د. يوسف بن عبد الله حميتو
:: متخصص ::
- إنضم
- 21 فبراير 2010
- المشاركات
- 456
- الإقامة
- الإمارات العربية المتحدة
- الجنس
- ذكر
- الكنية
- أبو حاتم
- التخصص
- أصول الفقه ومقاصد الشريعة
- الدولة
- الإمارات العربية المتحدة
- المدينة
- أبوظبي
- المذهب الفقهي
- المذهب المالكي
الحمد لله مُحسن مآل من فوض أمره إليه،وكافي من توكل عليه،ومجمل مآب من أناخ مطاياه ببابه، وقصد الركون إلى رحابه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على العاقب، من أرشد الناس إلى خير العواقب، وعلى الآل الأطهار والصحابة الأخيار
أما بعد:
فإن الله جعل لكل مقام مقالا،ولكل مقال رجالا،ولكل رجال فعالا،ولكل فعال مآلا، ومن ثم كان حقا على العاقل أن يقدر لكل أمر قدره، وأن ينظر فيما يصير إليه حاله، فلا يبني على الواقع الذي هو عليه، بل يستشرف ما يؤول إليه، وقديما قال أهل الحكمة: "واجبٌ على كل حكيمٍ أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها, فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ماتجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها فذاك أمرٌ يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون"([1]).
إن الباري عز وجل حين شرع أحكامه ربطها بمقاصد وغايات ومعاني عظيمة، فلا تقوم الأحكام إلا بالمقاصد ولا تقوم المقاصد إلا بالأحكام، لذلك كان لزاما على الخائض في علم الفقه والأحكام أن يبادر إلى التحقق من المقاصد التي قصدها الشارع والغايات التي يتغياها، وأن يسعى جاهدا بقدر الممكن له أن ينزل الحكم على الواقع بما يتحقق به القصد، فلا يصح لطالب علوم الشرع أن يمتثل الأحكام دون أن يعرف مواطن تنزيلها، ونتائج ذلك.
ذلك أنه إذا كان فهم الأحكام ومعرفة مناشئها أمرا لا مناص منه ، فإن الاجتهاد في تنزيلها لا يقل ضرورة عنه،لأنه بارتباط الاجتهادين تتحقق شمولية الشريعة، وصلاحها لكل زمان ومكان، وهذا التنزيل لا يتم إلا وفق قواعد وأصول مقصدية محضة، لا تنفصل عن بعضها لأنها تشكل جوهر الدين والتشريع الضابط لحياة المكلفين.
و الطالب الناظر في هذا العلم يجد إذا نظر بعين الفقيه قواعد مهمة، من بينها قاعدة عظيمة القدر والخطر، بل هي أعظم القواعد الاجتهادية طرا، وهي قاعدة اعتبار مآلات الأفعال، ومراعاة نتائج التصرفات، وبالغ أهمية هذه القاعدة كامن في أن عدم اعتبارها أو إهمالَها أو الجهلَ بها من شأنه أن يوقع الناظر في علوم الشرع عامة والفقيه على الأخص في مناقضة قصد الشارع من تشريعه للأحكام، إذ لا يكفي في الاجتهاد العلم بالأحكام وبمقاصد الأحكام تعيينا، بل الواجب معرفة ما يؤول إليه الحال إذا عمل بهذه الأحكام في واقع المكلفين، من خلال الاجتهاد في تحقيق المناط، وهو الاجتهاد الذي لا ينقطع أبدا إلى أن ينقطع أصل التكليف([2])، وهو الذي يكون به تكييف الأفعال والأحداث الجزئية على حسب مقتضيات أحكام الدين الكلية([3]).
إن هذا التكييف هو الذي وَسَمَهُ الإمام الشاطبي رحمه الله بالنظر في المآلات، ـ وسماه غيره فقهَ التنزيل ـ وجعله أصلا مقصديا يقوم عليه التشريع ولا ينفك عنه، وقد أثبتَ رحمه الله أن الفصل بين التشريع وفقه تنزيل الأحكام واعتبار مآلاتها ضرب من العبث الذي تتنزه عنه الشريعة.
فالإنسان في حياته يخضع لواقع معين، هذا الواقع يستلزم إيقاعَ الأحكام لتصبح هي بنفسها واقعا يحكم الواقع الإنساني بكل مكوناته وتمثلاته، وإيقاعَها وفق ما تقتضيه المقاصد الإلهية نظرا للتلازم الطردي بين الأحكام ومقاصدها، فالواقع في حقيقته أعيان مشخصة، وأفعال بشرية تصدر من المكلفين جماعات و أفذاذا.
هذه الأعيان والأفعال مرتبطة بأزمنة وأمكنة وأحوال مختلفة، وبجزئيات متعددة، وهو ما يوجب أن يكون لكل جزئية فهمها الخاص وحكمها، ومن خلال هذه الأحكام الجزئية يحكم على الواقع ككل، فلا يجوز أن يوقع المجتهد أو المفتي الحكم مجردا عاما كما هو دون اعتبار لأي أمور مؤثرة في النظر، ودون اعتبار لتداعيات تعدية الحكم دون التفات إلى العوارض والملابسات المحتفة بالمكلف في واقعه، ودون عناية بالاقتضاء التبعي للواقع ومكوناته([4])، وأي إهمال لهذا الاقتضاء التبعي يعني بالضرورة مناقضة قصد الشرع، وكل عمل لا يترتب عنه مقصوده فهو باطل.
وتبعا لما سبق، يكون من نافلة القول أن مجتهدي الإسلام قد استوعبوا حق الاستيعاب حقيقة ارتباط نصوص الأحكام بالمقاصد الشرعية، وفهموا أن هذه الأحكام ما هي إلا وسائل لتحقيق تلك المقاصد، وأدركوا أنها يجب أن تنزل على الواقع بما يتوافق وقصد الشارع منها، حتى يُحفظ نظام الأمة ويستدام صلاحه بصلاح المهيمن عليه الذي هو الإنسان([5])، وهو ما لخصه الشاطبي في كلمات جميلة قال فيها: " المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حَسَبِها"([6]).
إن هذا التنزيل المقصود لا يتم إلا إذا جمع القائم بعملية التنزيل بين ثلاثة أنواع من الفقه تلخص فيما يلي:
1ـ فقه المقاصد: وهو يجمع بين فقه الأحكام ومعرفة مقاصد الشارع وبين مقاصد المكلفين ، وعلى هذين النوعين بنى الشاطبي : كتاب المقاصد من كتاب " الموافقات في أصول الشريعة".
2ـ فقه الواقع: وهو ما يلزم منه معرفة المجتهد أحوال المكلفين وما يحيط بهم من أحوال ثابتة وعوارض طارئة، ومراعاة الوقائع في أحوال فاعليها([7])، إذ "لا يمكن إنكار أن هناك مصالح كثيرة ومفاسد تتأثر باختلاف الأحوال وتغير الظروف، فتتغير أوضاعها وسلم أولوياتها بتغير نفعها أو ضرها مما يستدعي نظرا جديدا وتقديرا مناسبا، ووسائل مناسبة، وكل هذا يؤثر على الأحكام تأثيرا ما، ينبغي أن ينظر فيه ويقدر بقدره بلا إفراط ولا تفريط"([8]).
3ـ فقه الموازنات: وهذا الفقه له مدخله في كل الأبواب الفقهية، ذلك أنه قد يقع تزاحم المصالح فيما بينها أو المفاسد فيما بينها، أو بين المصالح والمفاسد، فيحتاج المجتهد إلى تغليب جهة منها، ذلك أنه متى علم المجتهد كيف يراعي مصلحة المكلف، وكيف يحفظ تَوافقَ مقصده مع مقصد الشارع، وكيف يدفعه عن مناقضة قصد الشارع، وكيف يحفظ مقصدَ الشارع حالَ مخالفةِ مقصدِ المكلف له، فإنه بذلك يكون قد راعى أيلولة الأحكام التي يراد تنزيلها على وقائعها، وفي ذات الوقت يكون قد حقق الغايات والمقاصد والمرامي التي أرادها الشارع من وضع الشريعة على الجملة .
إن هذه الأنواع من الفقه تفرض على المجتهد والمفتي نسقا اجتهاديا محددا، يتمثل في اعتماد قواعد أصولية ومقصدية معينة، وتطبيق نظريات بذاتها تخدم طبيعة عمله واشتغاله على أفعال المكلفين ارتباطا بالنسق التشريعي العام الذي يتسم بسمتين رئيسيتين :
ـ السمة الوقائية: وتعني منع المكلف من أي فعل تترتب عليه آثار تخالف المقاصد الكلية أو الجزئية أو الخاصة التي تغياها الشارع، وذلك من خلال صورتين، أولاهما: قواعد أصولية استقرئت من ثنايا نصوص الشرع وصارت في حكم القطعيات، والمقصود بها قواعد سد الذرائع والحيل، والاستحسان بمختلف صوره، وما بناه الأصوليون والفقهاء من قواعد فقهية تحكم جزئيات متعددة لها مناط واحد وإن اختلفت صورها ووقائعها، كقواعد الضرر وقواعد القصود والنيات وقواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد .
أما الصورة الثانية، فهي نظريات فقهية جمع العلماء القدامى فروعها دون نظمها تحت مسمى معين، وقام المعاصرون من الدارسين والباحثين بإعطائها مسميات تتناسب ومضامينَها ذات الصبغة الوقائية، والمقصود هنا نظريات الباعث والاحتياط والتعسف في استعمال الحق، وهي كلها نظريات منبثقة من رحم نصوص الشريعة.
ـ السمة العلاجية([9]): ويعني التدخل لحسم مادة الفساد بمجرد تَحَسُّسِ آثارها سواء كانت ناتجة عن قَصْدٍ مُبَيَّتٍ من المكلف، أو كانت ناتجةً عن فِعلٍ مارسه المكلف في إطار مشروع لكن آلت هذه الممارسة إلى مآل ضرري، وسواء كان هذا الضرر واقعا أم متوقعا فالحكم واحد عملا بمبدأ الاحتياط.
ولا يُتصور هنا أن الصبغة العلاجية تقتصر فقط على المنع من الفعل عملا بالذرائع أو الحيل أو الاحتياط، بل تشمل كل تدخل للمجتهد أو المفتي لرفع المشقة عن المكلف إذا كانت تكاليف الشرع حين تطبيقها في صورة معينة توقع المكلف في الحرج، وذلك ضمن إطار العمل بالاستحسان فباعتبار أن كليات الشريعة وجزئياتها([10]) معللة بمصالحها، فإنه تبعا لذلك يتعين على المفتي متى استبصر استبصاراً قطعيا أوظنيا أن تطبيقَ الحكم على المكلف أو إعمالَ القياس، من شأنه أن تكون له نتائج على غير المعهود من سُنَنِ الشرع ومقاصده، أن يَعْدِلَ إلى التكييف الاستثنائي الذي به يتحقق المقصد الشرعي.
وبدَهي أن هذا لا يقع عن طريق التشهي، ولكن يقع عن طريق تحقيق المناط في كل شخص وكل نازلة، وذلك باعتبار أن الأمور تَحِلُّ وتَحْرُمُ بمآلاتها، إذ المآل ليس شيئا سوى المصالح والمفاسد المتوقعة([11]) أو الواقعة تقريبا أو تغليبا.
وهذا ليس أمرا تجريديا تصوريا فقط بل هو ماثلٌ في الواقع على الحقيقة، مُجَسَّدٌ في أَصْلَي العدل والمصلحة، ولله در العز بن عبد السلام إذ يقول: " اعلم أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقة شديدة أو مفسدة تربى على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السعي في درء مفاسد في الدارين أو في أحدهما تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقة شديدة أو مصلحة تربى على تلك المفاسد، وكل ذلك رحمةٌ بعباده ونَظَرٌ لهم ورِفْقٌ، ويُعَبَّرُ عن ذلك كله بما خالف القياس، وذلك جار في العبادات والمعاوضات وسائر التصرفات"([12]).
إن دراسة مآلات الأفعال باعتبارها أصلاً مقصدياً لا يُمكن أن تُبحث ضمن تصور نظري، فهذا لا يمكنه أبدا أن يُجَلِّيَ هذا الأصلَ حقيقةَ الجلاء، كما أن دراسته من خلال كتب الفقه المجردة لا تُسْعِفُ في معرفة القيمة التشريعية لهذا الأصل، إنما حقيقته وقيمته تظهر من خلال كتب الفتوى والنوازل التي تمثل المراس الفقهي الحقيقي، لأنها تجمع بين أمور ثلاثة:
ـ أولها : التصور، بناء على أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره وهذا التصور يتم من خلال أمرين: أولهما: فهم الواقعة في ذاتها، وثانيهما: فهم ما يحيط بها، وهما معا لا يتمان إلا بالاستقراء والمعايشة.
ـ ثانيها : التكييف، والمقصود تصنيف النازلة ضمن الفرع الفقهي الذي يشبهها، ووضعها تحت الأصل الكلي الذي يجمعها ونظائرها.
ـ ثالثها : التطبيق، أي تنزيل الحكم عليها بما يتوافق مع المقصد الشرعي، مع اعتبار احتمال غلبة المصالح أو المفاسد أو اختلاطها مما يوجب الموازنة بينها، ومع مراعاة حالات الاضطرار وما تعم به البلوى، واعتبار الأعراف والعادات والأحوال([13]).
وإن كان اعتبار المآل يحتاج إلى شيء، فليس أكثر من هذه العناصر الثلاثة التي وردت موجزة بما يناسب المقام.
ــــــــــ
([1])ـ ينظر : مجموع رسائل الجاحظ.ص: 122،
([2]) ـ ينظر : الموافقات في أصول الأحكام ، للإمام الشاطبي ، 5/11
([3]) ـ ينظر: فقه التدين فهما وتنزيلا، للدكتور عبد المجيد النجار، ص : 15 .
([4]) ـ ينظر: اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، للدكتور عبد الرحمن السنوسي، ص: 20.
([5]) ـ ينظر : مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور ، ص : 273
([6]) ـ ينظر : الموافقات، 3/217.
([7]) ـ ينظر : التأصيل العلمي لمفهوم الواقع، للدكتور سعيد بيهي، ص:223.
([8]) - ينظر: نظرية المقاصد عند الشاطبي ، للدكتور أحمد الريسوني ، ص : 265.
([9]) ـ استعار الباحث مصطلح العلاجي والوقائي من كتاب :" اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات" للدكتور عبد الرحمن السنوسي.
([10]) ـ من باب أن الجزء تابع للكل ، وهذا معنى قول الشاطبي: " المطلوب المحافظة على قصد الشارع؛ لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك، والجزئي كذلك فلا بد من اعتبارهما معا"، ينظر : الموافقات: 3/176.
([11]) ـ ينظر: المصطلح الأصولي عند الإمام الشاطبي، للدكتور فريد الأنصاري، ص: 416.
([12]) ـ ينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، لعز الدين بن عبد السلام، 2/138.
([13]) ـ لزيادة تفصيل ينظر: فقه النوازل : دراسة تأصيلية تطبيقية، للدكتور محمد بن حسين الجيزاني، 1/39 فما بعدها.
أما بعد:
فإن الله جعل لكل مقام مقالا،ولكل مقال رجالا،ولكل رجال فعالا،ولكل فعال مآلا، ومن ثم كان حقا على العاقل أن يقدر لكل أمر قدره، وأن ينظر فيما يصير إليه حاله، فلا يبني على الواقع الذي هو عليه، بل يستشرف ما يؤول إليه، وقديما قال أهل الحكمة: "واجبٌ على كل حكيمٍ أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها, فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ماتجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها فذاك أمرٌ يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون"([1]).
إن الباري عز وجل حين شرع أحكامه ربطها بمقاصد وغايات ومعاني عظيمة، فلا تقوم الأحكام إلا بالمقاصد ولا تقوم المقاصد إلا بالأحكام، لذلك كان لزاما على الخائض في علم الفقه والأحكام أن يبادر إلى التحقق من المقاصد التي قصدها الشارع والغايات التي يتغياها، وأن يسعى جاهدا بقدر الممكن له أن ينزل الحكم على الواقع بما يتحقق به القصد، فلا يصح لطالب علوم الشرع أن يمتثل الأحكام دون أن يعرف مواطن تنزيلها، ونتائج ذلك.
ذلك أنه إذا كان فهم الأحكام ومعرفة مناشئها أمرا لا مناص منه ، فإن الاجتهاد في تنزيلها لا يقل ضرورة عنه،لأنه بارتباط الاجتهادين تتحقق شمولية الشريعة، وصلاحها لكل زمان ومكان، وهذا التنزيل لا يتم إلا وفق قواعد وأصول مقصدية محضة، لا تنفصل عن بعضها لأنها تشكل جوهر الدين والتشريع الضابط لحياة المكلفين.
و الطالب الناظر في هذا العلم يجد إذا نظر بعين الفقيه قواعد مهمة، من بينها قاعدة عظيمة القدر والخطر، بل هي أعظم القواعد الاجتهادية طرا، وهي قاعدة اعتبار مآلات الأفعال، ومراعاة نتائج التصرفات، وبالغ أهمية هذه القاعدة كامن في أن عدم اعتبارها أو إهمالَها أو الجهلَ بها من شأنه أن يوقع الناظر في علوم الشرع عامة والفقيه على الأخص في مناقضة قصد الشارع من تشريعه للأحكام، إذ لا يكفي في الاجتهاد العلم بالأحكام وبمقاصد الأحكام تعيينا، بل الواجب معرفة ما يؤول إليه الحال إذا عمل بهذه الأحكام في واقع المكلفين، من خلال الاجتهاد في تحقيق المناط، وهو الاجتهاد الذي لا ينقطع أبدا إلى أن ينقطع أصل التكليف([2])، وهو الذي يكون به تكييف الأفعال والأحداث الجزئية على حسب مقتضيات أحكام الدين الكلية([3]).
إن هذا التكييف هو الذي وَسَمَهُ الإمام الشاطبي رحمه الله بالنظر في المآلات، ـ وسماه غيره فقهَ التنزيل ـ وجعله أصلا مقصديا يقوم عليه التشريع ولا ينفك عنه، وقد أثبتَ رحمه الله أن الفصل بين التشريع وفقه تنزيل الأحكام واعتبار مآلاتها ضرب من العبث الذي تتنزه عنه الشريعة.
فالإنسان في حياته يخضع لواقع معين، هذا الواقع يستلزم إيقاعَ الأحكام لتصبح هي بنفسها واقعا يحكم الواقع الإنساني بكل مكوناته وتمثلاته، وإيقاعَها وفق ما تقتضيه المقاصد الإلهية نظرا للتلازم الطردي بين الأحكام ومقاصدها، فالواقع في حقيقته أعيان مشخصة، وأفعال بشرية تصدر من المكلفين جماعات و أفذاذا.
هذه الأعيان والأفعال مرتبطة بأزمنة وأمكنة وأحوال مختلفة، وبجزئيات متعددة، وهو ما يوجب أن يكون لكل جزئية فهمها الخاص وحكمها، ومن خلال هذه الأحكام الجزئية يحكم على الواقع ككل، فلا يجوز أن يوقع المجتهد أو المفتي الحكم مجردا عاما كما هو دون اعتبار لأي أمور مؤثرة في النظر، ودون اعتبار لتداعيات تعدية الحكم دون التفات إلى العوارض والملابسات المحتفة بالمكلف في واقعه، ودون عناية بالاقتضاء التبعي للواقع ومكوناته([4])، وأي إهمال لهذا الاقتضاء التبعي يعني بالضرورة مناقضة قصد الشرع، وكل عمل لا يترتب عنه مقصوده فهو باطل.
وتبعا لما سبق، يكون من نافلة القول أن مجتهدي الإسلام قد استوعبوا حق الاستيعاب حقيقة ارتباط نصوص الأحكام بالمقاصد الشرعية، وفهموا أن هذه الأحكام ما هي إلا وسائل لتحقيق تلك المقاصد، وأدركوا أنها يجب أن تنزل على الواقع بما يتوافق وقصد الشارع منها، حتى يُحفظ نظام الأمة ويستدام صلاحه بصلاح المهيمن عليه الذي هو الإنسان([5])، وهو ما لخصه الشاطبي في كلمات جميلة قال فيها: " المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حَسَبِها"([6]).
إن هذا التنزيل المقصود لا يتم إلا إذا جمع القائم بعملية التنزيل بين ثلاثة أنواع من الفقه تلخص فيما يلي:
1ـ فقه المقاصد: وهو يجمع بين فقه الأحكام ومعرفة مقاصد الشارع وبين مقاصد المكلفين ، وعلى هذين النوعين بنى الشاطبي : كتاب المقاصد من كتاب " الموافقات في أصول الشريعة".
2ـ فقه الواقع: وهو ما يلزم منه معرفة المجتهد أحوال المكلفين وما يحيط بهم من أحوال ثابتة وعوارض طارئة، ومراعاة الوقائع في أحوال فاعليها([7])، إذ "لا يمكن إنكار أن هناك مصالح كثيرة ومفاسد تتأثر باختلاف الأحوال وتغير الظروف، فتتغير أوضاعها وسلم أولوياتها بتغير نفعها أو ضرها مما يستدعي نظرا جديدا وتقديرا مناسبا، ووسائل مناسبة، وكل هذا يؤثر على الأحكام تأثيرا ما، ينبغي أن ينظر فيه ويقدر بقدره بلا إفراط ولا تفريط"([8]).
3ـ فقه الموازنات: وهذا الفقه له مدخله في كل الأبواب الفقهية، ذلك أنه قد يقع تزاحم المصالح فيما بينها أو المفاسد فيما بينها، أو بين المصالح والمفاسد، فيحتاج المجتهد إلى تغليب جهة منها، ذلك أنه متى علم المجتهد كيف يراعي مصلحة المكلف، وكيف يحفظ تَوافقَ مقصده مع مقصد الشارع، وكيف يدفعه عن مناقضة قصد الشارع، وكيف يحفظ مقصدَ الشارع حالَ مخالفةِ مقصدِ المكلف له، فإنه بذلك يكون قد راعى أيلولة الأحكام التي يراد تنزيلها على وقائعها، وفي ذات الوقت يكون قد حقق الغايات والمقاصد والمرامي التي أرادها الشارع من وضع الشريعة على الجملة .
إن هذه الأنواع من الفقه تفرض على المجتهد والمفتي نسقا اجتهاديا محددا، يتمثل في اعتماد قواعد أصولية ومقصدية معينة، وتطبيق نظريات بذاتها تخدم طبيعة عمله واشتغاله على أفعال المكلفين ارتباطا بالنسق التشريعي العام الذي يتسم بسمتين رئيسيتين :
ـ السمة الوقائية: وتعني منع المكلف من أي فعل تترتب عليه آثار تخالف المقاصد الكلية أو الجزئية أو الخاصة التي تغياها الشارع، وذلك من خلال صورتين، أولاهما: قواعد أصولية استقرئت من ثنايا نصوص الشرع وصارت في حكم القطعيات، والمقصود بها قواعد سد الذرائع والحيل، والاستحسان بمختلف صوره، وما بناه الأصوليون والفقهاء من قواعد فقهية تحكم جزئيات متعددة لها مناط واحد وإن اختلفت صورها ووقائعها، كقواعد الضرر وقواعد القصود والنيات وقواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد .
أما الصورة الثانية، فهي نظريات فقهية جمع العلماء القدامى فروعها دون نظمها تحت مسمى معين، وقام المعاصرون من الدارسين والباحثين بإعطائها مسميات تتناسب ومضامينَها ذات الصبغة الوقائية، والمقصود هنا نظريات الباعث والاحتياط والتعسف في استعمال الحق، وهي كلها نظريات منبثقة من رحم نصوص الشريعة.
ـ السمة العلاجية([9]): ويعني التدخل لحسم مادة الفساد بمجرد تَحَسُّسِ آثارها سواء كانت ناتجة عن قَصْدٍ مُبَيَّتٍ من المكلف، أو كانت ناتجةً عن فِعلٍ مارسه المكلف في إطار مشروع لكن آلت هذه الممارسة إلى مآل ضرري، وسواء كان هذا الضرر واقعا أم متوقعا فالحكم واحد عملا بمبدأ الاحتياط.
ولا يُتصور هنا أن الصبغة العلاجية تقتصر فقط على المنع من الفعل عملا بالذرائع أو الحيل أو الاحتياط، بل تشمل كل تدخل للمجتهد أو المفتي لرفع المشقة عن المكلف إذا كانت تكاليف الشرع حين تطبيقها في صورة معينة توقع المكلف في الحرج، وذلك ضمن إطار العمل بالاستحسان فباعتبار أن كليات الشريعة وجزئياتها([10]) معللة بمصالحها، فإنه تبعا لذلك يتعين على المفتي متى استبصر استبصاراً قطعيا أوظنيا أن تطبيقَ الحكم على المكلف أو إعمالَ القياس، من شأنه أن تكون له نتائج على غير المعهود من سُنَنِ الشرع ومقاصده، أن يَعْدِلَ إلى التكييف الاستثنائي الذي به يتحقق المقصد الشرعي.
وبدَهي أن هذا لا يقع عن طريق التشهي، ولكن يقع عن طريق تحقيق المناط في كل شخص وكل نازلة، وذلك باعتبار أن الأمور تَحِلُّ وتَحْرُمُ بمآلاتها، إذ المآل ليس شيئا سوى المصالح والمفاسد المتوقعة([11]) أو الواقعة تقريبا أو تغليبا.
وهذا ليس أمرا تجريديا تصوريا فقط بل هو ماثلٌ في الواقع على الحقيقة، مُجَسَّدٌ في أَصْلَي العدل والمصلحة، ولله در العز بن عبد السلام إذ يقول: " اعلم أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقة شديدة أو مفسدة تربى على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السعي في درء مفاسد في الدارين أو في أحدهما تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقة شديدة أو مصلحة تربى على تلك المفاسد، وكل ذلك رحمةٌ بعباده ونَظَرٌ لهم ورِفْقٌ، ويُعَبَّرُ عن ذلك كله بما خالف القياس، وذلك جار في العبادات والمعاوضات وسائر التصرفات"([12]).
إن دراسة مآلات الأفعال باعتبارها أصلاً مقصدياً لا يُمكن أن تُبحث ضمن تصور نظري، فهذا لا يمكنه أبدا أن يُجَلِّيَ هذا الأصلَ حقيقةَ الجلاء، كما أن دراسته من خلال كتب الفقه المجردة لا تُسْعِفُ في معرفة القيمة التشريعية لهذا الأصل، إنما حقيقته وقيمته تظهر من خلال كتب الفتوى والنوازل التي تمثل المراس الفقهي الحقيقي، لأنها تجمع بين أمور ثلاثة:
ـ أولها : التصور، بناء على أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره وهذا التصور يتم من خلال أمرين: أولهما: فهم الواقعة في ذاتها، وثانيهما: فهم ما يحيط بها، وهما معا لا يتمان إلا بالاستقراء والمعايشة.
ـ ثانيها : التكييف، والمقصود تصنيف النازلة ضمن الفرع الفقهي الذي يشبهها، ووضعها تحت الأصل الكلي الذي يجمعها ونظائرها.
ـ ثالثها : التطبيق، أي تنزيل الحكم عليها بما يتوافق مع المقصد الشرعي، مع اعتبار احتمال غلبة المصالح أو المفاسد أو اختلاطها مما يوجب الموازنة بينها، ومع مراعاة حالات الاضطرار وما تعم به البلوى، واعتبار الأعراف والعادات والأحوال([13]).
وإن كان اعتبار المآل يحتاج إلى شيء، فليس أكثر من هذه العناصر الثلاثة التي وردت موجزة بما يناسب المقام.
ــــــــــ
([1])ـ ينظر : مجموع رسائل الجاحظ.ص: 122،
([2]) ـ ينظر : الموافقات في أصول الأحكام ، للإمام الشاطبي ، 5/11
([3]) ـ ينظر: فقه التدين فهما وتنزيلا، للدكتور عبد المجيد النجار، ص : 15 .
([4]) ـ ينظر: اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، للدكتور عبد الرحمن السنوسي، ص: 20.
([5]) ـ ينظر : مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور ، ص : 273
([6]) ـ ينظر : الموافقات، 3/217.
([7]) ـ ينظر : التأصيل العلمي لمفهوم الواقع، للدكتور سعيد بيهي، ص:223.
([8]) - ينظر: نظرية المقاصد عند الشاطبي ، للدكتور أحمد الريسوني ، ص : 265.
([9]) ـ استعار الباحث مصطلح العلاجي والوقائي من كتاب :" اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات" للدكتور عبد الرحمن السنوسي.
([10]) ـ من باب أن الجزء تابع للكل ، وهذا معنى قول الشاطبي: " المطلوب المحافظة على قصد الشارع؛ لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك، والجزئي كذلك فلا بد من اعتبارهما معا"، ينظر : الموافقات: 3/176.
([11]) ـ ينظر: المصطلح الأصولي عند الإمام الشاطبي، للدكتور فريد الأنصاري، ص: 416.
([12]) ـ ينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، لعز الدين بن عبد السلام، 2/138.
([13]) ـ لزيادة تفصيل ينظر: فقه النوازل : دراسة تأصيلية تطبيقية، للدكتور محمد بن حسين الجيزاني، 1/39 فما بعدها.