د. فيصل بن عامر بن حسين الذويبي
:: متخصص ::
- إنضم
- 3 يوليو 2010
- المشاركات
- 53
- الكنية
- أبو عمر
- التخصص
- أصول الفقه
- المدينة
- الطائف
- المذهب الفقهي
- المذهب الحنبلي
الواقعية ، والمعيارية ، في ضوء مقولة :"المقاصد"
دعوة إلى اكتشاف العلاقة بينهما .
دعوة إلى اكتشاف العلاقة بينهما .
ازدحم الدرْس الإسلامي بِكَمٍ هائلٍ من الإنتاج المقاصدي ، استوعب المراكز العلمية على جغرافيا المسلمين الممتدة : من ماليزيا في جنوب شرق آسيا ، إلى المملكة المغربية في أطراف الشمال الإفريقي ، وكان هناك التحام ظاهري بين فكرتي : المقاصد ، والتجديد ([1])، لدى تيار ، ولدى تيارٍ آخر كان الالتحام الظاهري بين فكرتي : المقاصد ، والحداثة . تباينت الاستخدامات ، والفكرة واحدة ، هي : المقاصد ، وعدم اسْتِجْرار القديم بكل سلبياته .
كان الدافع لهذا الدرْس بهذا الكم الهائل من الإنتاج المقاصدي هو : أن العصر الحديث امْتَلأ ، بل ازدحم بمستجداتٍ كثيرة ، ومتنوعة ، ومتلاحقة ، بل ومتسارعة ، في مختلف شؤون الحياة ، وأنماطها المتنوعة ، فلم تعد النظم والقوانين تفي بمتطلبات ذلك : إنِ اقْتُصِر على حرفيتها ، والظاهر من ألفاظها ؛ ولذلك كان التنادي من أهل القانون بالكشف عن قصد المشرع ، وغايته ، وإرادته ، فكان ما يُسمَّى بتفسير النصوص بما لا يبتعد عن غاياتها النهائية ، فالدستور - عندهم - وثيقة ، نابضة بالحياة ، لا تصد عن التطور ، فنسيجها متناغماً مع روح العصر ([2]).
وأما الشريعة الإسلامية فهي معتمِدة على نصوص تشريعية ، في القرآن والسنة ، وهي متناهية ، والوقائع غير متناهية ، وما هو متناهي – إنِ اقْتُصِر على الحرفية والظاهرية – لا يفي بما لا يتناهى ، فكانت الحاجة لإيجاد العلل واستخدام المقاييس ، ثم مع تباعد الزمان عن زمان النبوة اشتدت الحاجة إلى ما يُسمَّى بالمصالح المرسلة ، ثم تباعد الزمان أكثر ، وكَثُرَت المستجدات ، وتشابكتْ في الحياة ، وازدحمت المصالح مع المفاسد ، وحصل التعارض فيها ، وكَثُرَت الاختلافات الفقهية ، فظهرت الحاجة إلى ما يُسمَّى بمقاصد الشريعة العامة ، حتى إن الطاهر بن عاشور ، العالم ، التونسي الأصل([3]) – أراد بتأليفه لكتابه :"مقاصد الشريعة الإسلامية" : أن تكون تلك المقاصد نبراساً للمتفقهين في الدين ، ومرجِعاً بينهم عند اختلاف الأنظار ، وتبدل الأعصار ، وتوسُّلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار ، ودُرْبةً لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض ، عند تطاير شَرَرِ الخلاف ؛ حتى يَسْتَتِبَّ بذلك ما أراد من نبذ التعصب ، والفَيْئة إلى الحق ([4]). وأراد أن يستنبط مقاصد شرعية قطعية ؛ لكي يَقْطَع القطعيُّ الخلاف ، فهو يرى أن سبب كثرة الخلاف الاستناد إلى الظنيات ، التي تختلف فيها الأفهام ([5]).
غير أن عناية الفقهاء بمقاصد نصوصهم التشريعية : بتأصيلها ، والبناء عليها - أكثر بكثير مما هو عند أهل القانون ؛ وذلك لأن الداعي الذي قام عند فقهاء الشريعة لم يقم عند أهل القانون ، وبيان ذلك : أن التشريع الوضعي قابلٌ للتعديل ، والتغيير بما يزعم مُشَرِّعوه : أنه يحقق مصالح الجماعة والأفراد ، فهو تشريع قابل للتغيير والتعديل باستمرار ، فليس بحاجة ماسة إلى نظرة مقاصدية ، مجالها في التعليل من أجل القياس ، وفي تفسير النصوص ، فمثل هذه النظرة ضرورية في التشريع الثابت ، الغير قابل للزيادة أو النقصان ، وهو تشريع القرآن والسنة([6])، وهذا لا يعني عدم حاجة أهل القانون لمقاصد تشريعهم ، وإلا لم يكن ما يُسَمَّى بروح القانون ، الذي يحكُم تفسير النصوص ، ثم إن الرجوع لروح القانون يَضْطَرُّ إليه مَن تكون السوابق القضائية في عُرْف بلده تشريعاً ، لا يُنْقَض .
ويمكن أن يُراد بالمقاصد في الشريعة والقانون : الحِكَم والغايات المصلحية من التشريع ، التي هي الإرادة التشريعية ([7]).
وعند جَعْل مقولة :"المقاصد" في مَحَكِّ التطبيق نجد أنها موطنٌ احتدم فيه الصراع من قبل التيارات : المحافظة ، التي قد توصَف بالظاهرية ، والمنفتحة ، التي قد توصَف باتباع الرأي . الأول يُشَدِّد في اتباع النص ، ويُظْهِر قدسيته ، ويَتَّهم الآخَر بزعزعة الثوابت باسم المقاصد ، وأنه يريد أن يجعلها متغيرة ، حتى في المقدَّرات والحدود ، والثاني يُشَدِّد في اتباع المعاني ، ويَفْهَم النصوصَ بها ، ويَتَّهم الآخر بجعل المتغيرات ثوابت ، حتى في الأمور العرفية المصلحية ، التي تتغير بتغير الزمان والمكان والشخص والحال .
وهناك تيار لا ينطلق من أرضية التسليم للنص ([8])، وإنما من الواقع الذي يَفْهَمُه العقل ، فهو يرى أن المقاصد لم تحقق الهدف منها ، وهو : الإقلال من الخلاف ، وكونها قواطع يُحْتَكم إليها ؛ إذ الخلاف – في نظره – لم يَنْحِسم ، بل ولا انْحَسَر ، فقد استمر ، وازداد ، واشتد ، وانتقل الخلاف من الفروع إلى الخلاف في مقولة المقاصد : في تكوينها ، وفي الاستدلال بها ، فما ظُنَّ أنه به يَحْسِم الخلاف إذا به سببٌ للخلاف ، وما ظُنَّ أنه قواطع يُحْتَكم إليها إذا بها ظنون ، توقع في النسبية ؛ ويذكر أن السبب في الوقوع مما أُريد الإفلات منه هو : أن العقلَ الفقهي – سواء عند المحافظين ، أو المنفتحين – معقولٌ ، أي : أنه داخل قفص النصوص ، عاجز عن الانطلاق ، وكَسْر قيود التقليد ، وأنه بذلك لا يقوى عن مجاراة الحياة الحاضرة ، ولا يستوعبها ؛ لأنه أنكر الحياة ، فأنكرته ، فانْفَصَمَتْ صلتها بالعقل الفقهي ، فلا يمكنها أن تأنس إلا بعقل يكون من طينتها ، وهو العقل النقدي الحر ، فهو سليلها بلا نزاع ، هكذا يزعم هذا التيار .
وهذا التيار – الذي ينطلق من الواقع في تكوين مبادئه – يَدْرُس النصوصَ بالسياق التاريخي ، فيُفَسِّرها بمنهج :"تفكيك النص" : مقدساً كان ، أو غير مقدس ؛ لتنتهي بذلك سلطة النص([9]).
إن الجدل في مقولة :"المقاصد" دائرٌ بين الصفة الواقعية والصفة المعيارية ، فالغاية من التشريع : معاني وحِكَم مصلحية ، تعود بالنفع على البشرية ، وهذه المنافع مبثوثة في واقع الوجود ، في هذه الدنيا ، فيرى البعض أن الفِكْر يحتكِم للنص ، فهو معيارٌ لتقويمه وتصحيحه ، يرفع الواقعَ إليه . وآخر يرى أن المقاصد لها الصفة المعيارية ، فلا يجمد على ظاهر النص ، لكنه لا يزال في دائرة تقديس النص . وآخر يرى أن الواقع هو المعيار ، ينظر إلى النص بمنظارٍ تاريخي ، وبمنهجٍ تفكيكي ، فلا النص معيارٌ ، ولا مقاصده معيارٌ ، غير أن جَعْل المقاصد معيارٌ ، وهي المنافع في واقع الوجود – يَرْتَدُّ إلى نوعٍ من كون الواقع هو المعيار ؛ ولذلك مَن لا يعتبر المقاصد معياراً يقع في التناقض ؛ لكون المقاصد منافعاً في الواقع . كأن الأمر يدور في حلَقة : واقعية ...معيارية ...واقعية ... وهكذا دواليك .
يزداد الأمر إشْكالاً عند تراجع السلطتين : السياسية والعلمية ، أو عند شغور الزمان منهما([10]) ؛ إذ تكون المقاصد حينئذٍ هي المنقِذ([11])، فالإحالة على أمور كلية مقاصدية أولى من التخَبُّط في الجهالات ، والمقاصد هي منافع في الواقع ، وقد اعْتُبِرَتْ معياراً ، فارْتَدُّ الأمر إلى نوعٍ من كون الواقع هو المعيار ، ورجعنا إلى الدوران في الحلَقة ...
وحينئذٍ تبرز الحاجة الملحة إلى اكتشاف العلاقة بين الصفتين : الواقعية ، والمعيارية في ضوء مقولة :"المقاصد" ، وأطْرَح ذلك على طاولة البحث والدراسة ، حاثَّاً المفكرين على اكتشاف هذه العلاقة ، وما كان هذا المقال إلا دعوة للبحث في اكتشاف هذه العلاقة .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه : المحاضر فيصل بن عامر الذويبي
([1])انظر : مدخل أصولي للمقاصد الشرعية ، لمحمد كمال الدين إمام : 12 ، ضمن دورة متخصصة عن :"المقاصد وقضايا العصر" ، في كلية الحقوق بجامعة الاسكندرية ، بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث القانونية والاقتصادية هناك ، لشهر ذي القعدة ، وذي الحجة ، لعام 1427هـ ، الموافق نوفمبر ، وديسمبر ، لعام 2006م ، ومطبوع ضمن كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية ، الناشر : مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي – مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية ، بلندن ، الطبعة الأولى ، عام 2007م .
([2])انظر : فكرة المقاصد في التشريع الوضعي ، لمحمد سليم العوا : 267 ، ضمن نفس الدورة الآنفة الذكر ، ومطبوع ضمن الكتاب الآنف الذكر .
([3])هو :محمد الطاهر بن الشيخ محمد ، وعاشور من أجداده ، علامة الفقه ، وأصوله ، والتفسير ، وعلومه ، تولى منصب كبير أهل الشورى ، وكان قاضياً مالكياً ، وعميداً للجامعة الزيتونية ، وعضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق ، ومشاركاً ببحوثه في مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، توفي عام 1973م ، له : تفسير التحرير والتنوير ، وأصول النظام الاجتماعي ، وحاشية التوضيح في أصول الفقه ، والفتاوى .
انظر : محمد الطاهر بن عاشور ، لإياد خالد الطباع ، طبع : دار القلم بدمشق ، الطبعة الأولى ، عام 1426هـ ، الموافق 2005م .
([4])انظر - في سبب تأليف الطاهر بن عاشور لكتابه :"مقاصد الشريعة الإسلامية"- ما ذكره في مقدمة كتابه : 165 ، طبع : دار النفائس بالأردن ، الطبعة الثانية ، عام 1421هـ ، الموافق 2001م .
([5])انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية ، للطاهر بن عاشور : 168-174.
([6])انظر : فكرة المقاصد في التشريع الوضعي ، لمحمد سليم العوا : 270-272.
([7])عَرَّف الطاهر بن عاشور مقاصد الشريعة العامة بأنها : المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع ، أو معظمها ، بحيث لا يختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة .
وعَرَّف علال الفاسي مقاصد الشريعة بأنها : الغاية منها – أي : من الشريعة – والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها .
انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية ، للطاهر بن عاشور : 249 ، ومقاصد الشريعة ومكارمها ، لعلال الفاسي : 7 ، طبع : دار الغرب الإسلامي بيروت ، الطبعة الخامسة ، عام 1993م .
([8])انظر – في أدبيات هذا التيار تجاه مقاصد الشريعة - : مقاصد الشريعة ، التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد ، وقصور الاجتهاد ، لنور الدين بوثوري : 101، 111 ، طبع : دار الطليعة ببيروت ، الطبعة الأولى ، عام 2000م .
([9])انظر – في أدبيات هذا التيار تجاه موضوع الدلالة من النصوص - : مدخل مقاصدي للاجتهاد ، لجاسر عودة :50، ضمن دورة متخصصة عن :"المقاصد وقضايا العصر" ، في كلية الحقوق بجامعة الاسكندرية ، بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث القانونية والاقتصادية هناك ، لشهر ذي القعدة ، وذي الحجة ، لعام 1427هـ ، الموافق نوفمبر ، وديسمبر ، لعام 2006م ، ومطبوع ضمن كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية ، الناشر : مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي – مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية ، بلندن ، الطبعة الأولى ، عام 2007م .
([10])كتب إمام الحرمين أبي المعالي الجويني في المخرَج عند شغور الزمان من الإمام ، ومن المجتهدين ، أو من نقلة المذاهب – كتاباً ، بعنوان : غياث الأمم في التياث الظلم ، المسمَّى بالغياثي ، طبع : مؤسسة الريان ببيروت ، الطبعة الأولى ، عام 1428هـ ، الموافق 2007م .
([11])انظر – في ارتباط مفهوم المقاصد بالمُشْكِل الاجتماعي والسياسي - : الفكر الأصولي وإشْكالية السلطة العلمية في الإسلام ، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة ، لعبد المجيد الصغير : 434، توزيع : المؤسسة الجامعية للدراسات ببيروت ، الطبعة الأولى ، عام 1415هـ ، الموافق 1994م .