د. يوسف بن عبد الله حميتو
:: متخصص ::
- إنضم
- 21 فبراير 2010
- المشاركات
- 456
- الإقامة
- الإمارات العربية المتحدة
- الجنس
- ذكر
- الكنية
- أبو حاتم
- التخصص
- أصول الفقه ومقاصد الشريعة
- الدولة
- الإمارات العربية المتحدة
- المدينة
- أبوظبي
- المذهب الفقهي
- المذهب المالكي
التقعيد المقصدي : مفهوما وإعمالا
إعداد : الدكتور أبو حاتم يوسف حميتو
ندوة: " المبالغة في التقعيد أو التقصيد "
ملتقى المذاهب الفقهية
الثلاثاء 15 محرم 1432 هـ / 21 دجنبر 2010 م
لم يخل زمن من الأزمنة من الاهتمام بالمقاصد، فقد كانت هي محور عمل المفتين والمجتهدين منذ زمن النبي عليه السلام، وعصر الصحابة والتابعين ومن تبعهم، إلى مرحلة تبلور أصول الفقه علما قائما بذاته تحددت ملامحه وارتسمت قواعده وآلياته في إطار منضبط، ولا تجد كتابا من كتب أصول الفقه إلا وللمقاصد فيه حضور بصورة من الصور تقوى وتضعف بحسب منطلق المؤلف والغاية التي تغياها من تأليفه كتابه، وليس يهمنا هنا التأريخ للمقاصد كعلم، بل الغاية أن أبين خطورة التقعيد المقصدي في عمل المجتهدين والمنظرين لواقع الناس.
وقد كنت اقترحت أن يكون موضوع مشاركتي هو : " التقعيد المقصدي بين الإعمال العلمي والإفراط العملي" ، لكن بسبب أني تقدمت للمشاركة متأخرا لتأخر علمي بها، وبسبب تزاحم المشاغل علي، وبسبب أن المادة لم تكن متوفرة بشكل منسق ومضبوط، فإني آثرت أن أعدل في عنوان المشاركة ليكون هو : " التقعيد المقصدي: مفهوما وإعمالا ".
إن هذه الورقة تريد أن تبحث في مفهوم التقعيد المقصدي، وذلك باعتبار أن المقاد تمس مختلف مناحي حياة الناس العامة والخاصة، وباعتبار أنها ما وضعت إلا لاستدامة صلاح الكون باستدامة صلاح المهيمن عليه وهو الإنسان[1]، ومن ثم فإن الحديث عن التقعيد المقصدي هو حديث عن فقه الإنسان والأمة، عن فقه الفرد والجماعة، حديث عن كليات قطعية لا تنضبط الأحكام بدونها، ولسنا هنا معنيين بالحديث عن المقاصد تعريفا وتقسيما، فهذا له مجال آخر.
الحديث إذن عن المقاصد من حيث التقعيدُ لها ، وكيفية توظيف هذا التقعيد في النظر المصلحي الفقهي، ذلك أن التقعيد المقصدي تجاذبه طرفان: أولهما اتسم بالموضوعية المنهجية في التعامل مع القواعد المقصدية حيث وظفها كآلية إفتاء أو تأصيل، وهذا الطرف تمثله كتابات المتقدمين سواء الأصولية المحضة كالجويني والغزالي والرازي وغيرهم، أو الكتابات التي نحت منحى التخصص في التأليف كالإمام العز بن عبد السلام والقرافي والشاطبي رحمهم الله جميعا.
أما الطرف الثاني، فيمثله المقاصديون المعاصرون، وينبغي أن نميز فيهم بين صنفين: الصنف الأول: تعامل مع المقاصد وفق منهج المتقدمين مع نوع من الإبداع على مستوى المنهج والمضمون، كالإمام محمد الطاهر بن عاشور، والعلامة علال الفاسي، والصنف الثاني، جعل المقاصد هي الآلية المنهجية شبه الوحيدة إن لم تكن الوحيدة في التعامل مع كل القضايا التي تعرض للناس، حيث نحوا منحى تيسيريا محضا، وظفوا فيه القواعد المقصدية دون اعتبار لأحوال تطبيقها أو مراعاة لعوارض تنزيلها، متعللين في ذلك بعلل أشبه ما تكون ببين العنكبوت، ولربما أصابوا في التأويل، لكنهم اخطأوا منهج التنزيل، إذ هاجسهم هو المصلحة سواء وافقت النص أم عارضته بحجة مسايرة روح العصر ومتطلباته، وهي دعوى لعمري من باب كلمة الحق التي يراد بها باطل.
1ـ مفهوم التقعيد المقصدي:
التقعيد المقصدي مفهوم مركب، لا يكون تعريفه غلا بتعريف موناته التي هي التقعيد والمقصد.
أ ـ مفهوم التقعيد:
التقعيد لغة: مصدر قعَّد يقعد، وهو لفظ مشتق من القاعدة، ومعناه إنشاء القاعدة وصياغة عناصرها[2].
إذن فالتقعيد هو منهج بناء القاعدة وتحديد ما يندرج تحتها مما يصدق عليه مضمونها، فإذا كانت القاعدة لغة هي أصل الشيء وأساسه، فإن التقعيد هو بيان هذا الأصل وموناته وما صدقاته.
أما اصطلاحا، فيعجبني تعريف الدكتور عبد الرحمن الكيلاني لها حين قال عنها أنها : "ما يعبر به عن حكم كلي تندرج تحته جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منه" [3]، ذلك أنه حاول أن يستثمر تعريفات المتقدمين في بناء هذا التعريف، إضافة إلى أنه راعى كون القاعدة هي ما يظهر الحكم لا كونها عين الحكم، لأن اعتبارها عين الحكم يخصص معناها أو يقصره على جزئية أو جزئيات محدودة، ولذلك فوصف الحكم بالكلي أنفع في الدلالة على المقصود وعلى ما يندرج تحته من جزئيات تستفاد أحكامها من مضمون القاعدة نفسها.
ب ـ مفهوم المقصد:
المقصد مفرد مقاصد، وهو لغة الاعتماد والأم والتوجه والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو على جور، وإن كان في بعض المواقع يقصد به الاستقامة دون الميل[4].
أما اصطلاحا، فلم يرد في كتابات المتقدمين تعريف للمقصد لا بالإفراد ولا بالجمع، وإن كان هذا المصطلح مستعملا ورائجا عند العلماء، فتارة يستعملونه بلفظ المقصَد، وثانية بلفظ المقصِد، وثالثة بلفظ القصد، ورابعة بلفظ المقصود، ولا خلاف بين هذه الاصطلاحات من حيث المعنى، فكلها وضعت للدلالة على مسمى واحد، ولكن المقصِد والمقصود هما الأكثر استعمالا، وقد جرى عرف اللغويين على استعمال وزن مفعِل والمراد به مفعول، وذلك لاستواء المعنى في المصدر واسم المفعول.
ولم يأل الباحثون المعاصرون جهدا في وضع حد لمعنى المقاصد، وتعددت مبانيهم في ذلك، ولست هنا في مقام استعراضها، إنما أورد منها ما رأيته مناسبا أن يكون معنى للمقاصد، ومن هذه التعاريف تعريف الدكتور مسفر بن علي القحطاني حيث يقول: "مقاصد الشريعة هي المعاني والحكم التي راعاها الشارع عموما وخصوصا من أجل تحقيق مصالح العباد في الدارين"[5]. وقد فصل الدكتور في بيان مكونات تعريفه فليرجع إليه.
ج ـ مفهوم التقعيد المقصدي:
بعد أن تبين مفهوم التقعيد ومفهوم المقاصد، أصبح من الممكن اقتراح لمفهوم التقعيد المقصدي، ذلك أنه إذا كان مفهوم التقعيد هو إنشاء القاعدة وصياغة عناصرها، ومفهوم المقاصد هو مجموع المعاني والحِكم الشرعية المرعية من الشارع، فإن التقعيد المقصدي هو : صياغة القواعد الكلية المتعلقة بالمعاني العامة المستقرأة من مواقع المعاني الشرعية.
ـ قولي: " صياغة" معناه أن الذي يقوم بعملية التقعيد يعمد إلى بناء القواعد المقصدية ضمن قوالب لفظية تدل على المعاني المقصودة، بحيث يدل مبناها على معناها ضمن إطار العموم المعنوي الذي تتسم به القواعد المقصدية، فالعالم الذي يصوغ القاعدة المقصدية يراعي أن يشمل معناها ما يصدق عليه من الجزئيات المصلحية مستصحبا في ذلك البناء الأصولي للقاعدة التي لا تكتسب الصبغة المقصدية بدونه، ولذلك قال الجويني رحمه الله : " ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي فليس على بصيرة في وضع الشريعة"[6].
ـ قولي : " القواعد الكلية" : معناه أن هذه القواعد شاملة لكل الأحوال، صالحة أن تطبق على كل الأشخاص في كل الأزمنة والأمكنة، بحيث تكون مضطردة في جميع فروعها يصح الاستدلال بها في إنتاج الحكم الشرعي، وبيان القصد من تشريعه باعتبار أن الأحكام ما هي إلا وسائل المقاصد، وباعتبار ان القاعدة المقصدية كاشفة عن الحكم وليست ذات الحكم.
ـ قولي: " المتعلقة بالمعاني العامة" ، هذا ارتباطا بأن المقاصد غايات ومعاني إلهية تراعى في تنزيل الأحكام الشرعية، وهذه المقاصد والغايات والحكم والمعاني مبثوثة في كل أبواب الشريعة، ولذلك فالتقعيد المقصدي غايته التعبير عن معنى عام توافقت الأدلة على كونه مقصودا من الشارع وعليه بنى أحكام شريعته.
ـ قولي: " المستقرأة من مواقع المعاني الشرعية" مستفاد مما قرره الشاطبي رحمه الله من أن تصفح الجزئيات واستقراءها يحصل منه في الذهن أمر كلي عام يجري مجرى العموم[7]، الذي تفيده صيغه المبحوثة في كتب أصول الفقه والتي يتحقق بها الاستغراق والشمول لجميع ما يصدق عليه المعنى في الوقائع الجزئية على اختلاف مضامينها، يقول رحمه الله : " ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة ، على حد الاستقرار المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة مضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة"[8].
2ـ الإعمال العلمي للتقعيد المقصدي:
تعد عملية التقعيد في كل فن أمرا ضروريا، به تنضبط فروعه وجزئياته، وهذا أمر تفرضه الحاجة العلمية لاستجماع عناصره التي يقوم بها، ودون هذه القواعد يكون عمل العاملين في هذا الفن نوعا من العبث، يقول الشاطبي رحمه الله: " فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات في هذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فمحال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص في جزئي معرضا عن كلي فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كلية فقد أخطأ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئية"[9].
إن التقعيد المقاصدي الذي نتحدث عنه هو ذلك العمل المتكامل لعلماء الشريعة في سعيهم لضبط أصولها والقواعد التي تنبني عليها فروعها، غذ لا يمكن لي عالم فقيه مجتهد أن يتعامل مع الواقع والقضايا المستجدة فيه دون أن يكون عالما بالقواعد الكلية التي اثبتتها الأدلة، بحيث يستطيع ان يصنف كل حادثة ضمن الإطار المقصدي الذي ينبغي أن تندرج تحتهن فمن الخطأ العلمي والمنهجي العمل دون أن يمتلك المجتهد والفقيه رصيدا كبيرا من القواعد المقصدية، إذ كلما اغتنى رصيده منها كانت قدرته على التعامل مع الواقع أدق وأمتن من حيث المنهج، وأسلم من حيث النتائج التي هي ثمرة عمله ونظره، وما أوتي الناس إلا من قبل أقوام تلبسوا بلبوس العلماء وصاروا اليوم سراة للناس يفتونهم بما يخالف الأصول والقواعد الشرعية القطعية التي أثبتتها نصوص الشرع بدعوى التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم، إما عن حسن نية أو عن نية مبيتة مخطط لها تخدم مشروعا محددا يهدف إلى التمييع، أو بسبب الاستهانة بخطورة الفتوى، أو جهلا بصناعتها.
إن التقعيد المقصدي العلمي يخضع لمنهج مطرد ثابت منضبط، يسعى إلى إقامة مقاصد الشريعة تحصيلا وإبقاء، إذ لا يكفي العالم التصور التجريدي لمقاصد الشريعة حتى يكون قادرا على تنزيلها على الواقع، بل إن ذلك يتطلب تبصرا حقيقيا بمناشئ الأحكام ومواطن التنزيل وشروط ذلك، إذ كلما تعقدت أحوال العصر تعقدت معها الوقائع، وصار تمثل الوقائع والأحداث وتكييفها أمرا عسيرا، لذلك فالأمر يتطلب نفسا فقهيا أصوليا مقاصديا قويا لمعالجة مختلف القضايا سواء التي تعلقت بجانب العبادات أو جانب المعاملات، وحتى ما يتعلق بالسياسة والاقتصاد والاجتماع.
قد يبدو أن الحديث هو عن مقاصد الشريعة، لكن التقعيد المقصدي لا ينفصل أبدا عن الحديث عنها، فكلاهما يتطلب استبصارا قويا يرتبط بهما معا، المقاصد من حيث تعينها تقريبا أو تغليبا، والتقعيد لها تحقيقا وتنزيلا، بحيث تكون الغاية درء الخلاف أو على الأقل التقليل منه، يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله : " على الباحث في مقاصد الشريعة أن يطيل التأمل ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي، وإياه والتساهل والتسرع في ذلك، لأن تعيين مقصد شرعي كلي أو جزئي أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط، ففي الخطأ فيه خطر عظيم...فعليه أن لا يعين مقصدا شرعيا إلا بعد استقراء تصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد التشريعي منه، ...لأن قوة الجزم بكون الشيء مقصدا شرعيا تتفاوت بمقدار ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها...وإن أعظم ما يهم المتفقهين إيجادُ ثلة من المقاصد القطعية ليجعلوها أصلا يصار إليه في الفقه والجدل"[10].
فإذا كان هذا شأن المقاصد، فبدهي أن يطبق نفس المنهج على التقعيد المقصدي، فلا يجزم بشمولية القاعدة المقصدية إلا بما دل عليه استقراء الأدلة ومواقع المعاني الشرعية، حتى تكون هذه القواعد كافية في الاستدلال على الأحكام التي يراد إثباتها للقضايا المعروضة على النظر الفقهي، وذلك أن التسرع في التقعيد والتقصيد دون انضباط لمنهج واضح في تعيين المقاصد، ودون مراعاة لقيام معارضات شواهد الاستقراء ينزل بمرتبة القواعد المقصدية من مرتبة القطع إلى مرتبة الظن[11]، ويخل بخاصية الاضطراد التي هي أهم خواص القاعدة المقصدية، وإلا فما معنى أن تكون القاعدة المقصدية بمثابة المنصوص بصيغة عامة[12].
إن التقعيد المقصدي الذي يتسم بالعليمة هو الذي يتميز حسب تصوري بخاصيتين:
1- الموضوعية :
وأقصد بها الارتباط بالحيثيات والمكونات التي تكون واقعا ما، وتكون ملموسة ومشخصة فيه، بحيث لا يخفى تأثيرها في استنباط الحكم الشرعي وبنائه على العلة المقتضية له إما لمصلحة تستجلب او لمفسدة تدفع، مما يعني اطرادا ضرورة تلازم الموضوعية المقصدية والموضوعية في الوسائل المؤدية إليها[13].
2ـ اعتبار ملمح العدل:
العدل قيمة ضرورية عمل الإسلام على إثباتها وإرسائها بين الناس حتى ارتبطت بها جميع مناحي تشريعاته ونظمه، فلا يوجد في الإسلام نظام إلا وللعدل فيه مطلب، فهو مقصد جوهري يربط بين كليات التشريع وجزئياته، فهو أساس عمارة الأرض، وعمارتها هو مقصود الشارع العام، هذا المقصود الذي لا يتحقق إلا بالمحافظة على أفراده وما يحفظهم[14]، فالعدل إذن مفهوم كلي لا يتجزأ يدبر أمور المجتمع بواقعية تتقصد حفظ المصلحة في جميع الأحوال العادية منها والاستثنائية، وصيانة النسق المنطقي بين المنظومة التشريعية العامة وبين الواقع ومكوناته[15].
فالتقعيد المقصدي الذي ينبغي أن يكون ضابطا لعمل المجتهدين، يجب أن يكون العدل أحد مقوماته الجوهرية التي لا تتخلف، لأن الأحكام كما هو معلوم وسائل تحقيق المقاصد التي تجسدها المصالح، والقواعد المقاصدية هي الدالة على هاته الأحكام، فيجب أن يتحقق هذا الملمح على مستوى التقعيد وعلى مستوى التطبيق.
إن هاتين الخاصيتين كفيلتان بضبط التقعيد المقصدي، فكل تقصيد خرج عنهما بلا شك سيوقع في مناقضة الغاية التي من أجلها جاءت الأحكام، ومن ثم ستستحيل المصلحة المرجو جلبها إلى مفسدة.
وينبغي أن اشير إلى أن الإشكال ليس في عملية التقعيد في حد ذاتها، إنما الإشكال في تصنيف الجزئيات ضمن القواعد المقصدية، خاصة وأن الوقائع لا تنحصر، فقد يخطئ المجتهد في عملية إدراج الحادثة تحت الأصل المقصدي الذي ينبغي أن تكون خاضعة له، فينعكس ذلك سلبا على المكلفين، صحيح ان الأنظار تختلف والمدارك تتفاوت لكن لا بد من معايير محددة تصنف الحوادث حسب درجة ما فيها من المصالح والمفاسد، لتخضع تبعا لذلك للقواعد المقصدية المستقرأة من النصوص.
وقبل الختام، أريد أن أطرح مجموعة من التساؤلات من غير ضابط في الأولويات، وهي في الحقيقة إشكالات تعترض عملية التقعيد والتقصيد، وهي كالآتي :
1ـ هل صيغ القواعد المقصدية المبثوثة في كتب الفقه والأصول والمقاصد كافية بأن تستوعب حركة تطور الفعل البشري وتكون إطارا ضابطا له؟
2ـ إذا كنا نسمع دعوات تجديد الاجتهاد المقصدي وفق متطلبات العصر، فباي شيء ينبغي أن نبدأ ـ هذا إن سلمنا بمصداقية هذه الدعاوى ومعقوليتها ـ؟ أبإعادة صياغة القواعد المقصدية؟ أم بتكوين من يقوم بعملية تجديد الاجتهاد؟ فإن بدأنا بالأول، ما الذي يضمن سلامة النتائج؟ وإن بدأنا بالثانين ما هي المعايير التي على أساسها يمكننا الحكم على شخص ما أو جهة ما أنه مؤهل للقيام بعملية التجديد؟ أم أننا ينبغي أن نسير في خطين متوازيين؟ وعلى فرض أن هذا ممكن، ما هو الحد الأدنى لسرعة السير على كلا الخطين؟ أمن الممكن أن يسبق أحدهما الآخر؟ أم المفروض أن يصلا الغاية المحددة لهما في الوقت ذاته؟
هذه تساؤلات إشكالية لا أملك لها جوابا دقيقا استطيع الحكم أني مقتنع به، لكنها تساؤلات تبقى مشروعة على كل حال وقمينة بالبحث والتفصيل.
[1] ـ ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية للعلامة محمد الطاهر بن عاشور، ص : 273وقد كنت اقترحت أن يكون موضوع مشاركتي هو : " التقعيد المقصدي بين الإعمال العلمي والإفراط العملي" ، لكن بسبب أني تقدمت للمشاركة متأخرا لتأخر علمي بها، وبسبب تزاحم المشاغل علي، وبسبب أن المادة لم تكن متوفرة بشكل منسق ومضبوط، فإني آثرت أن أعدل في عنوان المشاركة ليكون هو : " التقعيد المقصدي: مفهوما وإعمالا ".
إن هذه الورقة تريد أن تبحث في مفهوم التقعيد المقصدي، وذلك باعتبار أن المقاد تمس مختلف مناحي حياة الناس العامة والخاصة، وباعتبار أنها ما وضعت إلا لاستدامة صلاح الكون باستدامة صلاح المهيمن عليه وهو الإنسان[1]، ومن ثم فإن الحديث عن التقعيد المقصدي هو حديث عن فقه الإنسان والأمة، عن فقه الفرد والجماعة، حديث عن كليات قطعية لا تنضبط الأحكام بدونها، ولسنا هنا معنيين بالحديث عن المقاصد تعريفا وتقسيما، فهذا له مجال آخر.
الحديث إذن عن المقاصد من حيث التقعيدُ لها ، وكيفية توظيف هذا التقعيد في النظر المصلحي الفقهي، ذلك أن التقعيد المقصدي تجاذبه طرفان: أولهما اتسم بالموضوعية المنهجية في التعامل مع القواعد المقصدية حيث وظفها كآلية إفتاء أو تأصيل، وهذا الطرف تمثله كتابات المتقدمين سواء الأصولية المحضة كالجويني والغزالي والرازي وغيرهم، أو الكتابات التي نحت منحى التخصص في التأليف كالإمام العز بن عبد السلام والقرافي والشاطبي رحمهم الله جميعا.
أما الطرف الثاني، فيمثله المقاصديون المعاصرون، وينبغي أن نميز فيهم بين صنفين: الصنف الأول: تعامل مع المقاصد وفق منهج المتقدمين مع نوع من الإبداع على مستوى المنهج والمضمون، كالإمام محمد الطاهر بن عاشور، والعلامة علال الفاسي، والصنف الثاني، جعل المقاصد هي الآلية المنهجية شبه الوحيدة إن لم تكن الوحيدة في التعامل مع كل القضايا التي تعرض للناس، حيث نحوا منحى تيسيريا محضا، وظفوا فيه القواعد المقصدية دون اعتبار لأحوال تطبيقها أو مراعاة لعوارض تنزيلها، متعللين في ذلك بعلل أشبه ما تكون ببين العنكبوت، ولربما أصابوا في التأويل، لكنهم اخطأوا منهج التنزيل، إذ هاجسهم هو المصلحة سواء وافقت النص أم عارضته بحجة مسايرة روح العصر ومتطلباته، وهي دعوى لعمري من باب كلمة الحق التي يراد بها باطل.
1ـ مفهوم التقعيد المقصدي:
التقعيد المقصدي مفهوم مركب، لا يكون تعريفه غلا بتعريف موناته التي هي التقعيد والمقصد.
أ ـ مفهوم التقعيد:
التقعيد لغة: مصدر قعَّد يقعد، وهو لفظ مشتق من القاعدة، ومعناه إنشاء القاعدة وصياغة عناصرها[2].
إذن فالتقعيد هو منهج بناء القاعدة وتحديد ما يندرج تحتها مما يصدق عليه مضمونها، فإذا كانت القاعدة لغة هي أصل الشيء وأساسه، فإن التقعيد هو بيان هذا الأصل وموناته وما صدقاته.
أما اصطلاحا، فيعجبني تعريف الدكتور عبد الرحمن الكيلاني لها حين قال عنها أنها : "ما يعبر به عن حكم كلي تندرج تحته جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منه" [3]، ذلك أنه حاول أن يستثمر تعريفات المتقدمين في بناء هذا التعريف، إضافة إلى أنه راعى كون القاعدة هي ما يظهر الحكم لا كونها عين الحكم، لأن اعتبارها عين الحكم يخصص معناها أو يقصره على جزئية أو جزئيات محدودة، ولذلك فوصف الحكم بالكلي أنفع في الدلالة على المقصود وعلى ما يندرج تحته من جزئيات تستفاد أحكامها من مضمون القاعدة نفسها.
ب ـ مفهوم المقصد:
المقصد مفرد مقاصد، وهو لغة الاعتماد والأم والتوجه والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو على جور، وإن كان في بعض المواقع يقصد به الاستقامة دون الميل[4].
أما اصطلاحا، فلم يرد في كتابات المتقدمين تعريف للمقصد لا بالإفراد ولا بالجمع، وإن كان هذا المصطلح مستعملا ورائجا عند العلماء، فتارة يستعملونه بلفظ المقصَد، وثانية بلفظ المقصِد، وثالثة بلفظ القصد، ورابعة بلفظ المقصود، ولا خلاف بين هذه الاصطلاحات من حيث المعنى، فكلها وضعت للدلالة على مسمى واحد، ولكن المقصِد والمقصود هما الأكثر استعمالا، وقد جرى عرف اللغويين على استعمال وزن مفعِل والمراد به مفعول، وذلك لاستواء المعنى في المصدر واسم المفعول.
ولم يأل الباحثون المعاصرون جهدا في وضع حد لمعنى المقاصد، وتعددت مبانيهم في ذلك، ولست هنا في مقام استعراضها، إنما أورد منها ما رأيته مناسبا أن يكون معنى للمقاصد، ومن هذه التعاريف تعريف الدكتور مسفر بن علي القحطاني حيث يقول: "مقاصد الشريعة هي المعاني والحكم التي راعاها الشارع عموما وخصوصا من أجل تحقيق مصالح العباد في الدارين"[5]. وقد فصل الدكتور في بيان مكونات تعريفه فليرجع إليه.
ج ـ مفهوم التقعيد المقصدي:
بعد أن تبين مفهوم التقعيد ومفهوم المقاصد، أصبح من الممكن اقتراح لمفهوم التقعيد المقصدي، ذلك أنه إذا كان مفهوم التقعيد هو إنشاء القاعدة وصياغة عناصرها، ومفهوم المقاصد هو مجموع المعاني والحِكم الشرعية المرعية من الشارع، فإن التقعيد المقصدي هو : صياغة القواعد الكلية المتعلقة بالمعاني العامة المستقرأة من مواقع المعاني الشرعية.
ـ قولي: " صياغة" معناه أن الذي يقوم بعملية التقعيد يعمد إلى بناء القواعد المقصدية ضمن قوالب لفظية تدل على المعاني المقصودة، بحيث يدل مبناها على معناها ضمن إطار العموم المعنوي الذي تتسم به القواعد المقصدية، فالعالم الذي يصوغ القاعدة المقصدية يراعي أن يشمل معناها ما يصدق عليه من الجزئيات المصلحية مستصحبا في ذلك البناء الأصولي للقاعدة التي لا تكتسب الصبغة المقصدية بدونه، ولذلك قال الجويني رحمه الله : " ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي فليس على بصيرة في وضع الشريعة"[6].
ـ قولي : " القواعد الكلية" : معناه أن هذه القواعد شاملة لكل الأحوال، صالحة أن تطبق على كل الأشخاص في كل الأزمنة والأمكنة، بحيث تكون مضطردة في جميع فروعها يصح الاستدلال بها في إنتاج الحكم الشرعي، وبيان القصد من تشريعه باعتبار أن الأحكام ما هي إلا وسائل المقاصد، وباعتبار ان القاعدة المقصدية كاشفة عن الحكم وليست ذات الحكم.
ـ قولي: " المتعلقة بالمعاني العامة" ، هذا ارتباطا بأن المقاصد غايات ومعاني إلهية تراعى في تنزيل الأحكام الشرعية، وهذه المقاصد والغايات والحكم والمعاني مبثوثة في كل أبواب الشريعة، ولذلك فالتقعيد المقصدي غايته التعبير عن معنى عام توافقت الأدلة على كونه مقصودا من الشارع وعليه بنى أحكام شريعته.
ـ قولي: " المستقرأة من مواقع المعاني الشرعية" مستفاد مما قرره الشاطبي رحمه الله من أن تصفح الجزئيات واستقراءها يحصل منه في الذهن أمر كلي عام يجري مجرى العموم[7]، الذي تفيده صيغه المبحوثة في كتب أصول الفقه والتي يتحقق بها الاستغراق والشمول لجميع ما يصدق عليه المعنى في الوقائع الجزئية على اختلاف مضامينها، يقول رحمه الله : " ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة ، على حد الاستقرار المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة مضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة"[8].
2ـ الإعمال العلمي للتقعيد المقصدي:
تعد عملية التقعيد في كل فن أمرا ضروريا، به تنضبط فروعه وجزئياته، وهذا أمر تفرضه الحاجة العلمية لاستجماع عناصره التي يقوم بها، ودون هذه القواعد يكون عمل العاملين في هذا الفن نوعا من العبث، يقول الشاطبي رحمه الله: " فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات في هذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فمحال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص في جزئي معرضا عن كلي فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كلية فقد أخطأ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئية"[9].
إن التقعيد المقاصدي الذي نتحدث عنه هو ذلك العمل المتكامل لعلماء الشريعة في سعيهم لضبط أصولها والقواعد التي تنبني عليها فروعها، غذ لا يمكن لي عالم فقيه مجتهد أن يتعامل مع الواقع والقضايا المستجدة فيه دون أن يكون عالما بالقواعد الكلية التي اثبتتها الأدلة، بحيث يستطيع ان يصنف كل حادثة ضمن الإطار المقصدي الذي ينبغي أن تندرج تحتهن فمن الخطأ العلمي والمنهجي العمل دون أن يمتلك المجتهد والفقيه رصيدا كبيرا من القواعد المقصدية، إذ كلما اغتنى رصيده منها كانت قدرته على التعامل مع الواقع أدق وأمتن من حيث المنهج، وأسلم من حيث النتائج التي هي ثمرة عمله ونظره، وما أوتي الناس إلا من قبل أقوام تلبسوا بلبوس العلماء وصاروا اليوم سراة للناس يفتونهم بما يخالف الأصول والقواعد الشرعية القطعية التي أثبتتها نصوص الشرع بدعوى التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم، إما عن حسن نية أو عن نية مبيتة مخطط لها تخدم مشروعا محددا يهدف إلى التمييع، أو بسبب الاستهانة بخطورة الفتوى، أو جهلا بصناعتها.
إن التقعيد المقصدي العلمي يخضع لمنهج مطرد ثابت منضبط، يسعى إلى إقامة مقاصد الشريعة تحصيلا وإبقاء، إذ لا يكفي العالم التصور التجريدي لمقاصد الشريعة حتى يكون قادرا على تنزيلها على الواقع، بل إن ذلك يتطلب تبصرا حقيقيا بمناشئ الأحكام ومواطن التنزيل وشروط ذلك، إذ كلما تعقدت أحوال العصر تعقدت معها الوقائع، وصار تمثل الوقائع والأحداث وتكييفها أمرا عسيرا، لذلك فالأمر يتطلب نفسا فقهيا أصوليا مقاصديا قويا لمعالجة مختلف القضايا سواء التي تعلقت بجانب العبادات أو جانب المعاملات، وحتى ما يتعلق بالسياسة والاقتصاد والاجتماع.
قد يبدو أن الحديث هو عن مقاصد الشريعة، لكن التقعيد المقصدي لا ينفصل أبدا عن الحديث عنها، فكلاهما يتطلب استبصارا قويا يرتبط بهما معا، المقاصد من حيث تعينها تقريبا أو تغليبا، والتقعيد لها تحقيقا وتنزيلا، بحيث تكون الغاية درء الخلاف أو على الأقل التقليل منه، يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله : " على الباحث في مقاصد الشريعة أن يطيل التأمل ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي، وإياه والتساهل والتسرع في ذلك، لأن تعيين مقصد شرعي كلي أو جزئي أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط، ففي الخطأ فيه خطر عظيم...فعليه أن لا يعين مقصدا شرعيا إلا بعد استقراء تصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد التشريعي منه، ...لأن قوة الجزم بكون الشيء مقصدا شرعيا تتفاوت بمقدار ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها...وإن أعظم ما يهم المتفقهين إيجادُ ثلة من المقاصد القطعية ليجعلوها أصلا يصار إليه في الفقه والجدل"[10].
فإذا كان هذا شأن المقاصد، فبدهي أن يطبق نفس المنهج على التقعيد المقصدي، فلا يجزم بشمولية القاعدة المقصدية إلا بما دل عليه استقراء الأدلة ومواقع المعاني الشرعية، حتى تكون هذه القواعد كافية في الاستدلال على الأحكام التي يراد إثباتها للقضايا المعروضة على النظر الفقهي، وذلك أن التسرع في التقعيد والتقصيد دون انضباط لمنهج واضح في تعيين المقاصد، ودون مراعاة لقيام معارضات شواهد الاستقراء ينزل بمرتبة القواعد المقصدية من مرتبة القطع إلى مرتبة الظن[11]، ويخل بخاصية الاضطراد التي هي أهم خواص القاعدة المقصدية، وإلا فما معنى أن تكون القاعدة المقصدية بمثابة المنصوص بصيغة عامة[12].
إن التقعيد المقصدي الذي يتسم بالعليمة هو الذي يتميز حسب تصوري بخاصيتين:
1- الموضوعية :
وأقصد بها الارتباط بالحيثيات والمكونات التي تكون واقعا ما، وتكون ملموسة ومشخصة فيه، بحيث لا يخفى تأثيرها في استنباط الحكم الشرعي وبنائه على العلة المقتضية له إما لمصلحة تستجلب او لمفسدة تدفع، مما يعني اطرادا ضرورة تلازم الموضوعية المقصدية والموضوعية في الوسائل المؤدية إليها[13].
2ـ اعتبار ملمح العدل:
العدل قيمة ضرورية عمل الإسلام على إثباتها وإرسائها بين الناس حتى ارتبطت بها جميع مناحي تشريعاته ونظمه، فلا يوجد في الإسلام نظام إلا وللعدل فيه مطلب، فهو مقصد جوهري يربط بين كليات التشريع وجزئياته، فهو أساس عمارة الأرض، وعمارتها هو مقصود الشارع العام، هذا المقصود الذي لا يتحقق إلا بالمحافظة على أفراده وما يحفظهم[14]، فالعدل إذن مفهوم كلي لا يتجزأ يدبر أمور المجتمع بواقعية تتقصد حفظ المصلحة في جميع الأحوال العادية منها والاستثنائية، وصيانة النسق المنطقي بين المنظومة التشريعية العامة وبين الواقع ومكوناته[15].
فالتقعيد المقصدي الذي ينبغي أن يكون ضابطا لعمل المجتهدين، يجب أن يكون العدل أحد مقوماته الجوهرية التي لا تتخلف، لأن الأحكام كما هو معلوم وسائل تحقيق المقاصد التي تجسدها المصالح، والقواعد المقاصدية هي الدالة على هاته الأحكام، فيجب أن يتحقق هذا الملمح على مستوى التقعيد وعلى مستوى التطبيق.
إن هاتين الخاصيتين كفيلتان بضبط التقعيد المقصدي، فكل تقصيد خرج عنهما بلا شك سيوقع في مناقضة الغاية التي من أجلها جاءت الأحكام، ومن ثم ستستحيل المصلحة المرجو جلبها إلى مفسدة.
وينبغي أن اشير إلى أن الإشكال ليس في عملية التقعيد في حد ذاتها، إنما الإشكال في تصنيف الجزئيات ضمن القواعد المقصدية، خاصة وأن الوقائع لا تنحصر، فقد يخطئ المجتهد في عملية إدراج الحادثة تحت الأصل المقصدي الذي ينبغي أن تكون خاضعة له، فينعكس ذلك سلبا على المكلفين، صحيح ان الأنظار تختلف والمدارك تتفاوت لكن لا بد من معايير محددة تصنف الحوادث حسب درجة ما فيها من المصالح والمفاسد، لتخضع تبعا لذلك للقواعد المقصدية المستقرأة من النصوص.
وقبل الختام، أريد أن أطرح مجموعة من التساؤلات من غير ضابط في الأولويات، وهي في الحقيقة إشكالات تعترض عملية التقعيد والتقصيد، وهي كالآتي :
1ـ هل صيغ القواعد المقصدية المبثوثة في كتب الفقه والأصول والمقاصد كافية بأن تستوعب حركة تطور الفعل البشري وتكون إطارا ضابطا له؟
2ـ إذا كنا نسمع دعوات تجديد الاجتهاد المقصدي وفق متطلبات العصر، فباي شيء ينبغي أن نبدأ ـ هذا إن سلمنا بمصداقية هذه الدعاوى ومعقوليتها ـ؟ أبإعادة صياغة القواعد المقصدية؟ أم بتكوين من يقوم بعملية تجديد الاجتهاد؟ فإن بدأنا بالأول، ما الذي يضمن سلامة النتائج؟ وإن بدأنا بالثانين ما هي المعايير التي على أساسها يمكننا الحكم على شخص ما أو جهة ما أنه مؤهل للقيام بعملية التجديد؟ أم أننا ينبغي أن نسير في خطين متوازيين؟ وعلى فرض أن هذا ممكن، ما هو الحد الأدنى لسرعة السير على كلا الخطين؟ أمن الممكن أن يسبق أحدهما الآخر؟ أم المفروض أن يصلا الغاية المحددة لهما في الوقت ذاته؟
هذه تساؤلات إشكالية لا أملك لها جوابا دقيقا استطيع الحكم أني مقتنع به، لكنها تساؤلات تبقى مشروعة على كل حال وقمينة بالبحث والتفصيل.
[2] ـ ينظر: نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، لشيخنا الدكتور محمد الروكي، ص : 29.
[3] ـ ينظر: قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص : 29 .
[4] ـ ينظر: مادة " قصد" في لسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروز آباذي، ص: 396، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس، 5/95، والصحاح للجوهري، 2/542، والمصباح المنير للفيومي، ص: 260ـ261.
[5] ـ ينظر: الوعي المقاصدي، قراءة معاصرة للعمل بمقاصد الشريعة في مناحي الحياة، ص: 19.
[6] ـ ينظر: البرهان في أصول الفقه، 1/101.
[7] ـ ينظر: الموافقات، 4/57.
[8] ـ ينظر الموافقات، 2/81.
[9] ـ ينظر: الموافقات 3/174.
[10] ـ ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، بتصرف ص: 231ـ 232.
[11] ـ ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 238.
[12] ـ ينظر: الموافقات: 4/65.
[13] ـ ينظر: اعتبار المآل وتطبيقاته في فتاوى مالكية الغرب الإسلامي، الدكتور يوسف حميتو، ص: 82.
[14] ـ ينظر: فقه المقاصد وأثره في الفكر النوازلي، للدكتور عبد السلام الرفعي، ص: 49.
[15] ـ ينظر: اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، للدكتور عبد الرحمن السنوسي، ص: 179.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: