د.محمود محمود النجيري
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 19 مارس 2008
- المشاركات
- 1,171
- الكنية
- أبو مازن
- التخصص
- الفقه الإسلامي
- المدينة
- مصر
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
دفاع عن الشيخ ابن باز
في حوار سلفي عاصف
الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله- كان على قمة في علمه وأدبه وجهاده، وهو أحد رموز الدعوة الإسلامية في هذا العصر. رُفع ذكرُه، وذاعت شهرته، وأقرَّ بفضله الناس، ودانُوا لعلمه. وكان طاقة علمية مهمَّة في المجال الشرعي، له نشاطه الظاهر في مجال الفتوى، ونُصْرة الدعوة السلفية، ومذهب أهل السنة والجماعة.في حوار سلفي عاصف
عمل الشيخ ابن باز في التدريس والقضاء والإفتاء، وأملى عددًا من الرسائل المهمة في قضايا الاعتقاد والفقه والحديث. ولا يستطيع أحد أن ينكر جهوده في الدعوة، سواء من خلال رئاسته المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، أو من خلال رئاسته هيئة كبار العلماء، وإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالديار السعودية. فهو قدم الكثير للدعوة في العالم الإسلامي تجاه المنهج السلفي، من خلال التأثير على عدد ضخم من الأفراد والمؤسسات حول العالم، وكان لديه مصداقية، ربما لم يدانه فيها عالم آخر في الفتوى في حياتنا المعاصرة، مما يجعل لكلامه صدى كبيرًا في العالم الإسلامي كله. فالشيخ ابن باز، عَبْر جهوده لسنين طويلة في خدمة الإسلام، صار من أكبر المرجعيات الدينية، إنْ صَحَّ التعبير، وكان له نفوذ عظيم في الأوساط الإسلامية.
وهذه المكانة التي حازها الشيخ عن جدارة، تتعرض دائمًا لطعن أعداء الدعوة الإسلامية؛ فهم يتربصون الدوائر لقسْم الصفِّ، وإبراز الشماتة، وانتقاص العلماء. وقد وجدوا فرصة بعد نشر جريدة "المسلمون" لفتوى الصلح مع اليهود، وحاولوا من خلالها نسف جسور الثقة والفهم المتبادل بين قيادات إسلامية فاعلة، وقاعدة جماهيرية ناهضة. وتطلعوا إلى عزل هذه القيادات بعيدًا عن جمهور الأمة والمخلصين من الدعاة، وأرادوا فتح الطريق للمخادعين والمتكسبين بالدين. وربما أصاب هؤلاء في بعض ما أرادوا، والحوار التالي يبين ذلك.
ففي جلسة معتادة مع عدد من الإخوة السلفيين، دار حوار عاصف عن الفتاوى التي نشرتها جريدة "المسلمون" على لسان الشيخ ابن باز. وكان من الواضح أن كثيرين ممن يعرفون الشيخ قد صُدِموا، أو زُلزِلوا زلزالا. وبعض من يعرفونه قالوا: لا نظنه يعني ما يقول. وبعضٌ آخر قال: له العذر، فهو معزول عن كثير من تيارات الحياة المعاصرة. وكان على محبي الشيخ وتلاميذه أن يدافعوا عنه، ويَردوا السهام الموجَّهة إليه.
وفي البداية، قال صديقنا عبد الرحمن، وهو من الشباب المجتهدين في تحصيل العلم الشرعي:
- إن هذه الفتوى زلزلت الشباب زلزالا شديدًا، وأرَّقتْ محبِّي الشيخ وتلاميذه، وأقضتْ مضاجعهم، وأحدثت اضطرابًا وتشويشًا، وفتنة كبيرة في الأوساط الإسلامية، وأحزنتْ كلَّ مسلم غيور على أرض الإسلام وعزة المسلمين ومقدسات الأمة. إنه يوم لحزننا، وفرح صهيون!
- قلت معقبًا: أنا نفسي حين سمعت الفتوى لأول مرة في إذاعة "مونت كارلو" لم أصدق ذلك. ثم سمعتها في إذاعة لندن، وقرأتها موثقة بعد هذا في جريدة "المسلمون"، فأصبت بمزيج من الإحباط والغضب، وكلما تحدثت مع أحد في أمر هذه الفتاوى ازددت اقتناعًا بأنها بعيدة عن الصواب، حيث رفضها الجميع، ولم يجدوا فيها أثارة من علم، أو دليلا صحيحًا، أو مصلحة شرعية متحققة.
- وهنا انبرى عبد الله متعرضًا، ورفع يده قائلا: وما أدراك يا صديقي أنه لم ينخدع في هذه الفتوى قطاع عريض من الشباب وغير الشباب، وأن هناك من قال في نفسه: لا جهاد بعد اليوم، فنحن ضعفاء ولن نزداد إلا ضعفًا أمام جبروت أعدائنا؟!
- قال عبد الرحمن: لا شك عندي أن هذه الفتاوى خطأ يستلزم الاعتذار، بل إنها خطيئة تستوجب التوبة والاستغفار، وإنها لسقطة مدوِّية، وزلة أليمة لها نتائجها الخطيرة، فهي تصريح بالسلامة لمن يريدون النوم براحة في أحضان اليهود، وصَك "شرعي" لمن يدأبون على وضع ضمائرهم في "جيوب" اليهود، وتكئة لمن يرغبون في إطفاء روح الجهاد في الأمة، وإماتة عواطفها الدينية تجاه مقدساتها. وإنني لا أظن الشيخ عني كل هذا بفتواه، ولكن هذه الفتاوى تحقق ذلك عمليًا.
- قلت: نعم، إن الفتوى تدعونا إلى الاحتكام للدليل، وعدم الانسياق مع العاطفة، ومع ذلك تخلو من دليل صحيح يُقيم حجة. ثم إن العاطفة الدينية هي أكثر ما نحتاجه في هذا الوقت؛ لأن حميتنا الدينية، لا حميَّة الجاهلية، هي التي ستدفعنا دفعًا إلى تحرير الأرض المقدسة، والاستشهاد في سبيلها، فنحن برغم أننا لم نرَ هذه البلاد، ولا نملك فيها مالا أو عقارًا، إلا أن عواطفنا الإيمانية معلقة بمسجدها الأقصى؛ مسرى النبي الذي بارك الله حوله، ومسجد الخليل، وقبة الصخرة. وحماسنا الديني هو ذخرنا لاستفتاح هذه البلاد بعد أن دنَّسها أعداء الله، وحوَّلوها من دار إسلام إلى دار كفر، وإلا كنا ممن قال الله تعالى فيهم: ]وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً[ (النساء: 77). إن عواطفنا لا تكذب، وحماسنا لا يخدعنا، لأننا نريد إحدى الحسنيين، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. وإن الشهادة هي أسمى ما تمنى مسلم.
- قال عبد الله وهو يُطوِّح بقبضته في الهواء: لقد أصبت كبد الحقيقة، كلما تكلم الشيخ قال إنه ذكر أدلته، وهي ليست أدلة مطلقًا، ويصف من خالفه بأنه قليل العلم، وهو بذلك يريد إرهاب المخالفين فكريًا، والمصادرة عليهم، وينقل المسألة من الخلاف معه إلى الخلاف مع النصوص التي استدلَّ بها. مع أنه لا دليل فيما ذكر، بل استدلاله باطل، ومخالف للحق والصواب، ولروح النصوص ومقاصد الإسلام عمومًا. ونريد من الشيخ بدلا مما قال أن يأتينا بنصوص دينية تأمر بالخنوع والانهزام والاستسلام، وشرْب ماء الذل والرضا بالكفر، وبيْع بلاد المسلمين، والتفريط في السيادة القانونية على الأوقاف الإسلامية، وعدم الاعتراض على هدم المساجد وتحويلها إلى معابد يهودية... نريد نصوصًا دينية تأمرنا بأن نُقتَل فنصبر، ونُضرَب فنستسلم، ونُهَان فنحلم، وتُدنس بلادنا وأعراضنا ومقدساتنا، فنعلن الحب والسلام لأعدائنا!
- التفتُّ إلى عبد الله قائلا: حسبك الآن، ولا تنسَ أنك تتحدث عن سماحة الشيخ ابن باز- رحمه الله!
- قال عبد الرحمن بسرعة: لا شك أن هؤلاء من المجترئين على الشيخ، وما ينبغي أن نلتفت إلى آرائهم هذه، فنحن نعرف تاريخ ابن باز في خدمة الدعوة والفقه الإسلامي، بما لم يفعل هؤلاء.
- قال عبد الله ضجرًا: إن هذا هو ما يُحزنني، فأنا أرفض للشيخ ابن باز أن يكون قطعة في ديكور السياسة، وأربأ به عن أن يكون علمُه بابًا في كتاب الطغاة يقرءونه كلما أحاط بهم أهل الحق، وقناعًا يلبَسه المنافقون عند الخوف، وستارًا يوارى به المجرمون سوءاتهم. ثم إن بالفتوى نوعًا من التناقض الداخلي؛ إذ كيف تستقيم الدعوة إلى الجهاد، مع الدعوة إلى التخاذل والاستسلام؟ وكيف نطلق كلمات تنظيرية حسنة، وعند التطبيق يكون التراجع والاضطراب والتناقض؟ لقد أوقعتنا الفتوى بين مَن لا يفهمون الواقع، ومن لا يريدون تغييره. وبين من لا يفقهون الخطاب السياسي، ومن يستغلون الدين جزءًا من الديكور السياسي.
- قلت متأسفًا: لا شك أن مثل هذه الفتاوى لمصلحة زعماء وسياسيين لم يحفظوا الأرض والعِرْض، وتاجروا بالقضية لامتطاء رقاب الناس، والتربُّع على صدورهم باسم التحرير، والاستعداد لمعارك الكرامة، ثم تبيَّن أنهم "أفضل" من يُضيِّع الأرض، ويفرِّط في العرْض، ويوالي اليهود، ويُنيلهم مصالحهم. ونحن نسمع دعاوى فارغة، وأماني كاذبة عن الاستعداد للحظة الحاسمة، وألا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأن نصبر على القهر السياسي، والفقر والعدم والتردي حتى نتهيأ للمواجهة، ثم في لحظة واحدة يعلنون أن كل هذا الاستعداد والصبر باطل؛ إذ الاستسلام للعدو خيرٌ وأبقى، والرضا بالذل أوفر وأسلم، والركون إلى الدعة أشرف وأتقى!
- أضاف عبد الرحمن في حزن: إن لهذا الأمر ما بعده، وسوف نرى أن محاولات الشيخ وضع حدود وقيود لفتواه، وقوله إنها لا تعني موالاة لليهود، سوف يُنسى، ولا يبقى هناك إلا لافتة عامة تبيح مصالحة اليهود، فتفتح الحدودُ، وتزال القيود أمام اليهود أكثر. ويدخلون بالمصافحة والابتسام والتودد، وإقامة العلاقات الكاملة اقتصاديًا ودبلوماسيًا وسياسيًا، في وقت نقطع فيه هذه العلاقات مع بعض بني جلدتنا وديننا! وسيخترق اليهود ما بين لحمنا وعظامنا، في تحدٍ وعنفوان لم نحسن له تهيئة قوى، ولم ندع إلى مقاومته. ويومها لن نتذكر من حدود وقيود الفتوى شيئًا، فالذين استصدروها سيسعون لاستنفاد أغراضهم منها، بتأمين تحركاتهم الخائنة، وسيقدمون الرشوة الكاملة لليهود ومَنْ وراءهم لضمان استقرارهم واستمرارهم هناك.
- شبك عبد الله أصابعه أمام وجهه وقال: دَعُوني أصارحكم بأنني أرى هذه الفتوى تدعونا لأن ننسى في لحظة كلَّ ما علمَنا الإيمان والقرآن من معاني الجهاد، ومقارعة الباطل، ومقاومة الظلم، ونصرة الدين بالمال والنفس. فهل لنا بمجرد ذلك أن نركن إلى الأرض، ونترك الجهاد، ونعلن الضعف والاستسلام والانهزام، أمام أحقر خلق الله تعالى؟ وهل نقول كما قال قوم موسى له: {فاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ{ (المائدة: 24)؟ أم نقول كما قال المقداد بن الأسود يوم بدر: "اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا نعكم مقاتلون"؟
- قلت مقاطعًا: نعم لقد فتحَتْ هذه الفتاوى الباب للشيوعيين، والعلمانيين، وسائر طوائف الملحدين، ومَن لا لوْن لهم للشماتة، ولرفع رءوسهم، وسنِّ أقلامهم للصيد في الماء العكر، والتشكيك والتشويه، وتحقيق المكاسب الخاصة، وضرْب فريق بفريق من الإسلاميين، وتأييد مزاعمهم الباطلة، وتجريح المؤسسات الإسلامية والعلماء المخلصين، وتعددت الافتراءات بداية من استغلال الدين، والسذاجة الفكرية، ونهاية بالعمالة والتبعية للغرب. وأتاح لهم الموقف أن يتستروا بغشاء زائف من الوطنية والوعي السياسي والحكمة... فدَجَّلوا على الجماهير، وامتطوا صهوة الجهاد والنضال والمقاومة، ورَمَوْنا بدائهم، وانْسَلُّوا.
- كان عبد الله ينتظر حتى انتهيت من كلامي، ثم انطلق صائحًا: إنا لا نستطيع أن نقول لمن لم يطلقوا يومًا رصاصة على إسرائيل: هنيئًا لكم، يكفيكم ما قدَّمتم، ولا أن نقول للمجاهدين: كفوا أيديكم، وكفى قتالا، فهذا ليس زمان الجهاد، ولكنه زمان الاستسلام وأوان بيع الدين بعرّض من الدنيا قليل! هل نؤذِّن في الناس بأن هذا ليس زمان صلاح الدين، ولكنه زمان اليهود والصليبيين؟ وأننا الماضي الذاهب، وهم- يهودًا وصليبيين- المستقبل الآتي؟ أو نردِّد مع الشاعر اليائس:
أمسي نفاق، ويومي ماؤه كذب فما أؤمِل من خير صباحَ غدي
قد أغمضَ القومُ أجفانًا مقرَّحة على الهوان وإن كانوا ذوي عدد
شعب يلذُّ له أسياف قاتله حمْرًا، وتُطربه ترنيمة الصفد
وقد أراه وسوط الذل يلهبه فلا يُحسُّ، ولا يرثى لمضطهَد
أم ننشد في خنوع:قد أغمضَ القومُ أجفانًا مقرَّحة على الهوان وإن كانوا ذوي عدد
شعب يلذُّ له أسياف قاتله حمْرًا، وتُطربه ترنيمة الصفد
وقد أراه وسوط الذل يلهبه فلا يُحسُّ، ولا يرثى لمضطهَد
إن كنتم ذا شمَم في معشر جنحوا للذل فاجنح له، تركن إلى رشد
- قال عبد الرحمن: لا يمكن يا عبد الله أن نتراجع عن حقوقنا، أو نتنازل عن أهدافنا، فليس بنا قدرة واستعداد للتخلي عن شبر من الأرض المقدسة في فلسطين، مهما سمعنا من فتاوى نراها ضد مصلحة الدين والدنيا معًا، فلا نظن الدين أتى ليدعو الناس إلى الخضوع للطواغيت، والاستسلام للظلم، والرضا بالفساد، والسير في ركاب الباطل، كلُّ هذا بعيدٌ عن مقاصد الدين. بل أهل الباطل هم الذين يتخذون دائمًا من علماء السلطان مفتين، يتكلمون باسم الدين، لدعوة الناس إلى الرضا بما رضي به هؤلاء، لا ما يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين.
- قلت مُحتدًا: لا يا عبد الرحمن، الشيخ ابن باز بعيد عن هذا اللمز، ونحن لا نسئ الظن به، ولا نرى أنه يقصد الاستسلام لليهود وموالاتهم، وترك جهادهم، وإن أوهم كلامه ذلك، بل يؤدي إليه حتمًا. ونرى أنه أراد الحق فأخطأه. ولا نقول كما يقول غيرنا في الشيخ مِن قدْح، واتهام بسوء القصد، واتباع غير سبيل العلماء المخلصين!
- رفعَ عبد الرحمن يده معترضًا وقال: لم أعنِ هذا صدِّقني، ولكن يحزنني أن يصدر من الشيخ وهو على قمَّة سامقة من العلم والفقه، فتوى تبث الرعب والفزع من العدو، وتدعونا لليأس من مقارعة الباطل، وتشارك في الحملات النفسية البشعة، وحملات التشويه الأسود، والتزييف والتضليل، لقتل إرادة الحرية والاستقلال وعزة الإيمان فينا، إن الأعداء يريدون منا ركوعًا واستسلامًا، وجنوحًا إلى شروطهم، وإمضاء لفروضهم. والواجب أن نرفض أن نذِل، أو نهون، أو نبيع.
- قال عبد الله: هذا ما أريد أن أقوله من البداية، فإن كنا مستضعَفين- كما تقول الفتاوى- فهل نجمع إلى الضعف، هوان التآمر والخيانة والاستسلام، والتخلي عن الحق الإسلامي الأصيل؟! وإن كنا ضعفاء حقًا، فالفتوى تدعونا إلى الموت. وكأنه لا يكفي أن نكون ضعفاء، حتى نصير أذلاء جبناء. وإذا سلَّمنا اليوم على هذه الصورة المهينة، فكيف تقوم لنا قائمة بعدها؟! إنَّ مَن يُفرِّط في كرامته، ويعلن استسلامه على الملأ دون شروط، ويتعلل بأنه ضعيف، ويدعي أن له حقًا في أن يُذعن ما دام كذلك. ولن يكون إلا مضغة في الأفواه، وموطئة للأقدام، ومنْهبة للأطماع. فكيف يسوغ لنا أن نركع، ثم نموت، ويُنسى ذكرُنا، وندَّعى- مع ذلك- أن هذا إلى حين، وأننا بعد هذه المهانة والموات، سنعود إلى عالمنا لنحييَ إرادة ماتت، وأمَّة رمَّتْ، وكرامة فنيت أبد الدهر؟!
- قلت بصوت خفيض: أوافقكما على هذا، وإلا فلِمَ لَمْ ندعو الأفغان مثلا للاستسلام للروس حين غزوا بلادهم، وقد كانوا أكثر ضَعْفًا، فلا عدد، ولا مال، ولا سلاح. أما إمبراطورية الشر المتغطرسة، التي كان يقف لذكرها شعر أمريكا والغرب بسلاحهم النووي والكيماوي والبيولوجي، وتقدمهم الهائل في التسليح وإدارة الحروب، وخبرتهم المتراكمة في القتال والصراع؟! بل لماذا لما ندع الشيشان للاستسلام للروس والخنوع لهم، وتسليم الأرض والعرض، ما داموا لا سلاح معهم إلا البنادق، وعددهم أقل من 1% من عدوهم؟! بل لماذا لم نصدر فتوى لمسلمي البوسنة بالاستسلام للصرب ما داموا أضعف منهم؟! إن الإسلام لم يحارب يومًا على قاعدة القوة والضعف المادي.
- قال عبد الرحمن: نعم، نعم! ثم إن الإسلام ليس مسئولا عن ضعف هؤلاء- إن كانوا حقًا ضعفاء؛ فالإسلام يدعوهم إلى القوة والاتحاد، ولم يدعُهم يومًا إلى التفرق والتمزق، والتقاتل والتدابر. فمن الخطأ التماس العذر لهم في الإسلام، والبحث عن فتوى دينية، تبيح لهم السلام المخزي، في حين الأمر كله يتم خارج إطار الإسلام، ويتجاوز دائرته. ومن المآسي، أن بعضنا يفعل ما يريد، ثم يعمد إلى البحث في الإسلام عما يؤيد مسلكه. فإن أراد حربًا، استخدم آيات القرآن للحث على القتال، وإن أراد صلحًا، استغلَّ آيات الكتاب للحث على الصلح. وكان الأوْلى أن ننزه القرآن واسم الإسلام عن هذا العبث بآيات الله تعالى، والاستخفاف بدينه، وألا نجعل من الإسلام مطيَّة لأغراض السياسة المداهنة.. ولا أدري: هل علينا أن نجعل الإسلام أداة في أيدي المفسدين؛ لتجميل منكرهم؛ وتبرير مسلكهم، بعد أن يكونوا قد أتموا جرائمهم، وأكملوا شرورهم؟!
- وكأنما فجَّرتْ هذه الكلمات بركان غضب في صدر عبد الله، الذي علا صوته قائلا: لقد أصبتَ يا عبد الرحمن، وإنني دائمًا أتساءل: هل مَن أبرموا السلام مع إسرائيل، سألوا أولا عن حكم الإسلام قبل الإقدام على المعاهدات "التصالحية"؟ وهل من دأب هؤلاء أن يتأكدوا أولا من حكم الإسلام كلما أقدموا على أمر؟ وهل إذا خالف حكم الإسلام هواهم وتخطيطهم السياسي، يقفون عند حدوده، ويتقيدون بالشرع؟ بل أين هم من سائر حدود الله تعالى، فلا مراعاة للإسلام في نظمهم الاقتصادية والتشريعية، والإدارية والتعليمية، والتثقيفية، إلا بما يُعطي غطاء يحمي من النقد، ويذر الرماد في العيون المخدوعة.
- قلت مهدِّئًا: إن هذه القضية خطيرة بصفة عامة، وأنا أتساءل معكما: إلى متى يظل الإسلام في بلاط السلاطين تكئة، ومنهبة لكل من أراد أن يتسوَّل به؟! لقد رأينا من أدعياء الوطنية كيف يلصقون بالإسلام كل ما تصبو إليه أهواءهم، وتطمح رغباتهم السياسية. فالإسلام تارة هو الاشتراكية، على حين الاشتراكية تارة أخرى كفر، والإسلام طوْرًا هو الديمقراطية، وفي طور آخر الديمقراطية كفر، والإسلام يُحرِّم السلام مع اليهود يومًا، على حين الجهاد في يوم آخر ضد اليهود إرهابٌ، وعمل خارج القانون. وكان أولى بنا- كما قال عبد الرحمن- أن نُنزِّه الإسلام عن أن يسير في ركاب أهواء السياسة، فإذا أراد البعض اشتراكية، فلتكن اشتراكية وكفى، ولا يُسميها اشتراكية الإسلام، وإذا أراد بعض آخر الديمقراطية، فلتكن الديمقراطية وكفى، ولا يُسميها ديمقراطية الإسلام، وإذا أرادوا مع اليهود حربًا أو سلامًا، فليذهبوا إلى ما يريدون عمْدًا، دون استدعاء الفتوى الدينية لتأييد أقصى اليمين وأقصى اليسار معًا، وكأن الإسلام هو لِما أريدَ له، أو هو ما أراد الساسة، لا ما أراد الله !
- قال عبد الرحمن مضيفًا: لعل أكبر مثال على هذه المنهجية الفاسدة، ما كان حين احتل العراقُ الكويت، حيث دعونا جميعًا لإعلان الحرب لتحرير الكويت، بل رخصت الفتوى لاستقدام قوات أمريكية وأوربية للمشاركة في هذا التحرير، مع أن الكويت بالنسبة للعراق دولة ضعيفة، فلماذا لم يكن ضعفها مسوغًا هناك لكي تصدر الفتوى بأن يتصالح الكويتيون مع العراق لأنهم ضعفاء: كما يدعون الفلسطينيين اليوم للتصالح مع إسرائيل لأنهم ضعفاء، بل لأننا جميعًا ضعفاء أمام شرذمة من الأفاقين المتشردين، أم ترى الدم المسلم أرخص من الدم اليهودي؟!
إن مبررات الجهاد المقدس موجودة في فلسطين بأكثر مما كانت موجودة في الكويت.
- رفع عبد الله رأسه، ونظر إلى السقف منتويًا إثارة جانب آخر من القضية فقال: إن الأمر ينطوي على خديعة كبرى، إذ تتكلم الفتوى عن هدنة مؤقتة، على حين يتحدث الساسة عن سلام دائم وأبدي! وبما أن صاحب الفتوى ليس هو الذي يبرم الصلح، فمن الواجب عليه أن يلتزم في فتواه بمحددات الساسة، ويؤسِّس فتواه على ما قالوا من أنه سلام أبدي، وتسليم نهائي، لا رجعة فيه....
- قلت مؤيدًا: لقد أصبتَ يا عبد الله.
- فقال عبد الله مسرعًا: ومن جانب آخر، فإن الشيخ إذا كان يغلب على ظنه أن هذه الفتوى يمكن أن تحقق مصلحة ما للمسلمين. فهذا خطأ؛ فالسلام الذي تدعو إليه الفتوى، ليس إلا في مصلحة اليهود، ولم يحقق للفلسطينيين أمنًا، ولا هدوءًا، ولا سكينة، ولا تغيَّر شيء في أحوالهم إلى أفضل بعد سنين من المعاهدة: غزة وأريحا. بل زاد القتل، وهدم المساجد ومصادرتها، وهدم المنازل وبناء المستوطنات، ومصادرة الأراضي، وإذلال السكان وإعدامهم، وتحدي الأمة بالإعلان باستمرار عن أن القدس ستظل عاصمتهم الأبدية، وأنهم لن يفرطوا فيها. فأين مصلحة المسلمين في مثل هذه المعاهدة؟
- التقط عبد الرحمن طرَف الحديث من عبد الله قائلا: ربما نطق المرء بكلمة لا يلقي لها بالا، ولا يظن أن تبلغ ما بلغت، تزرع العداء، وتضر جماعة المسلمين. وخير للمرء ألا ينطق بشيء، إذا كان في ذلك صيانته، وحماية أمته، وتحصين ملته وعقيدته؛ فالكلمة قد ترفع المعنويات، وتهيئ للكفاح والنضال، أو تثير المخاوف والرعب، وتثبط الأبطال، ومما هو معلوم في علم النفس أن الخوف قد يستشرى منتقلا من الضعفاء إلى الأقوياء، ومن الجبناء إلى الشجعان. والأخلاق تعدي، والشائعات تنتشر فتقلب الموازين، وتضعف الثقة بالنفس، وتؤدي إلى الانهزام والتراجع. وقد بيَّن القرآن الكريم تأثير الحالة المعنوية في نتائج المعركة النهائية بقوله في سورة الأنفال عن غزوة بدر: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ{ (الأنفال: 43).
- قلت بدوري: ويُحكى أن شبلا رضع مع الغزلان، وتربى بينها. وفي يوم هجمَ أسد على قطيع الغزلان وبينها الشبل، ففرت الغزلان، وفرَّ الشبل معها. فلما رآه الأسد بينها ناداه، فوجده يُصدر أصواتًا كالغزلان، فقال له: إنك أسد، ولست غزالا. أنت ملك الغابة، وجميع الحيوانات تهابك، فلا تنسقْ مع قطيع الغزلان!
- قال عبد الله بعبارات بطيئة ولكنها قوية: إن المأساة في حياة هذه الأمة، هي أن يقع نفرٌ من علمائنا في هوى من بيدهم سلطة فكرية أو سياسية، فيتناولون قضايا بعينها لا يُحسنونها، وعن طريق هؤلاء تصلهم المعلومات الأولية والمقدمات التي يؤسسون عليها تصوراتهم، لا أن يَنزلوا هم إلى أرض الواقع و"الشارع" النابض بالحياة والأفكار والاتجاهات المتشابكة. ومن الطبيعي أن ينجح هؤلاء المتسلطون فكريًا وسياسيًا في تحقيق أهدافهم حينئذ، وأن يعزلوا هذا الفريق من العلماء في أبراج عاجية، ويحصروهم خلال مناظير فكرية، ويجمدوهم في قنوات ضيقة، فيروْن بأعينهم، ويسمعون بآذانهم، ويفكرون بعقولهم، ويحسون بقلوبهم، ثم يصادرونهم عبر قنواتهم الخاصة: إعلامية ودعوية، ويمدونهم بزاد متجدد يزداد كل يوم به التحامهم معهم دنيويًا، فيصيرون أسرى الموقف المعقد، كالفراش داخل الشرانق.
- قلت: إنك يا عبد الله تصور واقع فريق من العلماء، ولكني لا أعتقد أن الشيخ ابن باز كان منهم...
- قاطعني عبد الله بسرعته وانفعاله المعهود، وانطلق يقول: دعني أحدثك عن نفر من العلماء أعْرِفهم، ترى أحدهم عالمًا بالشرع، غير عالم بالواقع، إنهم علماء ومشايخ بينهم وبين المجتمع انفصال عضوي، وبالتالي هم في عزلة كاملة عن تياراته، وعدم دراية بفعالياته، وغربة عن التحولات الأساسية فيه. ومحصِّلة هذا، هو صعوبة التلاؤم بين هؤلاء والواقع، وغياب الشروط الموضوعية للتفاعل والانفعال بمحيطهم، وعدم قدرتهم على القيام بأدوار الريادة الفكرية والسياسية، وعجْزهم عن تولي مواقع السلطة والإرشاد والتوجيه.
- انتهز عبد الرحمن فرصة توقف عبد الله عن الكلام لالتقاط أنفاسه، فقال: أنا مع هذا الرأي عمومًا؛ إذ نعترف لبعض مشايخنا بقدراتهم العلمية، وما قضوه من سنين في الاطلاع على النصوص الشرعية ودراستها وفهمها، ولكنهم للأسف لم يبذلوا جهدًا موازيًا في فهم الواقع المعاصر، ولا العلاقات الدولية، ولا السياسة الشرعية في إطار العصر، ولا حقائق الأوضاع في دولهم والعالم. بل إنهم منعزلون في حدود ضيقة، أو أبراج عاجية. ومن هنا جاءت فتاواهم خارج الزمان والمكان، وإن تعززت بما يُعتقد أنه دليل شرعي. وهي فتاوى خارج الحاضر تمامًا، ومتناقضة مع روح اللحظة التي صدرت فيها، وإن تعضدت بنصوص واستنباطات تنبئ عن سذاجة وسطحية في الفكر، وذلك لأن المفتي لا يفهم كل أبعاد الظاهرة التي يعرض لها، ويجهل جوانب جوهرية من القضية التي يتناولها، ولذا لا يصيب روح الشرع، ولا يلتقي مع مقاصده، ولا يضع النصوص الدينية مواضعها، بل يبدو وكأنه يعيش في غير الزمان، ويُفتي لغير الناس، ويتحدث لغة لا نفهمها، ولا نستطيع أن نقبلها، لأنها تأمرنا بعكس ما يريده الدين منا، فالدين يأمرنا بأن نعيش في عزة، وأن نموت في كرامة.
- بعد لحظة صمت، واصل عبد الله كلامه السابق قائلا: أولى بهؤلاء المفتين ما داموا مخلصين، ويخافون الله واليوم الآخر، ألا يُفتوا في كل أمر يُسألون فيه، ما داموا يجهلون أبعاد المسألة وملابساتها المختلفة، أو عليهم أن يدرسوا أولا بما يكفي- الجوانبَ المختلفة المتعلقة بموضوع الفتوى. فإذا ما تعرضوا لموضوع سياسي على قدر من الخطورة، مثل الإقرار لليهود بالسيادة القانونية على فلسطين. عليهم أن يفهموا المعنى السياسي، والدلالات الكامنة وراء المصطلحات، وأن يطلعوا على لغة السياسة وحيلها وممارساتها الدبلوماسية الخفية والعلنية، حتى يستطيعوا ترجمة الكلمات، وفهم ما وراء العبارات من معان تغيب عن غير الخبير، وأن يدرسوا كذلك العلاقات الدولية والتاريخ المتعلق بالقضية، ثم لهم بعد ذلك أن يفتوا. أمَّا أن يفتوا بغير علم بكل ذلك، ولا يستعينوا بالخبراء والمتخصصين، فأولى بهم أن يتورَّعوا عن أن يكونوا سببًا لنشر روح التخاذل والاستسلام للكفار، والموالاة لأهل الباطل وأعداء الدين، ومن لا دور لهم إلا حرب الإسلام.
- قال عبد الرحمن: من الواجب أن يكون المفتي حكيمًا خبيرًا، يعرف مواقع الكلمات، ويحس نبض جماهير الأمة، فإذا وجَدَ بعضًا يدعو إلى وأدِ روح الجهاد في الأمة، وإطفاء سراج الشهادة، لم يُؤازر هذه الدعوة، ولكن يُقدِّم العلاج، وإذا رأى بعضًا يسعى لاستصدار فتاوى لتبرير الوهن، وتثبيط العزائم، وتبرير أمر واقع فاسد، تنزَّه أن تكون كلماته وفتواه أداة بيد هؤلاء، وإذا كانت الأمة- بشبابها الغض- تريد الجهاد والاستشهاد لتحرير مقدسات الإسلام، لم يكن من اللائق صرفهم عن هذا، وادعاء أن هذا ليس أوان الجهاد، ولكن أوان الاستسلام للعدو، والدعوة إلى محو العواطف الدينية الجياشة، وكبت الحماس لدين الله تعالى.
- قال عبد الله وهو يكزُّ على أسنانه، وقد بلغ الانفعال منه مبلغه: إن هذه الفتاوى تستحق فعلا شكْرَ رئيس وزراء إسرائيل- أعلى سلطة هناك- وهو ما فعله بعد ساعات قليلة من صدورها على رءوس الأشهاد، فقال بنصه: "نشكر الشيخ عبد العزيز بن باز على هذه الفتوى".
- كنت متكئًا على ساعدي، أنتظر أن يُفرِغ صاحباي انفعالاتهما، ثم قلت بهدوء أمتصُّ به التوتر العالق بجو الغرفة: لقد اشتط بكما المقال يا صاحبيَّ، ووقعتما بجرأة في شيخ عزيز علينا، ورجمتموه بأقسى الكلمات عند أول مرة يقع فيه اختلاف، وأنا كنت أريد أن أقول لكم من البداية ما سترونه مفاجأة مذهلة، فأنا لا أعتقد أن هذه الفتاوى تخص الشيخ ابن باز، وليست من كلامه، ومزوَّرة عليه، ولم تخرج من مشكاته، فليس هو الشيخ ابن باز الذي أفتى هذه الفتوى، بل هي منحولة عليه، وسأذكر ما يؤيد رأيي هذا.