الخطوة السادسة : التلقي التام والقبول المطلق لشرح أهل الاصطلاح لمصطلحهم ، فيما لو وجدنا لهم في شرحه كلاماً . فكلهم أبناء بجدتها ، وآباء عذرها ، يتكلمون عن كلامهم ، وترجمون لسانهم بلسانهم ، فأنى يعترض عليهم ؟! بل أنى ى يسلم لهم؟!!
فكل فهم يخالف فهم أهل الاصطلاح لاصطلاحهم مرفوض تمام الرفض ، لأنه في وجهه السافر : مشاحة في الاصطلاح ، وقد أبيناها جميعاً بحمد الله تعالى !
وكل فهم يخالف فهم أهل الاصطلاح لاصطلاحهم ، فيه من الأخطار ، ويترتب عليه من العواقب الوخيمة ، ما قربنا فيه وبعدنا ، بياناً لخطئه وخطله وخطره ، في شرحنا لـ( فكرة تطوير المصطلحات )(1).
ونحن في خطواتنا السابقة كلها ، الجادة الجاهدة في فهم المصطلح ، إنما نستلهم معنى المصطلح من تطبيقات أهل الاصطلاح ، إنما نستلهم معنى المصطلح من تطبيقات أهل الاصطلاح ومن جاري عملهم في علمهم ، فكيف نفرط بعد ذلك في صريح مقالهم في شرح مصطلحهم ؟!!!
بل حتى في مجال قواعد العلم ، عليك بالمقياس التالي : إن وجدت قاعدةً من قواعد علوم الحديث المنصوص عليها في كتب علومه ، تخالف تطبيقات أهل المصطلح ، وتناقض صريح تصرفاتهم= فاعلم أن تلك القاعدة منسوفة من أساسها ، مقتلعة من أصولها . لن ذاكر تلك القاعدة ، إنما يذكرها على أنها مستنبطة من تطبيق الأئمة ، فإذا وجدنا تطبيق الأئمة يناقضها ، فقد قضي على استنباطه من قاعدة استنباطه!
والكارثة حقاً أن تجد القضية عكوسة ، كالفطرة المنكوسة حيث نسمع ونقرأ لمن ينتقد مثلاً أحاديث في الصحيحين ، لأنها معنعنات بعض مشاهير المدلسين!!! فنقول لهذا المسكين ، أو العالم المخطىء : علام اعتمدت في انتقادك لعنعنة المدلس؟ أوليس على قواعد مبثوثةٍ في كتب علوم الحديث ؟! ثم أو ليست تلك القواعد إنما استنبطت من تطبيقات أئمة الحديث ونقاده في قرونه السوالف ؟! فإذا وجدنا أن تلك القواعد منتقضة ، أو منتقض بعضها ، بمثل صريح تصرف صاحبي الصحيح= فكيف تنتقد بالمنتقد ؟! وتبني على قاعدةٍ منسوفة؟!!
إن هذه الخطوة : خطوة الاعتماد على شرح أهل الاصطلاح لاصطلاحهم ، هي مقياس نجاح أو عدم نجاح الخطوة السابقة ولخطوات السابقة كلها . فإذا ما انتهينا في الخطوة السابقة من تحديد الصفات الجامعة المرتبطة بالمعنى اللغوي للمصطلح ، على ما شرحناه آنفاً ، فنحن في الحقيقة وضعنا ـ أو كدنا أن نضع ـ عناصر تعريف المصطلح . فإذا ما فزنا بعد ذلك بكلامٍ لأهل الاصطلاح في شرح ذلك المصطلح ، نظرنا في كلامهم نظر
مستوعبٍ لمعناه (أولاً) ، ثم وزنا به ما توصلنا إليه من تطبيقاتهم العملية . فإن اتفق استنباطنا من تطبيقاتهم مع شرحهم أنفسهم لمصطلحهم ، كان هذا دليل الفلاح والنجاح . أما إذا لم يتفق استنباطنا من تطبيقاتهم مع شرحهم لمص طلحهم ، فالخطأ قطعاً من استنباطنا ، لا من تطبيقاتهم ، ولا من شرحهم . والواجب حينها تحديد وجوه الاتفاق ووجوه الافتراق بين استنباطنا وشرحهم لمصطلحهم ، لتعيين سبب الخطأ في الاستنباط ، ومحاولة استدراكه وإعادة تصويبه .
هذا هو منهج العمل في هذه الخطوة إن أتيح لنا القيام بها ، لأن أقوال أهل الاصطلاح في شرح مصطلحهم ليست متوفرةً توفراً يغطي جميع مصطلحاتهم ، ولا المتوفر منها قريب التناول دائماً ، فليس من السهل الوقوف عليه . إلا ما حواه كتاب ( معرفة علوم الحديث ) للحاكم فإنه ثروة من هذه الناحية ، وكذا ما نقله الخطيب البغدادي عن أهل الاصطلاح في كتابه ( الكفاية ) . لكن تبقى أقوال أخرى لأهل الاصطلاح في كتابه ( الكفاية ) . لكن تبقى أقوال أخرى لأهل الاصطلاح في غير مظانها ، ومنتشرة في كتب ( العلل ) و( الجرح والتعديل ) ، و( السنن ) ، وغيرها من مصنفات الحديث النبوي .
قد ذكرنا بعضاً من مظان كلام أهل الاصطلاح في شرح مصطلحهم ، عندما أرخنا لعلوم الحديث(1) ، وعندما تكلمنا عن مناهج كتب علوم الحديث(2) أيضاً .
غير أننا لن نستفيد من كلام أهل الاصطلاح الفائدة المطلوبة المتعينة ، إلا إذا أحسنا تفهمه ، حتى نستوعب معناه تماماً . ولن يتم ذلك إلا بعدم الغلو في تفسيره ، وبعدم الجفاء عن فهمه ، فإن الغلو أو الجفاء هما سبب انحراف كثيرٍ من المتأخرين عن فهم مصطلح الحديث ، مع وقوفهم على كلامٍ لأهل الاصطلاح في شرحه(3)!
حيث إن من وجوه الغلو في فهم كلام أهل الاصطلاح : التعامل معه وكأنه نص كتابٍ أو سنةٍ ثابتة ، فيحتج بمفهومه كما يحتج بمنطوقه ، ويقاس عليه! ولست أعني أن الاحتجاج بمفوهم كلامهم أو القياس عليه غلط مطلقاً ، لكنه ـ أيضاً ـ ليس صواباً مطلقاً .
إن عبارات أهل الاصطلاح في شرح مصطلحهم عبارات سهلة غير معقدةٍ ، خرجت على السلفية العربية في يسرها وصفائها ، وخرجت أيضاً وفق احتياج سائلٍ ، أو بناءً على سياقٍ معين ، أو تنبيهاً لأهل عصرهم . ولم يكن يخطر على بالهم أنهم يخاطبوننا ، في فقرنا العلمي ، وبعدنا عن إدراك علمهم ، وتعاور المؤثرات على أساليب تفكيرنا والمعوقات دون فهم كلامهم . فربما عرفوا بمصطلحهم : بضرب مثالٍ له ، أو بذكر أهم صوره ، أو أكثرها وقوعاً وتحققاً ، أو أخطرها في تمييز صحيح السنة من سقيمها . وربما جاء ما يفيد في تعريف المصطلح عرضاً في كلامهم ، بذكر حكمه ، أو بتفريقه عن مصطلح آخر ، أو ببيان تفريعاته وأقسامه . لذلك فإن من وجوه الغلو في تفسير كلام أهل الاصطلاح أيضاً : تسليط معايير علم المنطق عليه ، ومحاسبة شرحهم للمصطلح بصناعة الحدود المنطقية . وكم جار هذا الغو على علم المصطلح ! وكم ظلم عبارات أهل الاصطلاح !! إذ إن اعتبار شرح أهل المصطلح لمصطلحهم جارٍ على أصول المنطقيين ، سوف يجعلنا نفهم ذلك الشرح ذا السهولة والسليقة العربية البعيدة عن التعقيد ، لخوجها من أهل الاصطلاح على ذلك النحو الآنف الذكر= على غير مراد قائليه ، وبما لم يخطر على بالهم !!
ومثال ذلك : فيما لو قال أحد أهل الاصطلاح : (( الشاذ : أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس))(4)، فإننا بشرط (الجمع والمنع) المشترط في صناعة المعرفات المنطقية، سوف أفهم أن هذا هو الشاذ كله، ولا شاذ سواه. مع أن ذلك قد لا يكون خطر على بال قائله من أهل الاصطلاح، وإنما أراد التنبيه على أهم أنواع الشذوذ، أو على أشدها أثراً على قبول الحديث، أو على أكثرها وقوعاً، أو أشدها أثراً على قبول الحديث ، أو وإن جاز وصف غيرها بذلك أيضاً.. أو غير ذلك من احتمالات معنى الشرح غير الجاري على أصول المناطقة .
وليس معنى ذلك أن لا نفهم الكلام على ما يدل عليه ظاهر اللفظ ومنطوقه ، بل نحن نطالب بذلك . فإن ظاهر اللفظ ومنطوقه في العبارة السابقة إنما يقول : عن مخالفة الثقة للناس شذوذ ، ولم يقل إن كل ما سوى هذه الصورة ليس ( شاذاً) ، ولا أن هذا هو الشذوذ وحده . ولا نريد أن نحمل الكلام غير هذا المعنى ، إلا إذا دل دليل خارجي على غيره .