د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
أغلوطات المسائل
تمهيد:
موقف ابن رجب رحمه الله من أغلوطات المسائل:لابن رجب رحمه الله عناية بالغة بـ "أغلوطات المسائل"، ويظهر هذا للمتتبع لكلامه، وقد تجلى ذلك بشكل واضح في بحثه للمسألة بإسهاب في شرحه للأربعين النووية.
يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه الجليل والموعب بالفوائد والنصائح "جامع العلوم والحكم":
ولهذا المعنى كان كثيرٌ من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبلَ وقوعها ، ولا يُجيبون عن ذلك:
قال عمرو بن مُرة:
خرج عمرُ على الناس ، فقال : أُحرِّجُ عليكم أنْ تسألونا عن ما لم يكن ، فإنَّ لنا فيما كان شغلاً.
وقد روى الصنابحيُّ:
عنْ معاوية، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أنَّهُ نهى عنِ الأغلوطات) خرَّجهُ الإمامُ أحمد رحمه الله.
ثم نقل ابن رجب رحمه الله تفسير بعض أهل العلم لـ "الأغلوطات" فقال:
وفسرهُ الأوزاعيُّ وقالَ :
هي شدادُ المسائل.
وقال عيسى بنُ يونسَ :
هي ما لا يحتاجُ إليهِ منْ كيف وكيف.
ثم نقل ابن رجب رحمه الله حديثا ذكر فيه طريقة المشتغلين بالأغلوطات:
ويروى من حديثِ ثوبان:
عنِ النَّبيِّ- صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( سيكونُ أقوامٌ منْ أمتي يُغَلِّطونَ فقهاءهم بعضلِ المسائلِ ، أولئكَ شرارُ أمتي ).
وقالَ الحسنُ :
شرارُ عبادِ اللهِ الذينَ يتبعونَ شرارَ المسائلَ يَغُمُّون بها عبادَ اللهِ.
وقالَ الأوزاعيُّ :
إنَّ اللهَ إذا أرادَ أنْ يَحرُمَ عبدَهُ بركةَ العلمِ ألقى على لسانهِ المغاليط ، فلقدْ رأيتهم أقلَّ النَّاسِ علماً.
وقالَ ابنُ وهبٍ ، عنْ مالكٍ:
أدركتُ هذه البلدة وإنَّهم ليكرهون الإكثارَ الذي فيهِ النَّاس اليومَ : يريدُ المسائلَ .
وقالَ أيضاً :
سمعتُ مالكاً وهو يعيبُ كثرةَ الكلامِ وكثرةَ الفتيا ، ثُمَّ قالَ : يتكلمُ كأنَّهُ جملٌ مغتلمٌ ، يقولُ: هوَ كذا هوَ كذا يهدرُ في كلامهِ.
وقال: سمعتُ مالكاً يكره الجوابَ في كثرة المسائل، وقال:
قال الله - عز وجل -: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } فلم يأته في ذلك جواب .
ثم قال ابن رجب رحمه الله جامعاً أطراف كلام أهل العلم في المسألة:
وقد انقسم الناسُ في هذا الباب أقساماً :
1- فمن أتباع أهلِ الحديث: مَنْ سدَّ بابَ المسائل حتَّى قلَّ فقهه وعلمُه بحدود ما أنزل الله على رسوله ، وصار حامِلَ فقه غير فقيه.
2- ومن فقهاء أهل الرأي: مَن توسَّع في توليدِ المسائل قبلَ وقوعها ، ما يقع في العادة منها وما لا يقع ، واشتغلُوا بتكلُّفِ الجواب عنْ ذلك ، وكثرة الخصومات فيه ، والجدال عليه حتَّى يتولدَ مِنْ ذلك افتراقُ القلوب ، ويستقرَّ فيها بسببه الأهواءُ والشحناءُ والعداوةُ والبغضاءُ، ويقترن ذلك كثيراً بنية المغالبة، وطلب العلوِّ والمباهاة ، وصرف وجوه الناس وهذا ممَّا ذمه العلماءُ الربانيون ، ودلَّتِ السُّنَّةُ على قبحه وتحريمه .
3- وأما فقهاء أهل الحديث العامِلُون به: فإنَّ معظمَ همِّهمُ البحثُ عن معاني كتاب الله - عز وجل - ، وما يُفسِّرُهُ من السنن الصحيحة ، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسّان، وعن سُنَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومعرفة صحيحها وسقيمِها ، ثم التفقه فيها وتفهمها ، والوقوف على معانيها ، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسّان في أنواع العلوم من التفسير والحديث ، ومسائل الحلال والحرام ، وأصول السُّنة والزهد والرقائق وغيرِ ذلك.
وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومَنْ وافقه من علماء الحديث الرَّبّانيين.
وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغُل بما أحدثَ من الرأي ممَّا لا يُنتفع به ، ولا يقع ، وإنَّما يُورثُ التجادلُ فيه الخصوماتِ والجدالَ وكثرة القيل والقال .
وكان الإمام أحمد كثيراً إذا سُئِلَ عن شيء من المسائل المولدات التي لا تقع يقول:
دعونا منْ هذه المسائل المحدثة .
وما أحسن ما قاله يونسُ بنُ سليمان السَّقَطِيُّ :
نظرتُ في الأمرِ ، فإذا هو الحديث والرأي:
1- فوجدتُ في الحديث: ذكرَ الرب - عز وجل - وربوبيتَه وإجلاله وعظمته ، وذكرَ العرش وصفة الجنة والنار ، وذكرَ النبيين والمرسلين ، والحلال والحرام ، والحثَّ على صلة الأرحام ، وجماع الخير فيه.
2- ونظرت في الرأي: فإذا فيه المكرُ ، والغدرُ ، والحيلُ ، وقطيعة الأرحام ، وجماع الشَّرِّ فيه .
وقال أحمد بن شبويه :
من أراد علمَ القبرِ فعليه بالآثار ، ومن أراد علم الخُبْزِ ، فعليه بالرأي .
ثم يقول ابن رجب رحمه الله معلِّقا على كلام أهل العلم في هذه المسألة:
ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه ، تمكَّن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالباً؛ لأنَّ أصولها تُوجد في تلك الأصول المشار إليها
ولابدَّ أنْ يكون سلوكُ هذا الطريق خلف أئمة أهل الدين المجمَعِ على هدايتهم ودرايتهم كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد ومن سلك مسلكَهم ، فإنَّ مَنِ ادعى سلوكَ هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوزَ ومهالك ، وأخذ بما لا يجوز الأخذُ به ، وترك ما يجب العملُ به.
ويشهد لهذا :
قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أتاكم أهلُ اليمن ، هُمْ أبرُّ قلوباً ، وأرقُّ أفئدةً . الإيمان يمانٍ ، والفِقه يمانٍ ، والحكمة يمانيةٌ ).
وهذا إشارة منه:
إلى أبي موسى الأشعري ، ومن كان على طريقهِ من عُلَماء أهلِ اليمن ، ثمَّ إلى مثل أبي مسلم الخولاني ، وأويس القَرَنيِّ ، وطاووس ، ووهب بن منبه ، وغيرهم من عُلماء أهل اليمن ، وكلُّ هؤلاء مِنَ العلماء الربانيين الخائفين لله ، فكلهم علماءُ بالله يخشونه ويخافونه ، وبعضُهم أوسعُ علماً بأحكام الله وشرائع دينه من بعض
ولم يكن تميُّزهم عن الناس بكثرة قيلٍ وقالٍ ، ولا بحثٍ ولا جدالٍ .
وكذلك معاذُ بنُ جبل - رضي الله عنه - أعلم الناس بالحلال والحرام ، وهو الذي يحشر يومَ القيامة أمام العلماء برتوة
ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها ، بل قد سبق عنه كراهةُ الكلام فيما لا يقع ، وإنما كان عالماً بالله وعالماً بأصول دينه .
وقد قيل للإمام أحمد :
مَنْ نسألُ بعدَك ؟
قال : عبد الوهَّاب الورَّاق
قيل له : إنَّه ليس له اتَّساعٌ في العلم!
قال : إنَّه رجل صالح مثلُه يُوفَّقُ لإصابة الحق .
وسئل عن معروف الكرخي:
فقال : كان معه أصلُ العلم : خشية الله .
وهذا يرجعُ إلى قولِ بعض السَّلف :
كفى بخشية الله علماً ، وكفى بالاغترار بالله جهلاً .
وهذا بابٌ واسع يطول استقصاؤه .
ثم ختم ابن رجب رحمه الله كلامه في هذه المسألة ملخصا موطن الشاهد منها في شرح الحديث:
ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فنقول :
مَنْ لم يشتغل بكثرة المسائل التي لا يوجدُ مثلُها في كتاب ، ولا سنة ، بل اشتغل بفهم كلام الله ورسوله ، وقصدُه بذلك امتثالُ الأوامر ، واجتنابُ النواهي ، فهو ممَّنِ امتثلَ أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ، وعَمِلَ بمقتضاه ، ومن لم يكن اهتمامُه بفهم ما أنزل الله على رسوله ، واشتغل بكثرةِ توليدِ المسائل قد تقع وقد لا تقع ، وتكلَّفَ أجوبتها بمجرَّد الرأي ، خُشِيَ عليه أنْ يكونَ مخالفاً لهذا الحديث ، مرتكباً لنهيه ، تاركاً لأمره .
وأخيراً نبه ابن رجب رحمه الله إلى نكتة هذه المسألة فقال رحمه الله:
واعلم:
أنَّ كثرةَ وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة إنَّما هو مِنْ ترك الاشتغال بامتثالِ أوامر الله ورسوله ، واجتنابِ نواهي الله ورسوله ، فلو أنَّ من أرادَ أنْ يعمل عملاً سأل عمَّا شرع الله في ذلك العمل فامتثله ، وعما نهى عنه فاجتنبه ، وقعت الحوادثُ مقيدةً بالكتاب والسنة .
وإنَّما يعمل العاملُ بمقتضى رأيه وهواه ، فتقع الحوادثُ عامَّتُها مخالفةً لما شرعه الله وربما عسر ردُّها إلى الأحكام المذكورةِ في الكتاب والسنة ؛ لبعدها عنها .