العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

ذهنية التحريم- للشيخ عماربن ناشر العريقي-حفظه الله.

إنضم
23 مارس 2008
المشاركات
677
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
برمنجهام
المذهب الفقهي
شافعي
هذا البحث عبارة عن مقال نشره الشيخ عماربن ناشر العريقي-وفقه الله- في مجلة المنتدى اليمنية العدد (89-90) ذو القعدة / ذو الحجة 1425هـ = ديسمبر 2004م/ يناير 2005م


أولاً: مظاهر ومخاطر:

إن من أخطر ما يشوه صورة دعوة الإسلام، وينفر الناس من دعاته الكرام، ويحول دون تحقيق الوحدة الإسلامية، ويقطع أواصر الأخوة الإيمانية، ويعوق دون الإسلام ودون انتشاره وانتصاره أن تنتشر ظاهرة (ذهنية التحريم)، وهي فرع منهجية التشديد وعقلية التعسير. ومن المؤسف أنها ظاهرة متوفرة لدى الكثيرين من الدعاة وطلبة العلم ممن تجرءوا على تصدر الفتاوى الشرعية، وتبني المواقف الفكرية من غير رسوخ في العلوم الشرعية، ولا إحاطة بمقاصد الشريعة. ومما زاد الأمر سوءاً، أن تنتسب هذه الذهنية إلى الاستقامة والالتزام، أو العلم والورع، أو السنة والسلفية، أو الثبات على الدين والتمسك بالحق.

ثم أن تنتهج هذه الذهنية واقعية الإرهاب الفكري مع المخالف، فتصمه بكل تهمة ونقيصة. والمتأمل يجد أن هذه الذهنية خاضعة لطبيعة بيئية معقدة، ومؤثرات نفسية متوترة، كما أنها جاءت نتيجة ردود أفعال في مقابل انتشار ظاهرة التساهل والتسيُّب والتفلُّت لدى عامة المسلمين، وهي منهجية التفريط وذهنية التحليل، فعالجت الخطأ بالخطأ، والبدعة بالبدعة والتفريط بالإفراط. كما أنها جاءت نتيجة تربية علمية خاطئة، فلا عجب أن تنطلق من شبهات علمية، وهي وإن كانت صحيحة المبنى، لكنها خاطئة التطبيق والمعنى -كما سيأتي في المبحث بيانها والرد عليها إن شاء الله- ولطالما كانت هذه الذهنية سبباً رئيساً في فتنة الناس، وتنفيرهم عن الدين وعن دعاته المخلصين، فكان من الواجب أن نصرخ في وجوههم بكل شجاعة ورحمة، كما قال صلى الله عليه وسلم لصاحبه الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه: «أفتان أنت يا معاذ؟ وكررها ثلاثاً»(1) وذلك لمجرد شكوى أحد الناس منه لطول صلاته بهم. كما قال صلى الله عليه وسلم في مناسبة أخرى مشابهة: «يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز –فليخفف- فإن فيهم الكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة»(2) «ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم»(3) أي سبب هلاكهم أو أعظمهم هلاكاً.

ولذلك، فقد كان من مظاهر الذهنية أنها تصور الإسلام بصورة مفزعة مخيفة، صورة الإسلام المقطب الوجه، العبوس القمطرير، الذي لا يعرف غير العنف في الدعوة، والخشونة في المجادلة، والغلظة في التعامل، والفظاظة في الأسلوب، والتعصب في الرأي، وسوء الظن والفهم والخلق؛ صورة الإسلام الذي لا يعرف الحوار ولا يقبل الخلاف، الإسلام السلبي السطحي الجامد، الذي لا ينشد التجديد، ولا يقدم الحلول الشرعية والواقعية لكل تحديات العصر.

إنها صورة الإسلام الذي طغى على خطابه الترهيب، وعلى مواقفه التشديد، وعلى أحكامه التحريم.

فإذا كان في المسألة قولان، تبادر إلى الذهن ومال القلب إلى الحكم بمقتضى التحريم واتباع ما فيه الحرج والعنت والمشقة والتعسير. وكأن ذلك هو الأصل الأصيل الذي لا يجوز العدول عنه إلا بدليل. ثم قالوا: ولا دليل! وكم أتمنى من القارئ الكريم ألا يتعامل مع هذا المقال وفقاً لهذه الذهنية، فيتبادر إلى ذهنه الإنكار على ذهنية التحريم يستلزم الإقرار بذهنية التحليل وإضفاء الشرعية، أو فتح الباب لانتشار المعاصي والبدع. لا، لأنا نقول: إن كلاً من الإفراط والتفريط من أسباب ضياع الدين وضعف المسلمين، كما هو خروج عن منهج الشرع الحنيف القويم، وسبيل أهل الصراط المستقيم في الوسطية والاعتدال، والتوازن والشمول. وصدق الشاعر:

فلا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم

بل صدق الله تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {هود:112}. ولطالما أيضاً جر الإفراط والغلو إلى التفريط والتساهل، بل وإلى الضلال والانحراف والارتداد أحياناً. وفي الحديث: «إن هذا الدين يسر، ولا يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا..».

وهذا أمر مشاهد معلوم، وذلك لأن النفس البشرية طبعت على السآمة والملل، وجهدها البدني والنفسي محدود قال تعالى: [يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا] {النساء:28} وروى البزار وصححه الألباني مرفوعاً: «إن لكل عامل شرة (نشاطاً) ولكل شرة فترة (فتوراً)، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل، أو قال: فقد هلك».

ثم إن الإنكار على ظاهرة الغلو والتشديد وذهنية التحريم، لا يمنع الإنكار على ظاهرة التساهل والتحذير من المعاصي والبدع، وإن كان أمرها أظهر لخفاء مسالك وشبهات الغلو وخطورة آثاره على الدعوة والواقع. وقد يدل عليه ما يعرف من خلال المقارنة بين اليهود والخوارج الغلاة، وبين النصارى والمرجئة الجفاة.

ثانياً: قواعد في التحليل والتحريم:

ومعلوم أن التحليل والتحريم حق الله وحده ومنازعة الله في التشريع قرين الشرك: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ] {الشُّورى:21}.

وأنه لا يجوز الحكم بحل شيء أو بحرمته إلا بدليل صحيح الثبوت صريح الدلالة، من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تحريم الحلال كتحليل الحرام، بل تحريم الحلال أعظم لمخالفته الأصل، إذ الأصل في الأشياء كلها الإباحة والحل إلا لصارف من دليل يقتضي التحريم، كما لو تمحض ضرره، أو زاد ضرره ومفسدته على منفعته ومصلحته، أو دل عليه دليل صريح، وذلك لعموم آيات حل الطيبات وآيات التسخير: [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] {البقرة:57}. [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ] {الجاثية:13}.

ولذلك، فإن الأمر المسكوت عنه حكمه الحل، وهو داخل في دائرة المعفو عنه، فقد ثبت من حديثي سلمان وأبي الدراداء مرفوعاً: «الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عفوه، فإن الله لم يكن ينسى شيئاً [وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا] {مريم:64}».

وفي حديث آخر: «.. وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تسألوا عنها»(4).

وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم الناس عند الله إثماً رجل سأل عن مسألة لم تحرم فحرمت من أجل مسألته». وهو في معنى قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ(102) ] {المائدة}.

وكل ذلك يبين خطورة المتكلف: [وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ] {ص:86}. والتنطع في الدين: «هلك المتنطعون الثرثارون المتفيهقون المتشدقون».

وفي قوله تعالى في الآية السابقة: [أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ] {المائدة:102} دليل على ما قد يجر إليه الغلو والتنطع إلى ضدهما، وقد سبق.

لقد قرر العلماء أن باب الحلال أوسع من باب الحرام، ولذلك فإن الحلال غالباً ما يذكر بطريق الإجمال؛ لتعذر حصر أفراده.

ولا يذكر بطريق التفصيل -بذكر بعض أمثلته- إلا على سبيل إظهار منته تعالى على عباده لا لقصد الحصر. وأما الحرام، فإن الله يبينه على وجه التفصيل؛ حتى لا يدع لأحد شبهة في حكم شيء من أفراده، كما قال تعالى: [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] {الأنعام:119}.

ولذلك، فكثير ما يورد الله المحرمات بأسلوب الحصر (إلا، إنما) لإفادة أن ما سوى المذكورات حلال، إلا ما دل عليه دليل كقوله تعالى: [قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ] {الأنعام:145}.ومع ذلك، فقد قال تعالى بعدها: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]، وكقوله سبحانه: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(33) ] {الأعراف}..

وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن الآية رتبت الذنوب ترتيباً تصاعدياً، فذكرت الأعظم فالأعظم، وذكرت أعظمها: القول على الله بغير علم، وعدته أعظم من الشرك؛ لأنه أصل الشرك وأصل الذنوب كلها وكلها فروع عنه. ولعل في الآيتين إشارة إلى أن تحريم زينة الله والطيبات، إنما هو من آثار القول بغير علم أيضاً. ومن هنا، ندرك خطر منصب الإفتاء؛ لأن العلماء موقعون عن رب العالمين، وهم ورثة الأنبياء.

وقد قال تعالى: [وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ] {النحل:116}.

ولذلك، فقد كان غير واحد من السلف يقول: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا أو حرم كذا. فيقول الله له: لم أحل كذا ولم أحرم كذا. وقال الإمام مالك: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم، ويعول الإسلام عليهم، أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام. ولكن يقول: أنا أكره كذا وأحب كذا. أما حلال وحرام، فهذا الافتراء على الله، أما سمعت قول الله تعالى: [قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ] {يونس:59}؛ لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب، قال صلى الله عليه وسلم: «وإذا حاصرت حصناً، فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك».

ثالثاً: مخالفة هذه الذهنية للشريعة الإسلامية:

تغلب روح التخفيف والتيسير، في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، على التشديد والتعسير، وذلك في سائر مناحي التشريع والأحكام والتكاليف، وفي أبواب الإيمان والعقيدة والتوحيد، وفي باب الأخلاق والمعاملات والسلوك؛ وذلك دليل سعة رحمة الله وعدله وحكمته وكمال شريعته. فقد انبنت العقيدة الإسلامية على الوضوح والحجة والإقناع، والموافقة للشرع والعقل والفطرة، ونبذ ما طفحت به كتب المتكلمين والفلاسفة وعلماء الجدل، من غموض، وخرافة، وشرك وبدع، وأوهام. وأما الأحكام الشرعية فكثيراً ما يعقب الله تعالى على العلة والحكمة والتشريع، بإرادة اليسر ورفع الحرج عن عباده. ففي ختام آية الطهارة، وما ذكر فيها من تشريع التيمم، يقول تعالى: [مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {المائدة:6}.

وفي ختام آيات الصيام، وما ذكر فيها من الترخيص للمريض والمسافر بالإفطار، يقول الله سبحانه وتعالى: [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185}.

وفي ختام آيات المحرمات في الزواج، وما رخص فيه من نكاح الإماء المؤمنات لمن عجز عن زواج الحرائر، يقول جل شأنه: [يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا] {النساء:28}.

وفي ختام سورة الحج، وما ذكر فيها من أحكام وأوامر، يقول عز وجل: [ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] {الحج:78}. هذا إلى ما دلت عليه الآيات الأخرى التي حرمت الغلو في الدين، وأنكرت على من حرموا الطيبات. كما أنكر صلى الله عليه وسلم على من حرموا الطيبات على أنفسهم وغالوا في العبادة، وأعلن البراءة منهم، فقال: «ومن رغب عن سنتي فليس مني». وكان يوجه أصحاب هذه النزعة إلى التوسط والتوازن والاعتدال والشمول؛ حتى لا يطغى حق على حق. فقال لابن عمر حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكاً أنساه حق أهله عليه: «إن لجسدك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك -زوارك- عليك حقاً»(5). وفي مناسبة مشابهة، قال سلمان لأبي الدرداء: «إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه»(6).

وكذلك كانت السمة العامة والمنهجية المطردة لمواقفه وأحكامه عليه الصلاة والسلام. ولا عجب، فهو الذي قال عنه ربه يمتدحه، ويرشد عباده إلى الاقتداء به: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:128}، [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159}.

وهو المأمور وأمته بقوله: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {فصِّلت:34}، [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {النحل:125}، [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {العنكبوت:46}. ولما سبت عائشة قوماً من اليهود سبوا رسول الله، قال لها: «مهلاً يا عائشة، ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»(7)، «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة، وما لا يعطي على ما سواه»(8).

ذلك؛ لأن التعامل بمقتضى الرفق واللين والسماحة والعفو والرحمة، من فروع منهجية التيسير، وهي خلاف ذهنية التحريم. ولعل من أبلغ وأصرح الأدلة في ذلك قول عائشة، وهي الخبيرة بدعوته صلى الله عليه وسلم وفتاواه وأخلاقه ومعاملاته ومنهجه: «ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً. فإن كان إثماً، كان أبعد الناس عنه»(9). هذا هو الأصل، وأما ما يرد أحياناً من انتهاجه صلى الله عليه وسلم الشدة، وما يظهر من التعسير، فذلك خلاف الأصل العام، وهو يرد لمصلحة أو ضرورة، كالاحتساب باليد، أو قتال الكفار، أو لدفع الضرر والمفسدة عن الناس.

رابعاً: مخالفة ذهنية التحريم للقواعد والأصول:

وبناءً على ما سبق بيانه من انبناء الشريعة الإسلامية على السماحة والرفق واليسر، وهو خلاف ذهنية التحريم المنبنية على روح التشدد والتعسير فقد قرر العلماء أصولاً وقواعد فقهية إليها تتحاكم سائر فروع الفقه، بل وسائر مسائل الحياة عامة. فمن ذلك مثلاً قولهم:

1) المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع. والمعنى: حيث توجد المشقة والضيق -والمراد المشقة الزائدة وغير المحتملة- فإن حكم الشرع يقضي بالسعة والتيسير، وهي قاعدة (رفع الحرج): [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185}، [ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] {الحج:78}.

2) قاعدة "لا ضرر ولا ضرار". وهو نص حديث ثابت. والمعنى: الضرر يزال، أو الضرر منتفٍ شرعاً. فكل ضرر في الدين أو النفس أو العقل أو العرض أو المال، في الحال أو في المآل، فهو مرفوع شرعاً.

3) الضرورات تبيح المحظورات. وقاعدة: سقوط الواجبات عند العجز، وسقوط المحرمات عند الضرورات؛ لعموم الأدلة المشترطة لوجوب التكاليف بالقدرة والاستطاعة، نحو قوله تعالى: [فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] {التغابن:16}، [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286}، وعموم قوله في غير موضع: [ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] {الأنعام:119}، [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ] {البقرة:173} مع تقييده بقاعدة: " الضرورات تقدر بقدرها".

4) قاعدة "العذر باطل" و"موانع التكفير" ومن الموانع: الجهل، والخطأ، والنسيان، والتأويل، والإكراه. فمن قال أو فعل مكفراً -مع توفر واحدة من هذه الموانع- لم يأثم، ولم يكفر؛ لقوله تعالى حاكياً قول المؤمنين: [رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ] {البقرة:286}.

وفي الأحاديث، وهي حسنة لغيرها بمجموع طرقها:

«رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يكبر –يحتلم- وعن المجنون حتى يعقل، وعن النائم حتى يفيق»، «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

وشرط العذر بها، ألا يمكنه رفعها أو دفعها بأن ينشأ في بلاد لا تعرف الإسلام، ولا يجد من يرشده. وأما الإكراه، فهو كالضرورة عذر بإطلاق وعند توفر شروطه: [مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] {النحل:106}.

5) قاعدة: (عموم البلوى) ولها موضعان هما:

أ*- مسيس الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة.

ب*- شيوع الوقوع والتلبس، بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه إلا بمشقة زائدة. فيجري حكم الشرع فيه على استصحاب الإباحة، حتى يرد النص على التحريم. ومنه قول الفقهاء بالعفو عن يسير الجهالة والغرر، والعفو عن يسير النجاسة، وعدم الزكاة في الخيل.

6) قاعدتي: "ارتكاب أخف الضررين وأهون المفسدتين؛ لدفع أعلاهما". وقاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" وهما من قواعد تعارض المصالح والمفاسد.

7) قاعدة: "الفعل المجرد" وهو الخالي من القرائن لا يدل على الوجوب إلا بدليل، فغايته الاستحباب، والوجوب أمر زائد يحتاج لدليل.

وأما أفعاله صلى الله عليه وسلم الجبلية التي لم يلمح فيها معنى التقرب والطاعة، فهي من سنن العادات. فتكون مباحة، كلبس الإزار والعمامة، وركوبه الدابة، وحمله العصا، وإرساله الشعر يثاب على محبته ونحو ذلك كثير.

8) التروك النبوية لما أصله الإباحة، لا تدل بمجردها على أكثر من الكراهة للمتروك، ولذلك لم يذكر الأصوليون الترك من أقسام السنة لاحتمال أن يكون تركه صلى الله عليه وسلم، لعدم تعين الفعل أو لعدم المقتضى لفعله، ولذلك فقد أجمع الصحابة على جمع المصحف رغم تركه صلى الله عليه وسلم لعلمهم بعدم المانع الشرعي منه، بل ولدخوله في عموم الخير والمصلحة وحفظ القرآن، بعد أن كثر القتل في القراء، وخافوا عليه من الضياع.

ولما تردد أبو بكر الصديق في جمعها أولاً، فقال له عمر: هو والله خير. فلما تردد زيد بن ثابت، قال له الصديق وعمر: هو والله خير.(10) وهو مقر المصلحة المرسلة، وهي كل مصلحة شرعية لا نص فيها بإثبات ولا نفي. وقولهم: "لما أصله الإباحة" احتراز من العبادات التعبدية؛ لأن الأصل فيها المنع.

9) الأصل في الأشياء الإباحة إلا لصارف من دليل يقتضي التحريم. وهو شمل الأشياء كلها من مطعومات وملبوسات وعادات وغيرها؛ لعموم آيات التسخير وحل الطيبات كما سبق. ومنه: "باب اللباس والزينة" فإن الأصل فيها الإباحة إلا لصارف كما لو كان فيه تبرج وكشف عورات، أو كان ثوب شهرة لقصد الاشتهار والاستكبار والتميز عن الناس. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الرجل الغريب في مجلسه، فلا يميزه بلباس ولا هيئة، فيقول : أيكم محمد؟ فيدلونه عليه(11). وهو دليل التواضع، واعتبار العرف العام غير المخالف للشرع في اللباس.

وأما النهي عن التشبه بالكفار، فما كان من عقائدهم وشعائرهم فالتشبه بهم فيه حرام مطلقاً، وقد يصل مع القصد إلى الكفر. وأما ما كان من خصائصهم ومميزاتهم حتى يوهم أن المسلم منهم، ففيه تكثير لسوادهم، وقد يحصل التأثر بهم ومحبتهم، وترك العزة والاستقلالية الواجبة. فمع القصد فهو حرام أيضاً، وأما مع عدم القصد فلا يحرم؛ لأن انتفاء العلة انتفاء للحكم.

وقد وردت مسائل كثيرة نصت على أن هذه الأعمال من التشبه بالكفار، وقد أجمع العلماء على أنها ليست محرمة، من ذلك:

«خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم»(12). وحديث: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون -يعني الشيب- فخالفوهم» (13).

وحديث: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، أكلة السحر»(14).

قال شيخ الإسلام: "فأما من يفعل الشيء، واتفق أن الغير فعله أيضاً، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبهاً نظر، لكن قد ينهى عنه؛ لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة"(15).

ويتفرع عن القاعدة أيضاً (باب اللهو والترفيه) فإن الأصل فيه الإباحة.

ومعلوم أن المباح تدور عليه الأحكام التكليفية الخمسة، فيكون حكمه حكم غاياته ومقاصده «إنما الأعمال بالنيات»(16). وأما تضييع الأوقات، فمكروه ولا يحرم إلا في مفسدة متحققة وفريضة مفوتة. وأما حديث: «كل لهو باطل إلا ثلاثة...»(17). ففي سنده ضعف، ثم معنى (باطل) أي لا ثواب فيه ولا منفعة(18).

ولهذا، فقد أجاز جماهير العلماء اليوم أنواعاً كثيرة من اللباس والزينة واللهو والترفيه، إذا خلت من محرم. ومنها: تجويزهم لبس المرأة ثوب الزفاف، وعدسة العين الملونة اللاصقة، وصبغ شعرها بغير السواد، وثياب الموضة. ولبس الرجل سراويل (الجينز) لاعتياد المسلمين لها. وكذا من اللهو: المزاح ولعب الكرة والمتنزهات المباحة. ولم يعدوا ذلك من الباطل ولا من التشبه المحرم.

10) قاعدة لا إنكار في مسائل الخلاف. والمراد المسائل الاجتهادية، فإن المجتهد لا يعصم ولا يؤثم. وفي الحديث: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» وقد اختلف الصحابة والسلف قديماً، وأقرهم الشرع. كما أقر النبي أصحابه في اختلافهم في فهم قوله: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة»، والاختلاف سنة كونية وطبيعة بشرية فما لا نص فيه صريح، ولا إجماع قاطع، لا يجوز الإنكار فيه، إنما النصح والتحاور بعلم وعدل وأدب.

خامساً: منطلقات وشبهات مردودة:

تنطلق ذهنية التحريم من شبهات علمية خاطئة، وربما احتجت بأصول وقواعد علمية، هي من قبيل الحق الذي أريد به الباطل، وذلك حين أسيء فهمها وتطبيقها. فمن ذلك:

1- قاعدة: (سد الذرائع). والذريعة: عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، قويت التهمة في أدائه إلى فعل محظور. فشرطه: أن تكون الوسيلة داخلة ضمن إرادة المكلف. وشرطه الآخر: أن تكون التهمة قطعية، أو غالبة الظن في إفضائها إلى المفسدة. وبهذا التعريف المتضمن الشرطين الأساسيين، نتبين مدى إفراط ذهنية التحريم في استعمال هذه القاعدة، حتى ربما حرموا صوت المرأة وخروجها من بيتها لمصلحة، كدراسة العلوم المفيدة، كالطب مثلاً، الأمر الذي يعرّض عورات المسلمات لإشراف الرجال لغير ضرورة.

ومع الفهم أو الممارسة الخاطئة لهذه القاعدة، يمكن تحريم سائر الجوارح والآلات؛ لكون ما من شيء إلا وجرى استعماله لدى كثير من أهل الشر والفسوق في الحرام، كالكمبيوتر والإنترنت والهاتف النقال (الجوال) ووسائل الإعلام المتنوعة، تحت ذريعة سد الذرائع المؤدية إلى المحرمات. وقد قال تعالى: [وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ] {المائدة:2}. الأمر الذي فتح الذرائع إلى تحريم كثير مما أحله الله لعباده، وأوقع الناس في الحرج والعنت والمشقة. ومن أمثلة هذه القاعدة: قول الفقهاء بحرمة بيع العنب لمن يتخذه خمراً، وحرمة بيع السلاح زمن الفتنة. فيلزم مراعاة شرطي قوة التهمة وقصد المفسدة، وأن يقتصر به على محل التهمة، ولا يتجاوز بها غيره، ومع عدم التهمة عدم الحكم.

2- قاعدة: "اجتناب المشتبهات واتباع الأحوط والأورع". وهي قاعدة أيضاً لا غبار عليها، ولكن ذلك من قبيل المستحب الذي يلتزمه في نفسه المسلم الورع، ولا يلزم الآخرين بالعزائم. وصح عن أم عطية -رضي الله عنها- أنها قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا».

أي ولم يشدد صلى الله عليه وسلم على النساء في ذلك. فلا ينبغي أن ينزل المستحب منزلة الواجب، ولا المكروه منزلة المحرم. كما ينبغي مراعاة اختلاف الظروف والأحوال، فللشدة موضعها، وللرفق موضعه. وأما حديث: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» فالمعنى: يوشك أن يواقع الحرام، لا أنه واقعه حقيقة. ويدل عليه التشبيه الوارد في آخر الحديث: «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه»(19).

ولا يخفى أن قضية الشبهات نسبية، فما قد يكون مشتبهاً عند قوم قد يكون مقطوعاً عند قوم بحله أو بحرمته، بحسب فهم الدليل وثبوته عندهم. وقد كان علماء السلف، إذا شددوا فعلى أنفسهم، ولكنهم يأخذون الناس بالأرفق بهم، والأيسر فيما لم ينص عليه دليل من إيجاب أو تحريم. وقد قالوا في الإمام محمد بن سيرين، وهو من أبرز العلماء التابعين بالفقه والحديث والورع: "كان محمد أرجى الناس لهذه الأمة، وأشدهم أزراً على نفسه"، وقالوا في الإمام المزني، تلميذ الشافعي وصاحبه: "كان أشد الناس تضييقاً على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس".

وعليه، فليس التزام الفتوى بمقتضى ذهنية التحريم، من دلائل العلم والاستقامة والورع، بل في اتباع الدليل الشرعي، ومراعاة القواعد والمقاصد والظروف والأحوال، ودفع الحرج عن الأمة، والفتنة والتنفير. ذكر الإمام النووي في مقدمة المجموع عن الإمام سفيان الثوري، وهو المشهور بإمامته في الفقه والورع والحديث، أنه قال: "إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد".

وروى الحافظ أبو الفضل بن طاهر، في كتاب السماع بسنده عن عمر بن إسحاق والتابعين، قال: "كان من أدركت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مائتين، لم أر قوماً أهدى سيرة، ولا أقل تشديداً منهم".

ومن هنا، يتبين لنا السر من ميل الراسخين في الفقه والعلم إلى اتباع منهجية التيسير في الفتاوى والأحكام والمعاملات والمواقف، بخلاف ما نلمسه من حال كثير من غير الراسخين في المسارعة إلى تبني المواقف المتشددة والخطابات المتشنجة والمؤثرة والممارسات المتهورة، وكلها فروع منهجية وذهنية التحريم.

كما ندرك سر التناقض العجيب والمريب من عدم مراعاة الحكم في عدم وضع الأشياء موضعها اللائقة بها، فيحرص قوم على وضع الحزم والتشديد موضع الرفق والتيسير وعكسه عكسه. ويصدق فيه قول الحسن البصري -رحمه الله- في قوم من أهل العراق: تسألون عن دم البعوضة، وتسفكون دم ابن ابنة رسول الله -الحسين-؟!

أو قول الشاعر:

أسد علي وفي الحروب نعامة !!

3- تحذير السلف الصالح من اتباع رخص الفقهاء وزلات العلماء والحكم بالتشهي: وهو أيضاً حق، لكن محله فيما كان في مخالفة الدليل الصحيح الصريح القاضي بالتحريم، فذلك من اتباع الهوى، ودليل ضعف الدين والورع، وفساد القلب وحب الشهوات.

ومعلوم أن هذا الدين لا ينهض به إلا أصحاب العزائم ممن يأخذونه بقوة وحزم، فينتقي صاحب الهوى والشهوة والبدعة من أقوال العلماء ما يوافق هواه، لا ما يوافق الدليل، ويتصيد الأخطاء والعثرات والزلات المخالفة للدليل. وفيه حق قول السلف: من تتبع رخص الفقهاء فقد تزندق، أو فقد اجتمع فيه الشر كله.

لكن، من الرخص ما هو مطلوب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته». وفي لفظ: «كما يحب أن نؤتي عزائمه». واللفظ الأول: عند أحمد، وصححه أحمد شاكر. واللفظ الثاني: عند ابن حبان، وهو ثابت أيضاً.

وقال صلى الله عليه وسلم في رخصة القصر للمسافر: «رخصة رخص الله بها لكم، فاقبلوا رخصته». وسبق قول الثوري: "إنما العلم الرخصة من ثقة" والمراد بالثقة في دينه وعلمه. وهو إشارة إلى التفريق بين رخص الراسخين، ورخص السفهاء الخاسرين.

4- شبهة قاعدة التحذير من البدع المحدثة في الدين: وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»(20) وفي مسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وهي من منطلقات ذهنية التحريم، لكن يجب فهم ضوابط البدعة؛ حتى لا تلتبس بالأمر الذي دل عليه قياس صحيح، أو دخل في باب المصلحة المرسلة. فمن ذلك أن البدعة مخصوصة بالعبادات دون العادات، أو وسائل العبادات كوسائل الدعوة مثلاً.

والمصلحة المرسلة تكون في العبادات. كما يقصد بالبدع التقرب والطاعة، ولم يدل عليها دليل من نص أو إجماع أو قياس.

5- قاعدة: "الأصل في الأوامر الوجوب إلا لصارف يقتضي الاستحباب، وفي النواهي التحريم إلا لصارف يقتضي الكراهة":

وهي قاعدة مختلف فيها لدى الأصوليين، لكن الراجح اعتبارها، ولكن مشكلة الذهنية في جهل الكثيرين بهذه الصوارف الكثيرة، من قرائن لفظية ومعنوية، وقد زادت على الثلاثين صارفاً. ومن أبرزها :

أن الأصل في باب الآداب والفضائل، أن الأمر فيه للاستحباب، وأن النهي فيه للكراهة إلا لصارف؛ لأن تحصيل الآداب والفضائل تحصيل كمال، وليس تحصيل غايات وأصول ومقاصد.

ومثاله قوله تعالى: [خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] {الأعراف:199}.

وأخيراً، فالمؤمل من الله الكريم التوفيق والمغفرة والقبول، والمؤمل من القارئ الكريم حسن الظن، والمعذرة على الإيجاز الشديد المضطر إليه؛ لغرض ترك الإملال والطول، وإنما غرض البحث لفت الانتباه والتحذير من هذه الظاهرة والذهنية والمناقشة فيها. وليرجع المختصون والمهتمون للمراجع والمطولات. والله من وراء القصد.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وآله وصحبه أجمعين.

نقلاً عن مجلة المنتدى العدد (89-90) ذو القعدة / ذو الحجة 1425هـ = ديسمبر 2004م/ يناير 2005م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه البخاري.

(2) متفق عليه.

(3) رواه مسلم .

(4) الحديثان رواهما الترمذي وابن ماجه والحاكم والبزار، وصححاه.

(5) متفق عليه.

(6) متفق عليه.

(7) البخاري ومسلم.

(8) رواه مسلم.

(9) رواه مسلم.

(10) رواه البخاري.

(11) رواه البخاري عن أنس

(12) رواه أبو داود عن شداد بن أوس، وهو صحيح.

(13) متفق عليه.

(14) رواه أحمد ومسلم.

(15) الاقتضاء (1/238).

(16) متفق عليه

(17) رواه النسائي والترمذي.

(18) كما قاله ابن العربي في العارضة (7/137).

(19) متفق عليه

(20) متفق عليه.
 
إنضم
28 ديسمبر 2007
المشاركات
677
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
حنبلي
جزاكم الله خيرا أخي الحبيب على هذا الموضوع المميز ..والذي بدأ ومنذ وقت باحتلال مساحة من الفكر الموجود في الساحة الإسلامية ..

ولا شك أن الهوى في كثير من الأحيان يكون في التشديد والتحريم لا في التحليل والترخص على عكس ما هو مشهور ، فهؤلاء كفار الجاهلية الذين ينبعون الهوى في تحريم الوصيلة والحام والبحيرة وغيرها من أنواع المباحات من الأنعام ؛ يصف الله تبارك وتعالى تحريمهم لها باتباع الهوى ، فيقول :
(وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرّم عليكم ، وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ).

ووجه الدلالة :
أن هؤلاء المشركين كانوا متبعين للهوى ، وإنما كان اتباعهم للهوى في التحريم والتشديد لا في الترخص والتفريط .

فيا كثرة ما ابتلي المسلمون بالنقيضين : أصحاب الفكر التحريمي ، وأصحاب الفكر التحليلي أو "البحبحاني" ، والله المستعان ، وهو الذي عليه التكلان .
 

عاشور

:: مخالف لميثاق التسجيل ::
إنضم
27 أبريل 2008
المشاركات
87
جزاك الله خيرا على الموضوع المهم فعلا هذه ذهنية كثـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير من طلبة العلم
ملاحظات بسيطة
الحديث الذي الوراد في الموضوع وهو
فقد ثبت من حديثي سلمان وأبي الدراداء مرفوعاً: «الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عفوه، فإن الله لم يكن ينسى شيئاً [وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا] {مريم:64}».

وفي حديث آخر: «.. وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تسألوا عنها»(4).
الحديثان رواهما الترمذي وابن ماجه والحاكم والبزار، وصححاه
الحديث أظنه ضعيفا عند المحققين من أهل الحديث كالشيخ الالباني
إذا كا ن الحديث ضعيفا فهل في أصول الشريعة مايشهد لمعناه
أيضا قوله
وأما النهي عن التشبه بالكفار، فما كان من عقائدهم وشعائرهم فالتشبه بهم فيه حرام مطلقاً، وقد يصل مع القصد إلى الكفر. وأما ما كان من خصائصهم ومميزاتهم حتى يوهم أن المسلم منهم، ففيه تكثير لسوادهم، وقد يحصل التأثر بهم ومحبتهم، وترك العزة والاستقلالية الواجبة. فمع القصد فهو حرام أيضاً، وأما مع عدم القصد فلا يحرم؛ لأن انتفاء العلة انتفاء للحكم.

مالفرق بين عقائدالمشركين وعباداتهم وبين وخصائصهم
وان الاول محلرم مطلقا والثاني يشترط فيه القصد
هل من فروق بين الامرين
و جزاكم الله خير الجزاء على الموضوع المهم
 

عاشور

:: مخالف لميثاق التسجيل ::
إنضم
27 أبريل 2008
المشاركات
87
الشيخ محمد السعيد ناقل الموضوع هل هو الشيخ المعروف قناة المستقلة في الرد على بعض المفكرين عفوا
 
أعلى