وضاح أحمد الحمادي
:: متخصص ::
- إنضم
- 31 مارس 2009
- المشاركات
- 1,277
- الإقامة
- عدن
- الجنس
- ذكر
- الكنية
- أبو عبد الرحمن
- التخصص
- لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
- الدولة
- اليمن
- المدينة
- عدن
- المذهب الفقهي
- شافعي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أبتدء فأقول : قد تَرَدَدْتُ كثيراً قبل إفراد هذا الكلام بموضوع يخصه ، حيث كانت لي نية في جعله مداخلات مع بعض مشائخنا الأفاضل في الملتقى ، لكني رأيت في جعله مداخلات إخراج لدروسه عن مقصودها ، لطول هذه المداخلات جداً كما سترى بحيث يحتاج الشيخ الفاضل إلى تخصيص وقتٍ لها وأن يستبق ما سيأتي من الدروس أثناء رده ، وسيشتت هذا دهن القارئ بحيث لا تكون تلك الدروس مرتبطة ببعضها في ذهنه.
فأقول : قد كان يدور في خلدي منذ فترة أن علم المقاصد المستحدث اليوم شبيه بعلم المنطق من جهة عدم الحاجة إليه إلا لفهم كلام المقاصديين أنفسهم ، فقد يدرس الدارس علم المنطق مثلاً لا لاعتقاده بجدواه وفائدته ، بل ليفهم كلام المنطقيين عند ترتيبهم للبراهين على الوضع المنطقي. فهو في ظني علم لا يحتاج إليه الفقيه ولا ينتفع به المقلد ، على نحو ما قالوا في المنطق (علم لا يحتاج إليه النبيه ولا ينتفع به البليد).
وقبل أن يقفز القارئ إلى الحكم عليَّ أقول : أنا لا أشك بأن الفقيه يحتاج إلى معرفة المقاصد الشرعية للأحكام الفرعية واستقرائها لما فيه من تمكينه من معرفة معاني النصوص وبخاصة عند تعارضها ، لكن معرفة المقصد الشرعي شيء وعلم المقاصد المستحدث اليوم شيء آخر تماماً كما سيأتي معك.
لم أكن قرأت كتاباً مفرداً في المقاصد إلا ما جاء في كتب المتقدمين نحو ما تضمنه كتاب (الموافقات) للشاطبي و(إعلام الموقعيين) لابن القيم و(القواعد الكبرى) لابن عبد السلام وكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية بشكل عام ، وكنت زاهداً كل الزهد في كتابات المعاصرين ، لكني كغيري سمعت منهم دعاوى كثيرة حول وجوب النظر في المقاصد الشرعية قبل الحكم على المسائل الجزئية وإعطائها أحكامها الشرعية ، وهي دعوى لا اعتراض عليها أصلاً ، لكن وجه الاعتراض أنهم يقصدون بالمقاصد التي يجب على الفقيه مراعاتها ما استحدثوه وسموه (علم مقاصد الشريعة) ومقصودي مراعاة المقاصد بمفهومه اللغوي والشرعي فقط ، فالمقصود الغاية التي من أجلها شرع الشارع الأحكام الشرعية والوضعية ، الكلية منها والجزئية ، وسيأتي عند الكلام على حد المقصد الشرعي .
وكنت ، ولا زلت ، أظن أن كتب أصول الفقه و الأشباه والنظائر والقواعد الفقهية مغنية عما استحدثه المقاصديون ، بل كتاباتهم في ظني شبيهة بالقص واللصق ، فيأخذون ما في علم الأصول في أبواب الخطاب الشرعي ودلالة الألفاظ ومسالك العلة والاستدلال وغيرها وما في كتب القواعد والأشباه والنظائر من العلل والضوابط المشتركة للمسائل التي يستقرئها المصنف ويجمعونها زاعمين أن هذا اللصق والترقيع علم مفرد مستحدث لا يستغني عنه الفقيه .
وظني أن هذا ممكن بشرط أن لا يُجْعَلَ علماً مفرداً بل إفراد علم ، للتيسير على الطالب المتفقه للوصول إلى المقاصد بأقرب طريق ، كما قد يُفْرَدُ باب القياس بتصنيف أو باب الإجماع أو باب الحديث أو باب التعليل أو باب الاستدلال أو الكلام في المرسل وغير ذلك من غير أن يخرجها ذلك عن كونها أجزاء من علم الأصول أو علم الحديث.
ثم عن لي أن أقطع الظن باليقين فبحثت عن كتب بعض المقاصديين ووجدت كتاب (مقاصد الشريعة) لابن عاشور رحمه الله فاقتنيته ونظرت فيه ، فإذا الأمر كما ظننت أولاً ، كما قمت بتحميل كتب المقاصد من الشبكة والنظر فيها ، فازددت وثوقاً بظني .
وقد رأيت أن المهتمين بهذا الشأن لم يدركوا جهات كلام الأصوليين على المقاصد ، لذا ظن عامتهم أن الأصوليون لم يتكلموا في هذا الباب إلا بكلمات مجملة وعبارات متفرقة ، والحق أنهم فصلوا فيها التفصيل الذي يحتاج إليه ، وما أورده المعاصرون ـ وليعذرني الأخوة ـ هو من باب التنطع والتزيد ، فبدلاً مثلاً من تعريف المقاصد الشرعية بالعلل أو الحكم الغائية التي راعها الشارع أو قصدها بتشريع الأحكام ، يمطون الكلام إلى الغاية ، ويزعمون أن هذا التعريف قد يدخل فيه المقاصد الكلية لا الجزئية الفرعية ، وفي حقيقة الأمر كل ما خرج عن هذا الحد فليس بمقصد أصلاً ، لا كلي ولا جزئي فرعي .
فليكن أول ما نتكلم فيه حد (المقاصد الشرعية) فأقول :
إذا نظرنا في موضوع هذا العلم علمنا أنهم لا يريدون نفس الحكم ولا دليله ولا طرق استنباط الحكم من ذلك الدليل ، أما الحكم فلأنهم يصرحون بتعليله بالمقاصد الشرعية ، ولا يجوز أن يكون الشيء هو علة نفسه.
أما دليله ، فلأن مقصودي به الجزئي الفرعي كالنصوص والإجماعات والقياسات الجزئية ، وهي نفس القرآن والسنة بالنسبة إلى حكم حكم من المسائل الفقهية ، والدليل على المسألة ليس هو مقصودها ، فمثلاً الدليل على وجوب القصاص قوله جل وعلا : (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) وليس المقصود من القصاص الشرعي هو نفس قوله جل وعلا (كتب عليكم القصاص) الذي هو دليلها الجزئي ، بل المقصود به الحفاظ على الأنفس مثلاً .
وأما طرق استنباطه ، فلأنها إما نفس الأدلة الكلية أو طرق استعمالها أو المجموع وكل ذلك لا يسمى مقصداً من الحكم الشرعي أو مقصداً شرعياً ، فليس مقصود الشارع من تشريع خيار المجلس السنة النبوية ، بل دفع الندامة ، ولا مقصوده من الأمر بالطاعة وعدم الخروج الإجماع والسنة بل الحفاظ على النفس ، وليس مقصوده بتشريع اعتداد الأمة منصفاً القياس على تنصيف الحد ، بل مجرد براءة الرحم الحاصل بالعدة منصفة أو غير ذلك وهكذا.
وهذا الذي أذكره هنا جلي جداً ، لكني نبهت عليه لِمَا رأيته من ظن بعضهم أن ذكر هذه الأشياء في التعريف يجعلها نفس المعرف أو أجزاء منه ، وهذا خطأ ، فلا يلزم من ذكرها في الحد كونها نفس المحدود بل ولا جزءً من المحدود ، إلا متى كان ذاتياً أو عرضياً له فقط ، وقد يذكر الشيء في طريق ما هو ولا يذكر في جوابه ، فلا يكون جزءً من المسأول عن ماهيته ، كما لو قلت : الذاتي هو الذي يسبق تصوره تصور ما هو ذاتي له ؛ فإن التصور ليس من أجزاء الذاتي ، ولا سبق التصور ولا ما هو ذاتي له ، فكل أجزاء التعريف هنا ليست جزءً من الذاتي أصلاً.
كما ظن بعضهم أنه لما كان المقاصدي ينظر في الأحكام الشرعية أن الأحكام الشرعية من أجزاء المقاصد الشرعية أيضاً فظن أنها إما مقاصدَ شرعية أو أجزاء لماهيتها.
وفيه نظر من جهة أن المقاصدي ينظر للأحكام الشرعية باعتبارين ، الأول لتحصيلها بما عرفه من المقاصد الشرعية ، فهذا ينظر لها باعتبارها نتيجة العلم بالمقصد لا جزءً منه .
الثاني أن ينظر في الأحكام الشرعية المعلومة له مسبقاً لتحصيل المقصد الشرعي كما يفعله صاحب (الأشباه والنظائر) وصاحب (القواعد الفقهية) فيستخرج الجامع لها ، وكثيراً ما يكون علة غائية أو مقصداً شرعياً ، فيجعله ضابطاً لتلك المسائل ، يضم إليها ما لم يعرف حكمه، فالناظر في الحكم هنا ينظر إليه باعتباره دليل المقصد لا جزءً منه.
فما هو المقصد إذاً ؟
المراد بها الحكمة الغائية من الفعل .
والمقصد الشرعي ، هو الحكمة الغائية من وضع الشارع للحكم الشرعي.
وقد جمع الدكتورالخادمي في كتابه (علم المقاصد الشرعية) ص16-17 جملة منها ، ولا غرض لي في استقصائها.
فما معنى الحكمة ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "الحكمة ما في خلقه وفعله من العواقب المحمودة والغايات المحبوبة"
وقال ابن الوزير : "نوع مخصوص من علم الله تعالى بالمنافع الخفية والعواقب الحميدة والمصالح الراجحة"
فجعل شيخ الإسلام الحكمة نفس العواقب المحمودة والغايات المحبوبة أما ابن الوزير فجعلها العلم بها أو بما فيها من حسن.
وقال السياغي : "الحكمة عند أصحابنا كل فعل حسن فيه لصاحبه غرض صحيح"
وهو تعريف حسن لكن يرد عليه أن وصفه بالحسن إنما يكون لمعنى فيه وهو بعينه ذلك الغرض الصحيح ، فلا معنى لوصفه بالحسن مع التصريح بالغرض الصحيح ، ولكنه أبداه لغموض مقصوده بالمعنى الحسن ، ولو اقتصر على قوله : "كل فعل لصاحبه فيه غرض صحيح" لكفى ، إلا أن يقال : المراد بالغرض الصحيح ما هو أعم من الحسن والقبيح ، وذلك عند من يجعل الحسن والقبح ذاتي للفعل.
لكن غرض الشارع عندهم كله صحيح وكله جارٍ على صفة الحُسْنِ فقط . والله أعلم.
وبهذا يظهر معنى المقصد الشرعي ، أي المعنى الذي من أجله حسن وضع الحكم.
ثم ذلك المعنى ما هو ؟
قد بينا معناه ، لكني أردت أن أبين افتراق الناس فيه وجناية بعض المقاصدين على من تقدم من أهل العلم بدعوى أنهم أهملوا تعريف المقاصد ، فأقول : قد تناول المتقدمون هذه المعاني تحت أسماء متعددة ، منها (تعليل الأفعال) ومنها (التحسين والتقبيح) ومنها (المصالح والمفاسد) ولم أرَ من المقاصديين من تصدى للكلام في هذه العناوي بالتفصيل الذي ذكره أهلها في كتبهم ، فلم يكن هذا مجيزاً لدعوى إهمال المقاصدين لهذه المعاني لكونهم تكلموا عليها تحت مصطلح آخر ، كما لا يجوز أن يتهم المتقدمين بإهمالهم الكلام في المقاصد لمجرد أنهم تركوا هذا الاصطلاح وتكلموا على حقيقته تحت اصطلاحات مخالفة موافقة في الحقيقة .
فتحت عنوان التحسين والتقبيح وتعليل الأفعال تكلم كثيرون وبخاصة المعتزلة عن المقاصد الشريعة فيما لا يحصى من كتب أصول الدين وأصول الفقه ، وهكذا شيخ الإسلام وابن القيم ، بل أفرد ابن القيم لها كتاباً وابن الوزير ، وهكذا عامة المعتزلة ولا زال المقبلي يرددها في عامة كتبه ، فإن إثباتها هو مذهب أهل الحديث والكرامية والمعتزلة والماتريدية ، بل وأكثر الأشاعرة المتأخرين ، بل هم موافقون عموماً فيما يتعلق بالأحكام بتعليقها بالمصالح والمفاسد . والله أعلم.
وتكلموا عن كيفية استخراج الأحكام الشرعية الخمسة منها ، كما فعل عبد الجبار في (المجموع المحيط بالتكليف) الجزء الأول مثلاً ، وكما فعله صاحب المعتمد عند كلامه على العلة المنصوصة وأبي عبدالله البصري كلام نحوه أيضاً.
وتكلموا عن كيفية استنباطها في مباحث الاستدلال ومسالك العلة وكتب القواعد الفقهية وكتب الأشباه والنظائر وكتب الفقه.
بل كل ما جعلوه دليلاً على إثبات الحكم الشرعي فهو صالح عندهم لإثبات المقصد الشرعي .
بهذا اكتفي الآن ونكمل لاحقاً إن شاء الله
والله جل وعلا أعلم وأحكم
أبتدء فأقول : قد تَرَدَدْتُ كثيراً قبل إفراد هذا الكلام بموضوع يخصه ، حيث كانت لي نية في جعله مداخلات مع بعض مشائخنا الأفاضل في الملتقى ، لكني رأيت في جعله مداخلات إخراج لدروسه عن مقصودها ، لطول هذه المداخلات جداً كما سترى بحيث يحتاج الشيخ الفاضل إلى تخصيص وقتٍ لها وأن يستبق ما سيأتي من الدروس أثناء رده ، وسيشتت هذا دهن القارئ بحيث لا تكون تلك الدروس مرتبطة ببعضها في ذهنه.
فأقول : قد كان يدور في خلدي منذ فترة أن علم المقاصد المستحدث اليوم شبيه بعلم المنطق من جهة عدم الحاجة إليه إلا لفهم كلام المقاصديين أنفسهم ، فقد يدرس الدارس علم المنطق مثلاً لا لاعتقاده بجدواه وفائدته ، بل ليفهم كلام المنطقيين عند ترتيبهم للبراهين على الوضع المنطقي. فهو في ظني علم لا يحتاج إليه الفقيه ولا ينتفع به المقلد ، على نحو ما قالوا في المنطق (علم لا يحتاج إليه النبيه ولا ينتفع به البليد).
وقبل أن يقفز القارئ إلى الحكم عليَّ أقول : أنا لا أشك بأن الفقيه يحتاج إلى معرفة المقاصد الشرعية للأحكام الفرعية واستقرائها لما فيه من تمكينه من معرفة معاني النصوص وبخاصة عند تعارضها ، لكن معرفة المقصد الشرعي شيء وعلم المقاصد المستحدث اليوم شيء آخر تماماً كما سيأتي معك.
لم أكن قرأت كتاباً مفرداً في المقاصد إلا ما جاء في كتب المتقدمين نحو ما تضمنه كتاب (الموافقات) للشاطبي و(إعلام الموقعيين) لابن القيم و(القواعد الكبرى) لابن عبد السلام وكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية بشكل عام ، وكنت زاهداً كل الزهد في كتابات المعاصرين ، لكني كغيري سمعت منهم دعاوى كثيرة حول وجوب النظر في المقاصد الشرعية قبل الحكم على المسائل الجزئية وإعطائها أحكامها الشرعية ، وهي دعوى لا اعتراض عليها أصلاً ، لكن وجه الاعتراض أنهم يقصدون بالمقاصد التي يجب على الفقيه مراعاتها ما استحدثوه وسموه (علم مقاصد الشريعة) ومقصودي مراعاة المقاصد بمفهومه اللغوي والشرعي فقط ، فالمقصود الغاية التي من أجلها شرع الشارع الأحكام الشرعية والوضعية ، الكلية منها والجزئية ، وسيأتي عند الكلام على حد المقصد الشرعي .
وكنت ، ولا زلت ، أظن أن كتب أصول الفقه و الأشباه والنظائر والقواعد الفقهية مغنية عما استحدثه المقاصديون ، بل كتاباتهم في ظني شبيهة بالقص واللصق ، فيأخذون ما في علم الأصول في أبواب الخطاب الشرعي ودلالة الألفاظ ومسالك العلة والاستدلال وغيرها وما في كتب القواعد والأشباه والنظائر من العلل والضوابط المشتركة للمسائل التي يستقرئها المصنف ويجمعونها زاعمين أن هذا اللصق والترقيع علم مفرد مستحدث لا يستغني عنه الفقيه .
وظني أن هذا ممكن بشرط أن لا يُجْعَلَ علماً مفرداً بل إفراد علم ، للتيسير على الطالب المتفقه للوصول إلى المقاصد بأقرب طريق ، كما قد يُفْرَدُ باب القياس بتصنيف أو باب الإجماع أو باب الحديث أو باب التعليل أو باب الاستدلال أو الكلام في المرسل وغير ذلك من غير أن يخرجها ذلك عن كونها أجزاء من علم الأصول أو علم الحديث.
ثم عن لي أن أقطع الظن باليقين فبحثت عن كتب بعض المقاصديين ووجدت كتاب (مقاصد الشريعة) لابن عاشور رحمه الله فاقتنيته ونظرت فيه ، فإذا الأمر كما ظننت أولاً ، كما قمت بتحميل كتب المقاصد من الشبكة والنظر فيها ، فازددت وثوقاً بظني .
وقد رأيت أن المهتمين بهذا الشأن لم يدركوا جهات كلام الأصوليين على المقاصد ، لذا ظن عامتهم أن الأصوليون لم يتكلموا في هذا الباب إلا بكلمات مجملة وعبارات متفرقة ، والحق أنهم فصلوا فيها التفصيل الذي يحتاج إليه ، وما أورده المعاصرون ـ وليعذرني الأخوة ـ هو من باب التنطع والتزيد ، فبدلاً مثلاً من تعريف المقاصد الشرعية بالعلل أو الحكم الغائية التي راعها الشارع أو قصدها بتشريع الأحكام ، يمطون الكلام إلى الغاية ، ويزعمون أن هذا التعريف قد يدخل فيه المقاصد الكلية لا الجزئية الفرعية ، وفي حقيقة الأمر كل ما خرج عن هذا الحد فليس بمقصد أصلاً ، لا كلي ولا جزئي فرعي .
فليكن أول ما نتكلم فيه حد (المقاصد الشرعية) فأقول :
إذا نظرنا في موضوع هذا العلم علمنا أنهم لا يريدون نفس الحكم ولا دليله ولا طرق استنباط الحكم من ذلك الدليل ، أما الحكم فلأنهم يصرحون بتعليله بالمقاصد الشرعية ، ولا يجوز أن يكون الشيء هو علة نفسه.
أما دليله ، فلأن مقصودي به الجزئي الفرعي كالنصوص والإجماعات والقياسات الجزئية ، وهي نفس القرآن والسنة بالنسبة إلى حكم حكم من المسائل الفقهية ، والدليل على المسألة ليس هو مقصودها ، فمثلاً الدليل على وجوب القصاص قوله جل وعلا : (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) وليس المقصود من القصاص الشرعي هو نفس قوله جل وعلا (كتب عليكم القصاص) الذي هو دليلها الجزئي ، بل المقصود به الحفاظ على الأنفس مثلاً .
وأما طرق استنباطه ، فلأنها إما نفس الأدلة الكلية أو طرق استعمالها أو المجموع وكل ذلك لا يسمى مقصداً من الحكم الشرعي أو مقصداً شرعياً ، فليس مقصود الشارع من تشريع خيار المجلس السنة النبوية ، بل دفع الندامة ، ولا مقصوده من الأمر بالطاعة وعدم الخروج الإجماع والسنة بل الحفاظ على النفس ، وليس مقصوده بتشريع اعتداد الأمة منصفاً القياس على تنصيف الحد ، بل مجرد براءة الرحم الحاصل بالعدة منصفة أو غير ذلك وهكذا.
وهذا الذي أذكره هنا جلي جداً ، لكني نبهت عليه لِمَا رأيته من ظن بعضهم أن ذكر هذه الأشياء في التعريف يجعلها نفس المعرف أو أجزاء منه ، وهذا خطأ ، فلا يلزم من ذكرها في الحد كونها نفس المحدود بل ولا جزءً من المحدود ، إلا متى كان ذاتياً أو عرضياً له فقط ، وقد يذكر الشيء في طريق ما هو ولا يذكر في جوابه ، فلا يكون جزءً من المسأول عن ماهيته ، كما لو قلت : الذاتي هو الذي يسبق تصوره تصور ما هو ذاتي له ؛ فإن التصور ليس من أجزاء الذاتي ، ولا سبق التصور ولا ما هو ذاتي له ، فكل أجزاء التعريف هنا ليست جزءً من الذاتي أصلاً.
كما ظن بعضهم أنه لما كان المقاصدي ينظر في الأحكام الشرعية أن الأحكام الشرعية من أجزاء المقاصد الشرعية أيضاً فظن أنها إما مقاصدَ شرعية أو أجزاء لماهيتها.
وفيه نظر من جهة أن المقاصدي ينظر للأحكام الشرعية باعتبارين ، الأول لتحصيلها بما عرفه من المقاصد الشرعية ، فهذا ينظر لها باعتبارها نتيجة العلم بالمقصد لا جزءً منه .
الثاني أن ينظر في الأحكام الشرعية المعلومة له مسبقاً لتحصيل المقصد الشرعي كما يفعله صاحب (الأشباه والنظائر) وصاحب (القواعد الفقهية) فيستخرج الجامع لها ، وكثيراً ما يكون علة غائية أو مقصداً شرعياً ، فيجعله ضابطاً لتلك المسائل ، يضم إليها ما لم يعرف حكمه، فالناظر في الحكم هنا ينظر إليه باعتباره دليل المقصد لا جزءً منه.
فما هو المقصد إذاً ؟
المراد بها الحكمة الغائية من الفعل .
والمقصد الشرعي ، هو الحكمة الغائية من وضع الشارع للحكم الشرعي.
وقد جمع الدكتورالخادمي في كتابه (علم المقاصد الشرعية) ص16-17 جملة منها ، ولا غرض لي في استقصائها.
فما معنى الحكمة ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "الحكمة ما في خلقه وفعله من العواقب المحمودة والغايات المحبوبة"
وقال ابن الوزير : "نوع مخصوص من علم الله تعالى بالمنافع الخفية والعواقب الحميدة والمصالح الراجحة"
فجعل شيخ الإسلام الحكمة نفس العواقب المحمودة والغايات المحبوبة أما ابن الوزير فجعلها العلم بها أو بما فيها من حسن.
وقال السياغي : "الحكمة عند أصحابنا كل فعل حسن فيه لصاحبه غرض صحيح"
وهو تعريف حسن لكن يرد عليه أن وصفه بالحسن إنما يكون لمعنى فيه وهو بعينه ذلك الغرض الصحيح ، فلا معنى لوصفه بالحسن مع التصريح بالغرض الصحيح ، ولكنه أبداه لغموض مقصوده بالمعنى الحسن ، ولو اقتصر على قوله : "كل فعل لصاحبه فيه غرض صحيح" لكفى ، إلا أن يقال : المراد بالغرض الصحيح ما هو أعم من الحسن والقبيح ، وذلك عند من يجعل الحسن والقبح ذاتي للفعل.
لكن غرض الشارع عندهم كله صحيح وكله جارٍ على صفة الحُسْنِ فقط . والله أعلم.
وبهذا يظهر معنى المقصد الشرعي ، أي المعنى الذي من أجله حسن وضع الحكم.
ثم ذلك المعنى ما هو ؟
قد بينا معناه ، لكني أردت أن أبين افتراق الناس فيه وجناية بعض المقاصدين على من تقدم من أهل العلم بدعوى أنهم أهملوا تعريف المقاصد ، فأقول : قد تناول المتقدمون هذه المعاني تحت أسماء متعددة ، منها (تعليل الأفعال) ومنها (التحسين والتقبيح) ومنها (المصالح والمفاسد) ولم أرَ من المقاصديين من تصدى للكلام في هذه العناوي بالتفصيل الذي ذكره أهلها في كتبهم ، فلم يكن هذا مجيزاً لدعوى إهمال المقاصدين لهذه المعاني لكونهم تكلموا عليها تحت مصطلح آخر ، كما لا يجوز أن يتهم المتقدمين بإهمالهم الكلام في المقاصد لمجرد أنهم تركوا هذا الاصطلاح وتكلموا على حقيقته تحت اصطلاحات مخالفة موافقة في الحقيقة .
فتحت عنوان التحسين والتقبيح وتعليل الأفعال تكلم كثيرون وبخاصة المعتزلة عن المقاصد الشريعة فيما لا يحصى من كتب أصول الدين وأصول الفقه ، وهكذا شيخ الإسلام وابن القيم ، بل أفرد ابن القيم لها كتاباً وابن الوزير ، وهكذا عامة المعتزلة ولا زال المقبلي يرددها في عامة كتبه ، فإن إثباتها هو مذهب أهل الحديث والكرامية والمعتزلة والماتريدية ، بل وأكثر الأشاعرة المتأخرين ، بل هم موافقون عموماً فيما يتعلق بالأحكام بتعليقها بالمصالح والمفاسد . والله أعلم.
وتكلموا عن كيفية استخراج الأحكام الشرعية الخمسة منها ، كما فعل عبد الجبار في (المجموع المحيط بالتكليف) الجزء الأول مثلاً ، وكما فعله صاحب المعتمد عند كلامه على العلة المنصوصة وأبي عبدالله البصري كلام نحوه أيضاً.
وتكلموا عن كيفية استنباطها في مباحث الاستدلال ومسالك العلة وكتب القواعد الفقهية وكتب الأشباه والنظائر وكتب الفقه.
بل كل ما جعلوه دليلاً على إثبات الحكم الشرعي فهو صالح عندهم لإثبات المقصد الشرعي .
بهذا اكتفي الآن ونكمل لاحقاً إن شاء الله
والله جل وعلا أعلم وأحكم