رد: منهج تحصيل قاعدة ترك الاستفصال...
مفتاح الموضوع هو التفريق بين
تتبع القواعد الأصولية و
إثباتها وهذا تفصيل ذلك :
أولا : دليل القاعدة قد أوردته بعد ذكر ما نقلته مبتورا و الظاهر أنك لم تستوعبه أو لم تحسن السؤال.
هذا نص كلامي في موضوع "نازلة" :
قاعدة ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال أو ترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزَّل منزلةَ العموم في المقال :
أصل هذه القاعدة ما روي عن الإمام الشافعي ، قال رحمه الله :
ترك الاستفصال في حكايات الأحوال يقوم مقام العموم في المقال نحو قوله صلى الله عليه وسلم لابن غيلان حين أسلم على عشر نسوة : أمسك أربعا ، وفارق سائرهن من غير كشف عن تقدم عقودهن ، أو تأخرها ، أو اتحادها ، أو تعددها. اهــ
(
النص المبتور و هو برهان القاعدة)
إذا جاء الصحابي بسؤاله إلى الرسول عليه الصلاة و السلام فيجيبه الرسول عليه الصلاة و السلام دون طلب الاستفصال في حيثيات واقعته رغم أن الواقعة تحتمل وجود عدة عوامل قد يظن أنها مؤثرة في الحكم فإما أن الشرع يأخذ هذه العوامل بعين الاعتبار و إما أن الشرع لا يأخذها في هذا الحكم (السبر و التقسيم) :
- فإن كان الشرع لا يعتبرها مؤثرة في الحكم فهذا قولهم "يقوم مقام العموم في المقال" فتلغى العوامل التي قد يظن أنها مؤثرة في الحكم.
- و إن كانت لهذه العوامل تأثير يجعل الحكم يختلف فقد يحتاج الصحابي غير الحكم الذي صدر من النبي عليه الصلاة و السلام و بما أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلابد أن يكون النبي عليه الصلاة و السلام قد أجابه كما ينبغي و على هذا مهما كانت هذه العوامل المحتملة التي قد يبنى عليها الحكم فالحكم هو البيان الشافي الذي ذكره النبي عليه الصلاة و السلام لحاجة الصحابي و هذا هو قولنا "يقوم مقام العموم في المقال". (
رابط المشاركة)
ثانيا : أراك في المشاركة الأخيرة تخلط بين طريقة صناعة المقاصد و طريقة صناعة القواعد الأصولية وإن كانت بعض القواعد الأصولية قد يصلح في صناعتها الاستقراء كالأمر بعد الحظر إلا أن صناعة جل القواعد الأصولية لا يستعمل فيها الأصوليون الاستقراء.
ثالثا : الكلام المنقول عن الإمام الشافعي فيه روي فعل مبني للمجهول ،و روي تأتي بصيغة التمريض لذلك لم أجزم بنسبة الكلام للإمام الشافعي لاستشكال البعض ذلك مع ما نقل عنه رحمه الله
حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط منها الاستدلال. و على كل حال النقل عن الإمام القرافي وجل من يتكلم في هذه القاعدة ينسبها إلى الإمام الشافعي.
رابعا : قولك "أما المنهج الذي حصّلت به القواعد ، فهو تتبع جزئيات الأوامر و النواهي..، و كان التتبع ناقصا عند الأصوليين.." فإن كان المقصود به تتبعها فهذا صحيح و إن كان المقصود صناعتها فهذا خطأ فهناك طريقتان في صناعة القواعد الأصولية طريقة الجمهور و تعتمد على النظر في الأدلة العامة دون النظر إلى الفروع الفقهية وهذه ليس فيها استقراء للنصوص فهذه الطريقة تتميز بالميل إلى الاستدلال العقلي و تجريد المسائل الأصولية عن النصوص الشرعية و الفروع الفقهية.
و طريقة الأحناف تعتمد على فروعهم الفقهية ، أما ما ذكرته فهو يصلح في بناء المقاصد لا في أصول الفقه و لو فتحت أي كتاب أصولي لما وجدت فيه استقراء و الاستقراء لا ينفع في صناعة القواعد الأصولية ذلك أن نهاية القواعد تخريج الأحكام الفقهية فلا يعقل أن تبني القواعد بالاستقراء من النصوص التي لا نفهمها إلا بها.
قال شيخ الإسلام :
وأما الاستقراء فإنما يكون يقينيا ؛ إذا كان استقراء تاما . وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الأفراد وهذا ليس استدلالا بجزئي على كلي ولا بخاص على عام ؛ بل استدلال بأحد المتلازمين على الآخر فإن وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلي العام يوجب أن يكون لازما لذلك الكلي العام . فقولهم : إن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق ؛ وكيف ذلك . والدليل لا بد أن يكون ملزوما للمدلول ؟ فإنه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه ؛ ولم يكن المدلول لازما له ؛ لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل ؛ نعلم ثبوت المدلول معه ؛ إذا علمنا أنه تارة يكون معه ؛ وتارة لا يكون معه ؛ فإنا إذا علمنا ذلك ؛ ثم قلنا إنه معه دائما كنا قد جمعنا بين النقيضين .
وهذا اللزوم الذي نذكره ههنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم . وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر ؛ كانت الدلالة أقوى وأتم وأظهر : كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى فإنه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته وكل مخلوق دال على ذلك كله .
وإذا كان المدلول لازما للدليل فمعلوم أن اللازم إما أن يكون مساويا للملزوم وإما أن يكون أعم منه فالدليل لا يكون إلا أعم منه وإذا قالوا في القياس يستدل بالكلي على الجزئي فليس الجزئي هو الحكم المدلول عليه وإنما الجزئي هو الموصوف المخبر عنه بمحل الحكم فهذا قد يكون أخص من الدليل وقد يكون مساويا له بخلاف الحكم الذي هو صيغة هذا وحكمه الذي أخبر به عنه فإنه لا يكون إلا أعم من الدليل أو مساويا له فإن ذلك هو المدلول اللازم للدليل والدليل هو لازم للمخبر عنه الموصوف .
فإذا قيل : النبيذ حرام لأنه خمر فكونه خمرا هو الدليل وهو لازم للنبيذ والتحريم لازم للخمر والقياس المؤلف من المقدمتين إذا قلت كل النبيذ المتنازع فيه مسكر أو خمر وكل خمر حرام فأنت لم تستدل بالمسكر أو الخمر الذي هو كلي على نفس محل النزاع الذي هو أخص من الخمر والنبيذ فليس هو استدلالا بذلك الكلي على الجزئي بل استدللت به على تحريم هذا النبيذ فلما كان تحريم هذا النبيذ مندرجا في تحريم كل مسكر قال : من قال إنه استدلال بالكلي على الجزئي .
و " التحقيق " أن ما ثبت للكلي فقد ثبت لكل واحد من جزئياته والتحريم هو أعم من الخمر وهو ثابت لها فهو ثابت لكل فرد من جزئياتها فهو استدلال بكلي على ثبوت كلي آخر لجزئيات ذلك الكلي . وذلك الدليل هو كالجزئي بالنسبة إلى ذلك الكلي وهو كلي بالنسبة إلى تلك الجزئيات وهذا مما ما لا ينازعون فيه ؛ فإن الدليل هو الحد الأوسط وهو أعم من الأصغر أو مساو له والأكبر أعم منه أو مساو له ؛ والأكبر هو الحكم والصفة والخبر . وهو محمول النتيجة . والأصغر هو المحكوم عليه الموصوف المبتدأ . وهو موضوع النتيجة . اهــ
قلت نعم قد يتتبع الأصوليون بعض الأدلة لإثبات القاعدة لكن ليس بمفهوم الاستقراء المصطلح عليه عندهم ، لكن من باب الترجيح بين معاني المشترك كقاعدة الأمر يفيد الوجوب و إن كانت هذه النقطة صعبة تحتاج شرحا يمكنني شرحها لك إن شاء الله.
جاء في نتائج رسالة الدكتور الطيب السنوسي أحمد الاستقراء وأثره في القواعد الأصولية والفقهية دراسة نظرية تطبيقية :
غياب منهج الاستقراء لدى كثير ممن كتبوا في أصول الفقه قديما وحديثا فقل أن ترى من قام باستقراء حقيقي واسع في دراسة القواعد الأصولية أو الفقهية تأسيسا أو ترجيحا أو نقدا وتصحيحا أو وضعا لضوابط صحيحة وإن الجهد المبذول من بعض ألأصوليين من بعد القرن الخامس والذي لم يتجاوز – في الغالب – التكرار لو بذل في دراسة القواعد الأصولية دراسة استقرائية لكان علم الأصول أكثر نضجا.اهــ (
المصدر)
كما أنه لا يخفى على أحد الضعف الموجود في الاستقراء الناقص و مذهب الكثير من الأصوليين في بناء القواعد الأصولية على الدليل القطعي , قال في المستصفى " فثبت بهذا أن الاستقراء إن كان تاما رجع إلى النظم الأول وصلح للقطعيات ، وإن لم يكن تاما لم يصلح إلا للفقهيات لأنه مهما وجد الأكثر على نمط ، غلب على الظن أن الآخر كذلك .اهــ.
ولذلك يضع الأصوليون الاستقراء في كتاب الأدلة المختلفة فيها ، يعني أي واحد يفتح كتابا أصوليا و لو مرة في حياته يرى أن الاستقراء موضوع في باب الأدلة المختلف فيها و بتفكير بسيط يفهم أنه لا يمكن أن يبني الأصوليون قواعدهم بطريقة يختلفون في صحتها بل يضعونها في آخر كتبهم.
أما قول الإمام الشاطبي : "وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة ، حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس" فلا يعني به الاستقراء في صناعة القواعد إنما هو تتبع كليات الأدلة و تطبيقها و لهذا عقب على قوله ب : حتى تكون عند المجتهد نصب عين.
خامسا : ما أظنك تجد أصوليا واحدا برهن قاعدتنا بالاستقراء , و إن شئت برهنت لك أنها لا يمكن أن تثبت بالاستقراء.
سادسا : قال الشوكاني في إرشاد الفحول في مبحث الأمر :
وأجيب : بأن استدلالهم بما استدلوا منها على الندب ، إنما كان بقرائن صارفة عن المعنى الحقيقي ، وهو الوجوب معينة معينة للمعنى المجازي وهو الندب ، علمنا ذلك باستقراء الواقع منهم في الصيغ المنسوب إليها الوجوب ، والصيغ المنسوب إليها الندب في الكتاب والسنة والسنة ، وعلمنا بالتتبع أن فهم فهم الوجوب لا يحتاج إلى قرينة لتبادره إلى الذهن بخلاف فهم الندب ، فإنه يحتاج إليها .
واعترض واعترض على هذا الدليل أيضا : بأنه استدلال بالدليل الظني في الأصول ؛ لأنه إجماع سكوتي مختلف في حجيته كما تقدم ، ولا يستدل بالأدلة الظنية في الأصول . اهــ
و هذا يبين مدى ضعف صناعة القواعد الأصولية بالاستقراء و رد الأصوليين له.
سابعا : هناك قواعد أصولية لها أدلة متعددة لكن جعل دليلها لا ينفك عن مجموعها خطأ ، إذ كل دليل قد يصلح لوحده و الاستكثار من الأدلة لتقوية القاعدة و للخروج من الظني إلى القطعي.
ثامنا : لو اشترطنا الاستقراء التام لبناء القواعد الأصولية لذهب جل أصول الفقه إذ يصعب تحقيق ذلك في جميع أبوابه كما أنه بذلك لم تبقى هناك فائدة لأصول الفقه فقد تحققنا من صحة الفرع قبل الأصل فما فائدة تطبيقه على الفرع بعد ذلك.
أما لو اشترطنا الاستقراء الناقص لما سلم دليل أصولي من الطعن إذ أنه يكفي للمخالف أن يطعن فيه بكون الاستقراء الناقص ظني و على هذا القاعدة غير كلية فلم يعد يفيد علم الأصول شيئا.
تاسعا :
قولك "مصادر القواعد الأصولية على نحوين : النّصوص ـ بتشديد النون ـ و التتبع و الاستقراء..،" فإن كنت تقصد به البحث عن القواعد فهذا صحيح لكنه يتناقض مع قولك " قاعدة الأمر للوجوب " استفيدت من استعراض جلّ الأوامر الشرعية ، و لما كان الاستعراض ناقصا ، وقع الخلاف في تقرير الوجوب أو الندب أو الطلب أو القدر المشترك." فهذه صناعة لا تتبع القواعد و إن كنت تقصد صناعة القواعد فقد تقدم بيان بطلان ذلك ولعلك لا تفرق بين صناعة القواعد و البحث عنها.
عاشرا : نحن نتكلم في علم الأصول و من الغرابة أن تستشهد بفعل الإمام الشاطبي و لا تستشهد بالغزالي و القرافي و الزركشي و غيرهم من الأصولين.
الحادي عشر : تتبع الأبواب الأصولية و قواعدها لابد له من استقراء لحاجات الفقه و الفقهاء على أنه أدخل في أصول الفقه ما لا يصح دخوله فيه ، أما صناعة القواعد الأصولية فغير ممكنة بالاستقراء و لهذا أهمل الأصوليون استخدامه في مثل ذلك.
الثاني عشر : عندما نذكر الاستقراء في علم الأصول فنقصد به الاستقراء كدليل إثبات فهذا الذي يبحثه الأصوليون لا الاستقراء كجمع للشتات وهذا ما يسمى بعرف أهل الصنعة فتحمل مصطلحاتهم على ما تعارفوا عليه و لهذا كان جوابي ببرهان القاعدة.
إن كان فيما كتبته ما يصعب عليك فهمه فأشر إليه لكي أشرحه لك بالتفصيل إن شاء الله على أنني من المتطفلين على هذا العلم و لم أدعي كما تقول أني استوعبت المدونات الأصولية فإن كان ذلك لا يحصله المتفرغ فما بالك بالمتطفل , وإن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين و الله الموفق.
ملاحظة : لما لم تكمل موضوع النازلة ؟ و هل كنت تجهل تحريم السجود لغير الله مهما كانت نية الساجد ؟