العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الواقعية ، والمعيارية ، في ضوء مقولة :"المقاصد" دعوة إلى اكتشاف العلاقة بينهما

إنضم
3 يوليو 2010
المشاركات
53
الكنية
أبو عمر
التخصص
أصول الفقه
المدينة
الطائف
المذهب الفقهي
المذهب الحنبلي
الواقعية ، والمعيارية ، في ضوء مقولة :"المقاصد"


دعوة إلى اكتشاف العلاقة بينهما .

ازدحم الدرْس الإسلامي بِكَمٍ هائلٍ من الإنتاج المقاصدي ، استوعب المراكز العلمية على جغرافيا المسلمين الممتدة : من ماليزيا في جنوب شرق آسيا ، إلى المملكة المغربية في أطراف الشمال الإفريقي ، وكان هناك التحام ظاهري بين فكرتي : المقاصد ، والتجديد ([1])، لدى تيار ، ولدى تيارٍ آخر كان الالتحام الظاهري بين فكرتي : المقاصد ، والحداثة . تباينت الاستخدامات ، والفكرة واحدة ، هي : المقاصد ، وعدم اسْتِجْرار القديم بكل سلبياته .
كان الدافع لهذا الدرْس بهذا الكم الهائل من الإنتاج المقاصدي هو : أن العصر الحديث امْتَلأ ، بل ازدحم بمستجداتٍ كثيرة ، ومتنوعة ، ومتلاحقة ، بل ومتسارعة ، في مختلف شؤون الحياة ، وأنماطها المتنوعة ، فلم تعد النظم والقوانين تفي بمتطلبات ذلك : إنِ اقْتُصِر على حرفيتها ، والظاهر من ألفاظها ؛ ولذلك كان التنادي من أهل القانون بالكشف عن قصد المشرع ، وغايته ، وإرادته ، فكان ما يُسمَّى بتفسير النصوص بما لا يبتعد عن غاياتها النهائية ، فالدستور - عندهم - وثيقة ، نابضة بالحياة ، لا تصد عن التطور ، فنسيجها متناغماً مع روح العصر ([2]).
وأما الشريعة الإسلامية فهي معتمِدة على نصوص تشريعية ، في القرآن والسنة ، وهي متناهية ، والوقائع غير متناهية ، وما هو متناهي – إنِ اقْتُصِر على الحرفية والظاهرية – لا يفي بما لا يتناهى ، فكانت الحاجة لإيجاد العلل واستخدام المقاييس ، ثم مع تباعد الزمان عن زمان النبوة اشتدت الحاجة إلى ما يُسمَّى بالمصالح المرسلة ، ثم تباعد الزمان أكثر ، وكَثُرَت المستجدات ، وتشابكتْ في الحياة ، وازدحمت المصالح مع المفاسد ، وحصل التعارض فيها ، وكَثُرَت الاختلافات الفقهية ، فظهرت الحاجة إلى ما يُسمَّى بمقاصد الشريعة العامة ، حتى إن الطاهر بن عاشور ، العالم ، التونسي الأصل([3]) – أراد بتأليفه لكتابه :"مقاصد الشريعة الإسلامية" : أن تكون تلك المقاصد نبراساً للمتفقهين في الدين ، ومرجِعاً بينهم عند اختلاف الأنظار ، وتبدل الأعصار ، وتوسُّلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار ، ودُرْبةً لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض ، عند تطاير شَرَرِ الخلاف ؛ حتى يَسْتَتِبَّ بذلك ما أراد من نبذ التعصب ، والفَيْئة إلى الحق ([4]). وأراد أن يستنبط مقاصد شرعية قطعية ؛ لكي يَقْطَع القطعيُّ الخلاف ، فهو يرى أن سبب كثرة الخلاف الاستناد إلى الظنيات ، التي تختلف فيها الأفهام ([5]).
غير أن عناية الفقهاء بمقاصد نصوصهم التشريعية : بتأصيلها ، والبناء عليها - أكثر بكثير مما هو عند أهل القانون ؛ وذلك لأن الداعي الذي قام عند فقهاء الشريعة لم يقم عند أهل القانون ، وبيان ذلك : أن التشريع الوضعي قابلٌ للتعديل ، والتغيير بما يزعم مُشَرِّعوه : أنه يحقق مصالح الجماعة والأفراد ، فهو تشريع قابل للتغيير والتعديل باستمرار ، فليس بحاجة ماسة إلى نظرة مقاصدية ، مجالها في التعليل من أجل القياس ، وفي تفسير النصوص ، فمثل هذه النظرة ضرورية في التشريع الثابت ، الغير قابل للزيادة أو النقصان ، وهو تشريع القرآن والسنة([6])، وهذا لا يعني عدم حاجة أهل القانون لمقاصد تشريعهم ، وإلا لم يكن ما يُسَمَّى بروح القانون ، الذي يحكُم تفسير النصوص ، ثم إن الرجوع لروح القانون يَضْطَرُّ إليه مَن تكون السوابق القضائية في عُرْف بلده تشريعاً ، لا يُنْقَض .
ويمكن أن يُراد بالمقاصد في الشريعة والقانون : الحِكَم والغايات المصلحية من التشريع ، التي هي الإرادة التشريعية ([7]).
وعند جَعْل مقولة :"المقاصد" في مَحَكِّ التطبيق نجد أنها موطنٌ احتدم فيه الصراع من قبل التيارات : المحافظة ، التي قد توصَف بالظاهرية ، والمنفتحة ، التي قد توصَف باتباع الرأي . الأول يُشَدِّد في اتباع النص ، ويُظْهِر قدسيته ، ويَتَّهم الآخَر بزعزعة الثوابت باسم المقاصد ، وأنه يريد أن يجعلها متغيرة ، حتى في المقدَّرات والحدود ، والثاني يُشَدِّد في اتباع المعاني ، ويَفْهَم النصوصَ بها ، ويَتَّهم الآخر بجعل المتغيرات ثوابت ، حتى في الأمور العرفية المصلحية ، التي تتغير بتغير الزمان والمكان والشخص والحال .
وهناك تيار لا ينطلق من أرضية التسليم للنص ([8])، وإنما من الواقع الذي يَفْهَمُه العقل ، فهو يرى أن المقاصد لم تحقق الهدف منها ، وهو : الإقلال من الخلاف ، وكونها قواطع يُحْتَكم إليها ؛ إذ الخلاف – في نظره – لم يَنْحِسم ، بل ولا انْحَسَر ، فقد استمر ، وازداد ، واشتد ، وانتقل الخلاف من الفروع إلى الخلاف في مقولة المقاصد : في تكوينها ، وفي الاستدلال بها ، فما ظُنَّ أنه به يَحْسِم الخلاف إذا به سببٌ للخلاف ، وما ظُنَّ أنه قواطع يُحْتَكم إليها إذا بها ظنون ، توقع في النسبية ؛ ويذكر أن السبب في الوقوع مما أُريد الإفلات منه هو : أن العقلَ الفقهي – سواء عند المحافظين ، أو المنفتحين – معقولٌ ، أي : أنه داخل قفص النصوص ، عاجز عن الانطلاق ، وكَسْر قيود التقليد ، وأنه بذلك لا يقوى عن مجاراة الحياة الحاضرة ، ولا يستوعبها ؛ لأنه أنكر الحياة ، فأنكرته ، فانْفَصَمَتْ صلتها بالعقل الفقهي ، فلا يمكنها أن تأنس إلا بعقل يكون من طينتها ، وهو العقل النقدي الحر ، فهو سليلها بلا نزاع ، هكذا يزعم هذا التيار .
وهذا التيار – الذي ينطلق من الواقع في تكوين مبادئه – يَدْرُس النصوصَ بالسياق التاريخي ، فيُفَسِّرها بمنهج :"تفكيك النص" : مقدساً كان ، أو غير مقدس ؛ لتنتهي بذلك سلطة النص([9]).
إن الجدل في مقولة :"المقاصد" دائرٌ بين الصفة الواقعية والصفة المعيارية ، فالغاية من التشريع : معاني وحِكَم مصلحية ، تعود بالنفع على البشرية ، وهذه المنافع مبثوثة في واقع الوجود ، في هذه الدنيا ، فيرى البعض أن الفِكْر يحتكِم للنص ، فهو معيارٌ لتقويمه وتصحيحه ، يرفع الواقعَ إليه . وآخر يرى أن المقاصد لها الصفة المعيارية ، فلا يجمد على ظاهر النص ، لكنه لا يزال في دائرة تقديس النص . وآخر يرى أن الواقع هو المعيار ، ينظر إلى النص بمنظارٍ تاريخي ، وبمنهجٍ تفكيكي ، فلا النص معيارٌ ، ولا مقاصده معيارٌ ، غير أن جَعْل المقاصد معيارٌ ، وهي المنافع في واقع الوجود – يَرْتَدُّ إلى نوعٍ من كون الواقع هو المعيار ؛ ولذلك مَن لا يعتبر المقاصد معياراً يقع في التناقض ؛ لكون المقاصد منافعاً في الواقع . كأن الأمر يدور في حلَقة : واقعية ...معيارية ...واقعية ... وهكذا دواليك .
يزداد الأمر إشْكالاً عند تراجع السلطتين : السياسية والعلمية ، أو عند شغور الزمان منهما([10]) ؛ إذ تكون المقاصد حينئذٍ هي المنقِذ([11])، فالإحالة على أمور كلية مقاصدية أولى من التخَبُّط في الجهالات ، والمقاصد هي منافع في الواقع ، وقد اعْتُبِرَتْ معياراً ، فارْتَدُّ الأمر إلى نوعٍ من كون الواقع هو المعيار ، ورجعنا إلى الدوران في الحلَقة ...
وحينئذٍ تبرز الحاجة الملحة إلى اكتشاف العلاقة بين الصفتين : الواقعية ، والمعيارية في ضوء مقولة :"المقاصد" ، وأطْرَح ذلك على طاولة البحث والدراسة ، حاثَّاً المفكرين على اكتشاف هذه العلاقة ، وما كان هذا المقال إلا دعوة للبحث في اكتشاف هذه العلاقة .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه : المحاضر فيصل بن عامر الذويبي

([1])انظر : مدخل أصولي للمقاصد الشرعية ، لمحمد كمال الدين إمام : 12 ، ضمن دورة متخصصة عن :"المقاصد وقضايا العصر" ، في كلية الحقوق بجامعة الاسكندرية ، بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث القانونية والاقتصادية هناك ، لشهر ذي القعدة ، وذي الحجة ، لعام 1427هـ ، الموافق نوفمبر ، وديسمبر ، لعام 2006م ، ومطبوع ضمن كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية ، الناشر : مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي – مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية ، بلندن ، الطبعة الأولى ، عام 2007م .

([2])انظر : فكرة المقاصد في التشريع الوضعي ، لمحمد سليم العوا : 267 ، ضمن نفس الدورة الآنفة الذكر ، ومطبوع ضمن الكتاب الآنف الذكر .

([3])هو :محمد الطاهر بن الشيخ محمد ، وعاشور من أجداده ، علامة الفقه ، وأصوله ، والتفسير ، وعلومه ، تولى منصب كبير أهل الشورى ، وكان قاضياً مالكياً ، وعميداً للجامعة الزيتونية ، وعضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق ، ومشاركاً ببحوثه في مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، توفي عام 1973م ، له : تفسير التحرير والتنوير ، وأصول النظام الاجتماعي ، وحاشية التوضيح في أصول الفقه ، والفتاوى .
انظر : محمد الطاهر بن عاشور ، لإياد خالد الطباع ، طبع : دار القلم بدمشق ، الطبعة الأولى ، عام 1426هـ ، الموافق 2005م .

([4])انظر - في سبب تأليف الطاهر بن عاشور لكتابه :"مقاصد الشريعة الإسلامية"- ما ذكره في مقدمة كتابه : 165 ، طبع : دار النفائس بالأردن ، الطبعة الثانية ، عام 1421هـ ، الموافق 2001م .

([5])انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية ، للطاهر بن عاشور : 168-174.

([6])انظر : فكرة المقاصد في التشريع الوضعي ، لمحمد سليم العوا : 270-272.

([7])عَرَّف الطاهر بن عاشور مقاصد الشريعة العامة بأنها : المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع ، أو معظمها ، بحيث لا يختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة .
وعَرَّف علال الفاسي مقاصد الشريعة بأنها : الغاية منها – أي : من الشريعة – والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها .
انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية ، للطاهر بن عاشور : 249 ، ومقاصد الشريعة ومكارمها ، لعلال الفاسي : 7 ، طبع : دار الغرب الإسلامي بيروت ، الطبعة الخامسة ، عام 1993م .

([8])انظر – في أدبيات هذا التيار تجاه مقاصد الشريعة - : مقاصد الشريعة ، التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد ، وقصور الاجتهاد ، لنور الدين بوثوري : 101، 111 ، طبع : دار الطليعة ببيروت ، الطبعة الأولى ، عام 2000م .

([9])انظر – في أدبيات هذا التيار تجاه موضوع الدلالة من النصوص - : مدخل مقاصدي للاجتهاد ، لجاسر عودة :50، ضمن دورة متخصصة عن :"المقاصد وقضايا العصر" ، في كلية الحقوق بجامعة الاسكندرية ، بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث القانونية والاقتصادية هناك ، لشهر ذي القعدة ، وذي الحجة ، لعام 1427هـ ، الموافق نوفمبر ، وديسمبر ، لعام 2006م ، ومطبوع ضمن كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية ، الناشر : مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي – مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية ، بلندن ، الطبعة الأولى ، عام 2007م .

([10])كتب إمام الحرمين أبي المعالي الجويني في المخرَج عند شغور الزمان من الإمام ، ومن المجتهدين ، أو من نقلة المذاهب – كتاباً ، بعنوان : غياث الأمم في التياث الظلم ، المسمَّى بالغياثي ، طبع : مؤسسة الريان ببيروت ، الطبعة الأولى ، عام 1428هـ ، الموافق 2007م .

([11])انظر – في ارتباط مفهوم المقاصد بالمُشْكِل الاجتماعي والسياسي - : الفكر الأصولي وإشْكالية السلطة العلمية في الإسلام ، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة ، لعبد المجيد الصغير : 434، توزيع : المؤسسة الجامعية للدراسات ببيروت ، الطبعة الأولى ، عام 1415هـ ، الموافق 1994م .
 
إنضم
17 نوفمبر 2009
المشاركات
439
التخصص
باحث إسلامي
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
مستقل

وأخصُّ إفادتكم لي بكاتبين ، عَزَّ عليّ وجودُها ، وهما :

· مسالك الكشف عن المقاصد بين الشاطبي وابن عاشور ، لعبدالمجيد النجار .
· الاجتهاد : النص والواقع والمصلحة ، حوار بين : الدكتور أحمد الريسوني ، والأستاذ محمد جمال باروت .

هذا صحيح؛

(فالأول منهما) من الكتب القليلة - بل النادرة- في بابه؛ خاصة أن صاحبه له اهتمام بذات الموضوع من نهاية ثمانينيات القرن الميلادي المنصرم ..


(أما الثاني منهما)؛ فهو لأستاذي وشيخي الجليل د/ أحمد الريسوني؛ وفي الكتاب من النفائس ما فيه - على عادة الريسوني- .. من مثل : كلامه عن "أنواع الأحكام" .. وعبارته الشهيرة "المصلحة شريعة والشريعة مصلحة" مع شرح ماتع لها .. إلخ .. وقد استفدتُّ من هذا الكتاب - وأَحَلْتُ عليه- كثيراً في كتابي "في فقه الاجتهاد والتجديد" ..


وليُعلم أن الكتاب "حِوَارية" بينه وبين أ/ جمال باروت (وهو رجل علماني التوجه والفكر) ..
 
إنضم
17 نوفمبر 2009
المشاركات
439
التخصص
باحث إسلامي
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
مستقل

1- الواقع وفهمه والفقه فيه والعناية به : ذلك كله يعين على تصور صحيح للمسألة محل الاجتهاد, ومن ثم إصدار حكم مناسب لها .. إن إعمال (النصوص) في (الواقع المتنوع المتغير) لا يجري عن طريق (استدعاء دلالات النص) فقط, ولكنه يلزم له أيضاً, وعلى ذات الدرجة من الأهمية, أن يتم (توصيف الواقع بوصف يٌمَكن من إنزال حكم النص عليه) .. والعالِم - كما يقول الإمام ابن القيم- هو "من يتوصل بمعرفة الواقع والفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله.. كما توصل شاهد يوسف عليه السلام بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه".

2- ثم إن معرفة المحكوم فيه –كما يقول بحق أستاذنا العلامة د/ أحمد الريسوني- على حقيقته، ومعرفة ما يدخل فيه وما لا يدخل فيه: يقتضي المعرفة الجيدة بالواقع ومكوناته، وبالأشياء وأوصافها، وبالأفعال وأسبابها وآثارها, إذ من دون هذا يمكن أن يقع تنزيل الأحكام على غير ما وضعت له، أو على أكثر مما وضعت له، أو على أقل مما وضعت له، ويمكن أن يقع تعطيل الحكم مع وجود محله ومناطه.

إن الفقه الحق لابد أن يكون واقعياً؛ يعرف الواقع ولا يجهله، يلتفت إليه ولا يلتفت عنه، يُعمله ولا يهمله، يبني عليه ولا يبني في فراغ.

3- والواقع كالنهر الجاري؛ ماؤه الذي تراه اليوم غير مائه الذي رأيته بالأمس؛ ففي كل يوم، بل في كل لحظةٍ واقع جديد، يختلف كثيراً أو قليلاً عن سابقه .. ولا تعنينا –كما يقول أستاذنا الريسوني بحق- التغيرات الطفيفة والبطيئة, ولكن تعنينا التغيرات المؤثرة سواء جاءت بطيئة أو سريعة .. هذه التغيرات إذا أصابت أموراً هي مناط لبعض الأحكام فلابد أن تتغير تلك الأحكام التي تغيرت متعلقاتها .. فإذا ثبت أن الاعتبارات التي تغيرت كانت هي مناط الحكم، وعليها ولأجلها وضع الحكم، فلابد للفقيه أن يعيد النظر في ذلك الحكم موازناً بين ما تغير وما جدَّ, لتقرير الحكم الملائم للوضع الجديد وللحالة الجديدة، ذلك أن الحكم الذي وضعه الشرع، أو اجتهد فيه المجتهدون، لم يوضع للحالة الجديدة التي بين أيدينا.

ونلخص من هذا إلى أن الاجتهاد ينبغي أن يلحظ بعين الاعتبار الواقعَ المتغير دوماً؛ حتى يحقق مقاصد الشريعة.

4- إن ما ندعو إليه هو فهم الواقع, والتواصل الحقيقي مع الأمة وأحوالها, والوعي بما يجري فيها من توجهات وأعراف وميول ونوازع .. ثم محاولة فهم للواجب الذي سنقوم به حيال هذا الواقع من خلال أحكام الشريعة.


5- والخلاصة التي أرمي إليها من وراء ذلك كله : هي أن
"فقه أبعاد التكليف" قسيم "فقه النص" ومكمل له، فلا فقهَ لنصٍّ بلا فقهٍ لمحلهِ ..

فـ (فقه الواقع) هو: معرفة الواقع والخبرة بشئونه وأحواله على ما هي عليه .. وهو مصطلح وضع بجانب مصطلح (فقه الدين والتدين) ليكون مكملاً ومعيناً عليه, لا بديلاً عنه .. ولكن البعض يفهمه على أنه صنف جديد من الفقه يجب أن يحل محل الفقه القديم .. وفقه الواقع عند هؤلاء هو الفقه الذي (يخضع) للواقع, و(لا يصادمه), بل (يواكبه) بفتاوى (التسويغ والتأييد والقبول والترحيب) .. وهذا في الحقيقة ليس من الفقه, ولا من الاجتهاد, في شيء, وإنما هو –إن شئت الصراحة- (فقه نفي الشريعة) و(اجتهاد في إقصائها وإلغائها) .. ومن ثم, لا ينبغي, ولا يجوز, أن نلحق بالواقع وننخرط فيه كما تفعل السواقي والروافد في النهر العظيم المتدفق؛ تذوب فيه وتفنى, وتقويه وترفع من هديره, وربما تسهم في فيضانه وزيغانه .. وإنما الذي يجب علينا فعله هو أن نتفاعل ونتعارك, ونتحاور ونتدافع, مع الواقع, ليس فقط بنوع من الندية, بل بنوع من الاستعلاء؛ الاستعلاء المتواضع المحب للخير والنفع؛ إذ ضعف المسلمين لا ينبغي أن يحجب عنا قوة الإسلام

والله أعلى وأعلم

 
إنضم
17 نوفمبر 2009
المشاركات
439
التخصص
باحث إسلامي
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
مستقل
هذا عن الواقع وفقهه ومصطلحه ..

أما المقاصد والمصالح فلنا معهما وقفات :

الوقفة الأولى : في مصطلح المقاصد والمصالح

1- مصطلح (المقاصد) يتضمن ثلاث دلالات أساسية يفيدها فعل "قصد" في معناه المعجمي؛
إذ يتضمن معنى (الفائدة والمعقولية)؛ لأنه ضد (اللغو) .. كما يفيد معنى (العمد) الذي يضاده (السهو) .. ويحمل معنى (الحكمة) التي تنافي (اللهو والعبث).

وقد اجتهد العلامة الفيلسوف الدكتور طه عبد الرحمن اجتهاداً موفقاً للغاية في كشف هذه المعاني الثلاثة من مفهوم المقاصد، فانتهى إلى ما حاصله [1] :

أ‌- المعنى الأول يَستَعْمِل الفعل قصد بمعنى ضد الفعل "لغا" "يلغو". ولما كان اللغو هو الخلو من الفائدة أو صدق الدلالة فإن المقصد يكون على عكس ذلك "هو معقول الفائدة أو معقول الدلالة"، وهذا المضمون الدلالي يعود إلى الفصل الذي وضعه الشاطبي تحت عنوان "مقاصد وضع الشريعة للإفهام"، وقد ناقش فيه قضيتين أساسيتين حاول فيهما إثبات صفة العربية والأمية للشريعة الإسلامية.

ب‌- والمعنى الثاني يستعمل الفعل "قصد" أيضا بمعنى ضد فعل "سها" "يسهو". ولما كان السهو هو فقدان التوجه أو الوقوع في النسيان، فان المقصد يكون على خلاف ذلك، وهو حصول التوجه والخروج من النسيان. وهو ما تعكسه - عند الشاطبي في موافقاته- "مقاصد وضع الشريعة للامتثال" و"مقاصد المكلف".

ت‌- وفي المعنى الثالث يستعمل فعل "قصد" ضد الفعل "لها " "يلهو"، ولما كان اللهو هو خلو من الغرض الصحيح و فقدان الباعث المشروع، فإن المقصد يكون على العكس من ذلك، وهو حصول الغرض الصحيح وقيام الباعث المشروع .. وهو ما تناوله الشاطبي في فصل "مقاصد وضع الشريعة ابتداء.

2-
لقد ندبنا الله تعالى إلى التدبر في معاني كتابه .. وأمرنا أن نعتبر بما فيه من مواضع العبرة .. ثم أجرى سنته (أحكامه) التشريعية على وجه يمهد لنا الطريق فيها إلى ذلك الاعتبار؛ إذ وضع بجانب أكثر الأحكام عللها وغاياتها؛ لنتخذ منها أصولاً ومقاييس نرد إليها أشباهها ونظائرها، يستوي في ذلك أمره ونهيه وإذنه وتقريره للحقوق والواجبات، فنحن إذا سمعناه يقول: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم"، عرفنا أن من مقاصد الشرع تأليف القلوب في هذا الشأن وغيره، وإذا سمعناه يقول: "لا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة"، فهمنا أنه ينهى عن كل فحش زنا كان أو غيره .. والقرآن جلّه - بل كله؛ "كتاباً متشابهاً" كما قال تعالى- على هذا النمط.

إذاً، المقاصد أمر مركزي - بل هي الأمر المركزي الأول- في التشريع الإسلامي .. ولذلك فمراعاتها واجبة في الفتوى والقضاء والتعليم بل وفي كل شأن من شئون الأمة عاماً كان أو خاصاً .. ولذلك قال الإمام العز بن عبد السلام :
"قاعدة: كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل" [2] .. ولذلك أيضاً قال الشاطبي: "إن عمل المكلف إذا خالف قصد الشارع من التشريع يعتبر عمله باطلاً فلا يقبل ولا يثاب عليه" [3] .

3- إذاً يمكن تعريف المقاصد على النحو التالي:

المقاصد
«هي الأهداف والغايات التي شُرعت الأحكام لتحقيقها؛ وهذه الأهداف والغايات هي المصالح التي تعود على العباد - أفرادًا وأسرًا وجماعات وأمة- في دنياهم وأخراهم، وتحصيلها إنما يكون بجلب المنافع - ودفعُ المضار من جملته- » [4] .

والمصالح جمع مصلحة،
والمصلحة في عُرف الشارع - في تعريف جامع مانع لها- هي : "المحافظة على مقصود الشارع؛ ومقصود الشارع أن يحفظ على العباد دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم وعرضهم وأمنهم وحقوقاهم وحرياتهم، وأن يقيم العدل وينشر التكافل بينهم، وأن ييسر عليهم حياتهم، ويرفع الحرج عنهم، ويتمم لهم مكارم الأخلاق، وأن يهديهم إلى التي هي أقوم في الآداب والأعراف والنظم والمعاملات".

فالمصلحة إذاً هي المحافظة على مقاصد الشارع ولو خالفت مقاصد الناس؛ فإن الأخيرة عند مخالفتها للأولى ليست في الواقع مصالحاً، بل هي أهواء وشهوات زينتها النفوس، وألبستها العادات والتقاليد ثوب المصالح
[5] .

إذاً، وبناءً على ما جميع ما سبق، وباستقراء نصوص الشارع، يمكن القول بأن المقصد العام من التشريع - بل المقصد الأعلى للشريعة فيما أرى- هو
«إنشاء أمة ممثلة لمقتضيات الإيمان، قادرة على الحضور الذي يمكن من الشهادة ويقيم الحجة ويبعث على الاحترام ويغري بالاقتداء، أمة قادرة على عمارة الأرض وتسخير الكون لتكون الحياة على الأرض طيبة لا عسر فيها ولا ضنك، تحكمها الرحمة والتخفيف والسماحة، وتتوجه إلى البناء والعمران والتواصل والتعارف» [6] .


الوقفة الثانية : تجديد المقاصد لتنحية النصوص ! [7]

بعض الأدعياء والدخلاء على الشريعة ندبوا أنفسهم - تحت مسميات كثيرة- من أجل تنحية النص - القرآن والثابت من السنة- عن التطبيق، وحصر الدين في المسجد .. والهدف - في زعمهم- إعادة الاعتبار للإنسان في مواجهة الخالق - تعالى سبحانه عما يقولون- .. وذروة هذا الاتجاه يعبر عنه "محمد أركون" في كتابه المترجم بعنوان "تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، فهو يدعو إلى التجديد المقاصدي بهدف "تخفيف حدة النظرية الصارمة لأصول الفقه، وذلك باستبدال مفهوم جديد بها وهو مقاصد الشريعة".. لأن أصول الفقه - على حد تعبيره- ساهم في دعم الفكرة القائلة بأن الإنسان لا يحسم بنفسه أي شيء من الأشياء المتعلقة بوعي وسلوك الأفراد، وأن التاريخ الحاصل خارج الحدود المثبتة من قبل الله، يؤدي إلى انحطاط المجتمع الأولي الذي أسسه النبي.

وإلى مثل ذلك ينتهي "د/ حسن حنفي" في كتابه "من الواقع إلى النص"، فهو يعتبر الأدلة النقلية كلها ظنية، لا تتحول إلى يقين إلا بالدليل العقلي، وهذه القراءة - كما يقول "حسن حنفي" نفسه- تعني الإبقاء على الروح مع تغيير البدن، والمحافظة على القصد مع تطور الوحي، وهكذا تتعدد القراءات لعلم الأصول عامة وللمقاصد خاصة، ولا توجد قراءة صحيحة وأخرى خاطئة، بل هي اجتهادات متعددة تنبع من طبيعة موقف القارئ ووضعه الثقافي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي.


وما يقوله "حسن حنفي" يعني أنْ يوجد قارئ ويختفي المقروء، أن ْيحيا الواقع ويموت النص .. وهكذا يوجد عند هؤلاء "علمٌ للمقاصد" ليكون بديلاً لعلم أصول الفقه - لا مكملاً معيناً له- ، وليَحكُم السلوكَ البشري بعيدًا عن صيغة الأحكام الشرعية .. وهكذا يتم التحديث والتجديد - بزعمهم- بعيدًا عن القرآن والسنة؛ استبدالاً للعقل بالشريعة، وللواقع بالنص، وللإنسان بالله - كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً- .

والرأي عندي
أن الشريعة تصبح بذلك - أي بهذا الفهم الأعور- مجموعة من الأضداد والمتناقضات؛ إذ سيكون الفعل الواحد حلالاً أو حرامًا إن شئت، والرأي الواحد حقًّا أو باطلاً إن أردت، وبذلك تذهب منها وحدة الحق الذي لا يختلف، وتزول عنها هيمنة الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ إذ كيف يرتفع الخلاف بما فيه اختلاف ؟!

والفقيه الحق، والمقاصدي الحق، والمجدد الحق، هو من يقف بين لاآت ثلاثة؛ فهو :


1- "لا يستطيع" أن يحبس نظره على خصوص النصوص وصور الوقائع العينية، وإلا لبقيت الشريعة - بهذا المنهج غير السديد- ناقصة محتاجة إلى التكميل


2- "ولا يستطيع" أن يعتمد على المقاصد والكليات وحدها،
وإلا لخرج به ذلك إلى اللين الذي لا عزيمة فيه، والسعة التي لا حدود لها، حتى تصبح الشريعة بهذا المهج غير السديد- (وضعًا عقليًّا) لا (هديًا إلهيًّا)؛ ولأبطلنا إرسال الرسل وإنزال الكتب؛ بل لِمَ الحاجة إذن إلى الاعتقاد بوجود إله !

3- و"لا يستطيع" أن يأخذ بأي من هذين النظرين السابقين شاء (أي بلا ربط بينهما)،
وإلا لتناقضت الأنظار وكانت الفوضى والاضطراب في التشريع .. وكيف يجرؤ مسلم - صح إسلامه- على أن يهدر أحد جانبي الشريعة - النصوص ومقاصد تلك النصوص- وهي كل ما يتجزأ؟ .. إذن لم يبقَ أمام طالب الهدي الإسلامي إلا أن يلتمس جادة يلتقي عندها هذان الجانبان.

وهذه الجادة هي (مقاصد الشريعة الجامعة بين الأصول الكلية والنصوص الجزئية)
؛ إذ الشريعة ما وَضعت الخصوص إلى جانب العموم، والنصوص إلى جانب المقاصد، إلا ليحتكم المسلم إليهما، ويلتمس الهدي فيهما، ويستخرج الحق من بينهما في كل مسألة، فلا غنى له عند النظر في القواعد والمقاصد، عن الاسترشاد بنماذجها من الجزئيات القولية والفعلية، لكيلا يذهب التأويل إلى ساحة الهوى والضلال البعيد .. ولا مناص له كذلك عند النظر في النصوص والوقائع الجزئية من الاستئناس بأسبابها وظروفها وغاياتها -إن كانت معللة؛ والشريعة كلها تقبل التعليل والتقصيد- لينزلها منازلها ويضع كل حكم في الموضع الذي يناسبه، وليعتبر بها في أمثالها من المسائل المتجددة، وأن يمتنع عن تطبيقها حرفيًّا إذا اختلفت طبيعة الحوادث وتغير مناط الحكم فيها، وإلا لرجعت به المحافظة على ظواهر النصوص أحيانًا إلى حد الإخلال بمقاصد التشريع، وإيقاع الحرج في الدين وقد نفاه الله عنه.

إذن لا بد من الجمع بين هذين الطرفين على وجه تتحقق به تلك "المرونة" التشريعية التي هي خاصة الدين الإسلامي
.. وهي لا تعني معنى التساهل وقبول الامتداد مطلقًا، ولكنها - أي "المرونة"- تؤدي في اللغة معنى مركبًا من معنيين، هما اللين والصلابة معًا، وهذا هو المعنى الذي نقصد إليه، وهو الذي ينطبق تمام الانطباق على الشريعة الإسلامية؛ فهي قابلة للامتداد في الفهم والعمل إلى الحد الذي لو جاوّزه المرء وأوغل فيه بغير رفق اشتدت عليه وغلبته وأفلت حبلها من يده وتركته بمكان قصيّ عنها، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يسر" ويقول: "إن هذا الدين متين"، فذلك الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط هو الصراط المستقيم، وهو السنة - أعني المنهج- الذي كان عليه رسولنا الأكرم الكريم صلى الله عليه وسلم.

والأمانة - التي هي خطاب التكليف- لا تتجسد واقعًا إلا في حدود "الوسع" .. وفكرة "الوسع" تجعل "خطاب التكليف" متعدد التطبيقات ومتجدد التلقي، وتجعل "قواعد فقه التنزيل" مغايرة لـ "قواعد فقه الخطاب"؛ لأن "التنزيل" يتقدمه الوعي بالتاريخ - ماضيه وحاضره- ، و"الخطاب" هو بطبيعته يتجاوز الزمان والمكان .. وهنا يمكن - بل يجب- القول بأن "الواقع التنزيلي" لا يتجرد من "الخطاب" و"لا يمكنه أن يتفلت منه"، أي "لا يمكنه تعطيل النص".

نعم، (مقاصد الشريعة وكلياتها) "تغني" عن "حفظ التفاصيل والجزئيات" - وهي فوق ذلك ومعه بمنزلة "القطب من الرحى"، و"الأساس من المبني"؛ فهي "منشأ التفاريع"، و"إليها انصراف الجميع" (أقصد جميع التشريعات)- ، ولكنها "لا تستغني" - بأي حال من الأحوال- عن التفاصيل والجزئيات في بناء عناصرها، ولا في "تنزيل" أوامر النص ونواهيه، وإلا فمن أين أتينا بهذه المقاصد وتلك الكليات ؟!


إن فقه المقاصد منهج علمي استقرائي تحليلي استنباطي ؛


أ‌- ينطلق من فلسفة هدتنا إليها نصوص الشرع؛ وهي أن جميع ما وردت به الشريعة الغراء معقول المعنى، وذو حكمة بالغة، سواء عقل المجتهدون كلهم تلك الحكمة، أو عقلها بعضهم وغفل عنها آخرون .. فكل حكم ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو مشتمل على حكمة معقولة المعنى، ظاهرة أو كامنة،
تظهر بمزيد تدبر للنص، أو بسير في الارض، أو بنظر في الوقائع.

ب‌- ويتغيا الربط بين الأحكام الجزئية؛ ليستخلص منها ويصوغ قانوناً عاماً دلت عليه تلك الأحكام .. ومن ثم يصبح هذا القانون الكلي مقصداً من مقاصد الشريعة، فيتحول إلى حاكم على الجزئيات قاضٍ عليها
(بمعنى وجوب أن تُفهَم تلك الجزئيات في ضوئه وعلى هدي منه .. واستحالة أن يأتي نص، أو أن يُفهَم، بما يناقضه أو يتناقض معه) بعد أن كان يستمد وجوده منها .. فهو يشبه من هذا الجانب - كما عبر د/ طه العلواني في بعض ما كتب- القانون العلمي التجريبي الذي يستخلصه الباحث من استقراء الجزئيات، ثم يحكم به ـ فيما بعد ـ على كل مشابه لها - سواء شمله الاستقراء العلمي التجريبي أو لم يشمله، أو اكتُشف بعده، أو جَدَّ حدوثه مع تطور العلوم والمعارف - .

إن "مرونة النص" (أقصد القرآن والسنة) إنما تكون بأبعاده المقاصدية - المشار إليها آنفاً-
التي تفتح الفضاء الواسع أمام "العقل الفقهي" للتجديد بغير "تقييد لحركة العقل" أو "تبديد لثروة النصوص" .. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

******************

[1] انظر: تجديد المنهج في تقويم التراث، العلامة د/طه عبد الرحمن، ص 98، ط1، 1991م، المركز الثقافي العربي - بيروت

[2] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبد السلام، 2/ 143، 1986م، ط الكليات الأزهرية

[3] الموافقات، الشاطبي، 2 / 333 وما بعدها، دار الكتب العلمية - بيروت

[4] قارن بـ : المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، الدكتور يوسف حامد العالم (رحمه الله)، ص 79، ط 2، 1994م، الرياض، الدار العالمية للكتاب الإسلامي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي

[5] انظر: المستصفى، أبو حامد الغزالي، 2/478-485، تحقيق د. حمزة زهير حافظ . والسياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د/ يوسف القرضاوي، ص92، ط 1، 1998م، مكتبة وهبة

[6] حوار في المقاصد - تعريفات، رياض أدهمي، مجلة الرشاد، العدد (3)، صيف 1996م

[7] نحو قراءة مقاصدية أصولية، د/ محمد كمال إمام، مقال منشور على موقع إسلام أون لاين. والميزان بين السنة والبدعة، العلامة الإمام د/ محمد عبد الله دراز، ط دار القلم - القاهرة

 
إنضم
3 يوليو 2010
المشاركات
53
الكنية
أبو عمر
التخصص
أصول الفقه
المدينة
الطائف
المذهب الفقهي
المذهب الحنبلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الرسول الأمين . وبعد
الأستاذ القدير : الشيخ يحيى رضا جاد
ما تفضلتم بذكره قرأته منذ قليل ، ولكني ما زلت في مهلة النظر ، أرجو التكرم بإمهالي : للنظر في جميع مشاركاتك ، وفي مشاركات المشايخ الفضلاء ، وللقراءة في الكتابين الآنفين في الذكر .
 
إنضم
17 نوفمبر 2009
المشاركات
439
التخصص
باحث إسلامي
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
مستقل

الأخ الفاضل الخلوق/ فيصل ..

الوقت وقتك .. والموضوع موضوعك .. وإنما نطرح - أنا وغيري- بعض ما عندنا أمامكم؛ كي تتأمل فيه وتنظر في مجموعه .. ثم نتدارس ونتذاكر حوله بعدُ .. خذ وقتك كما شئتَ .. أعانك الله وسدد خطاك .. وإنما حفزني على التفاعل معكم جودةُ مشاركاتكم

أخوك
يحيى
 
إنضم
17 نوفمبر 2009
المشاركات
439
التخصص
باحث إسلامي
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
مستقل
· مسالك الكشف عن المقاصد بين الشاطبي وابن عاشور ، لعبدالمجيد النجار .

وهناك كتاب آخر جديد وجليل - ولا أعلم أحداً قد التفت إليه لأسف- للدكتور عبد المجيد النجار .. فيه طرح تثويري جديد .. بعنوان "مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة" ط دار الغرب الإسلامي.
 
إنضم
2 يوليو 2008
المشاركات
2,237
الكنية
أبو حازم الكاتب
التخصص
أصول فقه
المدينة
القصيم
المذهب الفقهي
حنبلي
الشيخ الكريم الدكتور فيصل هذا هو بحث :
مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة بين الشاطبي و ابن عاشور .
كنت قد رفعته قبل ذلك لكن لا أدري هل لا زال الرابط يعمل أو لا لكن أعيد رفعه للفائدة .
 

المرفقات

  • مسالك الكشف عن المقاصد.pdf
    1.4 MB · المشاهدات: 0
التعديل الأخير:
إنضم
3 يوليو 2010
المشاركات
53
الكنية
أبو عمر
التخصص
أصول الفقه
المدينة
الطائف
المذهب الفقهي
المذهب الحنبلي
رد: الواقعية ، والمعيارية ، في ضوء مقولة :"المقاصد" دعوة إلى اكتشاف العلاقة بينهما

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الأعلى الأجل ، كلما التقى الأحبة ، والصلاة والسلام على حبيب الأحبة : محمد بن عبد الله ، النبي المصطفى ، وعلى آله وصحبه الأحبة .
الأساتذة الفضلاء ، والمشايخ العلماء، والقراء الأجلاء
سلام الله تعالى على أهل العلم والفضل ، ورحمته ، وبركانه . وبعد :
لا يزال – في نظري – احتياج الدَرْسِ لفهم العلاقة بين : الواقعية ، والمعيارية - في ضوء مقولة :"المقاصد" ؛ غير أني آثرتُ التنحي عن طَرْقِها ، والبون عن إشْكاليتها – ابتداءً ، ولا مانع لديَّ من التواصل بشأنها- تفاعلاً .
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام
 
أعلى