رد: مدى مشروعية الحبس الاحتياطي للمتهم وضماناته في الفقه الإسلامي
ب- وعن أبي هُريْرَةَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حبَسَ في تُهْمةٍ يوْمًا ولَيْلَةً اسْتظْهَارًا وطَلَبًا لَإظْهَارِ الْحقِّ بالاعْتِرَافِ
[1].
وجه الدلالة : في هذا الحديث دليل جلي على أن حبس المتهم مشروع قبل أن تقام البينة
[2] ولو لم يكن مشروعاً لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الشوكاني : " وفيه دليل على أن الحبس كما يكون حبس عقوبة يكون حبس استظهار في غير حق ، بل لينكشف به بعض ما وراءه "
[3].
رُد : في سند هذا الحديث إبراهيم بن خيثم وهو ضعيف لا تجوز الرواية عنه
[4].
أجيب : مع أن في سنده إبراهيم بن خيثم، وفيه مقال، إلا أنه قد جاء في رواية أخرى للحديث عند أبو داود بإسناد حسن عن بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم حَبَسَ رَجُلاً في تُهْمَةٍ ساعةً مِنْ نَهارٍ ثُمَّ خَلَّى عنه"
[5].
د_ عن عراك بن مالك
[6] أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "حبس رجلا من بني غفار ببعيرين اتَّهم بهما بعضُ بني غطفان بعضَ بني غفار، فلم يك إلا يسيرا حتى أحضر الغفاري الآخر البعيرين، فقال للمحبوس: " استغفر لي"، قال: غفر الله لك يارسول الله، قال: " ولك وقتلك في سبيله" ، قال: فقتل باليمامة"
[7] .
وجه الدلالة : في هذا الحديث حبس النبي صلى الله عليه وسلم أحد الغفاريين بتهمة سرقة بعيرين ثم أطلقه بعد ظهور براءته ، وهذا دليل جلي على جواز حبس المتهم احتياطياً حتى تثبت إدانته أو براءته .
رُد: حديث عراك مرسل
[8] ، ثم لو صح لكان فيه الدليل على المنع من الحبس ؛ لاستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك .
[9]
أجيب : من وجهين :
الأول : أما دعوى الإرسال فمردودة ؛ لأن المراسيل حجة عند الحنفية والمالكية والشافعية والصحيح من مذهب أحمد إذا كانت من ثقة عدل ، وهذا المرسل من طريق عراك بن مالك وقد وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم من علماء الجرح والتعديل
[10] فبطل اعتراض ابن حزم من هذا الوجه .
الثاني : أما قوله أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم يدل على المنع من حبس المتهم فتعليله هذا يقتضي: أنه عليه الصلاة والسلام استغفر من معصية فعلها وأنه خالف الشرع بحبسه ، وهذا ما لم يجرؤ على قوله أحد؛ لعصمته صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك
[11]، وإنما أقصى ما يدل عليه هو تطييب نفس المتهم بعد ظهور برائته ، وهذا منه صلى الله عليه وسلم في غاية اللطف ، ولذا أردف من أجاز الحبس في التهمة بناءً على ظهور براءة المتهم مسائل عدة منها : تعويض المتهم ، إما تعويضاً أدبياً وهو مافعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإما تعويضاً مادياً نظراً لعظم الضرر الذي وقع على الشخص بسبب اتهامه وحبسه .
وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجن في المدينة في تهمة دم رواه عبد الرزاق والنسائي في مصنفيهما
[12] .
ثالثاً : الأثر
أ- عن أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَازِيُّ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْكَلَاعِيِّينَ
[13] سُرِقَ لَهُمْ مَتَاعٌ ، فَاتَّهَمُوا أُنَاسًا مِنْ الْحَاكَةِ
[14]، فَأَتَوْا النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَبَسَهُمْ أَيَّامًا ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُمْ ، فَأَتَوْا النُّعْمَانَ فَقَالُوا : خَلَّيْتَ سَبِيلَهُمْ بِغَيْرِ ضَرْبٍ وَلَا امْتِحَانٍ ؟! فَقَالَ النُّعْمَانُ : مَا شِئْتُمْ إِنْ شِئْتُمْ أَنْ أَضْرِبَهُمْ فَإِنْ خَرَجَ مَتَاعُكُمْ فَذَاكَ وَإِلَّا أَخَذْتُ مِنْ ظُهُورِكُمْ مِثْلَ مَا أَخَذْتُ مِنْ ظُهُورِهِمْ ، فَقَالُوا : هَذَا حُكْمُكَ ؟ فَقَالَ : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَحُكْمُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[15] .
وجه الدلالة : يدل الحديث على جواز حبس المتهم احتياطيا ًحتى يتبين حاله ، ولو لم يكن جائزاً لما أقدم عليه النعمان رضي الله عنه ولا قضى بأنه حكم الله ورسوله .
ب- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قال : كَتَبَ عُمَرُ بن عبد الْعَزِيزِ بن عبد اللَّهِ كِتَابًا قَرَأْته: إذَا وُجِدَ الْمَتَاعُ مع الرَّجُلِ الْمُتَّهَمِ فقال : ابْتَعْته فَاشْدُدْهُ في السِّجْنِ وَثَاقًا وَلاَ تَحُلُّهُ بِكِتَابِ أَحَدٍ حتى يَأْتِيَهُ فيه أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى
[16] . وذلك إذا جرت العادة أن لا يتحصّل ذلك المتاع لمثل هذا المتّهم. وإذا قامت القرائن وشواهد الحال على أنّ المتّهم بسرقة - مثلا - كان ذا عيارة - كثير التّطواف والمجيء والذّهاب - أو في بدنه آثار ضرب، أو كان معه حين أخذ منقّب، قويت التّهمة وسجن.
رُد : قال ابن جريج ذكرت ذلك لعطاء فأنكره
[17] وإنكار عطاء يدل على عدم جواز الحبس الاحتياطي للتهمة .
أجيب : إنكار عطاء ليس بحجة ؛ إذ الحجة في فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت الحبس في التهمة في حديث بهز بن حكيم رضي الله عنه وغيره .
رابعاً : القياس: فمن وجهين :
الأول : - قال تعالى: ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ
[18] فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ).
[19]
وجه الدلالة : إذا كان ذلك كذلك فلا مانع من القياس على هذه الحالة ؛ وذلك بسجن كل من لم يعرف فيه الحكم الشرعي، حتى يعرف فيه فينفذ، وعلة القياس الاحتياط في كل.
قال ابن تيمية : " قد يستدل بذلك على أن المذنب إذا لم يعرف فيه حكم الشرع فإنه يمسك ويحبس حتى يعرف فيه الحكم الشرعي فينفذ فيه "
[20] وهذا هو مفهوم الحبس الاحتياطي .
ورد ابن حزم هذا الاستدلال بقوله : هذا حكم منسوخ بإجماع الأمة
[21] نسخته آية الحدود
[22]: ï´؟ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ï´¾
[23] وبحديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ "
[24] رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي.
أجيب من وجهين :
الأول : على القول بأنها منسوخة، فإن السجن وإن كان منسوخاً كحد للزناة إلا أنه باقي على مشروعيته باعتباره عقوبة لغير الزناة، أو على حبس الزاني أو الزانية حتى يثبت براءتهما أو إدانتهما.
الثاني : أن سجن الزاني البكر منصوص عليه في حديث عبادة بن الصامت ، حيث فسر بعض العلماء النفي الوارد فيه بالحبس ، وإذا جاز الحبس كاعقوبة ثانية للزاني البكر ، فمن باب أولى يجوز كإجراء إحترازي واحتياطي للكشف عن حال المتهم ، وسرعة الإجراءات ، والمحافظة على حق المجني عليه .
الوجه الثاني من القياس: قاسَ القائلون بجواز حبس المتهم احتياطياً على جواز تعويق المدعى عليه في خصومة إذا كان الحاكم مشغولا عن تعجيل الفصل بين المتخاصمين ، وقالو ا إذا جاز ذلك في المدعى عليه فجوازه في المتهم أولى
[25] .
قال ابن قيم مؤيداً قول الجمهور: إن الفقهاء اتفقوا على وجوب إحضار المدعى عليه، فإذا كان الحاكم مشغولاً ببعض القضايا فيتأخر عن النظر في أمره فيكون المطلوب محبوساً من وقت الطلب إلى أن يفصل بينه وبين المدعى، وهذا حبس بدون تهمة، ففي التهمة أولى
[26] .
خامساً: المصلحة
فالمصلحة تقتضي حجز المتهم؛ لأن كثيرًا من الأفعال العدوانية قد يتعذر إقامة البينة عليها في غالب الأحوال، فلو تُرك المتهمون - لانعدام البينات – لترتب على ذلك فساد كبير بين الخلق، ولضاعت حقوق كان يمكن الحفاظ عليها .
وفي بعض هذا يقول الشوكاني : " وفيه من المصالح ما لا يخفى ، لو لم يكن منها إلا حفظ أهل الجرائم المنتهكين للمحارم ، الذين يسعون في الإضرار بالمسلمين ويعتادون ذلك ويعرف من أخلاقهم ولم يرتكبوا ما يوجب حدا ولا قصاصا حتى يقام ذلك عليهم فيراح منهم العباد والبلاد ، فهؤلاء إن تركوا وخلي بينهم وبين المسلمين بلغوا من الإضرار بهم إلى كل غاية ، وإن قتلوا كان سفك دمائهم بدون حقها فلم يبق إلا حفظهم في السجن والحيلولة بينهم وبين الناس بذلك حتى تصح منهم التوبة أو يقضي الله في شأنهم ما يختاره "
[27].
وقال أحد المعاصرين في الحبس الاحتياطي : " إجراء شاذ إذ يُعتدى به على حرية الفرد قبل أن تثبت إدانته ، ولكن تبرره مصلحة التحقيق "
[28].
ومن المصالح التي يحققها الحبس الاحتياطي فضلاً عما سبق :
1- يجعل المتهم دائماً في متناول يد المحقق ، فيمكنه في أي وقت استجوابه ومواجهته بمختلف الشهود ،
[29]
3- وهو أيضاً تضييق لدائرة الجريمة وإمساك بأسبابها ومحاولة التوصل إلى الجاني الحقيقي حتى ينال جزاءه "
[30].
4- وهو إجراء تحقيق يستهدف الحيلولة بين المتهم وبين الهرب أو تشويه أدلة الاتهام "
[31] إما بطمسها ، أو التأثير على الشهود .
سادساً : دليل المعقول .
فإنه إذا قبض على أحد من الناس بتهمة اقترافه محرماً أو اعتدائه على حق أحد فليس أمامنا تجاهه لقاء هذه التهمة الموجهة إليه إلا واحد من أمور ثلاثة :
الأمر الأول: أن نجبره على تأدية الحق الذي اتهم بالاعتداء عليه ، أو معاقبته على الجريمة التي اتهم باقترافها، وهذا محض الخطأ إذ لا يقول به عاقل، فربما كان بريئاً مما اتهم به فيكون مظلوماً والظلم محرم شرعاً.
الأمر الثاني: أن نقبض عليه فإذا أنكر نتركه مباشرة دون طول سؤال أو محاورة، أو تثبت، وهذا أيضاً محض الضرر فإنه ربما كان مجرماً حقاً فنترك له فرصة الإفلات والعياث في الأرض فساداً وهذا أمر لا يقره عقل.
الأمر الثالث: وهو أن نحبسه في سجن أو يوكل به من يلازمه ويمنعه من الهرب والاختفاء حتى نتثبت من صحة نسبة التهمة إليه، فإن ظهرت إدانته بما نسب إليه أقيم عليه الجزاء الرادع، وإن ظهرت براءته مما نسب إليه أطلق دون أن يصاب بأذى، وهذا ما يميل إليه العقل السليم.
[1] - نيل الأوطار ج 9 ص 218 .
[2] - تحفة الأحوذي ج 4 ص 563 .
[3] - نيل الأوطار ج 7 ص 330.
[4] - الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج 2 ص 95 ، المحلي ج8 ص 120 ه.
[5] - قال الحاكم صحيح وأقره الذهبي ولم يضعفه أبو داود وعلقه البخاري - فيض القدير ج5 ص 400.
[6] - عراك بن مالك الغفاري الكناني المدني ثقة فاضل من الثالثة مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة . تقريب التهذيب ج1 ص388 .
[7] - الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج 2، ص 95 .
[8] - المرسل لغة : من أرسلت الشيء إذا أطلقته " لسان العرب ج11 ص281 .
واصطلاحاً : ما رواه التابعي كبيراً أو صغيراً - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً أو فعلاً أو تقريراً ، وهذا هو المشهور . مقدمة ابن الصالح ص : 130 - 132 .
[9] - المحلى ج 11 ص 132.
[10] - التعديل والجرح ج3 ص 1040 .
[11] - الحجز المؤقت د. علي محمد الحسين الموسى " الصوا" ص 55 ، دراسات الجامعة الأردنية 1986 م .
[12] لم أقف عليه ، وأورده القرافي في الفروق ، الفروق مع هوامشه ج 4 ص 183 .
[13] - قبيلة من اليمن - عون المعبود ج 12 ص31.
[14] - حاك الثوب يَحُوكه حَوْكاً و حِياكاً و حِياكة : نسجه - لسان العرب ج10 ص418 .
[15] - اللفظ لأبو داود في السنن ، كتاب الحدود ، باب في الامتحان بالضرب برقم 4382 ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد حسن -بدائع الفوائد ج 4 ص 819.
[16] - مصنف ابن أبي شيبة جزء 5 صفحة 555 كتاب الحدود ، باب في الرجل المتهم يوجد معه المتاع برقم 28923 .
[17] - المصنف لابن أبي شيبة– ج 5، ص 555 كتاب الحدود ، باب في الرجل المتهم يوجد معه المتاع برقم 28923 . المصنف لعبد الرزاق، ج 10 ، ص 217، المحلى ج11 ص 132
[18] - واختلفوا في أن الإمساك في البيت كان حدا فنسخ أم كان حبسا ليظهر الحد؟ على قولين .
تفسير مقاتل بن سليمان ج 1 ص220، شرح معاني الآثار ج 3 ص 139، الناسخ والمنسوخ للنحاس ج1 ص 309 .
[19] - سورة النساء آية 15 .
[20] - الفتاوى الكبرى ج 4 ص598 .
[21] - المحلى ج 11 ص 133.
[22] - الرسالة ج 1 ص 129.
[23] - سورة النور آية 2 .
[24] - اللفظ لمسلم في صحيحه ، كتاب الحدود ، باب حد الزنى برقم 1690 .
[25] - مجموع الفتاوى ج 35 ص 398، الطرق الحكمية، ص 148. .
[26] الطرق الحكمية ص 102 .
[27] - نيل الأوطار ج 9 ص 218 ، 219 ..
[28] - شرح قانون الإجراءات الجنائية ، محمود محمود مصطفى ، ط العاشرة " دار النهضة العربية " ص 310 .
[29] - الحبس الاحتياطي ، دراسة لنصوص التشريع المصري الفرنسي ، إبراهيم حامد طنطاوي ، الاسكندرية ، دار الفكر العربي ص 4 .
[30] - أحكام السجن ومعاملة السجناء في الإسلام ، حسن عبد الغني أبو غدة ، الطبعة الأولى ، الكويت ، مكتبة المنار 1407هـ ، ص 98 .
[31] - معجم القانون ص 312 .