رد: هل حكم الحاكم يدخل في العبادات أو لا ؟
الدكتور فيصل - بارك الله فيكم - لعلي أكتفي بما ذكرتُ فقد بينتُ ما وصل إليه علمي في المسألة والله الموفق .
وبما أن الإخوة جعلوا هذا الموضوع مستقلاً فإني أنقل بعض أقوال أهل العلم في مسألة : ( هل العبادات يدخلها حكم الحاكم او لا ؟ )
قد سبق ذكر بعض النصوص عن القرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله - ومما يمكن إضافته ما يلي :
1 - يقول الجويني الشافعي في كتابه غياث الأمم في التياث الظلم المعروف بالغياثي ( ص 146 - 148 ) : " العبادات البدنية التي تعبد الله بها المكلفين لا يتعلق صحتها بنظر الإمام وإذا أقامها المتعبدون على شرائطها وأركانها في أوقاتها وأوانها صحت ووقعت موقع الاعتداء وقد زلَّ من شرط في انعقاد الجمعة تعلقها بإذن الإمام واستقصاء القول في ذلك مطلوب من علم الشريعة .
فإن قيل : ما وجه ارتباط العبادات بنظر الإمام ؟
قلنا : ما كان منها شعاراً ظاهرا في الإسلام تعلق به نظر الإمام وذلك ينقسم إلى ما يرتبط باجتماع عدد كثير وجم غفير كالجمع والأعياد ومجامع الحجيج وإلى ما لا يتعلق باجتماع كالأذان وعقد الجماعات في ما عدا الجمعة من الصلوات .
فأما ما يتعلق بشهود جمع كثير فلا ينبغي للإمام أن يغفل عنه فإن الناس إذا كثروا عظم الزحام وجمع المجمع أخيافا وألف أصنافا وخيف في مزدحم القوم أمور محذورة فإذا كان منهم ذو نجدة وبأس بكف عادية إن هم بها معتدون كان المجمع محروسا ودرأت هيبة الوالي ظنونا وحدوسا ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة أبا بكر - رضي الله عنه - على الحجيج ثم استمرت تلك السنة في كل سنة فلم يخل حج عن إمام أو مستناب من جهة مياسير الإمام ولذلك صدر الخلفاء مياسير الأمراء أو ذوي الأولوية بإقامة الجمع فإنها تجمع الجماعات وهي إن لم تصن عرضها للفتن والآفات فهذا وجه نظر الإمام في الشعار الذي يجمع جمعا كثيراً .
فأما الشعار الظاهر الذي لا يتضمن اجتماع جماعات فهو كالأذان وإقامة الجماعات في سائر الصلوات فإن عطل أهل ناحية الأذان والجماعات تعرض لهم الإمام وحملهم على إقامة الشعار فإن أبوا ففي العلماء من يسوغ للسلطان أن يحملهم عليه بالسيف ومنهم من لم يجوز ذلك والمسألة مجتهد فيها وتفصيلها موكول إلى الفقهاء .
فأما ما لم يكن شعارا ظاهرا من العبادات البدنية فلا يظهر تطرق الإمام إليه إلا أن ترفع واقعة فيرى فيها رأيه مثل أن ينهى إليه أن شخصا ترك صلاة متعمدا من غير عذر وامتنع عن قضائها فقد نرى قتله على رأي الشافعي رضي الله عنه وتعذيبه وحبسه على رأي الآخرين "
2 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فصل :
فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه وما لم يجعل لواحد من المخلوقين الحكم فيه بل الحكم فيه على جميع الخلق لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد من الحكام أن يحكم فيه على غيره ولو كان ذلك الشخص من آحاد العامة . وهذا مثل الأمور العامة الكلية التي أمر الله جميع الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما أجمعت عليه الأمة أو تنازعت الأمة فيه إذا وقع فيه نزاع بين الحكام وبين آحاد المسلمين : من العلماء أو الجند أو العامة أو غيرهم لم يكن للحاكم أن يحكم فيها على من ينازعه ويلزمه بقوله ويمنعه من القول الآخر فضلا عن أن يؤذيه أو يعاقبه . مثل أن يتنازع حاكم أو غير حاكم في قوله : ( أو لامستم النساء ) هل المراد به الجماع ؟ كما فسره ابن عباس وغيره وقالوا : إن مس المرأة لا ينقض الوضوء لا لشهوة ولا لغير شهوة . أو المراد به اللمس بجميع البشرة إما لشهوة وإما مطلقا ؟ كما نقل الأول عن ابن عمر . والثالث قاله بعض العلماء . وللعلماء في هذا ثلاثة أقوال ...
وكذلك تنازع المسلمون في الوضوء من خروج الدم بالفصاد والحجامة والجرح والرعاف وفي القيء ..
وكذلك تنازعوا في كثير من مسائل الفرائض كالجد والمشركة وغيرهما وفي كثير من مسائل الطلاق والإيلاء وغير ذلك وكثير من مسائل العبادات في الصلاة والصيام والحج وفي مسائل زيارات القبور ..
هذه الأمور الكلية ليس لحاكم من الحكام كائنا من كان - ولو كان من الصحابة - أن يحكم فيها بقوله على من نازعه في قوله فيقول : ألزمته أن لا يفعل ولا يفتي إلا بالقول الذي يوافق لمذهبي ؛ بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله والحاكم واحد من المسلمين فإن كان عنده علم تكلم بما عنده وإذا كان عند منازعه علم تكلم به فإن ظهر الحق في ذلك وعرف حكم الله ورسوله وجب على الجميع اتباع حكم الله ورسوله وإن خفي ذلك أقر كل واحد على قوله - أقر قائل هذا القول على مذهبه وقائل هذا القول على مذهبه - ولم يكن لأحدهما أن يمنع الآخر إلا بلسان العلم والحجة والبيان فيقول ما عنده من العلم . وأما " باليد والقهر " فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه ... " مجموع الفتاوى ( 35 / 257 - 360 ) بتصرف وينظر كذلك : ( 35 / 373 - 387 ).
3 - ويقول ابن فرحون المالكي في تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام عند ذكره أنواع تصرفات الحكام ( 1 / 81 ) :
" النوع السادس : من تصرفات الحكام الفتاوى في العبادات وغيرها من تحريم الأبضاع ، وإباحة الانتفاع بطهارة المياه ونجاسة الأعيان فليس ذلك بحكم ، بل لمن لا يعتقد ذلك أن يفتي بخلاف ما أفتى به الحاكم والإمام الأعظم ، وكذلك إذا أمر بمعروف ونهى عن منكر هو يعتقده منكرا أو معروفا ، فلمن لا يعتقد ذلك أن لا يفعل مثل فعلهم ، إلا أن يدعوه الإمام للإنكار ، وتكون مخالفته شقاقا ، فتجب الطاعة لذلك .
وأما الحاكم فلا يساعد على ما نعتقد نحن خلاف ما هو عليه ، إلا أن تخشى فتنة ينهى الشرع عن المسامحة فيها ".
4 - وقد ذكر مثل ما ذكر ابن فرحون علاء الدين الطرابلسي الحنفي في كتابه معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام ( ص 40 - 42 ).
5 - قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق ( 6 / 277 ) في تعريف القضاء : " وعرفه العلامة قاسم بأنه إنشاء إلزام في مسائل الاجتهاد المتقاربة فيما يقع فيه النزاع لمصالح الدنيا فخرج القضاء على خلاف الإجماع وخرج ما ليس بحادثة وما كان من العبادات "
ونقله كذلك ابن عابدين في حاشيته ( 5 / 352 ) .
6 - وقال الشيخ أحمد الطحطاوي الحنفي في حاشيته على الدر المختار للحصكفي ( 3 / 173 ) : " القضاء إنما يكون في حادثة من خصم على خصم بدعوى صحيحة فخرج ما ليس بحادثة وما كان من العبادات " .