العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

طرق تنصيب الحاكم

رابح العربي صرموم

بانتظار تفعيل البريد الإلكتروني
إنضم
13 سبتمبر 2009
المشاركات
53
التخصص
أصول الفقه
المدينة
ثنية الحد
المذهب الفقهي
مالكي
الحمد لله وبعد:فهذه درر من مقالات فضيلة شيخنا أبي عبد المعز محمد علي فركوس الجزائري في طرق تنصيب الحاكم و ثبوت الولاية له على منهج أهل السنة و الجماعة:
في طـرق تنصيب إمـام المسـلمين
وتقرير وجوب الطاعة وبذل النصيحة
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فلا يخفى أنّ إمامة المسلمين أمانةٌ عظمى ومسئوليّةٌ كبرى، لا قيام للدّين إلاّ بها، ولا تنتظم مصالح الأمّة إلاّ بسلطانٍ مطاعٍ، ولا يستطيع القيام بها إلاّ من كان على درجةٍ من التّأهيل تمكّنه من حملها، فمن قام بهذه المسئوليّة -في حدود القدرة والطّاقة- على خير وجهٍ، وأدى هذه الأمانة بصدقٍ وإخلاصٍ كان في عِدَادِ من يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه(١).
وسياسة النّاس وَفْق شرعِ الله تعالى من أعظم واجبات إمام المسلمين، وهو مطلبٌ جوهريٌّ أساسيٌّ، لا تتحقّق متطلَّبات الرّعية وما تنشده من حفظ الدّين وإقامة العدل وإزالة الظّلم إلاّ تبعًا لتحقيق ذاك المطلب العزيز، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [النور: 41]، وصلاحُ الرّعيّة وفسادُها متوقِّفٌ على أولي الأمر، قال ابن تيميّة -رحمه الله-: «وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه؛ وهم الذين يأمرون النّاس؛ وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلَحوا صلَح النّاس، وإذا فسَدوا فسَد النّاس»(٢).
هذا، وإنّ من أعظم الأدلّة على وجوب نصبِ الإمام الأعظم وبذلِ البيعة له قولَه صلّى الله عليه وآله وسلّم: «وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَامُ جَمَاعَةٍ فَإِنَّ مَوْتَتَهُ مَوْتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ»(٣)، وقولَه: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(٤)، «وذلك أنّ أهل الجاهلية لم يكن لهم إمامٌ يجمعهم على دينٍ ويتألّفهم على رأيٍ واحدٍ، بل كانوا طوائفَ شتّى وفرقًا مختلفين، آراؤهم متناقضةٌ وأديانهم متباينةٌ، وذلك الذي دعا كثيرًا منهم إلى عبادة الأصنام وطاعة الأزلام»(٥)، ولأنّ المقصود من نصب الإمام الأعظم هو اجتماعُ الكلمة ولمُّ الشّمل، وإقامةُ الدّين وتنفيذُ أحكام الله تعالى، ورفعُ الظّلم ونشرُ العدل، وصيانة الأعراض واستتبابُ الأمن، وفضُّ المنازعات، والأخذُ على يد الظّالم وإنصافُ المظلوم، وجهادُ أعداء الإسلام، وحمايةُ حوزة البلاد وحفظُ بيضة المسلمين، وقمعُ الشّرّ والفساد، وأخذُ الحقوق الواجبة على ما اقتضاه الشّرع، ووضعُها في مواضعها الشّرعيّة، قال الجوينيّ -رحمه الله-: «ولا يرتاب من معه مَسْكةٌ من عقلٍ أنّ الذّبّ عن الحوزة، والنّضالَ دون حفظِ البيضة محتومٌ شرعًا، ولو تُرك النّاس فوضى لا يجمعهم على الحقّ جامعٌ، ولا يَزَعُهم وازعٌ، ولا يردعهم عن اتّباع خطوات الشّيطان رادعٌ، مع تفنُّن الآراء وتفرُّق الأهواء؛ لانتثر النّظام، وهلك العظام، وتوثّبت الطَّغام(٦) والعوامّ، وتحزّبت الآراء المتناقضة، وتفرّقت الإرادات المتعارضة، وملك الأرذلون سراةَ النّاس، وفُضّت المجامع، واتّسع الخرقُ على الرّاقع، وفَشَتِ الخصوماتُ، واستحوذ على أهل الدّين ذوو العرامات(٧)، وتبدّدت الجماعات، ولا حاجةَ إلى الإطناب بعد حصول البيان، وما يَزَعُ الله بالسّلطان أكثرُ مما يَزَعُ بالقرآن»(٨)، لذلك كانت الإمامةُ موضوعةً لخلافة النّبوّة في حفظ الدّين وسياسة الدّنيا، قال ابن خلدون -رحمه الله-: «إنّ نصْبَ الإمام واجبٌ قد عُرف وجوبه في الشّرع بإجماع الصّحابة والتّابعين، لأنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكرٍ رضي الله عنه وتسليمِ النّظر إليه في أمورهم، وكذا في كلّ عصرٍ من بعد ذلك، ولم تُترك النّاسُ فوضى في عصرٍ من الأعصار، واستقرّ ذلك إجماعا دالاًّ على وجوب نصب الإمام»(٩).
هذا، وانعقاد الإمامة الكبرى يتمّ بإحدى الطّرق التّالية:
• الطّريق الأوّل: الاختيار والبيعة من أهل الحلّ والعقد
أهل الحلّ والعقد من قادة الأمّة الذين يتمتّعون بالعلم والرّأي والمشورة والتّوجيه مخوَّلٌ لهم اختيار إمام المسلمين -نيابةً عن الأُمَّة- وَفْق شروطِ ومعاييرِ الإمامة الكبرى، فإذا ما بايعه أهل الحلّ والعقد ثبتت له بذلك ولاية الإمام الأعظم، ولزمت طاعتُه، وحَرُمت مخالفتُه فيما يأمر به وينهى بالمعروف، وليس من شروط ثبوت الإمامة والطّاعة أن يكون كلُّ مسلم من جملة المبايعين له، وإنّما تلزم بيعةُ أهل الحلّ والعقد كلَّ واحدٍ ممّن تَنْفُذُ فيه أوامره ونواهيه، لأنّ المسلمين أمّةٌ واحدةٌ وجسدٌ واحدٌ، تجمعهم الأخوّة الإيمانية وتربطهم العقيدة الإسلاميّة، وهم في الحقوق والحرمات سواءٌ؛ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ»(١٠)، قال الشّوكانيّ -رحمه الله-: «طريقها أن يجتمع جماعةٌ من أهل الحلّ والعقد فيعقدون له البيعة ويقبل ذلك، سواء تقدّم منه الطّلب لذلك أم لا، لكنّه إذا تقدّم منه الطّلب فقد وقع النّهي الثّابت عنه صلّى الله عليه وسلّم عن طلب الإمارة(١١)، فإذا بويع بعد هذا الطّلب انعقدت ولايتُه وإن أَثِمَ بالطّلب، هكذا ينبغي أن يقال على مقتضى ما تدلّ عليه السّنّة المطهّرة، ... والحاصل أنّ المعتبر هو وقوع البيعة له من أهل الحلّ والعقد، فإنّها هي الأمر الذي يجب بعده الطّاعةُ ويَثْبُتُ به الولاية وتحرم معه المخالفة، وقد قامت على ذلك الأدلّة وثبتت به الحجّة ... قد أغنى الله عن هذا النّهوض وتجشُّم السّفر وقطع المفاوز ببيعة من بايع الإمامَ من أهل الحلّ والعقد، فإنّها قد ثبتت إمامته بذلك ووجبت على المسلمين طاعتُه، وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كلّ من يصلح للمبايعة، ولا من شرط الطّاعة على الرّجل أن يكون من جملة المبايعين، فإنّ هذا الاشتراط في الأمرين مردودٌ بإجماع المسلمين: أوّلهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم»(١٢).
وبهذا الطّريق تمّت مبايعة أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، فثبتت خلافته بالبيعة والاختيار(١٣) في سقيفة بني ساعدة، قال القرطبيّ -رحمه الله-: «وأجمعت الصّحابة على تقديم الصّدّيق بعد اختلافٍ وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التّعيين»(١٤).
• الطّريق الثّاني: ثبوت البيعة بتعيين وليّ العهد
وذلك بأن يعهد وليّ الأمر إلى من يراه أقدر على مهمّة حماية الدّين وسياسة الدّنيا، فيخلفه مِن بعدِه، فإنّ بيعته على الإمامة تلزم بعهدِ مَن قبله، كمثل ما وقع مِن عهدِ أبي بكرٍ رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه، فإنّ الصّدّيق رضي الله عنه لمّا حضرتْه الوفاة عَهِد إلى عمر رضي الله عنه في الإمامة، ولم ينكر ذلك الصّحابة رضي الله عنهم، وقد اتّفقت الأمّة على انعقاد الإمامة بولاية العهد، وقد عَهِدَ معاوية رضي الله عنه إلى ابنه يزيد وغيرهم، ويدلّ عليه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى الرّاية يوم مؤتة زيد بن حارثة وقال: «فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ»(١٥)، فاستُشهدوا جميعًا، ثمّ أخذها خالد بن الوليد ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقدّم إليه في ذلك، والحديث دلّ على وجوب نصب الإمام والاستخلاف، قال الخطّابيّ: «فالاستخلاف سنّةٌ اتّفق عليها الملأ من الصّحابة، وهو اتّفاق الأمّة لم يخالف فيه إلاّ الخوارج والمارقة الذين شقّوا العصا وخلعوا ربقة الطّاعة»(١٦).
• الطّريق الثّالث: ثبوت البيعة بتعيين جماعة تختار وليّ العهد
وذلك بأن يعهد وليّ الأمر الأوّل إلى جماعةٍ معدودةٍ تتوفّر فيها شروط الإمامة العظمى، لتقوم باختيار وليّ العهد المناسب فيما بينهم يتوالَوْن عليه ويبايعونه، كمثل ما فعل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، حيث عَهِدَ إلى نفرٍ من أهل الشّورى لاختيار واحد منهم، قال الخطّابيّ -رحمه الله-: «ثمّ إنّ عمر لم يُهملِ الأمر ولم يُبطلِ الاستخلاف، ولكنْ جعله شورى في قومٍ معدودين لا يعدوهم، فكلّ من أقام بها كان رضًا ولها أهلاً، فاختاروا عثمان وعقدوا له البيعة»(١٧)، ثمّ لمّا استُشهد عثمان رضي الله عنه بايعوا عليًّا رضي الله عنه.
• الطّريق الرّابع: ثبوت البيعة بالقوّة والغلبة والقهر
إذا غلب على النّاس حاكمٌ بالقوّة والسّيف حتّى أذعنوا له واستقرّ له الأمر في الحكم وتمّ له التّمكين، صار المتغلّبُ إمامًا للمسلمين وإن لم يستجمع شروط الإمامة، وأحكامُه نافذةٌ، بل تجب طاعته في المعروف وتحرم منازعته ومعصيته والخروج عليه قولاً واحدًا عند أهل السّنّة، ذلك لأنّ طاعته خيرٌ من الخروج عليه، لِما في ذلك من حقن الدّماء وتسكين الدّهماء، ولِما في الخروج عليه من شقّ عصا المسلمين وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم وتسلُّطِ أعداء الإسلام عليهم، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: «ومن خرج على إمامٍ من أئمّة المسلمين وقد كان النّاس اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأيّ وجهٍ كان بالرّضا أو الغلبة؛ فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن مات الخارج مات ميتة جاهليّة، ولا يحلّ قتال السّلطان ولا الخروج عليه لأحدٍ من النّاس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السّنّة والطّريق»(١٨).
وقد حكى الإجماع على وجوب طاعة الحاكم المتغلّب الحافظ ابن حجر في «الفتح»(١٩)، والشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب في «الدّرر السّنيّة»(٢٠).
قلت: ومن الإمامة التي انعقدت بالغلبة والقوّة ولاية عبد الملك بن مروان، حيث تغلّب على النّاس بسيفه واستتبّ له الأمر في الحكم، وصار إمامًا حاكمًا بالغلبة، ومن ذلك ولاية بني أميّة في الأندلس: انعقدت لهم بالاستيلاء والغلبة، مع أنّ الخلافة قائمة في بغداد للعبّاسيّين.
فهذه هي الطّرق التي تثبت بها الإمامة الكبرى فتنعقد بالاختيار والاستخلاف سواء بتعيين وليِّ عهدٍ مستخلَفٍ أو بتعيين جماعةٍ تختار من بينها وليّ عهد، وهما طريقان شرعيّان متّفقٌ عليهما، فإذا بايعه أهل الحلّ والعقد بالاختيار لزمت بيعتُهم سائرَ من كان تحت ولايته، كما تلزمهم البيعةُ الحاصلة بالاستخلاف، وكذا المنعقدة عن طريق القهر والغلبة، فالبيعة حاصلةٌ على كلّ أهل القطر الذي تولّى فيه الحاكم المستخلَف أو المتغلّب ممّن يدخلون تحت ولايته أو سلطانه.
أمّا انعقاد الولاية أو الإمامة العظمى بأساليب النُّظُم المستوردة الفاقدة للشّرعيّة الدّينيّة -فبغضّ النّظر عن فساد هذه الأنظمة وحكمِ العمل بها- فإنّ منصب الإمامة أو الولاية يثبت بها ويجري مجرى طريق الغلبة والاستيلاء والقهر، وتنعقد إمامة الحاكم وإن لم يكن مستجمِعًا لشرائط الإمامة، ولو تمكّن لها دون اختيارٍ أو استخلافٍ ولا بيعةٍ، قال النّوويّ -رحمه الله-: «وأمّا الطّريق الثّالث فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام، فتصدّى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلافٍ ولا بيعةٍ، وقهر النّاس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافتُه لينتظم شملُ المسلمين، فإن لم يكن جامعًا للشّرائط بأنْ كان فاسقًا أو جاهلاً فوجهان، أصحُّهما: انعقادها لما ذكرناه، وإن كان عاصيًا بفعله»(٢١)، وعليه تلزم طاعتُه ولو حصل منه ظلمٌ وجَوْرٌ، ولا يطاع إلاّ في المعروف دون المعصية؛ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»(٢٢)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(٢٣)، قال أبو الحسن الأشعريّ -وهو يعدّد ما أجمع عليه السلف من الأصول: «وأجمعوا على السّمع والطّاعة لأئمّة المسلمين وعلى أنّ كلّ من وَلِيَ شيئًا من أمورهم عن رضًى أو غلبةٍ وامتدّت طاعتُه من بَرٍّ وفاجرٍ لا يلزم الخروج عليهم بالسّيف، جار أو عدل»(٢٤)، وقال الصّابونيّ: «ويرى أصحاب الحديث الجمعةَ والعيدين، وغيرَهما من الصّلوات خلف كلّ إمامٍ مسلمٍ بَرًّا كان أو فاجرًا. ويَرَوْنَ جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جَوَرَةً فَجَرَةً، ويَرَوْنَ الدّعاء لهم بالإصلاح والتّوفيق والصّلاح وبَسْطِ العدل في الرّعيّة، ولا يَرَوْنَ الخروج عليهم وإن رَأَوْا منهم العدول عن العدل إلى الجَوْرِ والحيف، ويَرَوْنَ قتال الفئة الباغية حتّى ترجع إلى طاعة الإمام العدل»(٢٥)، وقال ابن تيميّة -رحمه الله-: «فأهل السّنّة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقًا، إنّما يطيعونهم في ضمن طاعة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، كما قال تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النّساء: 59]»(٢٦)، وقال -رحمه الله- أيضًا: «مذهب أهل الحديث تركُ الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصّبرُ على ظلمهم إلى أن يستريحَ بَرٌّ أو يُستراحَ من فاجرٍ»(٢٧)، وقال النّوويّ –رحمه الله-: «لا تُنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلاّ أن تَرَوْا منهم منكرًا محقَّقًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأَنْكِروه عليهم وقولوا بالحقّ حيث ما كنتم، وأمّا الخروج عليهم وقتالُهم فحرامٌ بإجماع المسلمين، وإن كانوا فَسَقَةً ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرتُه، وأجمع أهل السّنّة أنّه لا ينعزل السّلطان بالفسق»(٢٨).
أمّا إن تولّى الكافرُ الحُكْمَ: فإن توفّرت القدرة والاستطاعة على تنحيته وتبديله بمسلمٍ كفءٍ للإمامة مع أمن الوقوع في المفاسد وجبت إزالته إجماعًا، لأنّ الله تعالى قال: ﴿وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، والكافر لا يُعدّ من المسلمين، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ»(٢٩)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»(٣٠)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لاَ، مَا صَلَّوْا»(٣١)، قال ابن حجر -رحمه الله-: «وملخَّصه أنّه ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كلّ مسلم القيام في ذلك: فمن قَوِيَ على ذلك فله الثّواب، ومن داهن فعليه الإثم»(٣٢).
فإن عجزوا عن إزالته وإقامة البديل، أو لا تنتظم أمور السّياسة والحكم بإزالته في الحال خشيةَ الاضطراب والفوضى وسوء المآل؛ فالواجب الصّبر عليه وهم معذورون، لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التّغابن: 16]، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فَإذا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(٣٣)، وهذا أحقّ موقفًا من الخروج عليه؛ لأنّ «دَرْءَ المَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ المَصَالِحِ»؛ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وتُلْحَق هذه الصّورة بالمرحلة المكّيّة التي كان عليها النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه قبل الهجرة، فقد كانوا تحت ولاية الكفّار، وقد أُمروا فيها بالدّعوة إلى الله تعالى وكفّ الأيدي عن القتال والصّبر حتّى يفتح الله عليهم أمرهم ويفرّج كربهم وهو خير الفاتحين والمفرّجين، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النساء: 77].
هذا، وجديرٌ بالتّنبيه أنّه إذا تعدّد الأئمّة والسّلاطين فالطّاعة في المعروف إنّما تجب لكلّ واحدٍ منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي تنفذ فيه أوامره ونواهيه، وضمن هذا السّياق يقول الشّوكانيّ -رحمه الله-: «وأمّا بعد انتشار الإسلام واتّساع رقعته وتباعُد أطرافه، فمعلومٌ أنّه قد صار في كلّ قطرٍ أو أقطارٍ الولايةُ إلى إمامٍ أو سلطانٍ، وفي القطر الآخَرِ أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمرٌ ولا نهيٌ في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدُّد الأئمّة والسّلاطين، ويجب الطّاعة لكلِّ واحدٍ منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يُقتل إذا لم يتبْ، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعتُه ولا الدّخول تحت ولايته لتباعُد الأقطار، ...
فاعرفْ هذا فإنّه المناسب للقواعد الشّرعيّة، والمطابق لما تدلّ عليه الأدلّة، ودَعْ عنك ما يقال في مخالفته، فإنّ الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلاميّة في أوّل الإسلام وما هي عليه الآن أوضَحُ من شمس النّهار، ومن أنكر هذا فهو مباهتٌ لا يستحقّ أن يخاطب بالحجّة لأنّه لا يعقلها»(٣٤).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 04 ربيع الثاني 1432ﻫ
المـوافق ﻟ: 09 مـارس 2011م
[FONT=&quot] ١-[/FONT] [FONT=&quot] في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري في «الأذان» باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (660)، ومسلم في «الزكاة» (1/ 457) رقم (1031) عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، ...»، الحديث.[/FONT]

[FONT=&quot] ٢-[/FONT] «مجموع الفتاوى» لابن تيميّة (28/ 170).

[FONT=&quot]٣-[/FONT] أخرجه الحاكم في «مستدركه» (1/ 77) رقم (259، 403)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وصحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2/ 677) رقم (984).

[FONT=&quot]٤-[/FONT] أخرجه مسلم في «الإمارة» (1851) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

[FONT=&quot]٥-[/FONT] «[FONT=&quot]العزلة[/FONT]» للخطّابي (57-58).

[FONT=&quot]٦-[/FONT] الطَّغام: أراذل الناس وأوغادهم، ويطلق -أيضا- على الأحمق [انظر: «القاموس المحيط» للفيروز آبادي (1463)].

[FONT=&quot]٧-[/FONT] العرامة: الشدّة والشراسة والقوّة والجهل والأذى [انظر: «القاموس المحيط» للفيروز آبادي (1467)، «لسان العرب» لابن منظور (12/ 395)].

[FONT=&quot]٨-[/FONT] «غياث الأمم» للجويني (23-24).

[FONT=&quot]٩-[/FONT] «المقدّمة» لابن خلدون ([FONT=&quot]171[/FONT]).

[FONT=&quot]١٠-[/FONT] أخرجه أبو داود في «الجهاد» باب في السريّة تردّ على أهل العسكر (2751) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، وصحّحه الألباني في «إرواء الغليل» (7/ 266) رقم (2208).

[FONT=&quot]١١-[/FONT] من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، ...»[FONT=&quot] [أخرجه البخاري في [/FONT] «الأحكام»[FONT=&quot] باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها (7146)، ومسلم في [/FONT] «الأيمان» (1652)].

[FONT=&quot]١٢-[/FONT] «[FONT=&quot]السيل الجرّار[/FONT]» للشوكاني (4/ 511-513).

١٣- ومن العلماء من يرى أنّ خلافته ثبتت بالنصّ والإشارة من النبي صلّى الله عليه وسلّم [انظر: «شرح العقيدة الطحاويّة» لابن أبي العزّ الحنفي (533)].

[FONT=&quot]١٤-[/FONT] «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (1/ 264).

[FONT=&quot]١٥-[/FONT] أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 204)، من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما. وصحّحه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ«مسند أحمد» (3/ 192)، والألباني في «أحكام الجنائز» (209).

[FONT=&quot]١٦-[/FONT] «معالم السنن» للخطّابي (مع سنن أبي داود) (3/ 351).

[FONT=&quot]١٧-[/FONT] المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسها.

[FONT=&quot]١٨-[/FONT] «[FONT=&quot]المسائل والرسائل[/FONT]» للأحمدي (2/ 5).

[FONT=&quot]١٩-[/FONT] «[FONT=&quot]فتح الباري[/FONT]» لابن حجر (13/ 7) وقد حكاه عن ابن بطّال -رحمه الله-.

[FONT=&quot]٢٠-[/FONT] «الدرر السنيّة في الأجوبة النجديّة» (7/ 239).

٢١- «[FONT=&quot]روضة الطالبين[/FONT]» للنووي (10/ 46).

[FONT=&quot]٢٢-[/FONT] أخرجه البخاري في «الأحكام»، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7145)، ومسلم في «الإمارة» (1840)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

[FONT=&quot]٢٣-[/FONT] أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 131)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصحّحه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ«مسند أحمد» (2/ 248)، والألباني في «صحيح الجامع» (7520).

[FONT=&quot]٢٤-[/FONT] «رسالة إلى أهل الثغر» للأشعري (296).

[FONT=&quot]٢٥-[/FONT] «عقيدة السلف» للصابوني (92).

[FONT=&quot]٢٦-[/FONT] «منهاج السنّة» لابن تيميّة (2/ 76).

[FONT=&quot]٢٧-[/FONT] «مجموع الفتاوى» لابن تيميّة (4/ 444).

[FONT=&quot]٢٨-[/FONT] «شرح النووي على مسلم» (12/ 229).
ويمكن مراجعة المصادر التالية: «الاعتقاد» للبيهقي (242-246)، «اعتقاد أئمة الحديث» للإسماعيلي (75-76)، «الشريعة» للآجرّي (38-41)، «مقالات الإسلاميّين» للأشعري (1/ 348)، «الإبانة» للأشعري (61)، «الشرح والإبانة» لابن بطّة (276-278)، «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزّ (2/ 540-544)، «العقيدة الواسطية» مع شرحها للهرّاس (257-259).

[FONT=&quot]٢٩-[/FONT] أخرجه مسلم في «الإمارة» رقم (1855)، من حديث[FONT=&quot] [/FONT] [FONT=&quot] عوف بن مالك رضي الله عنه[/FONT].

[FONT=&quot]٣٠-[/FONT] أخرجه البخاري في «الفتن» باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا» (7056)، ومسلم في «الإمارة» رقم (1709)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

[FONT=&quot]٣١-[/FONT] أخرجه مسلم في «الإمارة» رقم (1854)، من حديث أمّ سلمة رضي الله عنها.

[FONT=&quot]٣٢-[/FONT] «فتح الباري» لابن حجر (13/ 123).

[FONT=&quot]٣٣-[/FONT] أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنّة»، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (7288)، ومسلم في «الحج» رقم (1337)، واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[FONT=&quot]٣٤-[/FONT] «السيل الجرّار» للشوكاني (4/ 512).




 

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: طرق تنصيب الحاكم

شكر الله لكم، وللشيخ الفاضل، وجزاه خيراً.
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: طرق تنصيب الحاكم

جزى الله الكاتب والناقل خيراً
 

د. أيمن علي صالح

:: متخصص ::
إنضم
13 فبراير 2010
المشاركات
1,023
الكنية
أبو علي
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي - بشكل عام
رد: طرق تنصيب الحاكم

شكرا للأخ رابح على هذا النقل، وأرجو أن يتسع صدركم للخلاف في موضوع صحة ولاية المتغلب
فقد كنت قلت في موضوع مشابه لهذا في الملتقى:

[FONT=&quot] "شرعية ولاية المتغلِّب". لا أقول بشرعيتها، وذلك لأسباب كثيرة، منها:
[FONT=&quot]أولا: قوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" فأي أمر أعظم من الولاية العامة أحق بالشورى.[/FONT]
[FONT=&quot]والثاني: إجماع المسلمين على عدم صحة العقود بالإكراه، "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه" وهذا بعمومه يدخل فيه عقد الولاية.[/FONT]
[FONT=&quot]والثالث: إجماع المسلمين، والعقلاء في كل الملل، على أن الغَصْب ليس طريقا شرعيا لاكتساب الحقوق، والمتغلِّب غاصبٌ للسُّلطة فكيف يُقَرُّ على ذلك، ويُقال بتمتُّعه بآثار الولاية الشرعية من وجوب الطاعة إلا في معصية والنصرة والدفاع عنه بالغالي والنفيس؟ وهل يحل لنا إقرار الباطل والاعتراف به لمجرد أنه صار في حكم الواقع؟ ومتى كان الباطل طريقا للاستحقاق الشرعي؟ ومتى كانت قواعد الشرع تقضي بمعاملة المعتدي بما يوافق مقصوده لا بنقيض ذلك؟ أليس في إقرار ولاية المتغلِّب والاعتراف بها تشجيعا لمريضي النفوس من طلاب السلطة أن ينازعوها أئمة العدل المختارين، وينقلبوا أو يخرجوا عليهم، وفي هذا من الفساد وسفك الدماء وإهلاك البلاد ما فيه؟ وكذلك هي ولاية المتغلب إنما تقوم في بدئها على الدماء والخيانة ومنازعة أهل الأمر، فكيف يُقال له مُقدَّما: إذا غلبتَ هذا الإمام العدل فسنتبعك ونطيعك ونوقرك ونبيح لك أبشارنا وأموالنا، فهل ثمة تشجيع على المعصية أكبر من هذا؟[/FONT]
[FONT=&quot]والرابع: قوله، صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: "إذا بُويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"، وقوله: «منْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ». والمتغلِّب منتزع للسلطة من غيره في الغالب، ومتأخِّرٌ عنه بلا بُد، فالواجب بحسب النص قتلُه لا الاعتِراف بشرعية ولايته، والعجيب أن المتغلبين وأتباعهم يستدلون بهذه النصوص على عدم جواز الخروج عليهم، مع أن هذه النصوص تدينهم وتوجب قتلهم ابتداء.[/FONT]
[FONT=&quot]والخامس: قول عبادة بن الصامت، رضي الله عنه ـ كما في الصحيحين ـ: "بايعنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم، أو: نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم". وجه الدلالة أن الحديث بمفهومه دال على أن هناك من هو أهلٌ للإمارة وأنه لا ينازع فيها، وهذا يقتضي أن هناك من ليس بأهل للإمارة ـ وإن تأمَّر ولقَّب نفسه أميرا ـ وهذا تجوز منازعته (ولا ضرورة أن يكون ذلك بالسيف).[/FONT]
[FONT=&quot]والسادس: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما في البخاري: «مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلاَ يُبَايَعُ هُوَ وَلاَ الَّذِي بَايَعَهُ، تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلاَ»، وعنه عند عبد الرزاق بسند صحيح: «فَمَنْ تَأَمَّرَ مِنْكُمْ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاقْتُلُوهُ» وفي سند فيه ليث بن أبي سليم (فيه ضعف): «مَنْ دَعَا إِلَى إِمَارَةِ نَفْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تَقْتُلُوهُ» ويشهد له الأثر السابق. ولا مخالف لعمر رضي الله عنه في وقته بل وافقه الصحابة على ذلك وأقاموا ولاية عثمان رضي الله عنه على الشورى والاختيار بحسب ما أشار الفاروق، رضي الله عنه، فكان إجماعا للصحابة يبطل به كل إجماع بعده، هذا إذا صح قيام إجماع بعده بخلافه.[/FONT]
[FONT=&quot]وأما من اعترف بولاية المتغلِّب من العلماء، فإنما كان ذلك لحكم الضرورة كما أشار الغزالي وغيره؛ إذ لا بد للناس من إمام يحمي البيضة ويمضي الحدود وينفذ أحكام الشرع وينصب القضاة...الخ، فهذا استحسان واستثناء للضرورة، وهو يشبه جواز أكل الميتة والخنزير في المخمصة، والضرورة تُقدَّر بقدرها، "ويجب السَّعي دائماً لإزالتها عند الإمكان، ولا يجوز أن توطَّن النفس على دوامها" كما قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى في كتاب الخلافة.
وللمزيد في الموضوع تدقيقا وتحقيقا في المسألة وتناولا لها من جميع أبعادها ينظر كتابا د. حاكم المطيري: الحرية أو الطوفان، وكتاب تحرير الإنسان.
ويمكن تنزيل نسخة إلكترونية للكتابين من موقع المؤلف على هذا الرابط:
http://www.dr-hakem.com/Portals/Category/?info=TmpZbVEyRjBaV2R2Y25rbU5nPT0rdQ==.jsp
كما يوجد للكتابين اختصار بنحو الثلث في نفس الموقع
[/FONT]​
[/FONT]
 
إنضم
29 مايو 2010
المشاركات
159
التخصص
مقاصد الشريعة
المدينة
حلب
المذهب الفقهي
شافعي
رد: طرق تنصيب الحاكم

اشكر الاخ ناقل هذا الموضوع
ولا اجد حرجا هنا ان اذهب الى ما ذهب اليه الدكتور ايمن من رفض الطريق الرابع ( الغلبة والقهر) لانه لا مبرر له , والمتابع للفكر الاسلامي وتطور نظرية الحكم يجد أن هذا الطريق جاء في فترة لاحقة حين بدأ التغلب على الحكم وترافق مع فتاوى "سلطانية " تشرع هذا النوع , واتفق تماما مع الدكتور ايمن ان الامامة هي عقد اجتماعي والاساس فيه التراضي وليس القهر والغصب .
ولنا أن نؤيد وبشدة الطريقة الاولى ونسجل فيها سبقا للاسلام في وقت كان ذلك قريبا من الخيال , فقد جرت في سقيفة (برلمان ) بني ساعدة أرقى أنواع فكر الامامة حيث عرض كل فريق وجهة نظره في الحكم وايدها بما يراه من الادلة العقلية والنقلية بل ووصل الامر الى ان الحباب بن المنذر عرض ان يكون ثمة خليفتان , وهو امر مستغرب جدا . وانتهى الامر وبالشورى الى اختيار ابو بكر الصديق .
ويكمن تميز االفكر الاسلامي في الانتخاب بالشورى بانحصار ذلك باهل الحل والعقد وهو أمر يستحق الدراسة والتأمل , لان موقع الامامة موقع خطير فوجب حصر ذلك - من وجهة النظر الاسلامية- بمجموعة تسمى اهل الحل والعقد , لأن العامل العادي الغير متعلم لا يمكن له أن يحكم على الامام الاعظم بالصلاح او عدمه , ويضرب الشيخ علي الطنطاوي لذلك مثالا برجل جيء به الى المستشفى بحالة خطرة وبحاجة لعملية وفي المشفى خمس اطباء وعشرين ممرضا فلو جرت عملية " تصويت " تشمل الممرضين فصوتوا انه لا يحتاج للعملية وصوت الاطباء بحاجته للعملية فمن وجهة نظر الديمقراطيين يجب عدم اجراء العملية ومن وجهة نظر اهل الحل والعقد ان الممرضين لا يحق لهم التصويت اصلا . وهنا تميز الاسلام في ان اهل الحل والعقد فقط - كثروا او قلوا -هم من ينتخب .
 

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: طرق تنصيب الحاكم

الأخ الدكتور الفاضل أيمن وفقه الله

يقول الشيخ عبد الله بن عمر الدميجي في رسالته: "الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة" (222) : " وهناك طريق آخر، تجب الطاعة بموجبه، ويحرم الخروج بسببه، ولكنه ليس من الطرق الشرعية، ولا يجوز إلا للضرورة لأجل مصلحة المسلمين وحقن دمائهم، وهذا هو طريق القهر والغلبة والاستيلاء على الحكم بالقوة "...

ثم ذكر أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الإمامة يصح عقدها لمن غلب الناس عليها، وأن طاعته واجبة، ونقل نصوصاً للأئمة على ذلك.
 

د. أيمن علي صالح

:: متخصص ::
إنضم
13 فبراير 2010
المشاركات
1,023
الكنية
أبو علي
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي - بشكل عام
رد: طرق تنصيب الحاكم

يقول الشيخ عبد الله بن عمر الدميجي في رسالته: "الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة" (222) : " وهناك طريق آخر، تجب الطاعة بموجبه، ويحرم الخروج بسببه، ولكنه ليس من الطرق الشرعية، ولا يجوز إلا للضرورة لأجل مصلحة المسلمين وحقن دمائهم، وهذا هو طريق القهر والغلبة والاستيلاء على الحكم بالقوة "...
جزاكم الله خيرا. هذا صحيح، وقد قاله قبله جماعة من العلماء كما أشرنا، ولكن هاهنا أمور تنبني على هذا التقدير:
أولا: أن الضرورة تقدر بقدرها بالإجماع. وهذا يعني أن طاعة المتغلب ليست مطلقة في كل ما ليس بمعصية كطاعة الولي الشرعي، إنما هي في حدود ما يحقق المصلحة. وقد كانت الضرورة في رأي الأئمة الذين ذكروها أنه لا بد من إمام (كيف كان) يحمي البيضة ويُجاهد من ورائه ويقيم الحدود وينصب القضاة (لتحكيم الشرع طبعا) ويقيم الجُمَع (عند من لا يصححون الجمعة إلا بالإمام أو إذنه). ففي حدود ما يحقق هذه الأشياء يطاع وإلا فلا عقد صحيحا يوجب طاعته فيما وراء ذلك.
ثانيا: يجب السعي دوما في إزالة الضرورة، لا الرضا بها. وإذا تهيأت ظروف غلب على الظن فيها إمكان إزالة الضرورة وجب على الناس المشاركة فيها.
ثالثا: بالنسبة لمصلحة حقن دماء المسلمين، فمصلحة حفظ الدين بإقامة الولي الشرعي الذي يقيم معالم الدين تقدم عليها، وقد شرع الله الجهاد مع ما فيه من زهوق الأرواح وضياع الأموال لمصلحة إقامة الدين وجعل كلمة الله هي العليا فما بالك بما دون ذلك. قال تعالى: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله)، والمتغلب (صالحا في نفسه كان أو فاسدا) باغٍ غاصبٍ مُعتدٍ يجبُ قتاله عند ظن القدرة على إيقاف ظلمه ورد الحق إلى أصحابه ـ وهم جماعة المسلمين ـ في اختيار من يرضونه.
وإقرار المتغلبين في الأمصار من قبل من تحتهم هو الذي فرَّق الأمة وجعلها دويلات متناحرة هنا وهناك، وقد سُفِك من دماء المسلمين من جراء هذا التفرق على يد أعدائهم وعلى يد المتغلبين أنفسهم أكثر بكثير مما كان سيُسْفك لو وقف الناس وقفة واحدة في وجه المتغلب من أول أمره.
رابعا: إذا أقررنا بأن ولاية المتغلب غير شرعية وإنما هي ضرورة فلا ينبغي حمل نصوص طاعة أولي الأمر وتوقيرهم ومناصحتهم عليه، لأن الألفاظ الشرعية تحمل على المعاني الشرعية.
والله أعلم
 

رابح العربي صرموم

بانتظار تفعيل البريد الإلكتروني
إنضم
13 سبتمبر 2009
المشاركات
53
التخصص
أصول الفقه
المدينة
ثنية الحد
المذهب الفقهي
مالكي
رد: طرق تنصيب الحاكم

ان ولاية القهر و الغلبة ليست اصلا في الاسلام ، لكن اقرارها اذا وقعت حفظا لمصالح الامة هو الذي يقرر مشروعيتها ، وقواعد درء المفاسد مؤيدة لذلك بل و وقائع التاريخ شاهدة عليه ، و لاينكر دور الحاكم ووجود السلطة في حفظ النظام ولو كانت دكتاتورية الا جاهل بالواقع او مكابر ،
قال الجوينيّ -رحمه الله-: «ولا يرتاب من معه مَسْكةٌ من عقلٍ أنّ الذّبّ عن الحوزة، والنّضالَ دون حفظِ البيضة محتومٌ شرعًا، ولو تُرك النّاس فوضى لا يجمعهم على الحقّ جامعٌ، ولا يَزَعُهم وازعٌ، ولا يردعهم عن اتّباع خطوات الشّيطان رادعٌ، مع تفنُّن الآراء وتفرُّق الأهواء؛ لانتثر النّظام، وهلك العظام، وتوثّبت الطَّغام والعوامّ، وتحزّبت الآراء المتناقضة، وتفرّقت الإرادات المتعارضة، وملك الأرذلون سراةَ النّاس، وفُضّت المجامع، واتّسع الخرقُ على الرّاقع، وفَشَتِ الخصوماتُ، واستحوذ على أهل الدّين ذوو العرامات، وتبدّدت الجماعات، ولا حاجةَ إلى الإطناب بعد حصول البيان، وما يَزَعُ الله بالسّلطان أكثرُ مما يَزَعُ بالقرآن»
غياث الأمم» للجويني (23-24)]
 

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: طرق تنصيب الحاكم

الدكتور الفاضل أيمن
أنا أفرق بين مسألتين، وقد حملتم كلام الشيخ الدميجي على غير محمله فيما أعتقد.

وخلاصة ما أقرره ما يلي:
1- التغلب طريقة غير شرعية لتولي الأمر.
2- يكون جائزاً للضرورة إذا لم يكن سبيل غيره يصلح به الشأن.
3- إذا وقع التغلب وجبت الطاعة في المعروف، ويدل على هذا سيل من النصوص: منها: (والسمع والطاعة وإن تأَمَّر عليكم عبد حبشي)
ومعلوم أن العبد الحبشي لا يمكن أن يكون إماماً للمسلمين إذ من شروط الإمامة القُرَشية، ولفظ (تأمَّر) بصيغته هذه يوحي بمعنى التغلب. والله الموفق
 

أحمد بن فخري الرفاعي

:: مشرف سابق ::
إنضم
12 يناير 2008
المشاركات
1,432
الكنية
أبو عبد الله
التخصص
باحث اسلامي
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
شافعي
رد: طرق تنصيب الحاكم

الدكتور الفاضل أيمن
أنا أفرق بين مسألتين، وقد حملتم كلام الشيخ الدميجي على غير محمله فيما أعتقد.

وخلاصة ما أقرره ما يلي:
1- التغلب طريقة غير شرعية لتولي الأمر.
2- يكون جائزاً للضرورة إذا لم يكن سبيل غيره يصلح به الشأن.
3- إذا وقع التغلب وجبت الطاعة في المعروف، ويدل على هذا سيل من النصوص: منها: (والسمع والطاعة وإن تأَمَّر عليكم عبد حبشي)
ومعلوم أن العبد الحبشي لا يمكن أن يكون إماماً للمسلمين إذ من شروط الإمامة القُرَشية، ولفظ (تأمَّر) بصيغته هذه يوحي بمعنى التغلب. والله الموفق

الذي يتبادر لذهني عند قراءة ( وإن تأمر عليكم عبد ) يكون أميرا بتأمير الإمام، وبهذا يكون معناه -كما لا يخفى عليكم - : إذا أمر عليكم الامام عبدا حبشيا، وهو قول الإمام الخطابي إن لم تخني ذاكرتي، والعبد لا يكون واليا، وإنما هو مثل على تقدير ذلك، والمعنى يحتمل ما أوردتم حفظكم الله تعالى .
والمسألة من وجهة نظري تعتمد على طبيعة المتغلب على السلطة ، فإن قام بحق الإمامة ، وحكم بالشريعة وكان عادلا مقسطا، فهذا لو وجدناه في زماننا نترضى عليه ونسمع ونطيع على محبة بغير كره.
والكلام في هذا الزمان يجب أن يكون على متغلب استولى على السلطة بانقلاب عسكري أو مدني ، أو عيّنه على السلطة أعداء الله ، وهو يحكم بغير ما أنزل الله تعالى ، ويحكّم القوانين الوضعية ، ونحّى شريعة الله ، وظلم وتعسف حال معظم زعماء هذا الزمان ، فهذا له أحكامه الخاصة.
 
التعديل الأخير:

د. أيمن علي صالح

:: متخصص ::
إنضم
13 فبراير 2010
المشاركات
1,023
الكنية
أبو علي
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي - بشكل عام
رد: طرق تنصيب الحاكم

وخلاصة ما أقرره ما يلي: 1- التغلب طريقة غير شرعية لتولي الأمر. 2- يكون جائزاً للضرورة إذا لم يكن سبيل غيره يصلح به الشأن. 3- إذا وقع التغلب وجبت الطاعة في المعروف، ويدل على هذا سيل من النصوص: منها: (والسمع والطاعة وإن تأَمَّر عليكم عبد حبشي) ومعلوم أن العبد الحبشي لا يمكن أن يكون إماماً للمسلمين إذ من شروط الإمامة القُرَشية، ولفظ (تأمَّر) بصيغته هذه يوحي بمعنى التغلب. والله الموفق

أخي أبو بكر بارك الله فيكم
إذا قلنا بأن التغلب طريقة غير شرعية، فهذا يعني أنها منهي عنها.
والمنهي عنه باطل لا تترتب عليه آثاره.
وعليه يكون عقد الولاية بالإكراه بين الأمة والمتغلب عقدا باطلا، مثله مثل أي عقد إكراه، لا ينتج آثاره.
ومن أحكام العقد الباطل أنه يجب السعي في إزالته.
وإلى أن تمكن هذه الإزالة يأتي حكم الضرورة الذي قال به بعض العلماء وهو كالأكل من الميتة والخنزير في المخمصة.
وإقرار ولاية الضرورة هذه والتساهل في شأنها وإعطاؤها حكم الولاية الصحيحة أتى على الأمة بنتائج كارثية حتى صار هو الأصل في الخلافة بعد عهد الراشدين إلا ما ندر.
أما التذرع بمطلق المصلحة (لا الضرورة فحسب) فهذا فضلا عن معارضته لما ثبت من سنته صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين في تنصيب الأئمة، متنازع فيه لأن المستبد لا سيما إذا كان جائرا محكوم بهاجس الخوف على السلطة والتمسك فيها، ولذلك تحدث في حكمه من المفاسد ما الله به عليم، وإن شئت فاقرأ "طبائع الاستبداد" للكواكبي لترى مقدار التخلف الذي يجلبه المستبد على شعبه.
ثم إن فيه مفسدة تشجيع الطامحين إلى السلطة بالانقضاض عليها. وهذا ما حدث فعلا في التاريخ الإسلامي، حيث صار كل واحد يستشعر شيئا من الشوكة يتمرد على الخليفة وينفرد بدولة في مصر من الأمصار، فتفرقت الأمة وطمع فيها أعداؤها وقتلوا من المسلمين الألوف بل مئات الألوف.
قال الشيخ رشيد رضا في تفسيره: فَالْإِمَامُ زَيْدٌ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْمُصْلِحِينَ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْفِدَائِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ الظُّلْمَ بِالثَّوْرَاتِ عَلَى الْجَائِرِينَ الظَّالِمِينَ، إِلَى أَنْ يَثُلُّوا عُرُوشَهُمْ، وَيُرِيحُوا الْأُمَمَ مِنْ جَوْرِهِمْ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَرْجِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى قَاعِدَةِ تَعَارُضِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَقَاعِدَةِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ فِي مُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ وَأَهْلِهِ لِئَلَّا يُفْضِي إِلَى فِتْنَةِ التَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ وَلَكِنَّهُمْ أَيَّدُوا الظَّالِمِينَ وَأَطَاعُوهُمْ بِشُبْهَةِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ حَتَّى ضَاعَ الْإِسْلَامُ وَشَرْعُهُ وَتَضَعْضَعَ كُلُّ مُلْكٍ لِأَهْلِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِمُوا تَحْكِيمَهَا وَتَطْبِيقَهَا.
أما بالنسبة لما تضلتم بذكره من الحديث، وأمثاله:
1. فما صح منها فهو على الرأس والعين، والنزاع ليس فيها، وإنما في حملها على المتغلِّب الغاصب للسلطة، فما دام هو غير شرعي فلا يُحمل عليه لفظ "ولي الأمر" لأن "أمر المسلمين" كما قال تعالى: "شورى بينهم"، لا قهرا وغصبا.
2. وفضلا عن ذلك وحتى لو سلمنا بحملها على المتغلب فهو على الإمام الأعظم ومن يعيِّنُهم من الأمراء في الأمصار، لا على كل من تغلب في ناحية من النواحي، وبلد من البلدان، بدليل: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، وبدليل: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"، وبدليل:
[FONT=&quot]«منْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ»، وبدليل: [/FONT][FONT=&quot]«فَمَنْ تَأَمَّرَ مِنْكُمْ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاقْتُلُوهُ»، فكيف يكون مأمورا بقتله ومع ذلك تجب طاعته (إلا في ضرورة تبيح المحرَّم).[/FONT]
3. وأما لفظ "تأمَّر" الذي تفضلت بإيراده فهو من تصرفات أحد الرواة بالمعنى، وأكثر الروايات الصحيحة لا تذكره وإنما تقول: "اسمع وأطع وإن عبدا حبشيا" كما في البخاري من حديث أبي ذر. وأم الحصين روته بالمبني للمجهول "أُمِّر" كما في صحيح مسلم. وكذا مثله في حديث العرباض بن سارية في كتب السنن لا يوجد "تأمَّر". ولم أجده إلا في رواية من طريق الدوري عند البيهقي، وهي من نفس الطريق عند الحاكم بلفظ الفعل المبني للمجهول "أُمِّر". والحاكم أعلى إسنادا من البيهقي فتقدم روايته. وإذا كان كذلك فلا يصح التمسك بظاهر الدلالة الحرفية لهذه اللفظة.
4. وأما ذكر العبد الحبشي، فلذلك تأويلاتٌ متعددة ذكرها العلماء ولا يتعين التأويل الذي تفضلت باختياره: منها أن المقصود بذلك أمراء الأمصار والسرايا ممن كان أصله عبدا، لا الإمام الأعظم. ومنها أن هذا على التجوز للمبالغة كما في الحديث: "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة..." ومن المعلوم أن مفحص القطاة لا يصلح مسجدا وإنما المراد ولو كان صغيرا جدا على وجه المبالغة، ومنها: حمله على ولاية العبد في غير الإمامة العظمى بل في السرايا وإمامة المسجد ونحوها، كما حمله عليه أبو ذر رضي الله عنه.
5. أحاديث طاعة أولي الأمر وردت مقيدة ومطلقة، والأصل أن يُحمل مطلقها على مقيدها. ومن قيودها إقامة الدين أو تحكيم كتاب الله: ففي صحيح مسلم من حديث أم الحصين: «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ - حَسِبْتُهَا قَالَتْ - أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا». وفي رواية في مسند أحمد ومصنف ابن أبي شيبة «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا مَا قَادَكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ» قال الأرناؤوط: صحيح على شرط مسلم. وفي رواية في مسند إسحاق بن راهويه: «إِنَّ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا مَا أَقَامَ لَكُمْ دِينَ اللَّهِ». وكذا روى البخاري: «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ، إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ». وروى أبو داود، وحسنه الألباني، في رجل أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية فلم يقم بأمره صلى الله عليه وسلم: «أَعَجَزْتُمْ إِذْ بَعَثْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ فَلَمْ يَمْضِ لِأَمْرِي، أَنْ تَجْعَلُوا مَكَانَهُ مَنْ يَمْضِي لِأَمْرِي؟».
والله أعلم.

 
أعلى