العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

قراءة تحليلية لكلام لثلاثة من أئمة العلم في تكفير الفرائض وأعمال البر لكبائر الذنوب.

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
قراءة تحليلية


لكلام لثلاثة من أئمة العلم


في تكفير الفرائض وأعمال البر لكبائر الذنوب.






بسم الله الرحمن الرحيم


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا }
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}
أما بعد:

فهذه المسألة من الأهمية بمكان لاسيما من كان مشفقاً على نفسه من ذنوبه سائلا عن أحواله مستحضرا لعلاته راجياً لرحماته سبحانه، ومتعرضا لنفحاته، وهو في حالٍ الله أعلم بها وقد أقضت مضاجعه ذنوب الخلوات، أو الآيات التي قرنت التوبة بالسير على الأعمال الصالحات، فتعلقت أنفاسه بمقامات الرجاء لعل وعسى.


-----


والمسألة المقصودة هي بحث الجواب عن هذا السؤال:


هل تكفر الفرائضُ وأعمالُ البرِّ الكبائرَ أم يقتصر التكفير على الصغائر، أما الكبائر فلا بد لها من التوبة؟

وسنستعرض هذه المسألة إن شاء الله من خلال قراءة كلام ثلاثة من كبار أئمة أهل العلم والدين وهم:
1- ابن عبد البر النمْري.
2- ابن رجب الحنبلي.
3- ابن تيمية الحراني.
وسنعرضها من خلال هذه الترتيب مراعاة لمواقفهم تجاه هذه المسألة، وسنحاول بحول الله وقوته تسجيل النتائج المستخلصة عقب قراءة كلام كل واحد منهم، والله الموفق والمسدد والهادي إلى سواء السبيل.
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
يقول ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد (1):
وقال بعض المنتمين إلى العلم من أهل عصرنا :
إن الكبائر والصغائر يكفرها الصلاة والطهارة.
واحتج:
1- بظاهر حديث الصنابحي هذا.(2)
2- وبمثله من الآثار.
3- وبقوله صلى الله عليه و سلم: ( فما ترون ذلك يبقى من ذنوبه ).
وما أشبه ذلك.
وهذا :
1- جهل بين.
2- وموافقة للمرجئة فيما ذهبوا إليه من ذلك .
3- وكيف يجوز لذي لب أن يحمل هذه الآثار على عمومها وهو يسمع:
أ‌- قول الله عز و جل : {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا }
ب‌- وقوله تبارك وتعالى: { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}
في آي كثيرة من كتابه.
4- ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البر مكفرة للكبائر والمتطهر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبق ولا قاصد إليه ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لما كان لأمر الله عز و جل بالتوبة معنى.
5- ولكان كل من توضأ وصلى يشهد له بالجنة بأثر سلامه من الصلاة وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر.
وهذا لا يقوله أحد ممن له فهم صحيح.
6- وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرض والفروض لا يصح أداء شيء منها إلا بقصد ونية واعتقاد أن لا عودة.
7- فإما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر ولا نادم على ذلك فمحال.
8- وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( الندم توبة )
9- وقال صلى الله عليه وسلم: ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ).
10- عن طارق بن شهاب سمع سلمان الفارسي يقول: ( حافظوا على هذه الصلوات الخمس فإنهن كفارة هذه الجراح ما لم تصب المقتلة).
وهذا يبين لك ما ذكرنا ويوضح لك:
أن الصغائر تكفر بالصلوات الخمس لمن اجتنب الكبائر
فيكون على هذا معنى قول الله عز و جل: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} الصغائرَ بالصلاة والصوم والحج وأداء الفرائض وأعمال البر.
وإن لم تجتنبوا الكبائر ولم تتوبوا منها لم تنتفعوا بتكفير الصغائر إذا واقعتم الموبقات المهلكات والله أعلم.
وهذا كله قبل الموت.
فإن مات صاحب الكبيرة فمصيره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، فإن عذبه فبجرمه، وإن عفا عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة.
وإن تاب قبل الموت وقبل حضوره ومعاينته وندم واعتقد أن لا يعود واستغفر ووجل كان كمن لم يذنب.
وبهذا كله الآثار الصحاح عن السلف قد جاءت، وعليه جماعة علماء المسلمين.
ولو تدبر هذا القائل:
الحديث الذي فيه ذكر خروج الخطايا من فمه وأنفه ويديه ورجليه ورأسه
لعلم: أنها الصغائر في الأغلب.
ولعلم: أنها معفو عنها بترك الكبائر.
دليل ذلك:
قوله صلى الله عليه و سلم: ( العينان تزنيان واليدان تزنيان والفم يزني ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه)
يريد والله أعلم:
أن الفرج بعمله يوجب المهلكة وما لم يكن ذلك فأعمال البر يغسلن ذلك كله.
وقد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب لولا قول ذلك القائل وخشيت أن يغتر به جاهل فينهمك في الموبقات اتكالا على أنها تكفرها الصلوات الخمس دون الندم عليها والاستغفار والتوبة منها والله أعلم ونسأله العصمة والتوفيق.
--------------------------------

1) التمهيد (4 / 44).

2) عن عبد الله الصنابحي: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له. )
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
النتائج المستخلصة من كلام ابن عبد البر الأندلسي رحمه الله:

1-قصد ابن عبد البر الرد على بعض المنتمين إلى العلم من أهل عصره.
2-ذكر هؤلاء: أن الكبائر والصغائر يكفرها الصلاة والطهارة.

3-خشي ابن عبد البر أن يغتر بقول هؤلاء جاهل فينهمك في الكبائر اتكالا على أنها تكفرها الصلوات الخمس دون إحداث ندم أو توبة.


4-ذكر ابن عبد البر أن حجة هؤلاء هو الاحتجاج ببعض الآثار التي فيها محو الذنوب بفعل بعض الأعمال الصالحة.


5-اعتبر ابن عبد البر أن هذا الاحتجاج جهل بين وموافقة للمرجئة، ولا يقوله أحدٌ له فهم صحيح، بل هو محال.


6-اعتبر ابن عبد البر رحمه الله أن هذا القول لو كان حقا لما كان لأمر الله بالتوبة معنى، وقد أجمع المسلمون على فرضية التوبة وأنها لا تصح إلا بقصد ونية واعتقاد ألا عود.


7-ولو كان هذا القول حقا لشهد لكل من سلَّم من صلاته بالجنة وإن فعل وفعل.


8-فسَّر ابن عبد البر قولَه تعالى:{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} بأن معناه تكفير الفرائض وأعمال البر للصغائر إن اجتنب الكبائر، وهذا سائغ من نفس دلالة الآية لأن الإنسان لا يكون مجتنبا للكبائر إلا وهو قد أدَّى الفرائض ضرورة.


9-لكن ابن عبد البر قيَّد تكفير الأعمال الصالحة للصغائر بما إذا اجتنبت الكبائر، فإن لم تجتنب لم ينتفع من هذه الأعمال حتى بتكفير الصغائر.

وهذا الرأي سنعرض له مرة أخرى في كلام ابن رجب رحمه الله.

10- جزم ابن عبد البر رحمه الله بأن جماعة علماء المسلمين على أن التكفير مختص بالصغائر، وأنه به جاءت الآثار الصحاح عن السلف.

11- ذكر ابن عبد البر أن المتدبر للحديث الذي فيه ذكر خروج الخطايا من فمه وأنفه ويديه ورجليه ورأسه يعلم أنه الصغائر في الأغلب.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
يقول ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم:
وقد اختلفَ الناسُ في مسألتين:
إحداهما : هل تُكفِّرُ الأعمالُ الصالحةُ الكبائرَ والصغائرَ أم لا تكفر سوى الصغائر ؟
فمنهم من قال : لا تُكفر سوى الصغائر، وقد رُوي هذا عن عطاء وغيره من السَّلف في الوضوء أنَّه يُكفر الصغائر.
وقال سلمان الفارسيُّ في الوضوء:
إنَّه يكفر الجراحات الصِّغار، والمشي إلى المسجد يُكفر أكبرَ من ذلك ، والصلاة تكفر أكبرَ من ذلك . خرَّجه محمد بن نصر المروزي.
وأما الكبائر ، فلابدَّ لها من التوبة:
لأنَّ الله أمر العباد بالتوبة ، وجعل من لم يتب ظالماً، واتفقت الأمةُ على أنَّ التوبة فرض ، والفرائضُ لا تُؤدى إلا بنيةٍ وقصدٍ.
ولو كانت الكبائرُ تقع مكفرةً بالوضوء والصلاة ، وأداء بقية أركان الإسلام ، لم يُحْتَجْ إلى التوبة ، وهذا باطلٌ بالإجماع .
وأيضا :
فلو كُفِّرَت الكبائرُ بفعل الفرائض لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قولَ المرجئة وهو باطل، هذا ما ذكره ابن عبد البرِّ في كتابه " التمهيد " وحكى إجماع المسلمين على ذلك ، واستدلَّ عليه بأحاديث :
منها : قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : (الصَّلواتُ الخمسُ ، والجمعَةُ إلى الجُمُعَةِ ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بَينَهُنَّ ما اجتُنِبت الكبائرُ ) وهو مخرَّج في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة.
وهذا يدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفرها هذه الفرائضُ.
وقد حكى ابنُ عطية في " تفسيره " في معنى هذا الحديث قولين :
أحدُهما - وحكاه عن جمهور أهل السُّنة - :
أنَّ اجتنابَ الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر، فإنْ لم تُجتنب، لم تُكفر هذه الفرائض شيئاً بالكلية.
والثاني :
أنَّها تُكفر الصغائر مطلقاً ، ولا تُكفر الكبائر وإنْ وجدت ، لكن بشرط التوبة من الصغائر ، وعدمِ الإصرار عليها.
ورجَّحَ هذا القول ، وحكاه عن الحذاق.
وقوله : بشرط التوبة من الصغائر ، وعدمِ الإصرار عليها ، مرادُه أنَّه إذا أصرَّ عليها ، صارت كبيرةً ، فلم تكفرها الأعمالُ .
والقولُ الأوَّلُ الذي حكاه غريب ، مع أنَّه قد حُكِيَ عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا مثلُه .
وذهب قومٌ من أهل الحديث وغيرهم:
إلى أنَّ هذه الأعمالَ تُكفِّرُ الكبائرَ ، ومنهم : ابن حزم الظاهري ، وإيَّاه عنى ابنُ عبد البرّ في كتاب " التمهيد " بالردِّ عليه وقال : قد كنتُ أرغبُ بنفسي عن الكلام في هذا الباب ، لولا قولُ ذلك القائل ، وخشيتُ أنْ يغترَّ به جاهلٌ ، فينهمِكَ في الموبقاتِ ، اتِّكالاً على أنَّها تكفِّرُها الصلواتُ دونَ الندم والاستغفار والتوبة ، والله نسألُه العصمة والتوفيقَ .
قلتُ :
وقد وقع مثلُ هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه.
ووقع مثلُه في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر :
قال : يُرجى لمن قامها أنْ يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها .
فإنْ كان مرادهم:
أنَّ مَنْ أتى بفرائض الإسلام وهو مُصرٌّ على الكبائر تغفر له الكبائرُ قطعاً ، فهذا باطلٌ قطعاً، يُعْلَمُ بالضرورة من الدِّين بطلانه ، وقد سبق قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أساءَ في الإسلام أُخِذَ بالأوَّلِ والآخر )
يعني : بعمله في الجاهلية والإسلام ، وهذا أظهرُ من أنْ يحتاجَ إلى بيانٍ.
وإنْ أرادَ هذا القائلُ:
أنَّ من ترك الإصرارَ على الكبائرِ ، وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندمٍ على ما سلف منه ، كُفِّرَت ذنوبه كلُّها بذلك.
واستدلَّ بظاهر قوله:
{ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً }.
وقال :
السيئات تشملُ الكبائرَ والصغائر ، فكما أنَّ الصغائرَ تُكفَّرُ باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نيَّةٍ ، فكذلك الكبائرُ.
وقد يستدلُّ لذلك :
بأنَّ الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وبتكفير السَّيِّئات، وهذا مذكورٌ في غير موضع من القرآن ، وقد صار هذا من المتَّقين ، فإنَّه فعل الفرائضَ ، واجتنبَ الكبائرَ ، واجتنابُ الكبائر
لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ وقصدٍ.
فهذا القولُ يمكن أنْ يُقال في الجملة.
والصَّحيح قول الجمهور:
إنَّ الكبائر لا تُكفَّرُ بدون التوبة ؛ لأنَّ التوبة فرضٌ على العباد ، وقد قال عز وجل : {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.
وقد فسرت الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود: التوبة بالندم.
ومنهم من فسَّرها: بالعزم على أنْ لا يعود، وقد روي ذلك مرفوعاً من وجه فيه ضعفٌ، لكن لا يعلم مخالفٌ من الصحابة في هذا، وكذلك التابعون ومَنْ بعدهم ، كعمر بن عبد العزيز ، والحسن وغيرهما .
وأما النصوص الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب ، وتكفير السيئات للمتقين:
كقوله تعالى : {إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ }
وقوله تعالى : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ }
وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً }
فإنَّه لم يُبين في هذه الآيات خصال التقوى ، ولا العمل الصالح ومن جملة ذلك : التوبة النصوح ، فمَنْ لم يتب ، فهو ظالم ، غيرُ متّقٍ .
وقد بين في سورة آل عمران خصالَ التقوى التي يغفر لأهلها ويدخلهم الجنَّة ، فذكر منها الاستغفار ، وعدم الإصرار ، فلم يضمن تكفيرَ السيئات ومغفرة الذنوب إلاَّ لمن كان على هذه الصفة ، و الله أعلم .
ومما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر لا تُكَفَّرُ بدونِ التوبة منها ، أو العقوبة عليها:
حديثُ عُبَادةَ بنِ الصامت قال: كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (بايعوني على أنْ لا تُشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولاتزنوا ) ، وقرأ عليهم الآية، ( فمن وفى منكم ، فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فعُوقِبَ به ، فهو كفَّارَةٌ له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فستره الله عليه ، فهو إلى الله ، إنْ شاء عذَّبه ، وإنْ شاء غفر له ) خرَّجاه في "الصحيحين " وفي روايةٍ لمسلم : ( من أتى منكم حداً فأقيم عليه فهو كفارته ).
وهذا يدلُّ:
على أنَّ الحدود كفارات .
قال الشافعيُّ :
لم أسمع في هذا الباب أنَّ الحد يكونُ كفَّارةً لأهله شيئاً أحسنَ مِنْ حديث عُبادةَ ابن الصامت.
وقوله : ( فعوقب به ) يعمُّ العقوبات الشرعية ، وهي الحدود المقدَّرةُ أو غير المقدَّرة، كالتعزيزات ، ويشمل العقوبات القدرية ، كالمصائب والأسقام والآلام ، فإنَّه صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : (لا يصيبُ المسلمَ نصبٌ ولا وَصَبٌ ولا هَمٌّ ولا حزن حتَّى الشَّوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه)
ورُوي عن عليٍّ:
أنَّ الحدَّ كفَّارةٌ لمن أقيم عليه.
وذكر ابنُ جرير الطبري:
في هذه المسألة اختلافاً بين الناس.
ورجَّحَ:
أنَّ إقامة الحدِّ بمجرَّده كفارة ، ووهَّن القول بخلاف ذلك جداً.
قلت:
وقد رُوي عن سعيد بن المسيب وصفوانَ بنِ سليم:
أنَّ إقامة الحدِّ ليس بكفَّارة ، ولابدَّ معه من التَّوبة.
ورجَّحه طائفة من المتأخِّرين، منهم :
البغويُّ، وأبو عبد الله بن تيمية في " تفسيريهما " ، وهو قولُ ابنِ حزم الظاهري.
والأوّل: قولُ مجاهد وزيد بن أسلم والثوري وأحمد .
وأما حديث أبي هريرة المرفوع :
(لا أدري : الحدودُ طهارةٌ لأهلها أم لا ؟) فقد خرَّجه الحاكم وغيره ، وأعلَّه البخاري ، وقال : لا يثبت ، وإنَّما هوَ من مراسيل الزهريِّ ، وهي ضعيفةٌ ، وغلط عبد الرزاق فوصله ، قالَ : وقد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الحدود كفارة.
ومما يستدلُّ به من قال :
الحدّ ليس بكفارة قولُه تعالى في المحاربين : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ }
وظاهره أنَّه تجتمع لهم عقوبة الدنيا والآخرة.
ويُجابُ عنه :
بأنَّه ذكر عقوبتهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة، ولا يلزم اجتماعهما ، وأما استثناء (من تاب ) فإنَّما استثناه من عقوبة الدنيا خاصة ، فإنَّ عقوبة الآخرة تسقط بالتوبةِ قبل القُدرة وبعدها .
رجع ابن رجب رحم الله إلى حديث عبادة بن الصامت ليقرر منه قول الجمهور وهو أن الفرائض لا تكفر الكبائر، فقال:
قوله صلى الله عليه وسلم : (ومن أصابَ شيئاً مِنْ ذلك ، فستره الله عليه ، فهو إلى الله إنْ شاء عذَّبه ، وإنْ شاء غفر له )
صريحٌ في أنَّ هذه الكبائر من لقي الله بها كانت تحتَ مشيئتِهِ ، وهذا يدلُّ على أنَّ إقامةَ الفرائضِ لا تكفِّرها ولا تمحوها ، فإنَّ عموم المسلمين يُحافظون على الفرائض، لاسيما مَنْ بايعهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وخرج مِنْ ذلك مَنْ لقي الله وقد تاب منها بالنُّصوص الدَّالَّةِ من الكتاب والسنة على أنَّ من تابَ إلى الله ، تاب الله عليه ، وغفر له ، فبقى مَنْ لم يتُبْ داخلاً تحت المشيئة .
وأيضاً:
فيدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفِّرُها الأعمالُ : إنَّ الله لم يجعلْ للكبائر في الدُّنيا كفَّارةً واجبةً ، وإنَّما جعلَ الكفارةَ للصغائر:
1- ككفَّارةِ وطءِ المُظاهِر.
2- ووطءِ المرأة في الحيض على حديث ابن عباس الذي ذهب إليه الإمامُ أحمد وغيرُه.
3- وكفارة من ترك شيئاً من واجبات الحج ، أو ارتكب بعضَ محظوراته ، وهي أربعةُ أجناس : هديٌ ، وعِتقٌ ، وصدقةٌ ، وصيامٌ.
ولهذا لا تجب الكفارة:
أ‌) في قتل العمدِ عندَ جمهور العلماءِ.
ب‌) ولا في اليمين الغموس أيضاً عند أكثرهم ، وإنَّما يؤمرُ القاتلُ بعتق رقبة استحباباً، كما في حديث واثلة بن الأسقع : أنَّهم جاؤوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صاحبٍ لهم قد أوجب ، فقال : ( اعتِقُوا عنه رقبةً يعتقه الله بها مِن النار ) ومعنى أوجب : عَمِلَ عملاً يجب له به النارُ ، ويقال : إنَّه كان قتل قتيلاً .
4- وفي " صحيح مسلم " عن ابنِ عمر : أنَّه ضربَ عبداً له ، فأعتقه وقال : ليس لي فيه مِنَ الأجر مثل هذا - وأخذ عوداً من الأرض - إني سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( مَنْ لَطَمَ مملوكَه ، أو ضربه ، فإنَّ كفَّارتَه أنْ يَعتِقَهُ )
فإنْ قيل :
فالمجامِعُ في رمضان يُؤمَرُ بالكفَّارةِ ، والفطرُ في رمضان مِنَ الكبائرِ.
قيل :
ليست الكفارة للفطر ، ولهذا لا يجب عندَ الأكثرين على كلِّ مفطر في رمضان عمداً ، وإنَّما هي لِهَتْكِ حُرمةِ نهار رمضان بالجماع ، ولهذا لو كان مفطراً فطراً لا يجوزُ له في نهار رمضان ، ثمَّ جامع ، للزمته الكفارةُ عند الإمام أحمد لما ذكرنا.
وممَّا يدلُّ على أنَّ تكفيرَ الواجبات مختصٌّ بالصَّغائر:
ما خرَّجه البخاري عن حُذيفة قال : بَيْنا نحن جلوسٌ عند عمرَ ، إذ قال : أيُّكم يحفظُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة ؟ قال : قلتُ : ( فتنةُ الرجل في أهله وماله وولده وجارِه يُكَفِّرُها الصلاةُ والصدقةُ والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر)
قال : ليس عن هذا أسألك . وخرَّجه مسلم بمعناه.
وظاهر هذا السياق يقتضي رفعَه ، وفي رواية للبخاري أنَّ حذيفة قال : سمعتُه يقول : (فتنة الرجل) فذكره ، وهذا كالصريح في رفعه ، وفي روايةٍ لمسلم أنَّ هذا من كلام عمر.
وأما قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للذي قال له :
أصبتُ حدَّاً ، فأقمه عليَّ ، فتركه حتى صلى ، ثم قال له : (إنَّ الله غفر لك حَدَّك )
فليس صريحاً في أنَّ المراد به شيءٌ مِنَ الكبائر ؛ لأنَّ حدود الله محارمه:
كما قال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه }
وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا }
وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ } الآية إلى قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } .
وفي حديث النواس بن سمعان، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في ضرب مثل الإسلام بالصراط المستقيم الذي على جنبتيه سُوران ، قال : (والسورانِ حُدودُ الله) . وقد سبق ذكره بتمامه .
فكلُّ من أصاب شيئاً من محارم الله، فقد أصابَ حدودَه ، وركبها ، وتعدَّاها . وعلى تقدير أنْ يكونَ الحدُّ الذي أصابه كبيرةً ، فهذا الرجل جاء نادماً تائباً ، وأسلم نفسه إلى إقامةِ الحدِّ عليه ، والنَّدمُ توبة ، والتوبةُ تُكفِّرُ الكبائرَ بغير تردُّدٍ.
وقد رُوي ما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر تكفرُ ببعض الأعمال الصالحة :
فخرَّجَ الإمامُ أحمد والترمذيُّ من حديث ابن عمر :
أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسولَ الله ، إني أصبتُ ذنباً عظيماً ، فهل لي من توبة ؟ قالَ : ( هل لك مِنْ أمٍّ ؟)) قالَ : لا ، قالَ : ( فهل لك من خالةٍ ؟) قال: نعم ، قال : (فبِرَّها ) ، وخرَّجه ابن حبان في "صحيحه" والحاكم ، وقال : على شرط الشيخين ، لكن خرَّجه الترمذي من وجهٍ آخر مرسلاً.
وذكر أنَّ المرسلَ أصحُّ من الموصول، وكذا قال عليُّ بنُ المديني والدارقطني .
وروي عن عمرَ أنَّ رجلاً قال له :
قتلتُ نفساً ، قال : أمُّك حية ؟ قال : لا ، قال : فأبوك ؟ قال : نعم ، قال : فبِرَّه وأحسن إليه ، ثم قال عمر : لو كانت أمُّه حيَّةً فبرَّها ، وأحسن إليها ، رجوتُ أنْ لا تطعَمه النارُ أبداً .
وعن ابن عباس معناه أيضاً.
وكذلك:
المرأة التي عَمِلَت بالسحر بدُومَة الجندلِ ، وقدمت المدينةَ تسألُ عن توبتها ، فوجدت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قد توفي ، فقال لها أصحابُه : لو كان أبواك حَيَّيْنِ أو أحدهما كانا يكفيانك . خرَّجه الحاكم وقال: فيه إجماعُ الصحابة حِدْثَان وفاةِ الرسول صلى الله عليه وسلم على أنَّ برَّ الأبوين يكفيانها.
وقال مكحول والإمام أحمد :
بِرُّ الوالدين كفارةٌ للكبائر .
وروي عن بعض السَّلف في حمل الجنائز:
أنَّه يَحطُّ الكبائر ، وروي مرفوعاً من وجوهٍ لا تَصِحُّ .
وقد صحَّ من رواية أبي بُردة:
أنَّ أبا موسى لما حضرته الوفاةُ قال : يا بَنِيَّ ، اذكروا صاحبَ الرَّغيف : كان رجلٌ يتعبَّدُ في صومعةٍ أُراه سبعينَ سنة ، فشبَّه الشيطانُ في عينه امرأةً ، فكان معها سبعةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ ، ثم كُشِفَ عن الرجل غطاؤه، فخرج تائباً، ثمَّ ذكر أنَّه باتَ بين مساكين ، فتُصُدِّقَ عليهم برغيف رغيف ، فأعطوه رغيفاً ، ففقده صاحبُه الذي كان يُعطاه ، فلمَّا علم بذلك ، أعطاه الرغيفَ وأصبح ميتاً ، فوُزِنَتِ السَّبعونَ سنة بالسَّبع ليال ، فرجحت الليالي ، ووُزِنَ الرَّغيفُ بالسَّبع اللَّيال ، فرجح الرغيف.
وروى ابنُ المبارك بإسناده في كتاب " البر والصلة " عن ابن مسعود:
قال : عبَدَ اللهَ رجلٌ سبعين سنةً ، ثم أصابَ فاحشةً ، فأحبطَ الله عملَه ، ثم أصابته زَمَانةٌ وأُقْعِدَ ، فرأى رجلاً يتصدَّقُ على مساكين ، فجاء إليه ، فأخذ منه رغيفاً ، فتصدَّقَ به على مسكينٍ ، فغفرَ الله له ، وردَّ عليه عملَ سبعين سنة .
وهذه كلُّها:
لا دِلالةَ فيها على تكفير الكبائر بمجرَّد العمل ؛ لأنَّ كلَّ من ذكر فيها كان نادماً تائباً من ذنبه ، وإنَّما كان سؤاله عن عملٍ صالح يتقرَّب به إلى الله بعد التوبة حتّى يمحوَ به أثَرَ الذنب بالكلية ، فإنَّ الله شرط في قبول التوبة ومغفرةِ الذنوب بها العملَ الصالح:
كقوله : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً }
وقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً }
وقوله : { فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ }
وفي هذا متعلَّقٌ لمن يقول :
إنَّ التائب بعد التوبة في المشيئة ، وكان هذا حال كثير مِن الخائفين مِنَ السَّلف .
وقال بعضهم لرجلٍ : هل أذنبت ذنباً ؟
قال : نعم ، قال : فعلمتَ أنَّ الله كتبه عليك ؟
قال : نعم
قال : فاعمل حتّى تعلمَ أنَّ الله قد محاه
ومنه قولُ ابن مسعود :
إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنَّه في أصل جبل يخاف أنْ يقع عليه ، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبَه كذُبابٍ طار على أنفه ، فقال به هكذا . خرَّجه البخاري
وكانوا يتَّهمُون أعمالهم وتوباتهم ، ويخافون أنْ لا يكونَ قد قُبِلَ منهم ذلك ، فكان ذلك يُوجِبُ لهم شدَّةَ الخوف ، وكثرةَ الاجتهاد في الأعمال الصالحة .
قال الحسن:
أدركتُ أقواماً لو أنفق أحدهم ملءَ الأرض ما أمِنَ لِعظم الذنب في نفسه.
وقال ابنُ عون :
لا تَثِقْ بكثرة العمل ، فإنَّك لا تدري أيُقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك ، فإنَّك لا تدري كُفِّرَتْ عنك أم لا ، إنَّ عملك مُغَيَّبٌ عنك كله .
والأظهر - والله أعلم - في هذه المسألة - أعني : مسألة تكفير الكبائر بالأعمال -:
أنَّه إنْ أُريدَ :
أنَّ الكبائر تُمحى بمجرَّد الإتيان بالفرائضِ، وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تُكفَّرُ الصَّغائر باجتناب الكبائر ، فهذا باطلٌ .
وإنْ أريد:
أنَّه قد يُوازن يومَ القيامة بين الكبائر وبينَ بعض الأعمال، فتُمحى الكبيرة بما يُقابلها من العمل، ويَسقُطُ العمل ، فلا يبقى له ثوابٌ ، فهذا قد يقع .
وقد تقدَّم عن ابنِ عمرَ:
أنَّه لمَّا أعتق مملوكَه الذي ضربه ، قال : ليس لي فيه مِنَ الأجر شيءٌ ، حيث كان كفارةً لذنبه.
ولم يكن ذنبُه مِنَ الكبائر ، فكيف بما كان من الأعمال مكفراً للكبائر ؟
وسبق أيضاً قولُ مَنْ قالَ مِنَ السَّلف:
إنَّ السيئة تمحى ، ويسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل.
فإذا كانَ هذا في الصغائر ، فكيف بالكبائر ؟ فإنَّ بعضَ الكبائر قد يُحبِطُ بعضَ الأعمال المنافية لها:
1- كما يُبطل المنُّ والأذى الصدقةَ.
2- وتُبطلُ المعاملة بالرِّبا الجهادَ كما قالت عائشة.
3- وقال حذيفةُ : قذفُ المحصنة يَهْدِمُ عملَ مئة سنة ، وروي عنه مرفوعاً خرَّجه البزار.
4- وكما يبطل ترك صلاة العصر العمل.
فلا يستنكر أنْ يبطل ثواب العمل الذي يكفر الكبائر .
وقد خرَّج البزار في "مسنده" والحاكم من حديث ابن عباس ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : ( يُؤتَي بحسناتِ العبد وسيِّئاتِه يَوْمَ القيامة، فَيُقص أو يُقضى بعضُها من بعض، فإنْ بقيت له حسنةٌ ، وُسِّعَ له بها في الجنة ) .
----------------------------_
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
النتائج المستخلصة من كلام ابن رجب رحمه الله:
1- حكى ابن رجب الخلاف في المسألة:
وهو بهذا يكون مفارقا لابن عبد البر الذي جزم بأن القول باقتصار التكفير على الصغائر هو مذهب جماعة علماء المسلمين، واعتبر ابن رجب رحمه الله هذا الوصف حكاية للإجماع.
كما ذكر ابن عبد البر أن القول بخلاف هذا القول هو غلط وقع فيه بعض معاصريه من المنتمين إلى العلم.
والذي يبدو والله أعلم - أن كلام ابن رجب رحمه الله أدق، وإن كان الدارس لكلام ابن عبد البر رحمه الله يجد أنه رحمه الله يكتفي في كثير من المسائل في تحصيله للإجماع بقول جمهور علماء المسلمين الذين لا يجوز خلافهم على حدِّ تعبير ابن عبد البر رحمه الله.
والمقصود بهؤلاء الجمهور هم غالب أهل العلم، أو عامتهم، لا ما اصطلح عليه المتأخرون من إطلاق لفظة "الجمهور" على غالب الفقهاء الأربعة أو الثلاثة بحسب الاصطلاح المستعمل.
2- جزم ابن رجب رحمه الله بأن الكبائر لا بد لها من توبة، واستدل له بمثل ما استدل ابن عبد البر رحمه الله، وحكاه عنه قولا ودليلا، ونقل عنه حكاية إجماع المسلمين على ذلك كما سبق تقريره.
3- استدل ابن رجب رحمه الله على عدم تكفير الفرائض للكبائر بقوله عليه الصلاة والسلام: (الصَّلواتُ الخمسُ ، والجمعَةُ إلى الجُمُعَةِ ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بَينَهُنَّ ما اجتُنِبت الكبائرُ).
4-نقل ابن رجب عن ابن عطية في تفسيره الخلاف في معنى هذا الحديث على قولين اثنين.
5-أحدهما : - وحكاه عن جمهور أهل السُّنة - : أنَّ اجتنابَ الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر، فإنْ لم تُجتنب، لم تُكفر هذه الفرائض شيئاً بالكلية.
6-استغرب ابن رجب رحمه الله هذا القول ثم ذكر أنَّه قد حُكِيَ مثله عن بعض أصحابه الحنابلة.
7- وأنا هنا أسجل استغرابا آخر لكنه إلى ابن رجب نفسه حيث لم ينسب هذا القول إلى ابن عبد البر رحمه الله كما سبق نقله عنه وتسجيله في النتائج، مع الجزم بأن ابن رجب رحمه الله اطلع على هذا الموضع فقد نقل عن ابن عبد البر بعض كلامه في هذا الموضع بحروفه، وجل من لا يسهو.
8-نقل ابن رجب رحمه الله القول الآخر الذي حكاه ابن عطية في تفسير الحديث السابق: وهو أن الفرائض لا تكفر الكبائر، وإنما تكفر الصغائر فقط، وبشرط عدم الإصرار عليها، ورجَّح ابن عطية هذا القول وحكاه عن الحذاق.
9-حكى ابن رجب رحمه الله أنه ذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن الفرائض تكفر الكبائر.
10- أزاح ابن رجب رحمه الله اللثام عن معاصر ابن عبد البر والذي قصد ابن عبد البر الرد عليه، وهو ابن حزم الظاهري.
11- ذكر ابن رجب أن وقع مثل كلام ابن حزم في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء، ووقع مثلُه في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر.
12- قطع ابن رجب ببطلان قول هؤلاء إن كان مرادهم أنها تكفر الكبائر حتى مع الإصرار عليها، وأن هذا مما يعلم بالضرورة من الدين، وهو أظهر من أن يحتاج إلى بيان، وقد قال عليه الصلاة والسلام:( مَنْ أساءَ في الإسلام أُخِذَ بالأوَّلِ والآخر )
13- ثم ذكر ابن رجب أن هؤلاء إن قصدوا: تكفير الكبائر التي فعلها ولم يصر عليها، ولكنه لم يحدث لها ندما ولا توبه إلا أنه جانبها واجتناب الكبائر لا يحتاج إلى نية وقصد ثم حافظ على الفرائض، فهذا القول يمكن أن يقال في الجملة.
14- ثم ذكر ابن رجب أن الصَّحيح قول الجمهور أنَّ الكبائر لا تُكفَّرُ بدون التوبة ؛ لأنَّ التوبة فرضٌ على العباد، وأن الصحابة بلا مخالف منهم فسرت التوبة بالندم أو العزم على عدم العود.
15- استدل ابن رجب على ذلك بأن النصوص الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات هي للمتقين وأن من جملة التقوى التوبة النصوح، فمن لم يتب فهو غير متق فلم يضمن له تكفير السيئات.
16- واستدل كذلك: بحديث عبادة بن الصامت مرفوعا: (ومن أصابَ شيئاً مِنْ ذلك ، فستره الله عليه ، فهو إلى الله إنْ شاء عذَّبه ، وإنْ شاء غفر له)
وذكر أن هذا صريحٌ في أنَّ هذه الكبائر من لقي الله بها كانت تحتَ مشيئتِهِ ، وهذا يدلُّ على أنَّ إقامةَ الفرائضِ لا تكفِّرها ولا تمحوها ، فإنَّ عموم المسلمين يُحافظون على الفرائض ، لاسيما مَنْ بايعهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وخرج مِنْ ذلك مَنْ لقي الله وقد تاب منها بالنُّصوص الدَّالَّةِ من الكتاب والسنة على أنَّ من تابَ إلى الله ، تاب الله عليه ، وغفر له ، فبقى مَنْ لم يتُبْ داخلاً تحت المشيئة .
قلت:
كما صلح أن نستثني من عموم الحديثِ التائبَ بالنصوص الأخرى، فلمَ لا يصلح أن نستثني منه ما جاء النص بتكفير بعض الأعمال الصالحة لعامة الذنوب كأحاديث "غفر له ما تقدم من ذنبه"، و"رجع كيوم ولدته أمه" في الحج.
وقد استفاد ابن رجب رحمه الله الصراحة في الحديث:
مِنْ أن المسلم لا يخلو من أداء الفرائض، فلو كانت الفرائض تكفر الكبائر فإنه لا يكون أحد داخلا تحت المشيئة، والحديث يفيد أن من الناس من يكون داخلا تحت المشيئة.
ويمكن أن يقال في الجواب:
إن الفرائض على مراتب منها ما جاء بتقييد التكفير بالصغائر مثل الصلوات والخمس والجمعة ورمضان، فهذه الفرائض لا تدخل في حيز البحث.
ومن الأعمال ما جاء الإطلاق في التكفير مثل إسباغ الوضوء وهو معنى أخص من مطلق الوضوء، ومثل قيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، ومثل صيام رمضان إيمانا واحتسابا، ومثل الحج المبرور.
فهذه الأعمال منها ما قيد بمعاني لا تكون إلا مع تحقيق مراتب من التوبة فيحصل بها تكفير الكبائر.
ومنها ما فيد بأوصاف من العمل لا يلزم أن تحصل لعامة الناس، وبهذا يمكن أن يكون أصحاب الكبائر من المسلمين على قسمين:
منهم من يحقق هذه الأعمال فتحصل له المغفرة تفضلا من الله وعفوا
ومنهم من لا يحقق هذه الأعمال فيبقى داخلا تحت المشيئة.
وبهذا التقسيم يتحصل لنا قدرا أمكن به إعمال حديث عبادة من غير إبطال دلالة النصوص التي جاءت بتكفير الكبائر.
هذا إن لم نقل:
إن حديث عبادة بن الصامت متقدم حيث إن زمنه قديم قبل الهجرة في بيعة النساء، وقد حدث بعدها من الشرائع الشيء الكثير، ومما حدث كثير من الفضائل، والفضائل لا تنسخ.
وهذا إن لم نقل أيضاً:
إن نصوص الوعد والوعيد ليست لبيان منازل العباد وإنما لبيان مقادير الأعمال، فالمقصود من حديث عبادة أن هذه الكبائر بالغة الشأن حتى إنها تستوجب إيقاف صاحبها تحت المشيئة، مقطوعة النظر عن الكلام في حكم صاحبها وهل له من الحسنات ما يقابلها أو أنه عمل من مكفرات الذنوب ما يمحيها، فهذا له نظر آخر، أما هنا فقد أغفله النص ولم يلتفت إليه فلا يحسن إقحامه فيه ثم معارضته به، وسبق أن الصورة التي أوردها ابن رجب ومن قبله ابن عبد البر من فتح القول بتكفير الكبائر باب الإرجاء والشهادة لكل أحد بالجنة فور سلامه من صلاته ليست بلازمة ، وسيأتي لها مزيد بحث إن شاء الله.
ومما يؤكد ما ذكرنا:
أن ابن حزم الظاهري وهو أشهر من نسب هذا القول إليه حتى تكلف ابن عبد البر الجواب عن مقالته: هو نفسه يقول في حديث عبادة أن الحدود لا تكفر، فنراه في هذه المسألة وقف موقفا متشددا مع أنه قائل بتكفير جملة من الأعمال الصالحة لكبائر الذنوب، مما يشير إلى عدم تعلق حديث عبادة بشكل مباشر بمسألة تكفير بعض الأعمال الصالحة لكبائر الذنوب.
ولذا والله أعلم:
فإن حديث عبادة بن الصامت وإن استطاع ابن رجب رحمه الله أن يستفيد منه ما يدل على عدم تكفير الفرائض والأعمال الصالحة للكبائر إلا أن عمومه وإجماله وتقدمه ووقوع طائفة من النصوص المفصلة في الباب تضعف من دلالته على مسألتنا الحاضرة، هذا والله أعلم ، فإن كان صوابا فمن الله وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، والله المستعان.
17- استدل ابن رجب على أنَّ الكبائرَ لا تكفِّرُها الفرائض والأعمال الصالحة بأن الله لم يجعلْ للكبائر في الدُّنيا كفَّارةً واجبةً، وإنَّما جعلَ الكفارةَ للصغائر ككفَّارةِ وطءِ المُظاهِر، ووطءِ المرأة في الحيض وكفارة من ترك شيئاً من واجبات الحج ، أو ارتكب بعضَ محظوراتهولهذا لا تجب الكفارةفي قتل العمدِ عندَ جمهور العلماءِ، ولا في اليمين الغموس.
18- أما المجامِعُ في رمضان فإن الكفارة ليست للفطر ، ولهذا لا يجب عندَ الأكثرين على كلِّ مفطر في رمضان عمداً ، وإنَّما هي لِهَتْكِ حُرمةِ نهار رمضان بالجماع ، ولهذا لو كان مفطراً فطراً لا يجوزُ له في نهار رمضان ، ثمَّ جامع ، للزمته الكفارةُ عند الإمام أحمد.
19- ممَّا يدلُّ على أنَّ تكفيرَ الواجبات مختصٌّ بالصَّغائرما خرَّجه البخاري عن حُذيفة قال : بَيْنا نحن جلوسٌ عند عمرَ ، إذ قال : أيُّكم يحفظُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة ؟ قال : قلتُ : ( فتنةُ الرجل في أهله وماله وولده وجارِه يُكَفِّرُها الصلاةُ والصدقةُ والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر)
20- قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للذي قال له : أصبتُ حدَّاً ، فأقمه عليَّ ، فتركه حتى صلى ، ثم قال له : (إنَّ الله غفر لك حَدَّك ) ليس صريحاً في أنَّ المراد به شيءٌ مِنَ الكبائر ؛ لأنَّ حدود الله محارمه، وعلى تقدير أنْ يكونَ الحدُّ الذي أصابه كبيرةً ، فهذا الرجل جاء نادماً تائباً ، وأسلم نفسه إلى إقامةِ الحدِّ عليه ، والنَّدمُ توبة ، والتوبةُ تُكفِّرُ الكبائرَ بغير تردُّدٍ.
21- قد رُوي ما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر تكفرُ ببعض الأعمال الصالحة، وهي لا دِلالةَ فيها على تكفير الكبائر بمجرَّد العمل ؛ لأنَّ كلَّ من ذكر فيها كان نادماً تائباً من ذنبه ، وإنَّما كان سؤاله عن عملٍ صالح يتقرَّب به إلى الله بعد التوبة حتّى يمحوَ به أثَرَ الذنب بالكلية ، فإنَّ الله شرط في قبول التوبة ومغفرةِ الذنوب بها العملَ الصالح.
22- ذكر ابن رجب رحمه الله أن هذا متعلَّقٌ لمن يقول : إنَّ التائب بعد التوبة في المشيئة، وكان هذا حال كثير مِن الخائفين مِنَ السَّلف، وكانوا يتَّهمُون أعمالهم وتوباتهم ، ويخافون أنْ لا يكونَ قد قُبِلَ منهم ذلك ، فكان ذلك يُوجِبُ لهم شدَّةَ الخوف ، وكثرةَ الاجتهاد في الأعمال الصالحة .
23- يقول ابن رجب رحمه الله في خاتمة كلامه: الأظهر أنَّه إنْ أُريدَ : أنَّ الكبائر تُمحى بمجرَّد الإتيان بالفرائضِ، وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تُكفَّرُ الصَّغائر باجتناب الكبائر ، فهذا باطلٌ .
وإنْ أريد: أنَّه قد يُوازن يومَ القيامة بين الكبائر وبينَ بعض الأعمال، فتُمحى الكبيرة بما يُقابلها من العمل، ويَسقُطُ العمل ، فلا يبقى له ثوابٌ ، فهذا قد يقع .
24- بعضُ الكبائر قد يُحبِطُ بعضَ الأعمال المنافية لها: فلا يستنكر أنْ يبطل ثواب العمل الذي يكفر الكبائر.
قلت: هذا والله أعلم فقه عظيم لا يأت إلا ممن مَنَّ الله عليه بالتأمل في نصوص الشريعة مجتمعة ومتفرقة، وسنستفيد من هذه الفائدة في الترجيح في المسألة إن شاء الله.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
3- كلام ابن تيمية رحمه الله:

كلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة كان في معرض الرد على الخوارج الذين يكفرون المسلمَ بفعل الكبائر، وعلى المعتزلة الذين يجعلونه في منزلة بين منزلتين وهو في الآخرة خالد في النار.
--------------
يقول رحمه الله في كتابه الإيمان الأوسط (1)):
وهؤلاء الخوارج...:
هم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب بل بما يرونه هم من الذنوب واستحلوا دماء أهل القبلة.....ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة....
فلما شاع في الأمة أمر الخوارج تكلمت الصحابة فيهم ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم وظهرت بدعتهم في العامة.
فجاءت بعدهم المعتزلة ... فقالوا:
أهل الكبائر مخلدون في النار كما قالت الخوارج ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفارا بل فساق ننزلهم منزلة بين منزلتين وأنكروا شفاعة النبي لأهل الكبائر من أمته وأن يخرج من النار بعد أن يدخلها ...........
وساق ابن تيمية رحمه الله:
جملة من النصوص منها حديث الجهنميين، وقصة مصطح في حادثة الإفك، وشهادته لأهل بدر بالمغفرة، وشهادته للرجل الذي كان يشرب الخمر بأنه يحب الله ورسوله إلى طائفة أخرى من النصوص.
ثم قال رحمه الله:
وهذه النصوص تقتضى:
أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات ولم يشترط مع ذلك توبة وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا والحديث يقتضى المغفرة بذلك العمل.
وإذا قيل:
إن هذا لأن أحدا من أولئك لم يكن له إلا صغائر لم يكن ذلك من خصائصه أيضا وأن هذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم.
وأيضا قد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:
أحدها:
التوبة: وهذا متفق عليه بين المسلمين.
السبب الثاني:
الاستغفار:
وقد يقال على هذا الوجه:
الاستغفار هو مع التوبة!
وقد يقال:
بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع :
فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عام في كل تائب.
وان لم يكن مع التوبة فيكون في حق بعض المستغفرين الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنوب كما في حديث البطاقة: بأن قول لا إله إلا الله ثقلت بتلك السيئات لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات وكما غفر للبغي بسقي الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان وأمثال ذلك كثير.


السبب الثالث:
الحسنات الماحية:
1- كما قال تعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات}
2- وقال صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)
3- وقال: ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )
4- وقال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)
5- وقال: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
6- وقال: ( فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
7- وقال: ( من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه).
وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح.
8- وقال: ( الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ).


ثم ذكر ابن تيمية رحمه الله إيراداً على هذا السبب، أي سؤالاً على اعتبار الحسنات الماحية مكفرة للكبائر، قال رحمه الله:
وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا:
الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة كما قد جاء في بعض الأحاديث: ( ما اجتنبت الكبائر).
فيجاب عن هذا بوجوه:
أحدها:أن هذا الشرط جاء في الفرائض كالصلوات الخمس والجمعة وصيام رمضان.
وذلك أن الله تعالى يقول:{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات.
وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر فإن الله سبحانه يقول: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}
الثاني: أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر:
1- كما في قوله: ( غفر له وان كان فر من الزحف ).
2- وفى السنن: ( أتينا رسول الله في صاحب لنا قد أوجب فقال: اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار).
3- وفي الصحيحين في حديث أبي ذر: ( وان زنا وان سرق ).
الثالث: أن قوله لأهل بدر ونحوهم: ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم
فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر.
الرابع: أنه قد جاء في غير حديث: ( أن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة فإن أكملها وإلا قيل: أنظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع بسائر أعماله كذلك)
ومعلوم:
أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جبران.
ولأنه حينئذ:
لا فرق بين ذلك المستحب المتروك والمفعول
فعلم:
أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات.
وهذا لا ينافي:
من أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة
مع أن هذا:
لو كان معارضا للأول لوجب تقديم الأول لأنه أثبت وأشهر.
وهذا غريب رفعه وإنما المعروف أنه في وصية أبى بكر لعمر وقد ذكره أحمد في رسالته في الصلاة .
وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب عليها ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة فانه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبرا لها وإكمالا لها فلم يكن فيها ثواب نافلة.
ولهذا قال بعض السلف:
النافلة لا تكون إلا لرسول الله لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وغيره يحتاج إلى المغفرة وتأول على هذا قوله: { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } وليس إذا فعل نافلة وضيع فريضة تقوم النافلة مقام الفريضة مطلقا بل قد يكون عقوبته على ترك الفريضة أعظم من ثواب النافلة .
فإن قيل:
العبد إذا نام عن صلاة أو نسيها كان عليه أن يصليها إذا ذكرها بالنص والإجماع فلو كان لها بدل من التطوعات لم يجب القضاء.
قيل:
هذا خطأ .
فإن قيل:
هذا يقال في جميع مسقطات العقاب.
فيقال:
إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل ومعلوم أن العبد عليه أن يفعل المأمور ويترك المحظور لأن الإخلال بذلك سبب للذم والعقاب وان جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب كما عليه أن يحتمي من السموم القاتلة وان كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية والله عليم حكيم رحيم أمرهم بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته بل جعل لهم أسبابا يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم ولهذا قيل إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله.
ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب قال بعضهم لشيخه: إني أذنب قال: تب قال: ثم أعود قال: تب قال: ثم أعود قال: تب قال: إلى متى قال: إلى أن تحزن الشيطان.
وفى المسند عن على عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب العبد المفتن التواب ).
وأيضا :
فإن من نام عن صلاة أو نسيها فصلاته إذا استيقظ أو ذكرها كفارة لها تبرأ بها الذمة من المطالبة ويرتفع عنه الذم والعقاب ويستوجب بذلك المدح والثواب.
وأما ما يفعله من التطوعات:
فلا نعلم القدر الذي يقوم ثوابه مقام ذلك ولو علم فقد لا يمكن فعله مع سائر الواجبات ثم إذا قدر أنه أمر بما يقوم مقام ذلك صار واجبا فلا يكون تطوعا والتطوعات شرعت لمزيد التقرب إلى الله كما قال تعالى في الحديث الصحيح: ( ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه) الحديث.
فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله فان الله لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض كمن عليه ديون لأناس يريد أن يتطوع لهم بأشياء فان وفاهم وتطوع لهم كان عادلا محسنا وان وفاهم ولم يتطوع كان عادلا وان أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعا كان غالطا في جعله بل يكون من الواجب الذي يستحقونه
ومن العجب:
أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد و العدل :
وهم في توحيدهم:
نفوا الصفات نفيا يستلزم التعطيل والإشراك.
وأما العدل: الذي وصف الله به نفسه فهو أن لا يظلم مثقال ذرة وأنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
وهم يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطا بذنب واحد من الكبائر وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه فكان وصف الرب سبحانه بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله.
الخامس: إن الله لم يجعل شيئا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر كما أنه لم يجعل شيئا يحبط جميع السيئات إلا التوبة.
و المعتزلة مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان.

والسبب الرابع الدافع للعقاب: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته فعن عائشة وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: (ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه)
وعن ابن عباس: قال سمعت رسول الله يقول: ( ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه)
رواهما مسلم.
وهذا دعاء له بعد الموت فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر وحده فإن ذلك مغفور له عند المتنازعين فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت
السبب الخامس:
ما يعمل للميت من أعمال البر كالصدقة ونحوها فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة واتفاق الأئمة وكذلك العتق والحج بل قد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) وثبت مثل ذلك في الصحيح من صوم النذر من وجوه أخرى.
ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}
لوجهين :
أحدهما: أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه كدعاء الملائكة واستغفارهم له:
1- كما في قوله تعالى: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } الآية.
2-ودعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم كما في قوله تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم }
3- وقوله سبحانه :{ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول}
4-وقوله عز و جل: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات }
5-وكدعاء المصلين للميت ولمن زاروا قبره من المؤمنين .
الثاني: أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه وهذا حق فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه وأما سعي غيره فلا يملكه ولا يستحقه لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به كما أنه دائما يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم وهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد ليثبت أولئك على تلك الأسباب فيرحم الجميع كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: ( ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل).
وكما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ( من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد) فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له ويرحم الميت أيضا بدعاء هذا الحي له .
السبب السادس:
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله في الحديث الصحيح: ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وقوله صلي الله عليه وسلم: ( خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر أترونها للمتقين لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين ).
السبب السابع:
المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا كما في الصحيحين عنه أنه قال: ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذي حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ).
السبب الثامن:
ما يحصل فى القبر من الفتنة والضغطة والروعة فإن هذا مما يكفر به الخطايا.
السبب التاسع:
أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها .
السبب العاشر:
رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد.
فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يدفع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة كان دعواهم أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة مخالف لذلك.

فصل

فهذان القولان قول الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب ويخلدون في النار وقول من يخلدهم في النار ويجزم بأن الله لا يغفر لهم إلا بالتوبة ويقول ليس معهم من الإيمان شيء لم يذهب إليهما أحد من أئمة الدين أهل الفقه والحديث بل هما من الأقوال المشهورة عن أهل البدع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-----------------------------------------
1) مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 481)
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
النتائج المستخلصة من كلام ابن تيمية رحمه الله:
1- ابن تيمية رحمه الله يقرر هذه المسألة في معرض رده على أهل الأهواء الذين يكفرون بمجرد الكبيرة، فيقول لهم: إن مغفرة السيئات لا تقتصر على التوبة بل قد جاء في النصوص ما يقتضي تكفيرها بجملة من الأعمال الصالحة.
2- ثم أطال ابن تيمية رحمه الله في تقرير أن نصوص الكتاب والسنة دلت على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب ، وهي التوبة وهذا متفق عليه بين المسلمين، والاستغفار، والحسنات الماحية.
3- أورد ابن تيمية سؤالا على تكفير "الحسنات الماحية" وأنها إنما تكفر الصغائر فقط، أما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة للشرط المذكور في النصوص "ما اجتنبت الكبائر"
4- أجاب ابن تيمية رحمه الله عن هذا السؤال بنحو خمسة أجوبة:
5- الجواب الأول: أن هذا الشرط إنما جاء في الفرائض كالصلوات الخمس والجمعة وصيام رمضان، وذلك أن الله تعالى يقول:{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات، أما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر.
6- الجواب الثاني:أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر.
7- الجواب الثالث:أن قوله لأهل بدر ونحوهم: ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم، فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر.
8- الجواب الرابع: أنه قد جاء في غير حديث أن الفرائض تكمل بالتطوعات، ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جبران، فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات.
9- قلت: تحصل لابن تيمية رحمه الله من هذا الجواب: محو الأعمال الصالحة لجرم الإخلال بالفرائض، وهذا كافٍ في المطلوب وأنه يتعدى تكفير الحسنات الماحية إلى محو كبائر الذنوب.
وإن كان لهم جواب كما سبق عن ابن رجب رحمه الله: أن هذا يكون بالموازنة لا بالمحو والتكفير.
وهذا جواب جيد.
مع أن ابن تيمية رحمه الله استطاع دفع إيراد آخر على جوابه وهو القول بأن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.
إلا أن ما ذكره ابن رجب رحمه الله من تخريج هذا الجواب على الموازنة هو أقوى، ولم يقع لابن تميمية رحمه الله في هذا الموضع معالجة جوابه من هذا الإيراد.
10- الجواب الخامس: أن الله لم يجعل شيئا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر كما أنه لم يجعل شيئا يحبط جميع السيئات إلا التوبة.
و المعتزلة مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان.
قلت: هذا الجواب فيه خفاء، فابن تيمية رحمه الله يقول: إن من الأسباب التي تزول بها عقوبة الذنوب الحسنات الماحية فأوردوا عليه أنها إنما تكفر الصغائر لا الكبائر بدلالة بعض النصوص.
فأجابهم ابن تيمية رحمه الله بخمسة أجوبة، هذا الخامس منها.
ولعل ابن تيمية رحمه الله هنا تنزل للخوارج والمعتزلة في هذا الجواب، فقال لهم: هب أن الحسنات لا تمحو إلا الصغائر، بل إنه لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه لا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، لكن هل تدرون إلى أي شيء صرتم أنتم ؟
أنتم تحبطون بالكبيرة جميع الأعمال حتى الإيمان.
فقولكم ظاهر الغلو والشطط.
وسيأتي مزيد استفادة من كلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الموضع في مبحث الترجيح إن شاء الله.
11- والسبب الرابع الدافع للعقاب: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته ولا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر وحده فإن ذلك مغفور له عند المتنازعين فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت
12- السبب الخامس:
ما يعمل للميت من أعمال البر كالصدقة ونحوها فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة واتفاق الأئمة.
ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }
لوجهين :
أحدهما: أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه كدعاء الملائكة واستغفارهم له:
الثاني: أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه وهذا حق فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه وأما سعي غيره فلا يملكه ولا يستحقه لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به
13- السبب السادس:
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة
14- السبب السابع:
المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا.
15- السبب الثامن:
ما يحصل فى القبر من الفتنة والضغطة والروعة فإن هذا مما يكفر به الخطايا.
16- السبب التاسع:
أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها .
17- السبب العاشر:
رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد.
18- فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يدفع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة كان دعواهم أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة مخالف لذلك.
19- فهذان القولان:
1-قول الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب ويخلدون في النار.
2-وقول من يخلدهم في النار ويجزم بأن الله لا يغفر لهم إلا بالتوبة ويقول: ليس معهم من الإيمان شيء.
لم يذهب إليهما أحد من أئمة الدين أهل الفقه والحديث بل هما من الأقوال المشهورة عن أهل البدع .
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه المبارك الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي([1]):
وكاغترار بعضهم على صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة حتى يقول بعضهم يوم عاشوراء: يكفر ذنوب العام كلها ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر.
ولم يدر هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر فرمضان والجمعة إلى الجمعة لايقويا على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها فيقوي مجموع الأمرين على تكفير الصغائر فكيف يكفر صوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها غير تائب منها هذا محال.
على أنه لا يمتنع أن يكون صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء يكفر لجميع ذنوب العام على عمومه ويكون من نصوص الوعد التي لها شروط وموانع ويكون إصراره على الكبائر مانعا من التكفير فإذا لم يصر على الكبائر تساعد الصوم وعدم الإصرار وتعاونا على عموم التكفير كما كان رمضان والصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفير الصغائر.
مع أنه سبحانه قد قال: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }
فعلم أن جعل الشيء سببا للتكفير لا يمنع أن يتساعد هو وسبب آخر على التكفير ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهما وكلما قويت أسباب التكفير كان أقوي وأتم وأشمل.


ويقول رحمه الله في الجواب الكافي أيضاً([2]):
وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات:
أحدها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها والقيام بحقوقها بمنزلة الدواء للضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية.
الثانية : أن تقاوم الصغائر ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر.
الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر.
فتأمل هذا فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.
-----------------------------------------
1]) الجواب الكافي - (دار الكتب العلمية ص 13)
2)(ص 87)
 
التعديل الأخير:

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,147
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
جزاك الله خيراً أخي الفاضل أبا فراس ..
ما شاء الله .. تبارك الله ..
هنيئاً لك ما سطره يراعك ...
أفدنا وزدنا مما آتاك الله ...
نفعك الله .. ونفع بك ...
وجعلك الله من العلماء العاملين العابدين ...
ومثلك يتأمل منه المزيد ... جعلني الله وإياك من أهل المزيد ...
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
خامساً: ابن حزم الظاهري:

بالنسبة لابن حزم الظاهري فلم أفف على كلام صريح له في المسألة ، ولعل ذلك راجع إلى قصور في البحث، وقد جزم ابن رجب بأن ابن حزم هو المقصود بالرد في كلام ابن عبد البر رحمه الله.
إلا أنه في أكثر من موضع نجد أن ابن حزم رحمه الله ينص على أن تكفير الكبائر يكون :
1-إما بالتوبة.
2-أو بالموازنة.
3-أو بالشفاعة يوم القيامة.
ولم يتعرض لتكفيرها بالأعمال الصالحة، إلا في موضوع واحد.
ولخص د. إحسان عباس رحمه الله كلام ابن حزم رحمه الله في هذه المسألة من رسالته الماتعة التلخيص لوجوه التخليص([1])، فذكر:
1 - أن الله يغفر الصغائر باجتنابه الكبائر.
2 - أن التوبة الخالصة قبل الموت تسقط الكبائر نفسها.
3 - إذا ارتكب المرء الكبائر وزنت حسناته بسيئاته فإن رجحت حسناته غفر الله له.
4 - أن السيئة بمثلها والحسنة بعشرة أمثالها.
5 - أن هناك شفاعة ذخرها الله للمؤمنين يخرجهم بها بعد أن ينالوا شطراً من العذاب.
وأسوق هنا بعض كلام ابن حزم رحمه الله في المسألة ليتبين لنا بنص كلامه وذات حروفه موقفه العام تجاهها، يقول رحمه الله:
1 - سألتم - وقفنا الله وإياكم - عن أقرب ما يعتب به العبد المجرم ربه تعالى، وعن أفضل ما يستنزل به عفوه وفضله عز وجل، ويستدفع به سخطه وغضبه، وعن انفع ما يشتغل به من كثرت ذنوبه، وعن خير ما يسعى به المرء في تكفير صغائره وكبائره. فهذه أيها الصفوة الفاضلة أربع مسائل فرقتم بينها ومعناها واحد.
فالجواب إن شاء الله تعالى عن ذلك:
قال تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114)
وحدثنا الرجل الصالح [أبو] محمد [عبد الله] بن يوسف بن نامي ....عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر )
فكان هذا الحديث موافقاً لقول الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء: 31).
فصح أن بأداء الفرائض واجتناب الكبائر - أعاذنا الله وإياكم منها - تحط السيئات التي هي دون الكبائر.
فبقى أمر الكبائر، فوجب النظر فيها، فوجدنا الناس قد اختلفوا فيها:
فقالت طائفة:
هي سبع....
وروي عن ابن عباس أنه قال:
هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع....
فلما صح هذا كله بنص القرآن، إذ من اجتنبها أدخله الله مدخلاً كريماً
ونص الحديث أيضاً، وجب النظر في ذلك على المؤمن المشفق من عذاب ربه تعالى ومن نار هي أحر من نار هذه بسبعين ضعفاً، ومن الوقوف بأصعب الأحوال وأشد الأهوال وأعظم الكرب وأكثر الضيق وأكثر العرق في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، نسأل الله عز وجل أن يعيذنا وإياكم من شر ذلك اليوم، وأن يرزقنا فيه الفوز والنجاة.
فوالله أيها الأحبة:
إن أحدنا ليشتد روعه ويخفق قلبه من وعيد آدمي ضعيف مثله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يقدر أن يتمادى شهراً واحداً في عذاب من عاداه وكاشفه بأكثر من الحبس
فكيف بذلك اليوم المذكور، وبعذاب أهونه الوقوف في حال دنو الشمس من الرءوس، وبلوغ العرق إلى أكثر مساحة الأجسام، في يوم طوله خمسون ألف عام، ثم بعد ذلك يرى مصيره إما إلى جنة أو إلى نار فأين المفر إلا إلى الله وحده لا شريك له.
فوجدناه تعالى قال:
{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (الأنبياء: 47)
وقال تعالى:
{فأما من ثقلت موازينه* فهو في عيشة راضية* وأما من خفت موازينه* فأمه هاوية* وما أدراك ماهيه* نار حامية} (القارعة: 6 - 11)
فعلمنا بهذا وبقوله تعالى:
{إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114)
أن من استوت حسناته وسيئاته وفضلت له حسنة واحدة لم ير ناراً فيا لها من سرور ما أجله.
وهذا هو معنى قوله عليه السلام :
( إن بغياً سقت كلباً فغفر الله لها، وإن رجلاً أماط غصن شوك عن الطريق فأدخله الله الجنة )
وذلك أن هذين:
فضل لهما هذان العملان بعد موازنتهما سيئاتهما بحسناتهما، فخلصا من النار ودخلا الجنة.
فوجب علينا إذ قد جاءتنا عهود ربنا بهذا كله، أن نطلب:
1- الأعمال الماحية.
2- أو الموازنة للسيئات.
فيثابر المرء منها على ما وفقه الله تعالى للمثابرة عليه.([2])
ويقول ابن حزم رحمه الله في هذه الرسالة أيضاً ( 3) التلخيص لوجوه التخليص:
واعلموا - رحمنا الله وإياكم -:
أن الله عز وجل ابتدأنا بمواهب خمس جليلة، لا يهلك على الله بعدهن إلا هالك، وهي:
أنه تعالى غفر الصغائر باجتناب الكبائر :
فلو أن امرءاً وافى عرصة القيامة بملء الأرض صغائر إلا أنه لم يأت كبيرة أو أتاها ثم تاب منها، لما طالبه الله بشيء منها، وقال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء: 31).
والثانية:
من أكثر من الكبائر، ثم منحه الله التوبة النصوح على حقها وشروطها قبل موته، فقد سقط عنه جميعها، ولا يؤاخذه ربه تعالى بشيء منها، وهذا إجماع من الأمة.
والثالثة:
أن من عمل من الكبائر ما شاء الله، ثم مات مصراً عليها، ثم استوت حسناته وسيئاته لم يفضل له سيئة، مغفور له، غير مؤاخذ بشيء مما يفعل، قال الله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114)، وقال تعال: {فأما من ثقلت موازينه} (القارعة: 6).
والرابعة:
أنه تعالى جعل السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف الله تعالى لمن شاء.
والخامسة:
أنه تعالى جعل الابتداء على من أحاطت به خطيئته، وغلب شره على خيره، بالعذاب والعقاب، ثم نقله عنه بالشفاعة إلى الجنة فخلده فيها، ولم يجعل ابتداء جزائه على حسناته بالجنة، ثم ينقله منها إلى النار.
فهل بعد ذلك الفضل منزلة نسأل الله أن لا يدخلنا في عداد من يعذبه بمنه.
فهذا أصلحنا الله وإياكم جواب ما سألتم عنه مما يكفر الذنوب الكبائر.

ثم أورد ابن حزم رحمه الله سؤال من ألف هذه الرسالة لهم([4]):


عن العمل:


الذي إذا قطع المرء به باقي عمره رجا له الفوز عند الله عز وجل، وأيقن له به.


وعن السيرة :


التي يختارها ويحسد عليها من أعطيها، من أبواب التخلص من سخط الله في القول والعمل.


فقال رحمه الله مجيبا عن هذين السؤالين، وقد اعتبرهما سؤالا واحداً:


إني قد أدمت البحث عما سألتم عنه مدى دهر طويل


فتشت عنه القرآن والحديث الصحيح


فلاح لي بعد طلب كثير


وتحصل لي بعد طلب شديد


ما أخاطبكم به


أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته آمين.


وقد كنت جمعت في هذا فصلاً نسخته لكم على هيئته، وهو أني فتشت على مراتب الحقائق في دار القرار في الآخرة - وأما الدنيا فمحل مبيت بؤسها منقض ، وسورها منسي كأن ذلك لم يكن - فوجدتها عشر مراتب:


منها ثلاث :


هي مراتب:


1-الملك.


2-والعلو.


3-والسبق.


فأولها: مرتبة عالم يعلم الناس دينهم:


فإن كل من عمل بتعليمه أو علم شيئاً مما كان هو السبب في علمه، فذلك العالم والمتعلم شريك له في الأجر إلى يوم القيامة على آباد الدهور، فيا لها منزلة ما أرفعها، أن يكون المرء أشلاء متمزعة في قبره أو مشتغلاً في أمور دنياه وصحف حسناته متزايدة، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب ومواترة عليه من حيث لم يقدر. ...


فأسأل الله أيها الإخوة أن يجعلنا وإياكم من أهل الصفة الأولى [يعني من سن سنة حسنة]


وأن يعيذنا من الثانية [يعني من سن سنة سيئة]


فبشروا من سَنَّ القبالات والمكوس ووجوه الظلم بأخزى الجزاء وأعظم البوار في الآخرة، إذ سيئاتهم تتزايد على مرور الأيام والليالي، والبلايا تترادف عليهم وهم في قبورهم؛


ولقد كان أحظى لهم لو لم يكونوا خلقوا من الإنس.


واعلموا أنه لولا العلماء الذين ينقلون العلم ويعلمونه الناس جيلاً بعد جيل لهلك الإسلام جملة، فتدبروا هذا وقفوا عنده وتفكروا فيه نعماً، ولذلك سموا ورثة الأنبياء، فهذه مرتبة.


والثانية: حَكَمٌ عدل:


فإنه شريك لرعيته في كل عمل خير عملوه في ظل عدله وأمن سلطانه بالحق لا بالعدوان، وله مثل أجر كل من عمل سنة حسنة سنها.


فيا لها مرتبة ما أسناها أن يكون ساهياً لاهياً وتكسب له الحسنات، وأين هذه الصفة وأما الغاش لرعيته والمداهن في الحق، فهو ضد ما ذكرنا، ويؤيد هذا قوله عليه السلام : ( وإن المقسطين فيما ولوا على منابر من نور على يمين الرحمن ) ، أو كلاماً هذا معناه.


فهذه ثانية.


وأما الثالثة: مجاهد في سبيل الله عز وجل:


فإنه شريك لكل من يحميه بسيفه في كل عمل خير يعمله، وإن بعدت داره في أقطار البلاد، وله مثل أجر من عمل شيئاً من الخير في كل بلد أعان على فتحه بقتال أو حصر، وله مثل أجر كل من دخل في الإسلام بسببه أو بوجه له فيه أثر إلى يوم القيامة.


فيا لها حظوة ما أجلها أن يكون لعله في بعض غفلاته ونحن نصوم له ونصلي.


واعلموا أيها الإخوة الأصفياء:


أن هذه الثلاث سبق إليها الصحابة رضي الله عنهم لأنهم:


1- كانوا السبب في بلوغ الإسلام إلينا وفي تعلمنا العلم.


2- وفي الحكم بالعدل فيما ولوا.


3- وفي فتوح البلاد شرقاً وغرباً.


فهم شركاؤنا وشركاء من يأتي بعدنا إلى يوم القيامة، وفي كل خير يعمل به مما كانوا السبب في تعليمه أو بسطه أو فتحه من الأرض.


واعلموا:


أنه لولا المجاهدون لهلك الدين ولكنا ذمة لأهل الكفر.


فتدبروا هذا فإنه أمر عظيم، وإنما هذا كله إذا صفت النيات وكانت لله.....


فهذه الثلاث المراتب هي مراتب السبق التي من أمكنه شيء منها فليجهد نفسه،


وما توفيقي إلا بالله عز وجل.


ومن أحب قوماً فهو معهم ....


وبعد هذه المرتبة مرتبة رابعة:


هي مرتبة الحظوة والقربة:


وهي حالة إنسان مسلم فتح الله له باباً من أبواب البر مضافاً إلى أداء فرائضه، إما في كثرة الصيام أو كثرة صدقة، أو كثرة صلاة، أو كثرة حج وعمرة، وما أشبه ذلك، فهذا له نوافل عظيمة وخير كثير، إلا أنه ليس له إلا ما عمل، وصحيفته تطوى بموته، حاشا من حبس أرضاً أو أصلاً تجري صدقته بعده ....


فهذه مرتبة رابعة، وهي دون المراتب الثلاث الأول.


ثم مرتبة خامسة:


وهي مرتبة الفوز والنجاة:


وهي حالة إنسان مسلم يؤدي الفرائض ويجتنب الكبائر ويقتصر على ذلك، فإن فعل هذا فمضمون له على الله تعالى الغفران بجميع سيئاته ودخول الجنة والنجاة من النار؛ قال الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر مات تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء: 31)


وقد نص النبي عليه السلام في الذي سأله عن فرائض الإسلام فأخبره بها فقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص، قال عليه السلام : ( أفلح عن صدق، ودخل الجنة إن صدق. )


فهذه المراتب الخمس هي مراتب الزلفى والقربى التي لا خوف على أهلها ولا هم يحزنون.


ثم بعدها مرتبتان :


وهما مرتبتا السلامة مع الغرر:


وعاقبتهما محمودة، إلا أن ابتداءهما مذموم مخوف هائل:


وهما :


1-حال إنسان مسلم عمل خيراً كثيراً وشراً كثيراً، وأدى الفرائض وارتكب الكبائر، ثم رزقه الله التوبة قبل موته.


2-والثانية: حال امرئ مسلم عمل حسنات وكبائر ومات مصراً، إلا أن حسناته أكثر من سيئاته.


وهذان غررا ولكنهما فائزان ناجيان بضمان الله عز وجل لهما إذ يقول: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} (طه: 82)، ولقوله {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية} (القارعة: 6) ولقوله تعالى {عن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114)، ولا خلاف بين أحد من أهل السنة فيما قلنا من هذا.


ثم مرتبة ثامنة:


وهي مرتبة أهل الأعراف:


وهي مرتبة خوف شديد وهول عظيم، إلا أن العاقبة إلى سلامة، وهي حال امرئ مسلم تساوت حسناته وكبائره، فلم تفضل له حسنة يستحق بها الرحمة، ولا فضلت له سيئة يستحق بها العذاب.


وقد وصف الله صفة هؤلاء في الأعراف، فقال تعالى بعد أن ذكر مخاطبة أهل الجنة لأهل النار {فهل وجدتم ما وعد ربكم قالوا نعم} (الأعراف: 44) ثم قال بعد آية {وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون* وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} (الأعراف: 46 - 47).


فهذه الوقفة لا يعدل همها والإشفاق منها سرور الدنيا كله، ولكنهم ناجون من النار داخلون الجنة، لأنه لا دار سواهما، فمن نجا من النار فلابد له من الجنة.


وليتنا نكون من هذه الصفة، فو الله إنها لمن أبعد آمالي التي لا أدري كيف التوصل إليها إلا برحمة الله، وأما بعمل أعلمه مني فلا.


ثم مرتبة تاسعة:


وهي مرتبة نشبة ومحنة وبلية وورطة ومصيبة وداهية، نعوذ بالله منها، وإن كانت العاقبة إلى عفو وإقالة وخير.


وهي:


حال امرئ مسلم خفت موازينه ورجحت كبائره على حسناته:


فهؤلاء الذين وصفوا في الأحاديث الصحاح:


أن منهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه


ومنهم من يبقى فيها ما شاء الله من الدهور، كما وصف النبي عليه السلام في مانع الزكاة انه يبقى في العذاب الموصوف في الحديث يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى مصيره إلى جنة أو إلى نار


فيا لها بلية ما أعظمها؛ وكما نص عليه السلام انه سأل أصحابه ....


فيبقى هؤلاء في النار على قدر ما أسلفوا، حتى إذا بقوا كما جاء في الحديث الصحيح، جاءت الشفاعة التي ادخرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وجاءت الرحمة التي ادخرها الله لذلك اليوم الفظيع والموقف الشنيع وأخرجوا كلهم من النار فوجاً بعد فوج بعد ما امتحشوا أو صاروا حمماً.


والله أيها الإخوة:


لولا أن عذاب الله لا يهون منه شيء ولا يتمناه عاقل لتمنيت أن أكون من هؤلاء خوفاً من خاتمة سوء، وأعوذ بالله مما يوجب الخلود ويقتضي جوابه تعالى إذ يقول: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون: 108)


ولكن يمنعني من ذلك:


الرجاء في عظيم عفوه عز وجل، وأن النفس لا تساعد على أن تعد شيئاً من عذاب الله خفيفاً ولو نظرة إلى النار، أعاذنا الله منها.


فوالله إن أحدنا:


ليستشنع موقف جنايته أو موقف قصاصه بين يدي مخلوق ضعيف، فكيف بين يدي الخالق الذي ليس كمثله شيء، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فكيف بنار أشد من نارنا بسبعين ضعفاً!


فتأملوا ذلك عافانا الله وإياكم منها:


في فعل الصواعق في صم الهضاب وشم الجبال، فإنها تبلغ في التأثير فيها في ساعة ما لا تبلغه نارنا لو وقدناها هنالك عاماً مجرماً، فكيف بجلود ضعيفة ونفوس ألمة.


هذا على أن الحسن البصري رضي الله عنه:


ذكر يوماً موقف رجل يخرج من النار بعد ألف سنة فقال: يا ليتني ذلك الرجل!


وإنما تمنى الحسن هذا:


خوفاً من خاتمة شقاء، وأن يموت على غير الإسلام فيستحق الخلود في النار في الأبد.


فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما :


دعو الله أن يميته على الإسلام


وكان الأسود بن يزيد يقول:


ما حسدت أحداً حسدي مؤمناً قد دلي في قبره! وإنما تمنى الأسود ذلك لأنه إذا مات مسلماً أمن الكفر.


فهذه المرتبة أيها الأخوة:


مرتبة نعوذ بالله منها، فقد صح عن النبي عليه السلام: ( أن المرء المنعم في الدنيا يغمس في النار غمسة ثم يقال : أرأيت خيراً قط فيقول: لا ما رأيت خيراً قط!) هذا في غمسة، فكيف بمن يبقى خمسين ألف سنة يجدد له فيها أضعاف العذاب.


على انه قد صح عن النبي عليه السلام من طريق أبي سعيد الخدري: ( أن آخر أهل النار دخولاً الجنة وخروجاً من النار، وأقل أهل الجنة منزلة، رجل أمره الله أن يتمنى فيتمنى مثل ملك ملك كان يعرفه في الدنيا فيعطيه الله مثل الدنيا كلها عشر مرات.)


وهذا حديث صحيح، فلا يدخلنكم فيه داخلة لبراهين يطول فيها الكلام ولصغر قدر الأرض وقلته في الإضافة إلى قدر الآخرة وسعتها، يعلم ذلك من علم هيئة العالم وتفاهة الأرض في عظيم السموات.


ولعمري إن هذه فضيلة عظيمة، لاسيما إذا أفكرنا أنها خالدة لا تنقضي أبداً.


لكن إذا أفكرنا فيماقبلها من طول المكث بين أطباق النيران، يتجرعون الزقوم ويشربون الغسلين، ولهم مقامع من حديد، والأغلال في أعناقهم، والملائكة يسحبونهم على وجوههم، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب: لم يف بذلك سرور وإن جل.


ونسأل الله أن يجرينا وإياكم من هذه المرتبة، آمين.


فلهؤلاء ذخرت الشفاعة وفي جملتهم يدخل من لم تكن له وسلية، ولا عمل خيراً قط غير اعتقاد الإسلام والنطق به، ولا استكف عن شر قط حاشا الكفر.


.... على قدر ما يفضل من السيئات على الحسنات يكون العذاب.


فأقله غمسة كما جاء في الحديث المذكور منه آنفاً، ومن يلج منه عضو في النار كما جاء في حديث جواز الصراط.


وأكثره الذي ذكرنا أنه آخر أهل الإسلام خروجاً من النار في الحديث المذكور آنفاً.


وأما المرتبة العاشرة:


فهي مرتبة السحق، والبعد، والهلكة الأبدية.


وهي مرتبة من مات كافراً:


فهو مخلد في نار جهنم لا يخفف عنهم من عذابها، ولا يقضي عليهم فيموتوا، خالدين فيها أبدا، سواء صبروا أم جزعوا، ما لهم من محيص. اللهم عياذك، عياذك، عياذك من ذلك، وقد هان كل ما تقدم ذكره عند هذه: " وإنما نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي "، ثبتنا الله وإياكم على الإسلام والإيمان وابتاع محمد عليه السلام. فهذا جواب ما سألتم عنه من السيرة المختارة التي أحسد عليها صاحبها، وأتمنى أعاليها، قد لخصتها وفسرتها.



وقد ذكر ابن حزم رحمه الله في رسالته طوق الحمامة :
أنه اقتصر على الحقائق المعلومة.
ثم اعتذر عن إيراده أشياء كثيرة:
لئلا يخرج عن طريقة أهل الشعر ومذهبهم.
ثم استغفر الله تعالى:
مما يكتبه الملكان ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه، استغفار من يعلم أن كلامه من عمل.
ثم قرر ابن حزم رحمه الله أن ما أورده في رسالته هذه:
1) إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء.
2) فهو إن شاء الله من اللمم المعفو.
3) وإلا فليس من السيئات والفواحش التي يتوقع عليها العذاب.
4) وعلى كل حال فليس من الكبائر التي ورد النص فيها.
ثم نبَّه ابن حزم رحمه الله إلى أنه يعلم:
أنه سينكر عليه بعض المتعصبين على تأليفه لمثل هذا ويقول: إنه خالف طريقته، وتجافى عن وجهته. وما أحل لأحد أن يظن في غير ما قصدته....
ثم نفى ابن حزم رحمه الله عن نفسه:
1-أن يكون قائلاً بالمراياة([5]).
2-أو أنه نسك نسكاً أعجمياً.([6])
ثم قال رحمه الله:
1-ومن أدى الفرائض المأمور بها.
2-واجتنب المحارم المنهي عنها.
3-ولم ينس الفضل فيما بينه وبين الناس.
فقد وقع عليه اسم الإحسان، ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله.
قلت:
وفي الحقيقة هذا فقه في الدين من جانب، وتواضع بين من جانب آخر، ثم هي صراحة متناهية من مثل ابن حزم رحمه الله وهو من هو في العلم والدين ، فقد صوَّر نفسه في أحسن أحواله كواحد من الناس اقتصد في عمله فأدى الفرائض، وكف عن الحرام.
فرحم الله ابن حزم وغفر له...
ألا يعلم أنه كتب في غيبه – واليوم قد كشف حجابه – أنه حفظ علمه إلى نحو ألف عام ...في واحد هو معدود من أكثر أهل الإسلام تأليفا!
وكأن ابن حزم رحمه الله حينما قال:
"ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله"
يريد دفع التكلف الذي شاع في زهد كثير من العباد والعلماء عما لا فضيلة في الزهد فيه، وأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت أسهل من تكلف كثير من المتأخرين وما وقع لهم من المبالغة وأنوع من المشادّة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) كما قال سبحانه : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}
ثم رجع ابن حزم في خاتمة رسالته يتعجب ويتساءل:
كيف ألَّف رسالته هذه "طوق الحمالة في الألفة والألاف"
مع أن :
الكلام في مثل هذا إنما هو مع خلاء الذرع وفراغ القلب.
إن حفظ شيء وبقاء رسم وتذكر فائت:
لمثل خاطري لعجب على ما مضى ودهمني؛ فأنت تعلم أن ذهني متقلب وبالي مهصر بما نحن فيه من نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطان، وتغير الإخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر، وانتظار الأقدار، لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، وأعادنا إلى أفضل ما عودنا.
وإن الذي أبقى لأكثر مما أخذ، والذي ترك أعظم من الذي تحيف، ومواهبه المحيطة بنا ونعمه التي غمرتنا لا تحد، ولا يؤدى شكرها، والكل منحه وعطاياه، ولا حكم لنا في أنفسنا ونحن منه، وإليه منقلبنا وكل عارية فراجعة إلى معيرها، وله الحمد أولاً وآخراً وعوداً وبدءاً وأنا أقول: [من الوافر].
جعلنا اليأس لي حصناً ودرعاً ... فلم ألبس ثياب المتضام
وأكثر من جميع الناس عندي ... يسير صانني دون الأنام
إذا ما صح لي ديني وعرضي ... فلست لما تولى ذا اهتمام
تولى الأمس والغد لست ادري ... أأدركه ففي ماذا اغتنامي
جعلنا الله وإياك من الصابرين الشاكرين الحامدين الذاكرين، آمين آمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

ويقول رحمه الله في كتابه الفَصْل في الملل والأهواء والنحل :
( وأما قوله عليه السلام: ( والحج يجب ما قبله ) فقد جاء : (أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )
فهذا على الموازنة التي ربنا عز وجل عالم بمراتبها ومقاديرها، وإنما نقف حيث وقفنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق.

ويقول أيضاً في نفس الكتاب:


ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه حرم الله عليه النار وأوجب له الجنة )


فهذا لا يختلف فيه مسلمان أنه ليس على ظاهره منفرداً لكن يضمه إلى غيره من الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين حاشا دين الإسلام.


ومعناه حينئذ:


أن الله عز وجل أوجب له الجنة ولا بد:


1-إما بعد القصاص.


2-وإما دون الاقتصاص.


على ما توجبه الموازنة.


وحرم الله عليه أن يخلد فيها ويكون من أهلها القاطنين فيها .....


------------------------------------------------------

1 ) رسائل ابن حزم - (ج 3 / ص 31)
2) رسائل ابن حزم - (ج 3 / ص 144)
3) رسائل ابن حزم - (ج 3 / ص 151)
4) رسائل ابن حزم - (ج 3 / ص 152)

5) هكذا في المطبوعة، ولم يشرحها إحسان عباس كعادته في شرح المعاني الغريبة، ولعله لم يعثر على معنى لها، ولم تذكر في كتب اللغة حسب بحثي لهذه الكلمة، وقد ذكرها صاحب القاموس في تفسير بعض الكلمات فاستغربها صاحب تاج العروس وقال هكذا هي في النسخ الخطية ثم رجح أن تكون مصحفة.

6) يقال أن رجلاً كان يستنكر رواية الشعر فقال فيه سعيد بن المسيب " ذاك رجل نسك نسكاً أعجمياً " . وقيل انه قال في ناس كرهوا إنشاد الشعر: " لقد نسكوا نسكاً أعجمياً " انظر البيان والتبيين 1: 202 والسماع لابن القيسراني: 93 . نقلا عن إحسان عباس.
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
النتائج المستخلصة من كلام ابن حزم رحمه الله:
نلاحظ من مجموع كلام ابن حزم رحمه الله السابق ما يلي:
1-أن ابن حزم رحمه الله فرغ من الحكم على الصغائر وذلك بأنها تكفر باجتناب الكبائر مع أداء الفرائض، فلو أن امرءاً وافى عرصة القيامة بملء الأرض صغائر إلا أنه لم يأت كبيرة أو أتاها ثم تاب منها، لما طالبه الله بشيء منها.
2-وقع في كلام ابن حزم رحمه الله أن ما صح أنه يكفر ويعني بذلك اللم والصغائر فإنه لا يصح التهمة به، لكن هذه الجملة وقفت عليها ثم ندَّت عني أثناء البحث، وسأسجلها هنا إن شاء الله حال العثور عليها.
3-حكى ابن حزم رحمه الله إجماع الأمة على أن مَنْ أكثر من الكبائر، ثم منحه الله التوبة النصوح على حقها وشروطها قبل موته، فقد سقط عنه جميعها، ولا يؤاخذه ربه تعالى بشيء منها.
4-أن من عمل من الكبائر ما شاء الله، ثم مات مصراً عليها، ثم استوت حسناته وسيئاته لم يفضل له سيئة، مغفور له، غير مؤاخذ بشيء مما يفعل.
5-غالب كلام ابن حزم رحمه الله أن الكبائر إنما تكفر بالتوبة أو بالموازنة أو بالشفاعة يوم القيامة.
6-صرف ابن حزم رحمه الله حديث عمرو بن العاص أن الحج يجب ما كان قبله على معنى الموازنة التي ربنا عز وجل عالم بمراتبها ومقاديرها، وإنما نقف نحن حيث وقفنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
7-وقع لي في موضع واحد تنصيص ابن حزم رحمه الله أن الكبائر تكفر كذلك بالحسنات الماحية، ولا يقال: لعل مراده أن الحسنات إنما تكون ماحية بالموازنة وذلك لأنه ذكر الحسنات الماحية قسيمة للموازنة فعلم أن المقصود الحسنات المكفرة بنفسها للسيئات من غير موازنة.
8-أن من استوت حسناته وسيئاته وفضلت له حسنة واحدة لم ير ناراً (فيا لها من سرور ما أجله) كما يقول ابن حزم رحمه الله.
9-ذكر ابن حزم في مراتب الحقائق في الدار الآخرة عشرة مراتب منها: حال أهل الأعراف، ومنها حال من رجحت سيئاته على حسناته، فيؤخذ بذنوبه إلى النار ما شاء الله ثم يخرج منها.
وهذه الصور نستفيد منها أن ابن حزم رحمه الله لا يقول بقول المرجئة الذين قد يؤول قولهم بتكفير الفرائض للسيئات إلى الشهادة لكل أحد بالجنة وأنه لا يعذب أحد بالنار ممن ينتسب إلى الإسلام لأنه يعمل الفرائض وهي تكفر الكبائر والصغائر.
وقد أشار ابن عبد البر رحمه الله وابن رجب رحمه الله إلى هذه الحال وأنها مآل القول بتكفير الفرائض للسيئات، وسبق أنها حال ليست بلازمة لهذا القول، ويهننا هنا أنها أيضاً ليست قول أبي محمد اليزيدي [ أعني ابن حزم ، وينسبه إلى بهذه النسبة تلميذه أبو عبد الله الحميدي في جذوة المقتبس]
بل إن قول ابن حزم رحمه الله في هذا الباب محقق وفي غاية الإحكام ولا يشوبه إلا ما يعرض من الدقائق والتفاصيل.
هذا إن قلنا إن ابن حزم رحمه الله يطلق القول بتكفير الفرائض للكبائر، كما جزم ابن رجب رحمه الله بذلك وأنه هو المقصود بتكلف ابن عبد البر الرد على مقالته.
وإلا فإن ما سقناه عنه في هذا الموضوع لا يدل على هذا الإطلاق، بل غلب على كلامه إطلاق التكفير بمعنى الموازنة، إلى درجة أنه صرف حديث أن الحج يجب ما كان قبله إلى معنى الموازنة، وإنما ورد في موضع واحد فقط إطلاقه القول بتكفير الحسنات الماحية للسيئات جنبا إلى جنب مع التكفير بالموازنة.
ولا أستبعد أن يكون ابن حزم رحمه الله آخذ بظاهر بعض النصوص في إطلاق تكفير الأعمال الصالحة لكبائر الذنوب ، لكن لا يصل إلى المعنى الذي أشار إليه ابن عبد البر ومن بعده ابن رجب من أحوال أهل الإرجاء، وإن كان ما ذكروه إنما هو على طريقة الإلزام بمآل قوله لكن اللوازم القريبة للقول هي في معنى القول نفسه كما هي طريقة المالكية رحمهم الله.
لاسيما وأن ابن حزم رحمه الله في هذه المسائل أعني مسائل الأسماء والأحكام ينزع كثيرا إلى الجمع بين النصوص كما هو ظاهر في بعض ما نقلته عنه، هذا والله أعلم.
10- ابن حزم رحمه الله في نفسه متقلب بين الرجاء والخوف، وهذا ظاهر في كثير من كلامه ومواعظه، وإن كان باب الرجاء أظهر في كلامه رحمه الله.
11- تكرر في كلام ابن حزم رحمه الله بوحه بأن النجاة هي غاية أمانيه، وإن كان يرجو ما عند الله.
12-نص ابن حزم رحمه الله في خاتمة رسالته الطوق إلى :
أ‌- أن من أدى الفرائض المأمور بها.
ب‌- واجتنب المحارم المنهي عنها.
ت‌- ولم ينس الفضل فيما بينه وبين الناس.
فقد وقع عليه اسم الإحسان، ثم قال: ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله.
وتم التعليق على هذا الكلام في موضعه.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
أورد هذا الأثر تحذيراً من التساهل في ارتكاب صغائر الذنوب بدعوى أنها صغائر
كما يفيد هذا الأثر أن التساهل فيها هو مذهب قديم قد عرض لبعض المسلمين قبل أن يتنزل القرآن بالقول الفصل فيها:

( وخرَّج ابنُ أبي حاتم:
من حديث ابن لَهيعة ، قال : حدَّثني عطاءُ بنُ دينار ، عن سعيد بن جُبير في قولِ الله - عز وجل - : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ }
قال :
كان المسلمون يرون:
أنَّهم لا يُؤجرون على الشَّيءِ القليلِ إذا أعطوه ، فيجيءُ المسكينُ ، فيستقلُّون أنْ يُعطوه تمرةً وكِسرة وجَوزةً ونحو ذلك ، فيردُّونه ، ويقولون : ما هذا بشيء ، إنَّما نُؤجر على ما نُعطي ونحن نحبُّه.
وكان آخرون يرون:
أنَّهم لا يُلامون على الذَّنب اليسير مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ، يقولون : إنَّما وعد الله النار على الكبائر ، فرغَّبهم الله في القليل من الخير أنْ يعملوه ، فإنَّه يُوشِكُ أنْ يَكثُرَ، وحذَّرهم اليسيرَ من الشرِّ ، فإنَّه يُوشِكُ أنْ يَكْثُرَ ، فنَزلت : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، يعني : وزن أصغر النمل { خَيْراً يَرَه } يعني : في كتابه ، ويَسُرُّهُ ذلك قال : يُكتب لكلِّ برٍّ وفاجر بكلِّ سيئةٍ سيئة واحدة ، وبكلِّ حسنة عشر حسنات ، فإذا كان يومُ القيامة ، ضاعف الله حسناتِ المؤمن أيضاً بكلِّ واحدةٍ عشراً ، فيمحو عنه بكلِّ حسنةٍ عشرَ سيئات ، فمن زادت حسناتُه على سيئاتِه مِثقالَ ذرَّةٍ ، دخل الجنة . )([1])

1- جامع العلوم والحكم.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه المسألة لها قصة قديمة معي فقد كان بعض مشايخنا – جزاهم الله عنا خيرا - ينصر القول بأن الأعمال التي جاءت النصوص بإطلاق تكفيرها للذنوب أنها تشمل الصغائر والكبائر، ويحكي هذا عن ابن تيمية رحمه الله، وكان هذا كالمستقر عندنا
إلا أن الشيخ يوسف الغفيص حفظه الله في شرحه لكتاب الإيمان من البخاري ينفي هذه النسبة إلى ابن تيمية رحمه الله ويقول: إن هذا وهم سببه أن في كلام ابن تيمية رحمه الله سعة.
وذكر أن ابن تيمية رحمه الله إنما كان ينفي القول:
بأن هذه الأعمال التي جاءت النصوص بإطلاق تكفيرها للذنوب لا تكفر الكبائر مطلقا.
وأن الصواب:
أنها تكفر ما هو من الكبائر.
ثم ذكر الشيخ يوسف الغفيص:
أن قوله عليه الصلاة والسلام: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"
ليس المقصود منه تكفير الصغائر دون الكبائر، وإنما المراد أن اطراد التكفير لسائر الذنوب إنما يكون إذا اجتنبت الكبائر كما قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}
وعلى هذا فالشرط المذكور في الحديث من اجتناب الكبائر ليس لاستثناء تكفير الكبائر وإنما لنفي اطراد التكفير.
فإنه إذا ارتكبت الكبائر فإن هذه الأعمال لا تطرد في تكفير سائر الذنوب.
ثم ذكر الشيخ يوسف حفظه الله أن تكفير الأعمال للكبائر يختلف باعتبار ثلاثة معايير:
1- منزلة العمل: فعمل كفريضة الحج بالتأكيد لا يوازي في التكفير غير الفرائض.
2- منزلة العامل: فالعامل المتقي يختلف عن غيره كما قال تعالى: {إنما يتقبل الله من المتقين}، بل إن التقوى نفسها تتفاوت.
3- تحقيق العمل: فإن إتقان العمل وتحقيقه على الوجه المطلوب الشرعي يحقق للعبد من آثار العمل ما لا يحققه من قصر فيه كما قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وإنما يكون هذا لمن أقامها على وجهها، وكذلك فإنه قد جاء في نصوص الأعمال التي تكفر الذنوب ما يدل نصا وصراحة على اعتبار هذا المعنى كما قال عليه الصلاة والسلام: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته"، وقال: "من أسبغ الوضوء...." وقال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا...." من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا...."
-------------------
وبعد انتهاء الدرس رجعت إلى كلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى حتى أتعرَّف إلى هذا الموضع الذي فيه "سعة" حتى توهَّم بعض الناس كما يقول الشيخ يوسف الغفيص حفظه الله أن ابن تيمية رحمه الله يقول في الحسنات الماحية إنها تكفر حتى الكبائر من الذنوب، [والمقصود بالحسنات الماحية هنا ما جاء النص بإطلاقه تكفيره للذنب من غير استثناء الكبائر.]
فقلَّبت صفحات الفتاوى، فوقفت على كلامه في المجلد السابع من كتاب الإيمان الأوسط والذي سبق نقله عنه في هذا الموضوع، فكان ظاهر كلامه رحمه الله أن هذه الأعمال تكفر حتى الكبائر منها بدليل ذكره الوجه وراء الوجه للتدليل على تكفير هذه الأعمال للكبائر حتى ذكر جملة من النصوص التي وقع فيها التصريح على تكفيرها لبعض الكبائر.
بل إن هذه الوجوه التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله :
إنما كانت جوابا عن السؤال القائل: إن هذه الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة ....
فأراد بما ذكر من الوجوه الجواب عن هذا الإيراد.
ولم أكد أظفر إلى ما يدل على أن كلام ابن تيمية رحمه الله فيه سعة على ما قاله الشيخ يوسف الغفيص حفظه الله إلا في موضع واحد، وهو قوله رحمه الله:
[إن الله لم يجعل شيئا يحبط جميع الحسنات إلا الكفركما أنه لم يجعل شيئا يحبط جميع السيئات إلا التوبة.]
فرجعت إلى الشيخ يوسف الغفيص، واستفسرت منه، وقلت له: هل هذا الموضع هو الذي استفاد منه ما حكاه عن ابن تيمية رحمه الله من عدم صحة القول بإطلاق تكفير هذه الأعمال لسائر الذنوب حتى الكبائر منها، وبالتالي توهيم من حكى عن ابن تيمية إطلاق تكفير الذنوب، فأخبرني أن هذا موضع من المواضع ثم قال: لو تأتني بالكتاب أبين لك ما هو أصرح من هذا الكلام.....
لكن للأسف لم آته بالكتاب ولا أدري ما السبب...
ثم وقفت اليوم بحمد الله على كلام لابن تيمية رحمه الله في مختصر الفتاوى المصرية يؤكد ما حكاه عنه الشيخ يوسف الغفيص حفظه الله.
يقول رحمه الله (مختصر الفتاوى المصرية تحقيق محمد حامد فقي ص 577):
"وقد يفعل العبد من الحسنات ما يمحو الله به بعض الكبائر كما غفر للبغي بسقي الكلب وقوله لأهل بدر: ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )
ولكن هذا يختلف:
1- باختلاف الحسنات.
2- ومقاديرها.
3- وبصفات الكبائر.
4- ومقاديرها.
فلا يمكننا أن نعين حسنة تكفر بها الكبائر كلها غير التوبة:
فمن أتى بكبيرة ولم تب منها ولكن أتى معها بحسنات أخر فهذا يتوقف أمره على الموازنة فـ {من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ومن خفت موازينه فأمه هاوية }
فلهذا كان صاحب الكبيرة تحت الخطر ما لم يتب منها
فإذا أتى بحسنات يرجى له محو الكبيرة وكان بين الخوف والرجاء.
والحسنة الواحدة قد يقترن بها من الصدق واليقين ما يجعلها تكفر الكبائر كالحديث الذي في صاحب البطاقة الذي ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ويؤتى ببطاقة فيها كلمة لا إله إلا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات وذلك لعظم ما في قلبه من الإيمان واليقين
وإلا فلو كان كل من نطق الكلمة تكفر خطاياه لم يدخل النار من أهل الكبائر المؤمنين بل والمنافقين أحد وهذا خلاف ما تواترت به الآيات والسنن
وكذا حديث البغي وإلا فليس كل من سقى كلبا عشانا يغفر له
كما أنه قد يقترن بالسيئة من الاستخفاف والإصرار ما يعظمها
فلهذا وجب التوقف في المعين فلا يقطع بجنبه ولا نار إلا ببيان من الله لكن يرجى للمحسن ويخاف علي المسيء وأما من شهد له النص فنقطع له
ومَنْ له لسان صدق ففيه نزاع."
نتائج كلام ابن تيمية رحمه الله السابق:
1- قرر ابن تيمية واستدل على أن العبد قد يفعل من الحسنات ما يمحو الله به بعض الكبائر.
2- ذكر أن تكفير الكبائر يختلف:
أ*- باختلاف الحسنات، ومقاديرها.
ب*- وبصفات الكبائر، ومقاديرها.
3- لا يمكن تعيين حسنة تكفر بها الكبائر كلها غير التوبة.
4- من أتى بكبيرة ولم تب منها ولكن أتى معها بحسنات أخر فهذا يتوقف أمره على الموازنة.
5- الحسنة الواحدة قد يقترن بها من الصدق واليقين ما يجعلها تكفر الكبائر.
6- قد يقترن بالسيئة من الاستخفاف والإصرار ما يعظمها.



وسبق في هذا الموضوع نقل كلام ابن القيم رحمه الله من كتابه الجواب الكافي، وهو قريب من كلام ابن تيمية رحمه الله، ومعلوم استفادة ابن القيم البالغة من شيخه ، يقول رحمه الله:
وكاغترار بعضهم على صوم يوم عاشوراء أو يومعرفة حتى يقول بعضهم يوم عاشوراء: يكفر ذنوب العام كلها ويبقى صوم عرفة زيادة فيالأجر.
ولم يدر هذاالمغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهيإنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر فرمضان والجمعة إلى الجمعة لا يقويا علىتكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها فيقوي مجموع الأمرين على تكفيرالصغائر
فكيف يكفر صوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها غير تائب منها هذامحال.
على أنه لا يمتنع:
أن يكون صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء يكفر لجميع ذنوب العام على عمومه ويكون من نصوصالوعد التي لها شروط وموانع
ويكون إصراره على الكبائر مانعا من التكفير فإذا لم يصرعلى الكبائر تساعد الصوم وعدم الإصرار وتعاونا على عموم التكفير
كما كان رمضانوالصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفيرالصغائر.
مع أنه سبحانهقد قال: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهونعنه نكفر عنكم سيئاتكم}
فعلم أن جعل الشيء سببا للتكفير لا يمنع أن يتساعد هو وسببآخر على التكفير ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهماوكلما قويت أسباب التكفير كان أقوي وأتم وأشمل.
ويقول رحمه الله فيالجواب الكافي أيضاً:
وهذه الأعمال المكفرة لهاثلاث درجات:
أحدها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها والقيامبحقوقها بمنزلة الدواء للضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كميةوكيفية.
الثانية: أنتقاوم الصغائر ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر.
الثالثة: أنتقوى على تكفير الصغائر وتبقى فيها قوة تكفر بها بعضالكبائر.
فتأمل هذافإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.
----------------------------
نستفيد من مجموع كلام ابن القيم رحمه الله السابق النتائج التالية:
1- نفى ابن القيم أن تكون أعمال التطوع التي جاء فيها إطلاق تكفير الذنوب أنها تكفر كل كبيرة عملها العبد.
2- دلل ابن القيم على صحة هذا النفي بأن الفرائض لا تكفر صغائر الذنوب إلا إذا تساعدت مع ترك الكبائر فيقوي مجموع الأمرين على تكفيرالصغائر فكيف يكفر التطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها غير تائب منها واعتبر أن هذامحال.
3- هذه الطريقة من الاستدلال تدل على أن ابن القيم رحمه الله يذهب إلى أن الشرط المذكور في الحديث من اجتناب الكبائر ليس لاستثناء الكبائر من التكفير وإنما لاشتراط اجتناب الكبائر لتكفير الصغائر كما قال تعالى {إن تجتنبوا ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}
4- ذكر ابن القيم أنه لا يمتنعأن تكون هذه الحسنات الماحية من صوم يوم عرفة وصوم يوم عاشوراء مكفرة لجميع ذنوب العام على عمومه ويكون من نصوصالوعد التي لها شروط وموانع، ويكون إصراره على الكبائر مانعا من التكفير فإذا لم يصرعلى الكبائر تساعد الصوم وعدم الإصرار وتعاونا على عموم التكفير كما كان رمضانوالصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفيرالصغائر، فجعل الشيء سببا للتكفير لا يمنع أن يتساعد هو وسببآخر على التكفير ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهماوكلما قويت أسباب التكفير كان أقوي وأتم وأشمل.
5- ذكر ابن القيم أن الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات:
أ*- أن تقصر عن تكفير الصغائر.
ب*- أن تكفر الصغائر دون الكبائر.
ت*- أن تكفر الصغائر وبعض الكبائر.
6- لم يذكر ابن القيم رحمه الله من جملة هذا التقاسيم ما يكفر جميع الصغائر وجميع الكبائر.
الترجيح:
بعد هذه النقولات الكثيرة عن هؤلاء الأئمة الكبار فإن الناظر لا يكاد يجد لنفسه مقعدا بينهم، لكن نسجل هنا بعض النتائج المستخلصة من مجمل النقولات عنهم:
1- جزم ابن عبد البر وابن رجب بخطأ القول بتكفير الحسنات الماحية لكبائر الذنوب، وظاهر طريقة إبطالهم لهذا القول هو أنهم إنما يقصدون مَنْ أطلق تكفيرها لسائر الكبائر وبمجرد عمل الفرائض.
2- لم أقف على كلام لابن حزم يفيد أنه يذهب إلى هذا المنحى مع أن ابن رجب جزم بأن ابن حزم هو المقصود برد ابن عبد البر رحمه الله.
3- وقفت على كلام صريح لابن حزم يفيد بأن الكبائر إنما تكفر بالموازنة أو بالتوبة، ولم يكد يذكر الحسنات الماحية إلا في موضع واحد مع أنه صرف حديث تكفير الحج لما قبله من الذنوب على معنى الموازنة.
4- التفصيل الذي صار إليه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من تفاوت التكفير باختلاف العامل والعمل وتحقيق العمل متجه ظاهر، لكن يحتاج إلى شيء من الفقه، فمثلا قوله عليه الصلاة والسلام "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" قد نقول: نعم، هو على ظاهره يكفر الحج جميع ذنوبه الصغائر منها والكبائر فإن من ولدته أمه لا يحمل من الأوزار شيئا.
لكن التكفير إنما يكون بالشرط المذكور في الحديث وهو عدم الرفث والفسق، وهذا من حيث الأصل لكن قد يكون إصراره على فعل الكبائر مانعا من إطلاق تكفير الذنوب، فالإسلام وقد جاء النص على أنه يهدم ما كان قبله، إلا أنه قد جاء النص كذلك أن من أساء في الإسلام فإنه يؤاخذ بعمله في الجاهلية وفي الإسلام، فالإسلام مكفر للذنوب لكن إصراره على الإساءة كان مانعا من تكفيرها.
الأمر الآخر الذي يحسن التنبّه له:
هو أن نصوص الوعيد والوعيد ليست لبيان منازل العباد ولكن لبيان مقادير الأعمال، فليس الغرض من ذكر حكم القتات أنه لا يدخل الجنة هو الحكم على المعين الذي يقتات من لحوم الناس أنه لا يدخل الجنة فإن هذا له باب آخر من الموازنة والحساب وما قد يلحقه من المغفرة والشفاعة...
وإنما الغرض في المقام الأول هو بيان عظم إثم الغيبة وأنها كافية لوحدها في منع صاحبها من دخول الجنة، أما الحكم على المعين الذي باشرها فهذا له مقام آخر.
والأمر هنا كذلك فليس المقصود من نصوص التكفير هو الحكم على من حصّل هذه الحسنات الماحية أنها كفرت ذنوبه فإن هذا غيب لا يعلمه إلا الله فقد يلحقه من موانع القبول ما الله به عليم، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يلطف بنا، وأن يتجاوز عنا.
وإنما المقصود من ذكر هذه النصوص هو الحث على هذه الأعمال وبيان الآثار المترتبة عليه من تكفير السيئات، أما الحكم على المعين الذي حصل هذه الحسنات بأنه قد كفرت ذنوبه فليس هو المقصود بالمقام الأول ، وإن كنا نرجو أن يكون الأمر كذلك إذا قام العبد بهذه الأعمال الصالحة على وجهها، هذا والله أعلم.
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
جزاك الله خيراً أخي الفاضل أبا فراس ..
ما شاء الله .. تبارك الله ..
هنيئاً لك ما سطره يراعك ...
أفدنا وزدنا مما آتاك الله ...
نفعك الله .. ونفع بك ...
وجعلك الله من العلماء العاملين العابدين ...
ومثلك يتأمل منه المزيد ... جعلني الله وإياك من أهل المزيد ...

تشجيعكم ومتابعتكم ودعاؤكم لا يعلم أثره إلا الله سبحانه
تقبل الله دعاءك وشكر الله لك صنيعك وهنيئا لنا جميعا بك
 
أعلى