رد: الإشكالات الفقهية (6): بابٌ من العلم غريب!
يقول الشيخ وليد السعيدان في رسالته وجوب الجمع بين الأدلة :
الفرع الحادي والعشرون :
إن قيل:- أوليست العبادة هي ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب؟ وقد قررتم في كتب العقيدة أن النذر من جملة العبادات وأن صرفه لغير الله شرك, وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر وقال( إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل )) والحديث في الصحيح, وقد اختلف العلماء في هذا النهي فمنهم من قال للتحريم ومنهم من قال للكراهة وعلى كل قول فالنذر إنما منهي عنه نهي تحريم وإما منهي عنه نهي كراهة, فكيف يدخل في حد العبادة وهو منهي عنه وقد ذكرتم أن العبادة هي ماأمر الله أمر إيجاب أو استحباب فما قولكم في هذا؟
فأقول:- هذا من الأسئلة الحسنة التي تحتاج إلى تحرير محل للنزاع فلا بد من الإطالة في هذا الفرع حتى يتضح الجواب ويتحرر القول فيه بحوله وقوته وحسن توفيقه ومحض منته جلَّ وعلا, فأستغفر الله وأتوب إليه ثم أتوب إلى الله وأستغفره وأتوب إلى الله وأستغفره فأقول وبالله التوفيق:-
إن النذر فيه ثلاث نقاط وبالتفريق بينها يتحرر الجواب إن شاء الله تعالى:
النقطة الأولى:- نظر من ناحية إنشائه, والثانية:- نظر من ناحية من يعقد به, والثالثة:- نظر من ناحية الوفاء به، فأما من الناحية الأولى فإنه منهي عنه, أي أن النذر باعتبار أصل إنشائه لا يتعبد لله به, أي لا يظن العبد أنه إذا أنشأ النذر أنه يثاب على ذلك, بل هو آثم إن قلنا إنه حرام ومخالف للأَولى إن قلنا إنه مكروه وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر أي عن إنشائه وسبب النهي عدة أمور:-
أحدها:- خوف عدم الوفاء به لأن حقيقة النذرأن يُلزم الإنسان نفسه بشيء ليس بلازمٍ له شرعاً, فيخشى أن لا يقوم به, وتثقل نفسه عنه وهذا واقع محسوس فكم من الأشخاص عقد النذر ثم ثقل عليه فأكب يطرق أبواب العلماء يبحث عن مخرج من هذا النذر فالإنسان عليه أن يكتفي بالواجب بأصل الشرع ولا يكلف نفسه شيئاً آخر.
ثانيها:- أن النفوس السامية والقلوب الواعية من صفاتها أن تبذل الخير طوعاً من محض المحبة لله تعالى, فلا تحتاج إلى إلزامٍ في بذل الخير وفعل المعروف, وأما النفوس البخيلة فإن بينها وبين فعل الخير مفاوز, فأصحاب هذه النفوس ليس عندهم الرغبة الذاتية في فعل الخير والمعروف إلا إلزاماً وكراهية فيحتاجون إلى أن يعقدوا النذر على هذه النفوس البخيلة التي قتلها الشح يستخرجوا منها الخير والمعروف ولذلك قال عليه الصلاة والسلام(وإنما يستخرج به من البخيل )) فالبخيل هو الذي لا تجود نفسه بالخير طواعية ورغبة في المعروف بل لابد لها من ملزم قوي يستخرج به الخير من هذه النفوس الشريرة, فحقيقة الناذر أنه لم يقم بهذه العبادة لكمال الرغبة الذاتية فيها وإنما سيقوم بها على مضض لأنه أوحبها على نفسه بالنذر, وهذا مخالف لمقصود العبادة فإن العبادة مبنية على أصلين على كمال الحب وكمال الذل لله جلَّ وعلا, ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر حثاً منه لبذل الطاعة بكل حب وبكمال ذل ووجود رغبة باطنية في القيام بها.
ثالثها:- أن إنشاء النذر فيه منافرة مع مقصد من مقاصد التشريع وهو رفع الحرج, ومن المعلوم أن مقاصد المكلفين لابد أن تكون موافقة لمقاصد الشارع فالعبد يكلف نفسه بهذا النذر تكليفاً زائداً على الحد المشروع والله تعالى يريد بنا اليسر لا العسر والتخفيف لا الإثقال وشريعتنا شريعة سمحة سهلة لا آصار فيها ولا أغلال, فالناذر يقصد بهذا النذر شيئاً لا يريده الشارع لكنه لما عقده بالله وجب الوفاء به, تعظيماً لربنا جلَّ وعلا, فرحمة منه - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقة عليهم وتخفيفاً عليهم نهاهم عن النذر والنهي يستلزم عدم الرضى به فالناذر مخالف لما قصده الشارع من التخفيف والتيسير.
رابعها:- أن العبد يجب عليه أن يستشعر بقلبه حين قيامه بشيء من مسائل التعبد أنه يقوم به لأنه عبد لله جلَّ وعلا فهو ينفذ ماأمره به سيده حباً وكرامة وطواعية وذلاً مع استشعار التقصير في حق القيام بها والنذر المعلق على شرط كقوله:- إن شفى الله مريض صمت كذا وكذا, أو يقول:- إن نجحت في هذه السنة صليت كذا وكذا, فيه بلية قلبية خطيرة قد لا يشعر بها الناذر وهي أن يقوم في قلبه أن الأمر من باب المعاوضة, أي إن فعلت لنا هذا الشيء وحققته لنا فعلنا هذا الشيء, وهذ مزلق خطير جداً, بل ولسان حاله يقول:- أنا لن أقوم بهذه العبادة المنذورة إلا إذا تحقق مرادي, فكأن الأمر من باب المكافأة وهذا وإن لم يقله العبد بلسان مقاله إلا أنه واضح من لسان حاله, بدليل أنه لن يوقع هذه العبادة إلا بتحقق الشرط, ولو قلت له:- إفعل النذر ولو لم يتحقق هذا الشرط, لقال لك:- أنا نذرت نذراً معلقاً, فإن تحقق الشرط فعلت ومفهوم كلامه أنه إن لم يتحقق الشرط فلن أفعل.
والله تعالى يحب أن يستشعر عبده أثناء العبادة أنه عبد ذليل خاضع لله جلَّ وعلا والنذر المعلق مفضٍ إلى هذه البلية القلبية فسداً للذريعة أي لذريعة قيامها في القلب منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من إنشاء النذر.
خامسها:- أن العبد يجب عليه أن يعتقد الاعتقاد الجازم ظاهراً وباطناً أنه لا يأتي بالخير ولا يدفع الشر إلا الله تعالى, وقد جعل الله تعالى أسباباً يستجلب بها العبد الخير لنفسه أو لغيره وأسباباً يستدفع بها الشر عن نفسه أو عن غيره فلا يجوز للعبد أن يعتقد أن هناك سبباً شرعياً يجلب الخيرات ويدفع المضرات إلا بدليل والناذر قد يقوم بقلبه أن نذره هذا يجلب له خيراً أو يدفع عنه شراً, فيعتقد أنه سبب لذلك وهو في الحقيقة ليس سبباً لا شرعياً ولا قدرياً ولذلك قال عليه الصلاة والسلام( إنه لا يأتي بخير)) أي لا يجلب مطلوباً ولا يدفع مكروهاً ولا يجوز للعبد أصلاً أن يعلق قلبه بغير الله تعالى في جلب الخيرات ودفع المضرات, والناذر قد انصرفت شعبة من قلبه إلى هذا النذر, أي أن قلبه تعلق بهذا النذر, فسداً لذريعة تعلق القلب بغير الله تعالى وسداً لذريعة اعتقاد العبد في النذر فلا يجوز اعتقاده فيه شرعاً, منع النبي - صلى الله عليه وسلم - النذر, فهذه الأوجه الخمسة تفيدك إفادة صريحة أن المنهي عنه إنما هو إنشاء النذر أي ابتداؤه, فالمستحب للإنسان أن يتعبد لله تعالى بترك ابتدء النذر, فالنهي الصادر منه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو عن الآبتداء, فهذا هو النقطة الأولى .
النقطة الثانية:- نظر للنذر باعتبار المعقود به فاعلم أن المتقرر بالإجماع أنه لا يجوز أن يعقد النذر إلا له جلَّ وعلا, فلا يجوز النذر لأحد من المخلوقين ويستدل على ذلك بالأدلة الناهية عن الحلف بغيره جلَّ وعلا, فإن النذر نوع من الأيمان, بل هو أعظم منها, فإذا كان الحلف بغير الله ممنوعاً فالنذر لغيره ممنوع من باب أولى فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :-(( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) " رواه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه" وقال عليه الصلاة والسلام(لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )) وقال عليه الصلاة والسلام( من حلف فقال واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله )) وعن بريدة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من حلف بالأمانة فليس منا ))" رواه أحمد وأبو داود وابن حبان وسنده حسن" وقد نقل غير واحدٍ من أهل العلم إجماع أهل العلم- رحمهم الله تعالى- أنه لا يحلف إلا بالله أو صفة من صفاته.
فإذا كان هذا شأن الحلف فكيف يكون شأن النذر؟
لا شك أنه أعظم فإن باب النذر أعظم من باب الأيمان.
وإن قلنا هو منها:- فهو أعلاها, ونقول أيضاً إن الله تعالى قد امتدح الموفين به في آيات وأحاديث ستأتي إن شاء الله تعالى والمدح لا يكون إلا على فعل عبادة فحيث تقرر أنه عبادة فلا يجوز حينئذٍ صرفه لغير الله تعالى.
فالنذر باعتبار المعقود به عبادة يثاب عليه الإنسان لا أقول:- يثاب على إنشائه وابتدائه, ولكن أقول:- يثاب على عقد النذر بالله تعالى, فهذا بالنسبة للنقطة الثانية.
النقطة الثالثة:- نظر للنذر باعتبار الوفاء به بعد عقده فهذا مما لاإشكال فيه أنه محبوب لله تعالى قال تعالى:- { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطُيراً } (1) وقال تعالى: { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْْتُمْ مِن نََّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ } (2) وهو نوع من أنواع العهد وقد قال تعالى { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } (3) وقال عليه الصلاة والسلام( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه )) وهو في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها فالنذر بهذا الاعتبار لاشك أنه عبادة وبهذا يتضح الجواب ويتحرر المقام, فأقول:- النذر ليس عبادة باعتبار إنشائه وابتدائه وأصل إيقاعه ولكنه عبادة باعتبار صرفه لله تعالى وعبادة باعتبار الوفاء به, فهو منهي عنه من جانب واحدٍ فقط , وهو جانب الابتداء ولكنه مأمور به من جانبين, مأمور به من جانب عقده فهو مأمور أن لا يعقده إلا لله تعالى, ومأمور به من جانب الوفاء به, فالعبد مأمور إذا عقد النذر بشيئين:-
أحدهما:- أن العبد لا يعقده إلا لله.
الثاني:- أن يوفي به بعد عقده, فبالتفريق بين هذه الأحوال لا يبقى أي إشكال بين كون النذر عبادة وبين كونه منهياً عنه لأننا نقول:- هو عبادة باعتبار صرفه لله تعالى وعبادة باعتبار الوفاء به, ولكنه منهي عنه باعتبار أصل إيقاعه وابتدائه والعبادة قد يكون مأموراً بها من جانب ومنهياً عنها من جانب, فليست جهة النهي وجهة الأمر واحدة حتى يلزم الاختلاف والتعارض, بل النهي في الحديث له جهته الخاصة والأمر له جهته الخاصة ومع اختلاف الجهتين فلا إشكال ولله الحمد والمنة والله أعلى وأعلم.
__________
(1) سورة الإنسان آية (7)
(2) سورة البقرة آية (270)
(3) سورة البقرة آية (177)