العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

ضرورة النظر في المآلات عند الفتوى

إنضم
6 يناير 2011
المشاركات
45
التخصص
فقه و أصوله
المدينة
سعيدة
المذهب الفقهي
مالكي
ومعناه النظر فيم تؤول إليه الأفعال من مصالح ومفاسد، إذا العمل قد يكون في الأصل مشروعا، لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو يكون في الأصل ممنوعا، لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة([1]).
ولذلك ينبغي للناظر في النوازل و الواقعات ألا يتسرع بالفتيا إلا بعد النظر في مآلات الأفعال، فمن خصائص المجتهد الرباني الحكيم الراسخ في العلم الفقيه العامل " أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات، وغيره لا ينظر في ذلك، ولا يبالي بالمآل "([2]).
وقاعدة اعتبار المآل أصل من أصول الفقه جار على مقاصد الشريعة، دلت عليها الأدلة الشرعية والاستقراء التام([3]) ومن هذه الأدلة ما يلي:
أ ـ قوله تعالى ﴿ ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ([4]).
فقد قال المشركون لرسول الله r: لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن آلهتك فنزلت([5]) فسب الأوثان سبب في تخذيل المشركين وتوهين أمر الشرك وإذلال أهله، ولكن لما وجد له مآل آخر مراعاته أرجح – وهو سبهم الله تعالى- نهى عن هذا العمل المؤدي إليه مع كونه سببا في مصلحة ومأذونا فيه لولا هذا المآل([6]).

ب ـ قوله r لعائشة – رضي الله عنها- في شأن إعادة بناء الكعبة (( لولا قومك حديثوا عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم ))([7])، وذلك مخافة النّبي r من أن يؤول الأمر إلى مفسدة أعظم، وهي إنكار العرب لهذا الفعل وتفسيره بأنه هدم للمقدسات و تغيير لمعالمها وبالتالي يجافون النّبي r ويعادونه.

ج ـ ما جاء عن النّبي r حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه (( أخاف أن يتحدث الناس أن محمّدا يقتل أصحابه ))([8])
فموجب القتل حاصل وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين والسعي في الإفساد فقتلهم درء لمفسدة حياتهم، ولكن المآل الآخر – وهو هذه التهمة التي تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام- أشد ضررا على الإسلام من بقائهم([9]).
إلى غير ذلك من النصوص المتواترة في اعتبار هذا الأصل.
وقد سار على قاعدة اعتبار المآل الأئمة الكبار في اجتهاداتهم وفتواهم:
ـ فهذا الإمام مالك- رحمه الله- " أفتى الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم، فقال له: " لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله "([10])
ـ وهذا عبد الله بن مغفل أتته امرأة فسألته عن امرأة فجرت فحبلت فلما ولدت قتلت
ولدها؟ فقال ابن مغفل: مالها؟ لها النار. فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين: ﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما([11]).
قال: فمسحت عينيها ثم انصرفت([12]).
فهو بعد أن أجابها t جوابا زاجرا شديدا لكي ترتدع وتتوب، رأى من حالها أن ذلك قد يدفعها إلى اليأس من رحمة الله، وهذا قد يؤول بها إلى الانتحار أو التمادي في الفجور، أو ما أشبه ذلك من المآلات السيئة فعدل عن جوابه الأول إلى جواب آخر أليق بحالها([13]).
ـ وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - لما مر مع أصحابه في زمن التتار بقوم يشربون الخمر أنكر عليهم أصحابه، فأنكر عليهم شيخ الإسلام وقال: دعوهم إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال([14]).
فموجب الإنكار حاصل: وهو شرب الخمر الذي يفسد العقول ولكن المآل الآخر وهو قتالهم المسلمين إذا صحوا من شرب الخمر أشد ضررا من شرب الخمر.
ويقرر الإمام الشّاطبي- رحمه الله- هذا الأصل فيقول: " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل...وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه صعب المذاق، محمود الغب([15])، جار على مقاصد الشريعة "([16]).
ويقول الشّاطبي في موضع آخر بعد أن يقرر أنه ليس كل علم يبث وينشر وإن كان حقا، وبعد أن يحكي عن الإمام مالك- رحمه الله - أنه كان يكره الكلام فيم ليس تحته عمل يقول: " فتنبه إلى هذا المعنى وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية "([17]).
وصدق الشّاطبي – رحمه الله - فعلى المفتي إذا أفتى أن يقدر عواقب حكمه وفتواه وأن لا يعتبر أن مهمته منحصرة في إعطاء الحكم الشرعي، بل مهمته أن يفتي في النازلة وهو يستحضر المآل، والآثار المترتبة على فتواه فإن لم يفعل فهو إما قاصر عن درجة الاجتهاد أو مقصر فيها([18]).
وكم من أبواب للشر انفتحت بسبب فتاوى لم يعتبر فيها المآل ولم يقدر المفتي فيها عواقب حكمه فأدت إلى مفاسد وأضرار، بدلا من تحقيق المصلحة المرجوة من الفتوى، كما حصل ويحصل في بعض البلدان العربية الإسلامية من تجويز الخروج على الحكام ومقاتلتهم بعد الحكم بتكفيرهم دون النظر في المآلات الأمر الذي ترتب عليه فساد كبير واختلال الأمن وظلم الناس وتضييع الحقوق وجرّ ويلات كبيرة على المجتمع.

[1] ـ الشّاطبي، الموافقات: 4/143

[2] ـ المصدر نفسه: 4/169

[3] ـ المصدر نفسه: 4/142 ؛ القحطاني، منهجية استنباط الأحكام في النوازل: ص 333

[4] ـ سورة الأنعام، الآية: 108

[5] ـ القرطبي، الجامع: 7/41 ؛ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 3/48

[6] ـ حاشية دراز على الموافقات: 4/142

[7]ـ صحيح البخاري: كتاب العلم - باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه.. رقم 126 : 1/59

[8] ـ صحيح البخاري: كتاب المناقب - باب ما ينهى عن دعوة الجاهلية – رقم 3330 : 3 /1296 ؛ و صحيح مسلم: كتاب البر والصلاة والآداب - باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما – رقم 2584 : 4/1998

[9] ـ حاشية دراز على الموافقات: 4/143

[10] ـ الشّاطبي، الموافقات: 4/143

[11] ـ سورة النساء، الآية: 110

[12] ـ الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 5/273 ( بيروت: دار الفكر، 1405هـ )

[13] ـ الريسوني، نظرية المقاصد: ص 382

[14] ـ ابن القيّم، إعلام الموقعين: 3/3

[15] ـ آي العاقبة، الفيروز آبادي، القاموس المحيط: 1/152

[16] ـ الشّاطبي، الموافقات: 4/140-141

[17] ـ المصدر السابق: 4/138-139

[18] ـ الريسوني، نظرية المقاصد: ص 381
 
إنضم
5 أغسطس 2010
المشاركات
837
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
أصول الفقه
المدينة
عين تموشنت
المذهب الفقهي
مالكي
رد: ضرورة النظر في المآلات عند الفتوى

أحسنت الاختيار و التحقيق الشيخ بومدين
 

علي سلمان عبود

:: متابع ::
إنضم
2 مارس 2010
المشاركات
24
التخصص
اصول الفقه
المدينة
بغداد
المذهب الفقهي
الشافعي
رد: ضرورة النظر في المآلات عند الفتوى

السلام عليكم وحي الله اساتذتنا في المغرب العربي ،أتسائل،ماهي الضوابط للمآلات ؟هل من الممكن ان تكون هذه الضوابط هي نفسها ضوابط المصالح ،او سد الذرائع أفيدونا بوركتم0
 
إنضم
6 يناير 2011
المشاركات
45
التخصص
فقه و أصوله
المدينة
سعيدة
المذهب الفقهي
مالكي
رد: ضرورة النظر في المآلات عند الفتوى

بارك الله في شيخنا أ.د لخضاري وحفظك الله، لقد استفدنا كثيرا منكم خاصة في باب المقاصد، حيث كنا نحرص على حضور محاضراتكم في الجامعة، فوجدنا العلم الكثير و التحقيق الدقيق و التواضع الشديد، حفظكم المولى و رعاكم.
 
إنضم
6 يناير 2011
المشاركات
45
التخصص
فقه و أصوله
المدينة
سعيدة
المذهب الفقهي
مالكي
رد: ضرورة النظر في المآلات عند الفتوى

بارك الله فيك أخي علي عبود
من الوجوه التي يظهر من خلالها عمق الصلة بين مفهوم المصلحة و بين مبدأ المآلات أن أي فعل إذا اجتمع فيه مآلان متعارضان فمرد النظر الشرعي فيه إلى اعتبار حجم المصلحة و المفسدة فيه، فإذا غلبت مصلحته على مفسدته صحح الفعل و أنفذ، أما إذا رجحت المفسدة على المصلحة منع الفعل.
وأصل اعتبار المآل تنبني عليه القواعد الآتية:
1 ـ قاعدة الذرائع
2 ـ قاعدة الحيل
3 ـ قاعدة الاستحسان
4 ـ قاعدة مراعاة الخلاف
 

أم نافع

:: متابع ::
إنضم
8 مارس 2011
المشاركات
1
التخصص
شريعة و قانون
المدينة
قسنطينة
المذهب الفقهي
مالكي
رد: ضرورة النظر في المآلات عند الفتوى

السلام عليكم .جزاكم الله خيرا .
-ما هي الأمور التي ينظر في مآلاتها ؟ أهي أفعال المكلفين فقط ,أم أن إصدار الأحكام و تطبيقاتها في الواقع هي الأخرى محل نظر في مآلاتها ؟
الرجاء إفادتي .و إحالتي على مؤلفات تناولت هذه النقطة - في أقرب وقت -,و لكم مني فائق شكري و امتناني...
 
إنضم
16 أبريل 2010
المشاركات
187
التخصص
إنجليزية
المدينة
تلمسان
المذهب الفقهي
مالكي
رد: ضرورة النظر في المآلات عند الفتوى

جزاك الله خيرا أخي بومدين
أخوك بوزيان من تلمسان
بخصوص تعارض المآلات وتغليب المصلحة على المفسدة أو العكس حسب حجم احدهما
لو تضرب لنا أمثلة حفظك الله
 
إنضم
5 مارس 2011
المشاركات
71
الكنية
أبو أويس
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
تلمسان
المذهب الفقهي
مالكي
رد: ضرورة النظر في المآلات عند الفتوى

لقد اطلعنا على أطروحتكم بمعهد الحضارة شيخ بومدين فكانت تحفــة رضية وتأمل من حضرتكم أن توافونا بملخصات لكل المباحث التي سيقت فيها مشكورين ...
 
أعلى