، فإن الذي يعلمه العاقل باضطرار لا يفتقر فيه إلى سمع ، كالعلم بقبح الظلم وكفر النعمة ، ووجوب الإنصاف والشكر ، وكذلك لا يحتاج إلى السمع فيما عليه دليل معلوم من جهة العقل ، لأنه يمكنه أن ينظر فيه فيعرف المدلول ...).
سادساً : رتب المعتزلة على التحسين أو التقبيح العقليين المدح والثواب أو الذم والعقاب .
وهذا ما صرح به أئمتهم فى مواضع عدة .
وعقد القاضي عبد الجبار فصلاً فى بيان الواجبات العقلية، قال فيه ما نصه: (وكما أن إقدامه على القبيح يقتضي الذم والعقاب على بعض الوجوه، فكذلك إخلاله بالواجب ويمكنه ألا يخل به كما يمكنه أن يخل بالقبيح).
فقد ذكر هذا فى بيان الواجبان العقلية وأن الإخلال بها يقتضي الذم والعقاب على بعض الوجوه .
وقال فى آخر هذا الفصل: (فإذا ثبتت هذه الجملة ، فالواجب على المكلف فيما يلزمه من هذه الواجبات أن يؤديها ويحترز من العقوبة والذم بالإخلال بها).
وقال أيضا فى شرح الأصول الخمسة: (ثم إنه : لما رأى أن من حكم القبيح استحقاق الذم والعقاب عليه، وأنه لا بد من أن يكون للمكلف طريق إلى إزالة العقوبة عن نفسه بين الطريق إلى ذلك على ضرب من الإجمال).
ومن خلال ما سبق من تلك النصوص يتضح بجلاء أن المعتزلة لم يقتصر قولهم على مجرد الإدراك العقلى لحسن الحسن وقبح القبيح ، بل تعدى ذلك إلى إيجابهم وتحريمهم بالعقل وترتيب.
سابعاً : إن حسن الفعل أو قبحه عند المعتزلة صفة ذاتية فى الفعل نفسه لازمة له، وليست خارجة عنه، فلا ترجع إلى حال تتعلق بالفعل، مثل كونه آمراً ناهياً، أو مربوباً ومملوكاً، كما لا ترجع إلى مجرد ورود الأمر والنهي الشرعيين.
ثامناً: يرى المعتزلة أن أفعال الله تعالى كلها حسنة، وأنه لا يختار سوى الحسن، وأن الله لا يفعل القبيح.
قال عبد الجبار: (فيجب إذا عرفنا فى فعل من الأفعال أنه فعله U أن نقضي بحسنه، ونعرف أن فيه وجهاً من وجوه الحسن إما على جملة أو تفصيل، وإذا انتهينا إلى فعل قبيح فيجب أن نقضي بأنه ليس من جهته). وعلل ذلك بأن الله لا يريد القبائح ولا يشاؤها، بل يكرهها ويسخطها.
ورتب المعتزلة قولهم ذلك على قولهم فى الإرادة والمشيئة إذ يرون أن الإرادة تستلزم الرضا، ولا فرق عندهم بين الإرادة والرضا والمحبة والمشيئة، وقالوا بأن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ويكره الكفر والفسوق والعصيان، والمعاصي والقبائح ليست مقدرة لله.
تاسعاً : إن المعتزلة مُشبِّهة فى الأفعال معطلة فى الصفات ، فهم يقيسون الرب على خلقه، فيرون أن ما حسن ممن المخلوق حسن من الخالق، وما قبح من المخلوق قبح من الخالق، فجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد، ويسمون ذلك عدلاً وحكمة، مع قصور عقولهم عن معرفة حكمته وعدله سبحانه.
وقد يعرض لهم من التناقض فى هذا الباب ما لا يخفى على أولي الألباب.
ومن خلال ما سبق يتضح بجلاء موقف المعتزلة من قضية التحسين والتقبيح العقليين .
وبقي أن أجيب عن أمر شائك عند المعتزلة وهو أن العقل عندهم هل هو حاكم وموجب ومحرم أو لا ؟.
وأراني أحتاج قبل إبداء رأيي فى ذلك إلى نقل نص عن القاضي عبد الجبار يبين به – فيما يبدو لي – هذا الأمر، حيث قال ما نصه: (فالقول بأن العقل يقبح أو يحسن أو السمع لا يصح إلا أن يراد أنهما يدلان على ذلك من حال الحسن واالقبيح . وليس لأحد أن يقول : إن كان الأمر كما ذكرتموه فيجب ألا يكون الله تعالى موجباً لشئ ولا محسناً له ولا مقبحاً .
وهذا باطل على لسان الأمة، وذلك لأن الواجب إنما يجب لوقوعه على وجه على ما بينه، وكذلك القبيح والحسن.
وإذا ثبت ذلك بالدليل لم يصح أن نقدح فيه بعبارة أطلقت توسعاً.
فالغرض بقولهم : إن الله تعالى أوجب أنه أعلمنا وجوب الواجب أو مكننا من معرفته بنصب الأدلة . وهذه إضافة صحيحة ، لأن ما عنده وجب الواجب علينا إذا فعله صار كأنه الموجب له فى الحقيقة.
ثم ساق كلاماً طويلاً فى هذا الصدد إلى أن مثل بالظلم ، ثم قال : (فيجب أن يكون الموجب لقبحه كونه ظلماً، ولذلك صار العلم بقبحه من كمال العقل).
وعند تأمل كلام القاضي هذا يتبين للناظر موقف المعتزلة من هذه القضية ، فيظهر منه أن العقل عندهم كالشرع ، وأنهما – أى العقل والشرع – إنما يدلان فقط على الحسن أو القبح أو الوجوب أو التحريم ، وليسا موجبين أو محرمين فى نفس الأمر.
إذ إن الحسن أو القبح عند المعتزلة – كما سبق – صفات ذاتية للفعل نفسه ، وليست خارجة عنه ، فلا تعلق لها بالآمر أو الناهي ولا بمجرد ورود الأمر والنهى ولا بحال الفاعل ، بل مرجع ذلك إلى تلك الصفات الذاتية اللازمة للفعل ، وكذلك الحال فى الوجوب والتحريم .
ومن ذلك يتضح أن المعتزلة ينفون كون العقل حاكماً بإطلاق أو موجباً بإطلاق أو محرماً بإطلاق ، لا لأنهم يرون أن الله هو الحاكم وحده والموجب وحده والمحرم وحده ، وإنما لأن الوجوب والتحريم والتحسين والتقبيح عندهم ترجع إلى صفات ذاتية فى الأفعال بها يحسن الفعل أو يقبح أو يجب أو يحرم ، وسواء كان الكاشف لذلك أو الدال عليه العقل أم الشرع ، فالأمر واحد ، ولا فرق فى ذلك عندهم .
لذلك يقول القاضى عبد الجبار : (ولذلك نقول : إن السمع لا يوجب قبح شيء ولا حسنه وإنما يكشف عن حال الفعل على طريق الدلالة كالعقل).
وبذلك يظهر مدى غلو المعتزلة فى رفع دور العقل ، حيث جعلوه مساوياً للشرع ، إن لم يكن مهيمناً عليه ، كما هو صريح عبارتهم .
وبه يظهر لى بُعد قول من قال من المحققين : أن العقل عند المعتزلة لا يوجب ولا يحرم بإطلاق ، لأنهم كما هو إجماع المسلمين يرون أن لا حاكم إلا الله ، كما يظهر به أيضاً عدم دقة من قال : إن العقل عند المعتزلة حاكم وموجب ومحرم بدون تفصيل ، والله أعلم .
القائلون بهذا القول :
سبق نقل القول بالتحسين والتقبيح العقليين عند المعتزلة واشتهاره عنهم ، وقد عزي هذا القول أيضاً إلى مذاهب وطوائف وعلماء من غير المعتزلة .
فممن نُسب إليه القول بالتحسين والتقبيح العقليين الحنفية ، وعزاه بعض العلماء إلى أكثرهم ، ونقله قوم عن بعضهم ، ونص أخرون على أن للحنفية قولين فى هذه المسألة.
كما أن القول بالتحسين والتقبيح قد نقل عن الإمام أبى حنيفة نفسه .
ونسب القول بالتحسين والتقبيح العقليين أيضاً إلى المالكية فى أحد القولين لهم ، وعزى نص إلى أبى بكر الأبهري منهم .
وكذا نسب القول بالتحسين والتقبيح إلى الشافعية فى أحد القولين لهم ، ونقل ذلك عن جمع من علمائهم كأبى بكر القفال الشاشى والصيرفى وابن سريج وأبى على بن أبى هريرة والقاضى أبى حامد المروزى وأبى بكر الفارسى وأبى عبد الله الحليمى .
وكذلك نقل القول بالتحسين والتقبيح العقليين كأحد الأقوال في مذهب الحنابلة .
واختاره من الحنابلة أبو الحسن التميمي
ونسب كذلك إلى أبى الخطاب الكلوذاني من الحنابلة أن العقل يحسن ويقبح ويوجب ويحرم . وهو ظاهر من كلامه واستدلاله فى التمهيد .
والقول بالتحسين والتقبيح العقليين هو أحد القولين عن أهل الحديث ، كما أفاده غير واحد.
ونسبه جمع إلى الخوارج والكرامية .
وعزي أيضاً إلى الشيعة ، ونقله غير واحد عن الإمامية منهم ، وحكاه آخرون عن بعض الشيعة .
ونسب القول بالتحسين والتقبيح العقليين أيضاً إلى بعض الصوفية .
وهو القول المشهور عن الفلاسفة .
وقال بالتحسين والتقبيح العقليين أيضاً : الثنويه والصابئة والتناسخية والبراهمة والدهرية والزنادقة والقائلون بقدم العالم . ونسب لليهود والنصارى والمجوس .
وإنما ذكرت هؤلاء من باب الإشارة إلى من قال بهذا القول ، وإلا فالقصد من هذا البحث إنما هو الخلاف بين أهل القبلة وتحريره دون من عداهم .
المذهب الثالث : إن العقل يمكنه إدراك حسن أو قبح كثير من الأفعال والأشياء لما تشتمل عليه من صفات الحسن أو القبح الذاتيين ، فتسمى الأشياء والأفعال قبل الشرع حسنة أو قبيحة ، لكن لا يترتب على ذلك الإدراك وجوب و تحريم ولا ثواب ولا عقاب ، بل ذلك متوقف على ورود الدليل الشرعي بذلك .
فالقائلون بهذا القول يفرقون بين أمرين :
أحدهما : إدراك العقل لحسن الحسن وقبح القبيح .
والثاني : ترتب الوجوب والتحريم والثواب والعقاب على ذلك الإدراك العقلي .
فالأول عندهم يمكن أن يكون من مدركات العقول ، أما الثاني فمتوقف عندهم على الشرع المنقول ، ولا تلازم بين هذين الأمرين .
وهذا القول وسط بين القولين السابقين كما لا يخفى .
وإليه ذهب الجمهور من السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الإسلام.
وممن نص عليه : الإمام أبو نصر السجزي فى رسالته إلى أهل زبيد ، وأبو القاسم سعد بن على الزنجاني فى قصيدته المعروفه فى السنة ، ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .
واختاره الزركشي وابن المرتضى والمقبلي والشوكاني وغيرهم .
وهو إجمالاً قول كثير من المحققين من المذاهب الأربعة .
وقال به كما سلف بعض الحنفية ووجهوا به ما ورد عن أبى حنيفة فى المسألة .
قال ابن تيمية عن هذا القول : (وهذا أصح الأقوال ، وعليه يدل الكتاب والسنة).
وقال : (وعلى هذا عامة السلف وأكثر المسلمين ، وعليه دل الكتاب والسنة) .
وقال : (وهو الصواب) ، وهو (أعدل الأقوال).
وقال ابن القيم عن هذا القول أنه : (الحق الذى لا يجد إليه التناقض السبيل) .
وقال الزركشى : (وهو المنصور لقوته من حيث النظر وآيات القران المجيد وسلامته من التناقض وإليه إشارات محققى متأخري الأصوليين والكلاميين).
وقال الشوكانى : (وبالجملة فالكلام فى هذا المبحث يطول ، وإنكار مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسناً أو قبيحاً مكابرة ومباهتة.
وأما إدراكة لكون ذلك الفعل الحسن متعلقاً للثواب، وكون ذلك الفعل القبيح متعلقاً للعقاب فغير مسلم).
ولتوضيح هذا القول أود أن أذكر أموراً مهمة تتعلق به ، هى كما يلى :
أولاً : إن الحسن والقبح عند هؤلاء قد يكون صفة للأفعال ، لكنها ليست من الصفات اللازمة ، بل هى الصفات العارضة للأفعال بحسب ملاءمتها أو منافرتها ومنفعتها أو مضرتها .
وهى صفات ثبوتية للموصوف ، لكنها تتنوع بتنوع أحواله ، فليست لازمة له .
قال ابن تيمية : (ومن الناس من يظن أن الحسن والقبح صفة لازمة للموصوف ، وأن كون الحسن صفة ذاتية له هذا معناه ، وليس الأمر كذلك ، بل قد يكون الشيء حسنا فى حال قبيحاً فى حال, كما يكون نافعاً ومحبوباً فى حال وضاراً وبغيضاً فى حال .
والحسن والقبح يرجع إلى هذا ، وكذلك يكون حسناً فى حال وسيئاً فى حال باعتبار تغير الصفات).
ثانياً : إن العقل عند أصحاب هذا القول يمكنه إدراك حسن كثير من الأفعال وقبحها ، وما يستتبع ذلك من حمد ومدح ما هو حسن ، وعيب وذم ما هو قبيح ، لكنهم لا يرتبون – كما سلف – على ذلك إيجاباً أو تحريماً أو ثواباً أو عقاباً .
يقول ابن تيمية : (إن الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم ، ولكن لا يعاقب أحداً إلا بعد بلوغ الرسالة ... والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود ومذموم ، ودل على أنه لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال رسول).
وقال عن أعمال الكفار القبيحة كالظلم والشرك والكذب قبل الرسالة : (لا يعذبون حتى يبعث إليهم رسولاً كما دل عليه الكتاب والسنة ، لكن أفعالهم تكون مذمومة ممقوته يذمها الله ويبغضها ، ويوصفون بالكفر الذى يذمه الله ويبغضه ، وإن كان لا يعذبهم حتى يبعث إليهم رسولاً ).
وقال الشوكاني : (وغاية ما تدركه العقول أن هذا الفعل الحسن يمدح فاعله ، وهذا الفعل القبيح يذم فاعله، ولا تلازم بين هذا وبين كونه متعلقاً للثواب والعقاب).
ثالثا : إن التحسين والتقبيح قد يكون فطرياً يعلم بالفطرة المجردة ، وقد يكون حسياً ملموساً ، وقد يعلم بالتجربة ، وقد يكون مما لا يعلم إلا بالشرع كما سبق .
يقول ابن تيمية :: (الناس إذا قالوا : "العدل حسن والظلم قبيح" فهم يعنون بهذا أن العدل محبوب للفطرة ... نافع لصاحبه ، تحصل به اللذة والفرح وما تتنعم به النفوس ، وإذا قالوا : "الظلم قبيح" فهم يعنون به أنه ضار لصاحبه ولغير صاحبه ، وأنه بغيض يحصل به الألم والغم وما تتعذب به النفوس).
وقال: (من الأمور ما ينفع ويوجب اللذة والنعيم, ومنها ما يضر ويوجب الألم والعذاب, فبعض هذه الأمور تدرك بالحس, وبعضها يدركه الناس بعقولهم لأمور الدنيا. فيعرفون ما يجلب لهم منفعة في الدنيا وما يجلب لهم مضرة.
وهذا من العقل الذي ميز به الإنسان فإنه يدرك من عواقب الأفعال ما لا يدركه الحس).
رابعا : إن معرفة الملائم والمنافر والمحبوب والمبغوض والملتذ والمؤذى والحسن والقبح على وجه التفصيل فى جميع الأفعال ، ومعرفة الغاية التى تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة فى الدار الآخرة لا تعرف بمجرد العقول ، بل مرجعها إلى الشرع المنقول .
خامسا : إن أحكام الشارع فيما يأمر به الشارع وينهى عنه, تارة تكون كاشفة ومظهرة للصفات الفعلية ومؤكدة لها ، وتارة تكون مبينة للفعل صفاتاً لم تكن له قبل ذلك .
فالفعل تارة يكون حسناً من جهة نفسه ، وتارة من جهة الأمر به ، وتارة من الجهتين جميعاً .
يقول ابن تيمية : (ولهذا قلت غير مرة : إن حسن الفعل يحصل من نفسه تارة ، ومن الآمر تارة ، ومن مجموعهما تارة ... فالخطاب مظهر تارة ، ومؤثر تارة ، وجامع بين الأمرين تارة).
ويقول فى كلام ما أبدعه – أسوقه بنصه مع طوله لنفاسته -:
وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع :
أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم والظلم يشتمل على فسادهم فهذا النوع هو حسن وقبيح وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن؛ لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح؛ فإنهم قالوا؛ إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسولا وهذا خلاف النص قال تعالى:
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وقال تعالى:
{رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقال تعالى:
{وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} وقال تعالى:
{كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} {قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} . وفي الصحيحين عن النبي r أنه قال:
{ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين} والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح: إن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم.
النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا وإذا نهى عن شيء صار قبيحا واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
والنوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه ولا يكون المراد فعل المأمور به كما أمر إبراهيم بذبح ابنه فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح وكذلك {حديث أبرص وأقرع وأعمى لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم؛ فرضي عنك وسخط على صاحبيك} . فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة؛ وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع والأشعرية ادعوا: أن جميع الشريعة من قسم الامتحان وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع؛ وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب.
سادسا : إنه ليس ما حسن من الخلق حسن من الله تعالى وليس ما قبح من الخلق قبح من الله تعالى كما تدعيه المعتزلة وغيرهم كما سبق في تفصيل مذهبهم .
قال ابن تيمية : وذلك أن الفعل يحسن منا لجلبه المنفعة ويقبح لجلبه المضرة ، ويحسن لأنا أمرنا به ويقبح لأنا نهينا عنه . وهذان الوجهان منتفيان فى حق الله تعالى قطعاً ، وإن كان الفعل قد يحسن باعتبار آخر ، كما قال بعض الشيوخ :
ويقبح من سواك الفعل عندي *** وتفعله فيحسن منك ذاكا
([1]) (1/291) وما بعدها من الرسالة.
([2]) الآمدي يقر في كثير من كتبه بإطلاق الحسن على ما وافق الغرض، والقبيح علي ما خالفه ، كما في الإحكام له (1/79 ) ومنتهى السول (1/18)، وغاية المرام في علم الكلام صـ (235,234) ولهذا يكون رأي الآمدي قريبا من أصحاب الرأى الثاني الآتي الكلام عنه.
لذا تراه يقول في كتابه "غايه المرام في علم الكلام "ص 235 : وإطلاق الاصحاب أن الحسن والقبيح ليس إلا ما حسنه الشرع أو قبحه ، فتوسعٌ في العبارة إذ لا سبيل إلى جحد أن ما وافق الغرض من جهة المعقول, وإن لم يرد به الشرع المنقول أنه يصح تسميته كما يسمى ما ورد الشرع بتسميته حسنا كذلك، وذلك كاستحسان ما وافق الأغراض من الجواهر والأعراض وغير ذلك. وليس المراد بإطلاقهم: أن الحسن ما حسنه الشرع أنه لا يكون حسنا إلا ما أذن فيه أو أخبر بمدح فاعله. وكذا في جانب القبح أيضاً.
قلت: ولا يخفي مناقضة هذا لصريح أقوالهم المنقولة في هذا الموضع، وإن كان هو قول بعضهم كما سيأتي إن شاء الله.
([3]) (1/315) وما بعدها من الرسالة.