رد: المذهب عند الشافعية د. محمد إبراهيم أحمد علي رحمه الله
مما وجدته عرضا أمس، ووهو ذو علاقة لبعض ما أثير في مشاركتنا ومشاركات الإخوة في هذا الموضوع، كلام نفيس لأحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان النميري الحرّاني الحنبلي (المتوفى: 695هـ) في كتابه "صفة الفتوى" يبين فيه سبب كثرة الأقوال في المذاهب، وهو كلام نفيس فيه نقد لاذع للتدوين الفقهي المذهبي فيما اصطلح على تسميتها في كتب تاريخ الفقه بعصور "التقليد " أو "التقليد المحض" على حد تعبير الشيخ الخضري، أو "طور الشيخوخة والهرم المقرِّب من العدم" على حد تعبير الحجوي.
قال رحمه الله تعالى صفة الفتوى (ص: 105):
اعلم أَن أعظم المحاذير فِي التَّأْلِيف النقلي إهمال نقل الْأَلْفَاظ بِأَعْيَانِهَا والاكتفاء بِنَقْل الْمعَانِي مَعَ قُصُور التَّأَمُّل عَن اسْتِيعَاب مُرَاد الْمُتَكَلّم الأول بِلَفْظِهِ وَرُبمَا كَانَت بَقِيَّة الْأَسْبَاب متفرعة عَنهُ لِأَن الْقطع بِحُصُول مُرَاد الْمُتَكَلّم بِكَلَامِهِ أَو الْكَاتِب بكتابته مَعَ ثِقَة الرَّاوِي يتَوَقَّف عَلَيْهِ انْتِفَاء الْإِضْمَار والتخصيص والنسخ والتقديم وَالتَّأْخِير والاشتراك والتجوز وَالتَّقْدِير وَالنَّقْل والمعارض الْعقلِيّ فَكل نقل لَا نَأْمَن مَعَه حُصُول بعض الْأَسْبَاب وَلَا نقطع بانتفائها نَحن وَلَا النَّاقِل وَلَا نظن عدمهَا وَلَا قرينَة تنفيها فَلَا نجزم فِيهِ بِمُرَاد الْمُتَكَلّم بل رُبمَا ظنناه أَو توهمناه وَلَو نقل لَفظه بِعَيْنِه وقرائنه وتاريخه وأسبابه انْتَفَى هَذَا الْمَحْظُور أَو أَكْثَره...
وقال:
لما ظهر التظاهر بمذاهب الْأَئِمَّة والتناصر لَهَا من عُلَمَاء الْأمة وَصَارَ لكل مَذْهَب منا أحزاب وأنصار، وَصَارَ دأب كل فريق نصر قَول صَاحبهمْ، وَقد لَا يكون أحدهم اطلع على مَأْخَذ إِمَامه فِي ذَلِك الحكم فَتَارَة يُثبتهُ بِمَا أثْبته إِمَامه وَلَا يعلم بالموافقة وَتارَة يُثبتهُ بِغَيْرِهِ وَلَا يعلم بالمخالفة ومحذور ذَلِك مَا يستجيزه فَاعل هَذَا من تَخْرِيج أقاويل إِمَامه من مَسْأَلَة إِلَى أُخْرَى والتفريع على مَا اعتقده مذهبا لَهُ بِهَذَا التَّعْلِيل وَهُوَ لهَذَا الحكم غير دَلِيل وَنسبَة الْقَوْلَيْنِ إِلَيْهِ بتخريجه
وَرُبمَا حمل كَلَام الإِمَام فِيمَا خَالف مصيره على مَا يُوَافقهُ اسْتِمْرَار الْقَاعِدَة تَعْلِيله وسعيا فِي تَصْحِيح تَأْوِيله، وَصَارَ كل مِنْهُم ينْقل عَن الإِمَام مَا سَمعه مِنْهُ أَو بلغه عَنهُ من غير ذكر سَبَب وَلَا تَارِيخ فَإِن الْعلم بذلك قرينَة فِي إِفَادَة مُرَاده من ذَلِك اللَّفْظ كَمَا سبق فيكثر لذَلِك الْخبط، لِأَن الْآتِي بعده يجد عَن الإِمَام اخْتِلَاف أَقْوَال وَاخْتِلَاف أَحْوَال فيتعذر عَلَيْهِ نِسْبَة أَحدهمَا إِلَيْهِ على أَنه مَذْهَب لَهُ يجب على مقلده الْمصير إِلَيْهِ دون بَقِيَّة أقاويله إِن كَانَ النَّاظر مُجْتَهدا، وَأما إِن كَانَ مُقَلدًا فغرضه معرفَة مَذْهَب إِمَامه بِالنَّقْلِ عَنهُ فَلَا يحصل غَرَضه من جِهَة نَفسه لِأَنَّهُ لَا يحسن الْجمع وَلَا يعلم التَّارِيخ لعدم ذكره وَلَا التَّرْجِيح عِنْد التَّعَارُض بَينهمَا لتعذره مِنْهُ وَهَذَا الْمَحْذُور إِنَّمَا لزم من الْإِخْلَال بِمَا ذَكرْنَاهُ فَيكون محذورا.
وقال:
وَإِنَّمَا يقابلون هَذَا التَّحْقِيق بِكَثْرَة نقل الرِّوَايَات وَالْأَوْجه والاحتمالات والتهجم على التَّخْرِيج والتفريع حَتَّى لقد صَار هَذَا عَادَة وفضيلة فَمن لم يكن مِنْهُ بِمَنْزِلَة لم يكن عِنْدهم بِمَنْزِلَة فالتزموا للحمية نقل مَا لَا يجوز نَقله لما عَلمته آنِفا، ثمَّ قد عَم أَكْثَرهم، بل كلهم، نقل أقاويل يجب الْإِعْرَاض عَنْهَا فِي نظرهم بِنَاء على كَونهَا قولا ثَالِثا وَهُوَ بَاطِل عِنْدهم أَو لِأَنَّهَا مُرْسلَة فِي سندها عَن قَائِلهَا وَخَرجُوا مَا يكون بِمَنْزِلَة قَول ثَالِث بِنَاء على مَا يظْهر لَهُم من الدَّلِيل فَمَا هَؤُلَاءِ بمقلدين حِينَئِذٍ، وَقد يَحْكِي أحدهم فِي كِتَابه أَشْيَاء فيوهم المسترشد أَنَّهَا إِمَّا مَأْخُوذَة من نُصُوص الإِمَام أَو مِمَّا اتّفق الْأَصْحَاب على نسبتها إِلَى الإِمَام مذهبا لَهُ وَلَا يذكر الحاكي لَهُ مَا يدل على ذَلِك وَلَا أَنه اخْتِيَار لَهُ وَلَعَلَّه يكون قد استنبطه أَو رَآهُ وَجها لبَعض الْأَصْحَاب أَو احْتِمَالا فَهَذَا شبه التَّدْلِيس، فَإِن قَصده فَشبه المين [ أي الكذب] وَإِن وَقع سَهوا أَو جهلا فَهُوَ أَعلَى مَرَاتِب البلادة والشين كَمَا قيل:
فَإِن كنت لَا تَدْرِي فَتلك مُصِيبَة ... وَإِن كنت تَدْرِي فالمصيبة أعظم
وَقد يحكون فِي كتبهمْ مَا لَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّته وَلَا يجوز عِنْدهم الْعَمَل بِهِ ويرهقهم إِلَى ذَلِك تَكْثِير الْأَقَاوِيل لِأَن من يَحْكِي عَن الإِمَام أقوالا متناقضة أَو يخرج خلاف الْمَنْقُول عَن الإِمَام فَإِنَّهُ لَا يعْتَقد الْجمع بَينهمَا على الْجمع بل إِمَّا على التَّخْيِير أَو الْوَقْف أَو الْبَدَل أَو الْجمع بَينهمَا على وَجه يلْزم عَنْهُمَا قَول وَاحِد بِاعْتِبَار حَالين أَو محلين وكل وَاحِد من هَذِه الْأَقْسَام حكمه خلاف حكم هَذِه الْحِكَايَة عِنْد تعريها عَن قرينَة مُقَيّدَة لذَلِك وَالْغَرَض كَذَلِك، وَقد يشْرَح أحدهم كتابا وَيجْعَل مَا يَقُوله صَاحب الْكتاب المشروح غَالِبا رِوَايَة أَو وَجها أَو اخْتِيَارا لصَاحب الْكتاب وَلم يكن ذكره عَن نَفسه أَو أَنه ظَاهر الْمَذْهَب من غير أَن يبين سَبَب شَيْء من ذَلِك وَهَذَا إِجْمَال وإهمال، وَقد يَقُول أحدهم الصَّحِيح فِي الْمَذْهَب أَو ظَاهر الْمَذْهَب كَذَا أَو لَا يَقُول وَعِنْدِي وَيَقُول غَيره خلاف ذَلِك، فَلِمَنْ يُقَلّد الْعَاميّ إِذن فَإِن كلا يعْمل بِمَا يرى فالتقليد إِذن لَيْسَ للْإِمَام بل للأصحاب فِي أَن هَذَا مَذْهَب الإِمَام ثمَّ إِن أَكثر المصنفين والحاكين قد يفهمون معنى ويعبرون عَنهُ بِلَفْظ يتوهمون أَنه واف بالغرض وَلَا يكون كَذَلِك فَإِذا نظر فِيهِ أحد وَفِي قَول من أَتَى يدل على مقْصده رُبمَا يُوهم أَنَّهَا مَسْأَلَة خلاف لِأَن بَعضهم قد يفهم من عبارَة من يَثِق بِهِ معنى قد يكون على وفْق مُرَاد المُصَنّف للفظ وَقد لَا يكون فحصر ذَلِك الْمَعْنى فِي لفظ وجيز فبالضرورة يصير مَفْهُوم كل وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ من جِهَة التَّنْبِيه وَغَيره غير مَفْهُوم الآخر.
وَقد يذكر أحدهم فِي مَسْأَلَة إِجْمَاعًا بِنَاء على عدم علمه بقول يُخَالف مَا يُعلمهُ وَمن تتبع حِكَايَة الاجماعات مِمَّن يحيكها وطالبه بمستنداتها علم صِحَة مَا إدعيناه،
وَرُبمَا أَتَى بعض النَّاس بِلَفْظ يشبه قَول من قبله وَلم يكن أَخذه مِنْهُ فيظن أَنه قد أَخذه مِنْهُ فَيحمل كَلَامه على مُجمل كَلَام من قبله فَإِن رئي مغايرا لَهُ نسب إِلَى السَّهْو وَالْجهل أَو تعمد الْكَذِب إِن كَانَ أَو يكون قد أَخذ مِنْهُ وأتى بِلَفْظ يغاير مَدْلُول كَلَام من أخذت مِنْهُ فيظن أَنه لم يَأْخُذ مِنْهُ فَيحمل كَلَامه على غير محمل كَلَام من أَخذ مِنْهُ فَيجْعَل الْخلاف فِيمَا لَا خلاف فِيهِ أَو الْوِفَاق فِيمَا فِيهِ خلاف.
وَقد يقْصد أحدهم حِكَايَة معنى أَلْفَاظ الْغَيْر وَرُبمَا كَانُوا مِمَّن لَا يرى جَوَاز الْمَعْنى دون اللَّفْظ وَقد يكون فَاعل ذَلِك مِمَّن يُعلل الْمَنْع فِي صُورَة الْفَرْض بِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ من التحريف غَالِبا وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي أَلْفَاظ أَكثر الْأَئِمَّة وَمن عرف حَقِيقَة هَذِه الْأَسْبَاب رُبمَا ترك التصنيف أولى إِن لم يحْتَرز عَنْهَا لما يلْزم من هَذِه المحاذير وَغَيرهَا غَالِبا...
فَإِن قيل: إِنَّمَا فعلوا ذَلِك ليحفظوا الشَّرِيعَة من الإغفال والإهمال قُلْنَا قد كَانَ أحسن من هَذَا فِي حفظهَا أَن يدونوا الوقائع والألفاظ النَّبَوِيَّة وفتاوى الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ على جهاتها وصفاتها مَعَ ذكر أَسبَابهَا كَمَا ذكرنَا سَابِقًا حَتَّى يسهل على الْمُجْتَهد معرفَة مُرَاد كل إِنْسَان بِحَسبِهِ فيقلده على بَيَان وإيضاح وَإِنَّمَا عبنا مَا وَقع فِي التَّأْلِيف من هَذِه المحاذير لَا مُطلق التَّأْلِيف وَكَيف يعاب مُطلقًا وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيدوا الْعلم بِالْكِتَابَةِ فَلَمَّا لم يميزوا فِي الْغَالِب مَا نقلوه مِمَّا خرَّجوه وَلَا مَا عللوه مِمَّا أهملوه وَغير ذَلِك مِمَّا سبق بان الْفرق بَين مَا عبناه وَمَا صنفناه، وَأكْثر هَذِه الْأُمُور الْمَذْكُورَة يُمكن أَن أذكرها من كتب الْمَذْهَب مَسْأَلَة مَسْأَلَة لكنه يطول هُنَا