العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

درء الشكوك

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
درء الشكوك عن أحكام التروك




ابن حنفية العابدين بن محي الدين
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيآت أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .

"يـا أيهـا الذين آمنـوا اتقـوا اللــه حق تقاتــه ولا تموتـن إلا وأنتــم مسلمـون" .

"يـا أيهـا النـاس اتقـوا ربكـم الذي خلقكم من نفس واحـدة وخلق منـها زوجها وبث منهما رجـالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا" .

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيم"



أما بعد: فاعلم أيها المسلم أن الله تبارك وتعالى قد أنزل القرآن الكريم على عبده ورسوله محمدe، وجعله نورا يهدي به من يشاء من عباده، قال تعالى:"ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا".ثم اعلم أن الاهتداء بهذا النور متوقف على الأخذ بالسنة، التي أوحاها الله إلى نبيه أيضا، وجعلها بيانا لكتابه، قال تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون".وقد سأل سعد بن هشام بن عامر أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله eقالت: "ألست تقرأ القـرآن؟"، قلت: "بلى"، قالت: "فإن خلق نبي اللهeكان القرآن"، قال هشام: "فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت[1]". فخلق النبي e فيه كمال العمل، والقرآن الكريم فيه كمال العلم، فالتقى الكمالان . قال النووي رحمه الله شارحا إياه: "معناه العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبره وحسن تلاوته"[2].ومن هنا فلا سبيل إلى سلوك الصراط المستقيم الذي افترض الله تعالى علينا اتباعه، وطلب الهداية إليه في كل ركعة من صلواتنا، إلا باتباع هذا النبي الكريم، ذلك أن صراط الله واحد غير متعدد، قال تعالى: "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتـفرق بكم عن سبيله".ولأن الصراط الموصل إلى الله تعالى، إنما هــو صراط رسولهeكما قال تعالى: "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الارض"، فمن أنكر السنة، أو شيئا منها حاز وصف من قال الله فيهم: "ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله". إن النبيeقد بين معالم الصراط، كما أوضح تفاصيل الصراط، فإنه ما ترك خيرا إلا وأرشد إليه، ولا شرا إلا حذر منه، وأسعد الناس بشريعتـه؛ من هداه الله إلى الصراط، ثم هداه في الصراط، أعني هداه إلى الإسلام في جملته وتفصيله، وقد قال النبيeلعلي رضي الله عنـه: "قل اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى؛ هدايتك الطريق، وبالسداد؛ سداد السهم"[3]، والسداد إصابة القصد قولا وفعلا، قال ابن الأثير: "والمعنى إذا سألت الله الهدي فأخطر بقلبك هداية الطريق، وسل الله الاستقامة فيه، كما تتحراه في سلوك الطريق، لأن سالك الفلاة يلزم الجادة لا يفارقها خوفا من الضلال، وكذلك الرامي إذا رمى شيئا سدد السهم نحوه ليصيبه،،،"[4]. وتوحيد المتابعة للنبيe[ لا يتم إلا باتباعه في الجملة والتفصيل، لا أحد يستغني عن اتباعه في شيء، وكيفما كانت منزلته، حتى الأنبياء والرسل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلااتباعى.
 

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
رد: درء الشكوك

وقد كان - عليه الصلاة والسلام-أتقى الناس لله،وأعرفهم به،وما توفى الله نبيه حتى أكمل الله له دينه، وأتم به على عباده نعمته، قال تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان، فلا تحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه فلا ينقص أبدا، وقد رضيه فلا يسخطه"[1] .فمن اخترع شيئا من العبادات لم يفعله النبيe، ولا أمر به، وزعم أنه يتقرب به إلى الله، أو حرم شيئا لم يحرمه؛ فإن لازم فعله نسبة النقص إلى شرعه، وقد أخبر الله بكماله، نعوذ به تعالى من الخذلان، والكفر والفسوق والعصيان .ومن هنا فلا يعتمد في العلم الشرعي الذي تعرف به الأحكام العلمية والعملية من وجوب وندب وكراهة وإباحة وصحة وفساد واعتقاد وغير ذلك، ويفرق به بين محاب الله ومساخطه، وطاعاته ومعاصيه، لا يعتمد إلا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة المستيقن، والقياس الصحيح في مجاله، مع الاسترشاد في فهم الكتاب والسنة بأقوال الصحابة، وما كان عليه العمل في عصرهم، فإنهم أعرف الناس بمراد الله ورسوله، كيف لا، وقد أثنى الله تعالى عليهم، وأخبر أنه رضي عنهم، وعمن اتبعهم بإحسان ؟ .قال تعالى: "والسابقون الاولون من المهـاجريــن والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه"، ولأن رسول اللهe قد زكاهم، وأخبر أن الفرقة الناجية هي التي تستمسك بما كان عليه هو وأصحابه[2]، بل وأمرنا بالتزام سنة الخلفاء الراشدين[3]، وخص بالإقتداء أبا بكر وعمر[4]، رضي الله عن الصحابة أجمعين .قال أبو داود رحمه الله : "إذا تنازع الخبران عن رسول اللهe نظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده "[5] .وما عدا ما تقدم من الاستدلال، فمجرد آراء، إن صدرت ممن هو أهل للاجتهاد، ولم تخالف دليلا؛ اتبعها من اقتنع بها، غير متعصب لها، ودون أن يكون ذلك على وجه اللزوم، أما إن صدرت عمن لم يستوف شروط الاجتهاد المقررة؛ فإنها من القول على الله بلا علم .والسنة التي جعلها الله تعالى بيانا للقرآن الكريم؛ هي أقوال النبيe، وأفعاله وتقريراته، وواضح أن الـمراد ما كان منهـا بعد البعثة، لكن ما قبلها محتاج إليه أيضا، فإن فيه معرفة عناية الله تعالى بنبيهe ومعرفة حياته وسيرته، وقد يكون لهذا القسم وللصفات الخلقية والخلقية التي يضيفها المحدثون إلى الأقوال والأفعال والتقريرات علاقة بالاستنباط أيضــــا .فالسنة قول وفعل وتقرير. والأقوال أخبار وأوامر ونواه .فالأخبار تكون عن غيب ماض أو آت بالنسبة لزمن الرسالـة،كما تكون عن واقع، وعن حكم شرعي .والأوامر تدل على الإيجاب، وتخرج عنه إلى الندب، والإرشاد، والإباحة، والتهديد، وغيرها بالدليل .كما أن النواهي تدل على الحرمة، وتخرج عنها بالدليل إلى الكراهة، بالإضافة إلى دلالتها على البطلان، إلا إذا دل الدليل على خلاف ذلك . والأصل في أفعاله e الدلالة على الاستحباب متى ظهر فيها قصد القربة، وإلا دلت على الإذن ما لم تكن من الخصائص . فإن كانت بيانا لأمر ثبت وجوبه؛ فهي واجبة، ومن ذلك ما أحيل عليه بالأمر كأفعاله e في الصلاة والحج، ما لم يدل الدليل على خلاف ذلك . وتروكه e كأفعاله في الاقتداء على التفصيل الذي يأتي في وجود المقتضيات، وانتفاء الموانع . والإقرار يكون على الأفعال، وعلى الأقوال . ولما كانت تروك النبيe من جملة السنة، ولم أر فيما بلغني من العلم من خصها بالتأليف - وإن كان أهل العلم لم يغفلوا الحديث عنها في أثناء الكلام على الأفعال - قمت بهذا الجهد اليسير خدمة للحق، لاعتقادي أن جهل الناس بالسنة التركية، ومن ثم عدم التزامهم إياها كدليل من أدلة الأحكام، وراء معظم البدع والضلالات .وقد وجدت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد أشار في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم[6]إلى المسألة، وكلامه على اقتضابه نافع جدا، ولهذا ألحقت بالبحث ما تيسر منه مفرقا بحسب المقام، ومثله الإمام الشاطبي في الموافقات[7]، حيث ذكر أقسام التروك، فاستفدت مما ذكره . وإذا كان من العسير علينا أن نرصد أشخاص البدع وذواتها، إذ أن عجلة الإحداث في الدين لا تتوقف،كما يشهد به الواقع، وتدل عليه الآثار، فإن الميسور إلى حد ما أن نتجه إلى فقه الأصل ليستعين به من رغب في التفريق بين المشروع وغير المشروع، متى كان همه الاتباع، وترك الابتداع، وقد قيل في هذا المعنى:وكائن رأينا من فروع كثيرة * تضيع إذا لم تحمهن أصول وقال ابن عبد البر[8]: "واعلم يا أخي أن الفروع لا حد لها تنتهي إليه أبدا، ولذلك تشعبت، فمن رام أن يحيط بآراء الرجال؛ فقد رام ما لا سبيل له ولا لغيره إليه، لأنه لا يزال يرد عليه ما لا يسمع، ولعله أن ينسى أول ذلك بآخره لكثرته، فيحتاج أن يرجع إلى الاستنباط ،،،".

[1] الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي3/17.

[2] إشارة إلـى حديث افتراق الأمة إلـى ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة:ما أنا عليه وأصحابي،رواه الترمذي عن عمرو بن العاص،باب افتراق هذه الأمة،وقال:هذا حديث غريب مفسر"،وهو في صحيح الجامع الصغير .

[3] إشارة إلـى حديث العرباض بن سارية عند أبي داود4607،صححه البزار،وابن عبد البر:جامع بيان العلم وفضله:2/182،وهو في صحيح أبي داود للألباني .

[4] إشارة إلـى ما رواه الترمذي في المناقب وحسنه عن حذيفة مرفوعا:"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"،وهو في صحيح الجامع الصغير للألباني .

[5] سنن أبي داود الحديث 720 .

[6] ص 267 ـ 281

[7] 4/59 ـ 63

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref8 [8] جامع بيان العلم وفضله 2/171ـ172
 

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
رد: درء الشكوك

وإذ أقدم هذه الرسالة التي سميتها (درء الشكوك عن أحكام التروك)؛ فإني شاعر بحاجتها إلى تفصيل أكبر، وتدقيق أعظم، ولا ريب أن أهل العلم يجدون فيها ما يتعقب، فإن أعمال البشر غير المعصومين هذا شأنها . والأحاديث التي استدللت بها هي في الصحيحين أو أحدهما، وما لم يكن فيهما؛ بينت ما فيه، بالاعتماد على أهل هذا الفن، ومنهجي أن أكتفي بالإشارة إلى بعض من روى اللفظ الذي سقته أو أشرت إلى معناه، فإن الطريقة التي دأب عليها بعض كتاب الرسائل من الاستكثار من التخاريج لا أرتضيها، وقد قيل لكل مقام مقال .وللسبب نفسه؛ تجنبت أن أورد في هذه الرسالة من الخلاف ما يشتت ذهن القارئ، ويفوت ما أملته من الاستفادة، فإن مظان المسائل الأصولية والفقهية التي ألمحت إليها معروف، فمن أراد التوسع فيها فليفعل . فعسى أن ينفع الله تعالى بهذا العمل المتواضع من كتب لـه الهداية من عباده، وأن يتجاوز سبحانه عما فيه مــن تقصير أو سهو أو خطـإ، وأن يثيبني عليه "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من اتى الله بقلب سليم"،"وما توفيقي إلا بالله،عليه توكلت،وإليه أنيب" المقصود بالسنة التركية:تبين أن السنة هي ما أمر به النبي e أمر إيجاب أو استحباب، أو فعله ولم يكن من الخصائص ولا من الجبليات، أو أقر عليه، فهذا كله يمكن أن نطلق عليه السنة الفعلية، باعتبار مشروعية الفعل الذي فعله أو أمر به، أو أقر عليهe .ويقع في مقابله ما لا يشرع فعله، فيمكن أن نسميه سنة تركية، وهو ما نهى عنه نهي تـنزيه أو تحريم، أو تركه فلم يفعله .لكن ما نهى عنه أمره واضح لا يكاد الناس يختلفون فيه إلا من حيث دلالة النهي على التحريم أو الكراهة أو غيرهما، أو لما له من معارض، وإنما الذي يحتاج إلى أن يتحدث عنه على حدة؛هو ما تركه، فإنه مما يخفى على كثير من الناس، فيقعون بسبب الجهل به فـي مخالفة السنة، لأنه يغلب على فهومهم أن المخالفة إما أن تكون للنهي بفعل المنهي عنه، أو للأمر بترك المأمور به، أو للفعل بترك فعل مثل فعله، أما الترك فإن الأصل فيه أنه أمر سلبي عدمي يقع فيه الالتباس، فلا يفهم للمخالفة فيه بعض الناس وجها، اللهم إلا في بعض العبادات المحضة، لا سيما إذا عضد هذا الالتباس الاعتماد على ما في النصوص من إطلاق وعموم، دون مراعاة السنة فعلا وتركا، فكيف إذا انضم إلى ذلك الرأي والاستحسان والذوق والمصلحة الموهومة وغيرها؟ . والذي ينبغي تيقنه أن النبي e إذا ترك شيئا فلم يفعله، ولا أمر به، فإن الإقتداء به يقتضي ترك ذلك الأمر، كما أن الإقتداء بفعله يقتضي فعل مثل فعله . لكن لما كان الإقتداء لا يلزم بكل الأفعال كما سبق، فان الاقتداء لا يكون بكل التروك أيضا .
وبهذا يظهر أن المراد بالسنة التركية هاهنا هو ما تركه النبيe، مما قام مقتضيه وانتفى مانعه، والمراد بالمقتضي ما يدعو إلى الفعل، والمراد بالمانع ما يحول دون الفعل، رغم قيام مقتضيه .
 

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
رد: درء الشكوك

حجيـة السنة التركية: لا يحتاج في إثبات حجية السنة التركية إلى أكثر من إثبات أنها من جملة السنة، نظرا إلى أن حجية السنة ثابتة بالكتاب والإجماع . وقـد أمر الله تعالى باتباع النبي e وشرع الائتساء به، ونهى عن المخالفة عن أمره، والاتباع والائتساء يشملان الفعل والترك، يقال: فلان يأتسي بفلان، أي يرضى لنفسـه ما رضيه ويقتدي به، وكان في مثل حاله[1]. ومن فعل ما لم يفعله المقتدى به، لا يصدق عليه أنه متبــع، ولا مؤتس، بل إننا إذا تأملنا معنى الاقتداء بالفعل، بعثنا ذلك على الاعتقاد بأن الاقتداء بالترك لازم له، ولذلك كان عند الجمهور من ماصدقات الفعل[2].قال الشوكاني رحمه الله: "تركهe للشيء كفعله لـه، في التأسي بـه فيه"[3] .وقال الله تعالى: "واتبعوه لعلكم تهتدون"، وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله"، والنهي عن التقديم يشمل فعل ما لم يشرعه بالقول أو بالفعل، أو بالإقرار، مما الشأن فيه التشريع .قال سفيان الثوري[4]: "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله"، بقول ولا فعل"، فما كان فعله فيه محل تشريع فتركه مثله . وقال تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن امره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم"، والمراد بقوله تعالى: "عن امره" أمر النبيeوهو كما قال ابن كثير رحمه الله "سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان،،،"[5]. وقال عليه الصلاة والسلام: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها،وعضوا عليها بالنواجذ،وإياكم ومحدثات الأمور،،، الحديث. ومحدثات الأمور التي حذرنا منها "تشمل فعل ما لم يفعله، وما لم يأمر به، وترك ما فعله أو أمر به، فالمطلوب إذن هو متابعته فيما صدر عنه من فعل وترك "[6] .وقد سمى النبيe مجموع ما فعله وما تركه سنة، ففي حديث الرهط الذين سألوا عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبيe؟، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا،وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله eفقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"[7]. فقد أطلق سنته على ما فعله وعلى ما تركه، بل إنه هنا في التروك أظهر، وقطع صلته بالراغب عنها، نسأل الله تعالى السلامة، لكن هذا القطع قد يبلغ مداه إذا خالف المرء السنة راغبا عنها، مستخفا بها، وقد يكون دون ذلك كأن يتركها كسلا، أو تأولا، وهؤلاء النفر كانوا متأولين كما هو واضح .وقد كان بعض أهل العلم يكرهون أن يفسر هذا الحديث بما يشعر بخفة المخالفة للسنة، لكون لفظه أقوى في الترهيب، وأدعى إلى التهيب، وما أكثر جناية بعض الشروح على النصوص .قال النووي رحمه الله: "وكان سفيان بن عيينة رحمه الله يكره من يفسره: ليس على هدينا، ويقول:بئس هذا القول،…"[8].وقد ثبت استدلال الصحابة رضي الله عنهم بتروكه على عدم مشروعية الفعل الذي لم يفعله، وكان بعضهم يذكر في معرض ذلك قوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة"، وهذه أمثلة عن استدلالهم بالتروك:

[1] انظر لسان العرب،مادة أسا .

[2] انظر كليات أبي البقاء :299.

[3] إرشاد الفحول/ 42.

[4] تفسير ابن كثير6/366.

[5] تفسير ابن كثير 5/131

[6] المحقق من علم الأصول،فيما يتعلق بأفعال الرسول،لأبي شامة ص138

[7] رواه الشيخان من حديث أنس .
[8] صحيح مسلم بشرح النووي 2/108.
 

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
رد: درء الشكوك

- فمنها أن عمر بن الخطاب اقترح على أبي بكر الصديق رضي الله عنهماجمع القرآن، خوفا من ذهاب بعضه، بعد موت القراء، فقال له أبو بكر: "كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول اللهe"؟، فقال عمر:"هذا والله خير"، ولم يزل به يراجعه، حتى شرح الله صدره لذلك، ولما عرض أبو بكر الصديق الأمر على زيد بن ثابت رضي الله عنه قال مثل قول أبي بكر لعمر، ثم راجعه فشرح الله صدره لمثل ما شرح له صدور الخليفتين[1].وما ترددوا إلا لأن النبيeلم يفعله، مع أن مقتضي الفعل لم يكن قائما في حياته كما سيتبين لنا ذلك إن شاء الله، لكن الأمر كان محتاجا إلى ترو، مما يدل على حرصهم على عدم فعل ما لم يفعله، لكون الأصل فيه عدم المشروعية، فراجع بعضهم بعضا، حتى استبان لهم وجه الصواب، وهذا قد حصل ما يشبهه حين وسع عثمان بن عفان رضي الله عنه المسجد النبوي، وأدخل على مواد بنائه شيئا من التعديل .- ومنها أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى أناسا يسبحون في السفر، فقال: "لو كنت مسبحا أتممت صلاتي: صحبت رسـول اللهe في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وذكر مثل ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وقال: " قال الله: "لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة"[2]، فلم يعتمد على العمومات القاضية بمشروعية الرواتب مطـلقا، بل آثر الأخص على الأعم . وهذا من التحري العظيم للسنة عند ابن عمر، ولو قيل هذا لبعض الناس اليوم؛ لسارع إلى الجواب المعروف: هذا لا شيء فيه، وعلى كل حال فإن المسألة خلافية .- ومنها قوله أيضا لمن سأله عن رجل طاف بالبيت في عمرة، ولم يطف بين الصفا و المروة، أيأتي امرأته؟، فقال: "قدم رسول اللهe فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة[3] .ومراد ابن عمر أن هذا الذي تسأل عنه لم يفعله عليه السلام، وأنت مطالب بالإقتداء به، فاكتفى في الاستدلال ببيان عدم فعله له . وقد سئل جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن المسألة نفسها، فقال: "لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا والمروة"[4]، فصرح بالتحريم، قال الحافظ: ابن عمر أشار إلى الاتباع، وجابر أفتاهم بالحكم .- ومنها قول عمر بن الخطاب: "هممت أن لا أدع فيها صفراء و لا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين"، يريد الأموال التي كانت في الكعبة المشرفة من الذهب والفضة، فقال له شيبة بن عثمان بن طلحة: ما أنت بفاعل، قال: لم؟، قلت: لم يفعله صاحباك، قال:" هما المرآن يقتدى بهما"[5] .أو لست ترى كيف كان شيبة متأكدا من أن عمر لن يفعل ما هم به، لكون صاحبيه - يعني النبيe،وأبا بكر - لم يفعلاه؟، مما يعني فشو استدلالهم بالتروك، واعتمادهم عليها، ولعله كان يرى أن العلة التي منعتهما من الفعل ما تزال قائمة، وهي خوف الفتنة لحداثة الناس بالإسلام .-وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قــال: "كان رسول الله e يلبس خاتما من ذهب، فنبذه فقال: "لا ألبسه أبدا"، فنبذ الناس خواتمهم"[6] .


[1] هو معنى حديث رواه البخاري عن زيد بن ثابت في باب:جمع القرآن،من كتاب فضائل القرآن .

[2] رواه مسلم عن ابن عمر في كتاب صلاة المسافرين وقصرها .
وقوله "يسبحون"،أي يصلون النافلة .

[3] رواه البخاري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر،في كتاب الحج،باب متى يحل المعتمر ، فتح الباري 3/486 .

[4] المرجع السابق .

[5] رواه البخاري عن شيبة بن عثمان بن طلحة في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن النبيe .
[6] رواه البخاري عن ابن عمر في كتاب اللباس، باب (بدون ترجمة).
 

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
رد: درء الشكوك

أقسـام تروكه e :ينقسم الترك قسمين:
أولهما: أمر وجودي، يتمثل في كف النفس ومنعها من الفعل، كترك المكروه والمحرم، وفي معنى هذا القسم من حيث الوجود ما تكرهه النفس بطبعها .وثانيهما: عدم محض، وهذا ليس أمرا وجوديا، بل يكفي فيه عدم وجود المقتضي للفعل[1].وتروك النبيe يمكن أن تكون من القسم الأول، كما إذا ترك أمرا كان مباحا، لأنه حرم عليه وحده، أو عليه وعلى أمته، أو ترك ما تعافه نفسه .ويمكن أن تكون من االقسم الثاني،كغالب أنواع التروك التي سأتحدث عنها، لأنها هي المقصودة هنا .وكلا القسمين يدخلان في التشريع، ويكونان من ثم محل قدوة: فالأول يؤجر المرء على تركه امتثالا، كما هو معلوم من تعريف أهل الأصول للمحرم والمكروه، والثاني إنما يتعلق الأجر بتركه، والوزر بفعله . وأهل الأصول إذا ذكروا الاختلاف في الترك هل هو فعل أو لا، فإنما يقصدون النوع الأول المأخوذ من النهي، وهو عند فريق منهم فعل، وقد استدل السبكي[2] رحمه الله على ذلك بأدلة منها قول بعض الصحابة حيث اعتبروا القعود عن العمل عملا: لئن قعدنا والنبي يعمل * لذاك منا العمل المضللوقال صاحب المراقي: فكفنا بالنهي مطلوب النبي * والكف فعل في صحيح المذهب ومن المعلوم أن أفعال النبيe ليست كلها محل أسوة، لأن منها ما هو مختص به إذا ثبت الاختصاص بالدليل، ومنها ما صدر عنه بحكم جبلته وطبعه، وتروكه كذلك ليست كلها محل اقتداء،كما سيأتي توضيحه . وكما أن الأصل فيما فعله الدلالة على الإذن أو الاستحباب؛ فإن الأصل فيما تركه أن يكون إما مكروها، وإما محرما، بعد تحرير كون الترك فيه قدوة، وبعد التأكد من كون مقتضي الفعل كان قائما، والمانع كان مفقودا .وإذا قيل إن النبيe قد يترك المندوب أحيانا؛ فالجواب أن المسوغ لذلك في حقه كون الترك تشريعا وبيانا بأن المتروك ليس بواجب، كما قيل ذلك في فعل القنوت وتركه، وفيه بحث.[3]وما قيل في ترك المندوب؛ يقال في فعل للمكروه، وهذا وإن كان مما تستثقل النفس قوله في حقه بأبي هو وأمي، فإن مصلحة البيان إذا توقفت على الفعل والترك مغلبة . قال أبو عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي: "الرابع (يعني مما يدل على كون الفعل بيانا) أن يترك عمدا ما ظن لزومه، فيكون تركه بيانا أنه غير لازم، قال أبو الحسين البصري: "قد يكون تركهe بيانا، نحو أن يترك الجلسة في الركعة الثانية فيسبح به فلا يرجع، فيعلم أنها غير ركن في الصلاة".[4]وإنما يجري هذا في حقه لعظيم منزلته، وجلالة قدره، وإلا فإن فعل المكروه وترك المستحب أحيانا لا حرج فيه .ولنستعرض الآن أقسام التروك بشيء من التفصيل، كي يتميز ما كان منها محل أسوة، مما ليس كذلك، وقد ذكر الشاطبي شيئا من الأقسام[5]، وأضفت إليها أقساما وأمثلة لم يذكرها، تعرف بالمقارنة:1 - ما تركه بسبب كراهة طبعه له، كتركه أكل الضب، وعلل ذلك بقوله: "إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"[6]، فهذا الترك يقابل أفعاله االتي صدرت عنه بمقتضى الجبلة والطبع، فلا قدوة فيه، وقد يقال: إن فيه قدوة لمن كان في مثل حاله، أي لمن يعافه، وعليه يحمل النهي الوارد عن أكل لحم الضب[7] . وليس من جنسه قول النبيe: "وما أحب أن أكتوي"[8]، فإن كراهته للاكتواء ليست طبعية فحسب، بدليل قوله: "وأنهى أمتي عن الكي"، مع أنه ذكر الاكتواء ضمن الأمور الثلاثة التي فيها شفاء[9]، فيحمل النهي على ما إذا لم يضطر إليه، بحيث لم يستنفذ التداوي بغيره 2 - ما تركه لكونه محرما في حقه أو مكروها، وجعله الشاطبي مما تركه مراعاة لحق الغير، كتركه أكل الثوم والبصل، فهذا لا قدوة فيه أيضا لكونه من خصائصه، إذ ثبت عنه أمر غيره بأكله، وهو أمر للإذن والإباحة، كم في قوله لبعض اصحابه: "كل فإني أناجي من لا تناجي"[10]، أما نهي من أكل الثوم عن قربان المسجد فهذا أمر آخر . 3- ما تركه خشية أن يفرض على أمته، كتركه الاستمرار على الصلاة بالناس جماعة في ليالي رمضان، بعد أن صلى بهم ثلاث ليال، هذا إنما تركه خشية الافتراض، كما صح ذلك عنه-عليه الصلاة والسلام- من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ وفيه قولها: "فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبـح، فلما قضى الفجر، أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: أما بعد:فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها".فهذا وما كان مثله يصبح مشروعا متى زال المانع، وهو هنا انتهاء عهد التشريع بموتهe، فلا حجة فيه لمن ذهبوا إلى تقسيم البدع إلى أقسام خمسة .4 - ما تركه إشفاقا على أمته، وهذا أعم من السابق، فإن الإشفاق قد يكون لعلمه بحرصهم على الإقتداء به، فيشق ذلك عليهم، وإن لم يخش افتراضه عليهم، ومن أمثلته تأخيره العشاء عن أول وقتها أحيانا دون عذر،على خلاف الأمر في بقية الصلوات، لكنه لم يداوم على ذلك .روى مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "أعتم النبي eذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى،فقال: "إنه لوقتها،لولا أن اشق على أمتي". [11]وقد يكون هذا الإشفاق متمثلا في تركه الأمر بالشيء، لأن الأمر به يعني وجوبه، كتركه الأمر بالسواك عند كل صلاة ، مع أنه كان يفعله.[12] وهذا القسم الاقتداء به فيه قائم، لكن إذا تعلق الفعل بالمكلف وحده فأمره واضح، أما إذا كان مع غيره كتأخير صلاة العشاء في المساجد العامة، فإن العلة قائمة الآن ربما أكثر من قيامها في عهده-عليه الصلاة والسلام -.لكن ينبغي أن تعلم أيها القارئ أن ما تركه النبيe إشفاقا على أمته ليس متروكا للتقولات والدعاوي، بحيث يصير غطاء تستر به المحدثات، ويزعم محدثوها أن النبيe إنما ترك هذا الأمر أو ذاك إشفاقا على أمته !ولهذا سأحاول أن أفرد هذا النوع بالحديث، لعلي أتمكن من وضع ضابط له إن شاء الله .5 - ما تركه مما لا حرج في فعله بالنظر إلى جزئه، كإعراضه عن سماع الجاريتين في بيته يوم العيد، مع أنه لم ينههما، فكان ذلك منه تقريرا على فعل ما فعلتاه يوم العيد، ولم يقر أبا بكر على الإنكار عليهما،[13]ففيه أربعة أمور ، ثلاثة مشروعة، وهي:ـ إعراضهe عن السماع .ـ تقريره أبا بكر على تسمية الغناء بمزمور الشيطان، فإن هذا هو أصله، وهو يدل على التحريم .ـ تقرير الجاريتين على الغناء يوم العيد بالقيود المذكورة في الحديث .ـ وواحد غير مشروع وهو الإنكار .6 - ما تركه من المباحات التي لا شائبة فيها، تركه إلى ما هو أفضل وأوفق بمقامه الكريم، كما إذا قلنا إن القسم بين الزوجات لم يكن واجبا عليه، لكنه الـتزمه، وقد يؤخذ ذلك من قوله تعالـى: "ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء"، فإنه أعم من أن يقصر على ما ذكر من أقوال في تفسيره، كتخييره في قبول الهبة في النكاح، والإمساك والطلاق، و التخيير في القسم،[14]ويقويه ما له في هذا الباب من الخصائص،كالخلوة بالمؤمنة، والهبة في النكاح وغيرها، ومع ذلك كان يقسم بينهن، حتى إنه في مرضه الذي توفي فيه استأذنهن أن يقيم عند عائشة-رضي الله عنها-، فمن اقتدى به في مثل هذا إيثارا لغيره على نفسه، من غير أن يراه شرعا لازما، فهو خير له . 7 - ما تركه خوفا من ترتب مفسدة على فعله، وأبرز مثال له تركه إقامة الكعبة المشرفة على قواعد إبراهيم-عليه السلام-وتعليله ذلك بكون الناس حديثي عهد بكفر .[15]وكتركه قتل من قال في حقه ما يستوجب العقوبة، وعلل ذلك بالخوف من أن يقول الناس محمد يقتل أصحابه.لكن ينبغي أن يعلم أن الأحكام الشرعية كيفما كانت مقامة على جلب المصالح والمنافع، ودرء المضار والمفاسد، عقلنا ذلك أو لم نعقله، فالاقتداء به من حيث المبدأ في هذا الأمر قائم، لكن الموازنة بين المصالح والمفاسد المتزاحمة مما يشتد اختلاف الناس فيه، وليس من اليسير القول بترك الواجب مثلا، ومصلحته مقطوع بها في الجملة، لمفسدة مظنونة أو موهومة، وكذا الإقدام على فعل المحرم، ومفسدته مستيقنة لمصلحة مزعومة، وكثير من الناس إنما أعرضوا عن الهدي تحت غطاء المصالح التي إنما أنزل الله كتبه، وأرسل رسله، ليرشدوا الناس إلى أقوم الطرق إليها، فإنهم في معظم الأحوال إنما يتفقون من المصالح على المبدإ، وأحيانا على الاسم، حتى إذا نزلوا إلى ساحات التطبيق اضطربت أنظارهم، واختلفت مناحي تفكيرهم وتقويمهم، ثم إنهم لا يعرفون مصالحهم على وجه الإحاطة أبدا، ولهذا فإن من التزم هدي النصوص،اعتصم بالحبل المتين، واستمسك باليقين بدل التخمين. 8 - ما تركه بعد أن فعله ولم يعد إليه، فإذا علمنا أن فعله كان واجبا؛ أيقنا أن تركه نسخ، فهذا يؤتسى به فيه، ومثاله على أحد الوجهين تركه الوضوء مما مست النار، فقد قال جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله eترك الوضوء مما مست النار"،[16]وهذا بناء على أن هذا الترك ترك نهائي . والقول الآخر أن الوضوء مما مست النار مستحب، والترك مشعر بذلك، وهو ترك في واقعة مخصوصة، قال أبو داود عقب حديث جابر: "هذا اختصار من الحديث الأول"، يشير بذلك إلى القول الثاني، فإن في الحديث الذي قبله وهو حديث جابر نفسه: "قربت للنبي e خبزا ولحما، فأكل ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه، فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ "[17]. ومن ذلك تركه القيام للجنازة، وأمره أصحابه بالجلوس بعد أن كان يقوم ويأمر بالقيام،[18]ولعل ذلك لمخالفة اليهود .9 - ما تركه إلى بدل، بحيث فعل هذا تارة والآخر تارة أخرى، وهذا شأن كثير من السنن التي جاءت على أنواع للتوسعة، ويظنها بعض الناس من اختلاف التضاد، فتضيق صدورهم بالمخالف، وينكرون عليه، ومعظم هذا القسم في العبادات المحضة، كالطهارة والصلاة، وأمثلته لا تخفى، والأفضل فيه أن يفعل المسلم ما علمه من هذه السنن كلها، لما في هذا الأمر من المنافع، ولا ضير مع ذلك أن يكون بعضها أفضل من بعض: فإن فيه حملا للنفس على مزيد من التسليم والإتباع . وفيه حض لها على التيقظ لدى القيام بالأفعال، حتى لا يغدو القيام بها دون استحضار المتابعة واستشعار الطاعة في تلك التفاصيل . وفيه قطع لحبل التعصب لغير المعصوم، وهو من شر ما أصيب به المسلمون بعد القرون الفاضلة . وفيه مصلحة الجماعة، بتأليف قلوبها، لاسيما إذا كان الفاعل في موقع قيادة كأئمة المساجد . لكن لا ينبغي أن يجمع بين تلك الأنواع في مقام واحد . 10 - ما فعله في موطن أو مواطن، وتركه في مواطن أخرى، وهو يختلف عما فعله ولم يواظب عليه، وإن كان قريبا منه .ومن أمثلة الأول رفع اليدين عند الدعاء، فإنه قد ثبت أنه -عليه الصلاة والسلام-رفع يديه في مواطن، منها الصفا والمروة،وعرفة، والمشعر الحرام، وفي الاستسقاء، وعند الجمرتين الصغرى والوسطى، وغير ذلك،حتى مثل به علماء الحديث للمتواتر المعنوي، لكنه لم يثبت عنه الرفع في خطبة الجمعة، ولا في أدبار الصلوات المكتوبة، مع توفر الدواعي على نقله لو فعله، فمن تمام الائتساء به التزام هديه فعلا وتركا، وعدم الاعتماد على العمومات والإطلاقات الواردة في مشروعية رفع اليدين عند الدعاء، كقولهe إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا".[19]والذي أوقع بعض الناس في الوهم في هذا الأمر الدقيق، الذي لا ينبغي التحدث فيه مع غير أهل العلم، أو من يسأل تفقها، لا تعنتا، لما يترتب عليه من الفتن، ظنهم أن هناك تلازما بين الدعاء وبين رفع اليدين، والحق خلافه، كالدعاء في الركوع والسجود وفي التشهد وغيرها . قال سحنون يسأل ابن القاسم ـ رحمهما الله ـ : "فهل كان مالك يأمر بالمقام عند الجمرتين"؟(يعني الجمرة الصغرى والوسطى)، قال: "نعم"، قلت: "هل كان مالك يأمر برفع اليدين في المقامين عند الجمرتين"؟، قال: "لم يكن يعرف رفع اليدين هناك"[20]، فرغم طول الوقت الذي ينبغي أن يستغرقه الواقف هاهنا في الذكر والدعاء لم يكن مالك ـ رحمه الله ـ يرى له أن يرفع يديه .والعبرة منه أن مالكا حيث لم يبلغه ـ فيما يبدو ـ الحديث الصحيح الذي فيه رفع النبيe يديه عند الجمرتين،[21]وذلك ظاهر من قول ابن القاسم: "لم يكن يعرف رفع اليدين هناك"، لم ير هذا الرفع، وهو دليل بالغ على تحريه الاتباع، وتحفظه فيما يتعبد الله به، فلم يعتمد القياس، ولا أخذ بالإطلاقات والعمومات .قال ابن قدامة: "لا نعلم لما تضمنه حديث ابن عمر هذا مخالفا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار"[22] . ومن الأمثلة على استعمال المشروع في غير موضعه التلبية، فإن لفظها من حيث النظر؛ صالح لأن يردده المسلم بصدد أي عبادة، يدل على ذلك اشتراعها ضمن أذكار الصلاة "لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك"[23]، لكن التلبية باللفظ المعروف إنما تشرع في الحج والعمرة، فهي ذكر خاص بهما، وقد اعتبر مالك من ذكر الله بهذا الذكر في غير نسك؛ أخرق، قال سحنون: قلت لابن القاسم: هل كان مالك يكره أن يلبي الرجل وهو لا يريد الحج؟، قال نعم كان يكرهه، ويراه خرقا ممن فعله"[24] .ومن أمثلته أيضا تركهe الرواتب في السفر، على ظاهر حديث ابن عمر المتقدم، مع أنه كان يواظب عليها في الحضر، على خلاف بين أهل العلم في المسألة .ومن أمثلة الثاني، أي ما فعله ولم يواظب عليه؛ تركه المداومة على الموعظة خوفا علـى أصحابه أن يملوا[25] .ومنه جهره أحيانا بالآية في الصلاة السرية[26]، إما ليبين أن التزام السر فيها ليس واجبا، ويحتمل ـ والله أعلم ـ أن يكون لتحريك انتباه المأموم حتى لا يغيب عن الصلاة، أو ليعلمهم بالسورة التي يقرؤها . وقال النووي: "ويحتمل أن الجهر بالآية كان يحصل بسبق اللسان للاستغراق في التدبر"[27]، وهذا ما أستبعده، فإن أفعاله في الصلاة على المشروعية، حتى يدل الدليل على خلافها . ومنه رفع اليدين عند القيام من اثنتين، وفي الرفع من السجود، وفي كل خفض ورفع، ونحوها . 11- ما التزم فيه مقدارا معينا وترك ما زاد عليه، وهذا إذا كان في العبادات فإن أقل ما يقال فيه إن الأولى ترك هذا الزائد .ومن أمثلته صلاة الليل، فقد صح عن عائشة-رضي الله عنها-أنه "ما زاد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة"، فهذا هو غالب أحواله في صلاة الليل .وقد يقال إنه ورد ما يدل على زيادته على هذا العدد أحيانا، والجواب أن الزيادة على ما في حديث عائشة لها محامل، فيمكن أن تكون الثلاث عشرة الثابتة بحديثها وحديث ابن عباس قد دخلت فيها راتبة العشاء، إما (قضاء) بعد مرور وقتها المعتاد، وإما أنها احتسبت من جملة العدد رأسا، والحد الأعلى الذي صلاه بعد الجمع بين الروايات المختلفة لا يزيد على خمس عشرة ركعة[28]، على قول بعضهم، وهذا فيه ما تقدم، بالإضافة إلى الركعتين اللتين كان يأتي بهما بعد الوتر، والمقصود هنا أن الأولى التزام ما اختاره النبيeلنفسه في حديه الأعلى والأدنى حسب الاستطاعة، ولا يعارض هذا بفعل بعض السلف الذين قيل إنهم زادوا عليه، فإنه بعد التأكد من ثبوته عنهم؛ لا يدل على أكثر من أن الأمر فيه سعة كما قال أهل العلم .وقد عارض بعض الناس هذا بأن صلاة الليل كانت واجبة على النبي e، ومن شأن الواجب كما قال أن يكون محدودا بعدد، ومن ثم فلا يكون العدد محل أسوة، أي لا ينبغي قياس النفل في حقنا على الفرض في حقه، وإذا سلمنا بأن التهجد كان واجبا عليه لظاهر الأمر في سورتي المزمل والإسراء، فإنه لا يلزم من وجوب التهجد عليه أن تكون ركعاته محددة بعدد، يدل عليه ما ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه صلى أقل من إحدى عشرة ركعة، وكان إذا منعه مرض صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة، فهذا يستدل به على عدم وجوب صلاة الليل عليه أصلا، إذ لو كانت واجبة لأداها كما يؤدي المريض الفريضة قائما أو قاعدا أو على جنب، بل إن في سبب نزول سورة الضحى وهي مما نزل في المراحل الآولى ما يدل على تركه القيام في بعض الليالي، وقد ترجم البخاري بذلك[29] .ولو قدرنا أنه كان مطالبا بعدد محدود؛ فما المانع من الائتساء به في ذلك؟، وقد عهدنا الشارع في الرواتب التي هي أقل درجة من صلاة الليل يحدها بعدد، فكيف لا يكون في شرعه ما يدل على ذلك في صلاة الليل، وهي أفضل الصلاة بعد الفريضة كما صح بذلك الحديث ؟، فما كان دليلا على التحديد في الرواتب، وليس هو إلا الفعل، إذ لا نهي عن الزيادة فيما أعلم؛ فهو الدليل على التحديد في صلاة الليل . ومن أمثلته تعليم النبيe لحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ الدعاء الذي يقوله في الوتر، وهو: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت،وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت"[30]، فإن السنة الاكتفاء بذلك وعدم الزيادة عليه، إذ أن الزيادة لو كانت مشروعة؛ لقال له بعد ذلك: وادع بما شئت مثلا، كيف لا، وقد قال ذلك عن الدعاء بعد التشهد: "ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو".[31][h=3] وقال عن الدعاء في السجود "وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم"[32]،وإن كان قد لا يؤخذ من الأمر بالاجتهاد ترك اختيار الدعاء للمكلف . [/h]12- ما لم يفعله أصلا، ومن أمثلته أنه لم يكن يصلي قبل صلاة العيد ولا بعدها، ولم يشرع أذانا ولا إقامة لها، ولم يكن يصافح النساء، ولا عاب طعاما، ولا كان يطيل الجلوس مستدبرا المؤتمين، وهذا إذا كان في نطاق العبادات؛ فلا شك أنه مما يشملــه الائتساء فينبغي تركه، لكون مقتضيه قائما، ولأنه إذا منعه من فعلــه مانع، فلا بد أن يشير إليه بقوله، أو يفعلـه ثم يتركه، بعد أن يبين علة تركه كما تقدم . 13 ـ ما كان فعله أو تركه بحسب الحالة التي هو عليها، ومن أمثلته في نظري صلاتهe في النعال، كما رواه البخاري عن أنس بن مالك[33]فإنه صح أيضا أنه صلى حافيا ومنتعلا،[34]فيحمل على أنه لم يكن يتكلف لبس النعال ولا خلعها لأجل الصلاة، بل يصلى على الحال التي تحضر الصلاة وهو عليها، علما بأن المساجد يومئذ كانت محصبة، أو متربة، فدل هذا على جواز الأمرين .فإن قيل فما تفعل بقولهe: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم"[35]؟، فإن هذا أمر مقصود . قيل هذا يحصل بما إذا صلى المرء على الحال التي تدركه فيها الصلاة حافيا أو منتعلا، دون أن يتكلف مخالفة ما هو عليه، فإن كان يجد في نفسه حرجا من الصلاة في النعال،فينبغي أن يكسر سورة التشدد بالصلاة فيها قصدا، كما قال العلماء ذلك فيمن يتحرج من المسح على الخف، أو يفعل ذلك بقصد مخالفة اليهود الذين عرفوا بالتنطع .

[1] انظر إشارة ابن القيم إلى هذين القسمين في كتابه(إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)2/93،و كليات أبي البقاء:298، 299.

[2] نشر البنود على مراقي السعود للشيخ عبد الله بن إبراهيم، ص 63و 64 .

[3] المحقق من علم الأصول،فيما يتعلق بأفعال الرسول لعبد الرحمن بن إسماعيل القدسي،المعروف بأبي شامة ص/161.

[4] المرجع السابق،ص/160.

[5] الموافقات4/59 ـ 63 .

[6] رواه البخاري في كتاب الذبائح من حديث خالد بن الوليد .

[7] رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن شبل ،ح/3796،وحسنه الحافظ في الفتح(9/547، وهو في صحيح أبي داود للألباني .

[8] رواه البخاري عن جابر بن عبد الله في كتاب الطب،باب الدواء بالعسل،وقول الله تعالـى: "فيه شفاء للناس".

[9] رواه البخاري من حديث ابن عباس في كتاب الطب،باب الشفاء في ثلاث .

[10] رواه مسلم عن جابر،في كتاب المساجد ومواضع الصلاة،باب نهي آكل الثوم والبصل ونحوهما عن حضور المسجد .
[SUP]2 رواه البخاري في كتاب الصوم،باب صلاة التراويح[/SUP][SUP] . [/SUP][SUP] [/SUP][SUP] [/SUP]

[11] كتاب المساجد ومواضع الصلاة،باب وقت العشاء وتأخيرها.

[12] حديث "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة"،رواه البخاري عن أبي هريرة في كتاب الجمعة،باب السواك يوم الجمعة .

[13] رواه البخاري عن عائشة في كتاب العيدين،باب سنة العيدين لأهل الإسلام.

[14] انظر الفتح8/427 .
[15] متفق عليه من حديث عائشة، وهو في مواضع من صحيح البخاري منها كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه، ومسلم في كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبـنائها .

[16] رواه أبو داود،ح/ 192،وهو في الصحيح منه للألباني .

[17] رواه أبو داود/191.

[18] ورد ذلك في حديث علي ـ رضي الله عنه ـ بألفاظ مختلفة،فعلا وتركا،أمرا ونهيا،أجمعها ما رواه أحمد عنه،انظر أحكام الجنائز وبدعها لللألباني ص/100 .

[19] رواه أبو داود،عن سلمان الفارسي،ح/1488، وقال الترمذي:حسن غريب وصححه الألباني .

[20] المدونة الكبرى1/325 .2 رواه البخاري في كتاب الحج،باب رفع اليدين عند جمرة الدنيا والوسطى.
http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref21

[22] فتح الباري 3/460.

[23] رواه مسلم عن علي بن أبي طالب،باب صلاة النبي eودعائه بالليل .

[24] المدونة الكبرى،1/298 ،والخرق بضم الخاء الحمق والجهل .

[25] رواه البخاري في كتاب العلم ، باب ما كان النبي e يتخولهم بالموعظة كي لا ينفروا .

[26] رواه مسلم عن أبي سعيد،في كتاب الصلاة،باب القراءة في الظهر والعصر .
http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref273 شرح النووي على صحيح مسلم 4/175

[28] انظر شرح النووي على صحيح مسلم:باب صلاة الليل وعدد ركعات النبيe في الليل .

[29] انظر صحيح البخاري،باب ترك القيام للمريض،من كتاب الصلاة،وكتاب التفسير،باب سورة الضحى.

[30] رواه الترمذي وحسنه في باب القنوت في الوتر .

[31] رواه البخاري في أبواب صفة الصلاة،باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد .

[32] رواه مسلم عن ابن عباس،وهذا لفظ أبي داود،ح/876

[33] حيث سأله سعيد بن يزيد الأزدي:أكان النبيe يصلي في نعليه؟قال:نعم،انظر كتاب الصلاة،باب الصلاة في الـنعال .

[34] روى أبو داود/653 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:رأيت رسول الله e يصلي حافيا ومنتعلا.

[35] رواه أبو داود عن شداد بن أوس عن أبيه،سكت عليه الحافظ في الفتح،1/393،وهو في صحيح أبي داود للألباني




 

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
رد: درء الشكوك

أقساما ثلاثة علاقة الفعل بالمقتضي والمانع: : ا - ما وجد مقتضيه، وانتفى المانع منــه .ب - ما وجد مقتضيه، ومنــع منه مانـــع. ج - ما لم يوجد مقتضيه . وسأتناول الأقسام الثلاثة بشيء من التوضيح :[h=5]أولا: وجود المقتضي وانتفاء المانع [/h]إذا وجد مقتضي الفعل، وانتفى المانع منه؛ فلا بد أن يفعله النبيe، فإن كان له وقت لم يأت بعد تمنى فعله إثباتا لمشروعيته كما تمنى التمتع بالعمرة إلى الحج[1]، ولم يفعله لسوقه الهدي، بعد أن أمر من لم يسق الهدي من أصحابه بالتحلل .وكما تمنى صوم التاسع من المحرم[2]، ولم يفعله، لكونه توفي قبل مجيء ذلك اليوم من العام الموالي . فإن لم يفعله ولم يتمنه؛ ولم يأمر به أمر إيجاب أو استحباب؛ دل تركه له على أنه غير مشروع، وكان المسلم مطالبا بالإقتداء به في هذا الترك .ولهذا فإن من فعل ما هذا شأنه فقد خالف السنة، وأحدث في الدين، يصدق ذلك على من أحدث الفعل من أصلـه، كما يصدق على من أحدث فيه وصفا،كأن جعله عددا معينا، أو ربطه بزمن، أو قيده بقيد ليس عليه أثارة من علم، ويسمى الأول عند بعض العلماء بدعة حقيقية، والثاني بدعة إضافية، وهو كثير في حياة المسلمين، لأن الشبهة فيه أقوى، والابتداع فيه أيسر، لكون الأصل مشروعا، وقد لا يتفطن له حتى بعض من جعل الإتباع له ديدنا، فكيف بمن غلب الرأي والاستحسان والذوق، وحكم العادات والتقاليد التي كثيرا ما ينصاع الناس لها دون فحص ولا بحث، ثم يصعب الانتقال عنها، حتى مع العلم بكونها ليست سنة كما هو مشاهد؟.وقد ألمع شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى هذا القسم باختصار حيث قال: "فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله e وجودا لو كان مصلحة، ولم يفعل، يعلم أنه ليس بمصلحة"، وهو يريد انتفاء المانع مع ذلك .وقال أيضا: "فأما ما كان المقتضي لفعله موجودا لو كان مصلحة، وهو مع هذا لم يشرعه؛ فوضعه تغيير لدين الله، وإنما أدخله فيه من نسب إلى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد أو من زل منهم باجتهاد"[3] . وإذا كانت معارضة السنن بالآراء قبيحة؛ فالأقبح منها هذا الذي يشبه التشريع، قال تعالى:]أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم ياذن به الله[، ولا ينبغي أن يعترض على الاستدلال بأنه في المشركين، فإن كونه فيهم لا يمنع الاستدلال به على ما يفعله المسلمون من أعمال تشبه أعمال غير المسلمين، والعلماء منذ عهد الصحابة ما فتئوا يستدلون بالنصوص التي هذا شأنها، مع التفريق ولابد بين المسلم وغيره، فإن أهل السنة والجماعة لا يكفرون مسلما بمعصية، ما دام لم يستحل ما علمت حرمته من الدين بالضرورة، أو يحرم ما علم حله، فمن احتج بعمل الآباء والأجداد في مقابل نصوص الكتاب والسنة فإن له شبها بمن قال الله فيهم : "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا". ومن كتم العلم الواجب تبليغه فإن له صلة بمن قال الله فيهم: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب"الآية، وحسبك وأن أبا هريرة كان يبلغ خوفا من الوعيد الذي فيها. ومن عمل على غير علم من المسلمين، أو علم ولم يعمل على وفق علمه، فإن له شبها بمن قال الله فيهم: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين".وقد كان عمر بن الخطاب بترك التوسع في بعض المباحات، ويقول: "أخاف أن أكون كالذين قال الله لهم يوبخهم ويقرعهم:] أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها [[4] قال بعض أهل العلم: "المتخذ لله شريكا مشرك به، وهو منتقص لله بالشرك، والمبتدع منتقص للرسول ولا بد، فإن هذا لازم فعله، وإن زعم غير ذلك".[5]على أن هناك من االنصوص الكثيرة الصريحة ما يشفي ويكفي، كقوله-عليه الصلاة والسلام-:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه،فهو رد".[6]وقد يزعم بعضهم أنه بمنأى عما في هذا الحديث، لأنه لم يحدث، بل هو متبع، فيقال له:إنما رد الشارع العمل لكونه محدثا، بقطع النظر عن محدثه، وإن كان وزر المحدث مضاعفا، فإن أبيت فاستمع إلى رواية أخرى عند مسلم اتجهت إلى العامل لا إلى المحدث، فإنها قاطعة لكل تقول:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا،فهو رد".ومن أمثلة السنة التركية لهذا القسم؛ أن النبيe،وأصحابه من بعده لم يقوموا بإحياء شيء من الذكريات السنوية وغيرها في المناسبات العظيمة التي جرت فيها أحداث جسام في تاريخ الإسلام الأول، وكثير منها مشار إليه في القرآن الكريم، وفي الأخبار الصحيحة، كمناسبة ابتداء نزول القرآن الكريم، ومولده-عليه الصلاة والسلام-، والإسراء والمعراج، والهجرة،وغزوة بدر، وفتح مكة،وغيرها، ومن ذلك أنهم لم يكونوا يقصدون الأماكن التي شهدت أحداثا لها وزن عظيم في تاريخ الدعوة، لم يكونوا يقصدونها زائرين، يطلبون فضيلة المكان وبركته، وهي مذكورة في القرآن أيضا، كغار حراء الذي نزل فيه أول الوحي، وغار ثور الذي احتضن النبيe-وأبا بكر-رضي الله عنه-وهما في طريقهما إلى المدينة، وشجرة بيعة الرضوان، ومنها جبل الطور الذي كلم الله تعالى فيه موسى-عليه السلام-، والدار التي ولد فيها رسول الله e والصخرة التي هي قبلة المسلمين الآولى، وغير ذلك .نعم قد ثبت عن أبي هريرة قال: "لقيت أبا بصرة صاحب رسول اللهe فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من الطور حيث كلم الله موسى، فقال: "لو لقيتك قبل أن تذهب أخبرتك، سمعت رسول اللهe يقول:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد الحديث".[7]فهذا أبو هريرة وهو أكثر الصحابة رواية للسنة، فاته هذا الحديث، فنبهه أبو بصرة،وجزم بأنه لو لقيه قبل الذهاب لم يذهب، لعلمه أنه لا يخالف النهي الثابت عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، وقد حكاه أبو هريرة بدون غضاضة، وهذا نظير ما تقدم من قول هشام بن طلحة لعمرـ رضي الله عنهما ـ في كنز الكعبة . وقد ورد أن عمر-رضي الله عنه - بلغه أن قوما يأتون الشجرة التي بايع المسلمون تحتها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكرها الله في القرآن الكريم، فيصلون عندها فتوعدهم، ثم أمر بقطعها[8]، وقيل إنهم لم يعقلوا مكانها حماية من الله تعالى لأوليائه . كما نهى الناس أن يتتبعوا الأماكن التي كان النبيe يصلي فيها، وهو في طريقه إلى مكة، وقال: "أتريدون أن تتخذوا آثار الأنبياء مساجد؟، من كان منكم مصليا فليصل، وإلا فليمض"[9]، وهذه حماية للتوحيد، وسد الذريعة إلى ما يعكر عليه مع خير القرون فكيف بنا نحن اليوم ؟ .فقصد أي مكان غير المساجد الثلاثة، بالسفر إليه طلبا لبركة المكان وفضيلته من المخالفات، لورود النهي عن ذلك، وهو نهي عام، ليس لمن قال بتخصيصه دليل ناهض، فإن الأسفار المختلفة لطلب العلم، ولصلة الرحم، وللرباط، والتجارة، ومشاهدة الآثار للاتعاظ والاعتبار، لا ينطبق على شيء منها أن الغرض منه طلب فضيلة المكان كما هو واضح، فلا يعترض بشيء منها على ذلك العموم . ولو لم يرد هذا النهي؛ لكان عدم فعل السلف كافيا للمتمسك بعدم المشروعية، وذلك لقيام مقتضي الفعل، وانتفاء المانع.أما المقتضي؛ فإنه إذا كان المقصود من الاحتفال بتلك المناسبات تعظيمها، والتنويه بشأنها، فإن الرعيل الأول أدرى منا بهذا التعظيم، وأحرص عليه لو كان مشروعا، بل قد يقال إنهم كانوا أحوج إليه منا لقرب عهد الناس بالكفر، فإن هذا قد دفع به بعض الناس في وجه الأدلة الدالة على المنع من التصوير، وقالوا:إن هذا إنما كان لقرب عهد الناس بالشرك وعبادة الأوثان، أما الآن فقد زال هذا الأمر !!.وأما المانع؛ فإنه كان مفقودا بلا ريب، إذ ما الذي يمنع صاحب الشريعة e أن يشرع ذلك بقوله أو بفعله لو كان فيه مصلحة، أو كان مما يقرب إلى الله؟، وقد قال-عليه الصلاة والسلام: "[10]إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا أن يدل قومه على خير ما يعلمه لهم،وينذرهم شر ما يعلمه لهم"…الحديث، وسياقه يدل على أنه أعم مما سقناه من أجله، فإنه جاء بصدد ذكر الفتن التي قدر الله أن تكون، فإذا كان الإخبار بالفتن والتحذير منها من بين ما كان حقا على نبيناeأن يبينه، لينجو من كتب الله تعالى له النجاة، فكيف لا يبين لنا تلك الفضائل المترتبة على تلك الزيارات، وإحياء تلك المناسبات؟ .ولو شرعها لعلمهـا أصحابه، ولعملوا بها، إذ كيف يفرطون فيما شرعه، ويضيع منهم جميعا شيء من الدين الذي تولى الله تعالى حفظه؟، ولو فهموا من مقاصد الشرع ومراميه مشروعية ذلك وجـوازه، وهم أدرى منا بمعرفة تلك المقاصد، فما المانع لهم من فعله؟، فإنهم لم يكونوا مقهورين مجبرين على هذا الترك، وقد كانت بيضة الإسلام في عهدهم محمية، وشريعته قائمة أعظم من قيامها فيمن تلاهم .فإن قيل: إن ما ذكرته وغيره مما لم تذكره، قد دخل في مراسيم الدول، وصار من مظاهر الملك وأبهته، ولهذا فإنه يجري مجرى العادات، لا مجرى القربات، مع ما في ذلك من المصالح والمنافع، كربط الناس لاسيما الناشئة بتاريخ الإسلام وأمجاده، بزيارة تلك الأماكن، وإحياء تلك المناسبات، فالجواب أنه من العسير أن تسلك هذه الأمور في سلك العادات، ولو حصل ذلك واقتنعنا به لاسترحنا، والمانع أن جانب التعبد فيها ظاهر أو غالب، وإذا كان تعظيم المحتفل به من الأشخاص والأماكن والأزمنة واجبا أو مستحبا، إذ ما يتعبد به الله تعالى لا يخرج عن هذين القسمين، فكيف يكون نفس الاحتفال عادة ؟، بل كيف يسوغ اختراع وسيلة التعظيم ؟، ثم إن العبرة بنظر الناس الذين يحتفلون ويزورون، فإنهم إنما يفعلون ذلك لكونه قربة، وهم يسمونها أعيادا دينية، ويلومون من لا يفعلها، فكيف بمن يعترض عليها؟، وكفى بهذه التسمية وهذا الاعتقاد دليلا على ما قلناه، ولأن العادة تصير بدعة إذا قصد بها التعبد، كما هو معلوم .ثم كيف نزعم أننا نوثق صلة الناس بدينهم بوساطة هذه الأمور المحدثة، أو المختلف فيها على أحسن الاحتمالات، ولا نعير الاهتمام اللازم لما يربطهم فعلا بالإسلام، بالحرص على أركانه العظام، والتحذير من كبائر الفواحش والآثام؟ .إنني لا أظن الحرص على القيام بمثل هذه الأعمال من الأفراد أو المهيآت، مع تفريطها فيما هو مطلوب منها بحكم مسئوليتها، إلا تغطية لتقصيرنا الفاحش في تحكيم الشرع، وصبغ الحياة في جوانبها المختلفة به، وهو ما يتميز به الحاكم المسلم عن غيره .

[1] رواه الشيخان من حديث جابر في كتاب الحج،البخاري:باب التمتع والقران،ومسلم:باب حجة النبي e.

[2] رواه مسلم عن ابن عباس .

[3] اقتضاء الصراط المستقيم ص/279

[4] تفسير ابن كثير 6/286

[5] إغاثة اللهفان لابن القيم:1/51

[6] متفق عليه من حديث عائشة:البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود،ومسلم في باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور .

[7] رواه الشيخان عن أبي سعيد،أما القصة فقد رواها الطحاوي في معاني الآثار،انظر الإرواء للألباني،الحديث773 .

[8] رواه ابن سعد عن نافع،وصحح الحافظ إسناده في الفتح7/361 وانظر الاقتضاء لابن تيمية:386 .

[9] عزاه ابن تيمية لسعيد بن منصور،انظر الاقتضاء: 386،والفتح1/450،وقال الحافظ: إنه ثبت ذلك عن عمر .

[10] رواه مسلم من حديث عمرو بن العاص في كتاب الإمارة باب وجوب الوفاء ببيعة الإمام الأول فالأول ."
 

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
رد: درء الشكوك

[h=2]ثانيا: وجود المقتضي والمانع معا[/h]وهذا النوع قسمان :أولهما : الذي لم يفعله النبيeأصلا، مع إشارته إلى المانع له من فعله، إذ أنه إنما يعرف بذلك .وثانيهما : الذي فعله مرة أ وأكثر ثم تركه، مع بيان المانع له من الاستمرار على فعله، فلنقل كلمة في كل منهما:الأول: ما لم يفعله أصلا :وأبرز مثال له تركه إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم-عليهما الصلاة والسلام-مع قيام مقتضي ذلك، وهو الرجوع بالحج ومناسكه إلى ما كانت عليه في عهد إبراهيم-عليه السلام-، وذلك بإزالة ما أحدثه أهل الجاهلية من تغيير في بعض أمكنته، وفي زمانه بالتقديم والتأخير، تبعا لمصالحهم المزعومة، وامتناعهم من العمرة في أشهر الحج، وطواف بعضهم عراة .والكعبة من بين ما لحقه التغيير، إما باختيارهم كإزالتهم أحد البـابين حتى يتحكمـوا في الداخلـين، فيدخلـون من أرادوا، ويمنعون من شاءوا، وبعض التغيير كانوا إليه مضطرين، وهو عدم إقامة الكعبة على أصلها الأول، والمانع لهم من ذلك قلة المال، كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-: "ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة؛ اقتصروا عن قواعد إبراهيم"؟، قالت: فقلــت يا رسول الله أفلا نردها على قواعد إبراهيم؟، فقال: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت"، وفي رواية: "لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحجر"[1]، وفي الحديث بيان المانع له من إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم، وهو ما خشيه من الفتنة على من أسلم حديثا، فإن تغيير بنائها من الأمور التي يستعظمها الناس، فهذا هو المانع من الفعل، وقد ينضم إليه أمر آخر، إذ أن تعدد المانع ممكن.ومن ذلك ترك إنفاق كنز الكعبة في سبيل الله للمانع السابق، فلما زال المانع أنفق ذلك الكنز، وأقيمت الكعبة على قواعد إبراهيم-عليه السلام- وقد سبق أن عمر هم بإنفاقه، ثم تراجع لتغليبه جانب الإقتداء بالترك، ولقرب العهد أيضا . أما البناء؛ فقد أقامه على قواعد إبراهيم عبد الله بن الزبـير في خلافته لزوال المانع، وكان ابن عباس يرى أن إبقاء الأمر على ما هو عليه أولى، لخبرته بأحوال الناس، وصح عن عبد الله بن الزبير قوله: "فأنا اليوم أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس"، لكن السياسة فعلت الأفاعيل، فإنه ما إن قتل عبد الله حتى أعيدت الكعبة إلى ما كانت عليه من قبل، وتصرف الحكام يوحي بأنهم ظنوا اختلاق عبد الله للحديث حاشاه،ثم إنهم تمنوا أن لو تركوا عبد الله وما صنع .قال ابن كثـير-رحمه الله-مستصوبا ما فعله عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما: "وجاءت في غاية البهاء والحسن والسناء على قواعد إبراهيم الخليل، لها بابان ملتصقان بالأرض…"[2] .و الائتساء بالنبيe في هذا النوع ليس الترك بإطلاق، ولا الفعل بإطلاق، بل ينظر إلى المانع؛ فمتى زال؛ شرع الإقتداء، والمانع كما ترى قد زال، وقد علمت مذهب ابن عباس، وكان مالك -رحمه الله-يرى الرأي ذاته حين استشاره بعض الخلفاء .قال ابن تيمية :"وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول اللهe لكن تركه النبيe لمعارض قد زال بموته"[3] . [h=1]الثاني: ما فعله ثم تركه [/h]هذا هو الضرب الثاني مما قام مقتضيه ومنع منه مانع، وأبرز الأمثلة له صلاته e بالناس في بعض ليالي رمضان، فقد صح عنه أنه خرج في جوف الليل، فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع اكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله e فصلوا بصلاته، فلما كانت الرابعــة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما صلى الفجر، أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: "أما بعد: "فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها"، فتوفي رسول الله -عليه الصلاة والسلام-والأمر على ذلك.فهذا مثال لما فعله بعض الوقت،ثم تركه لمانع منعه من الاستمرار عليه، والمانع هنا لا يتصور بقاؤه بعد وفاته، كما هو الشأن في المانع من إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم، فإن عهد التشريع انتهى بوفاته بالإجماع، فلما زال المانع قامت مشروعية هذه الصلاة، لكنها لم تقم جماعة خلف قارئ واحد طيلة خلافة الصديق، وصدرا من خلافة عمر، رضي الله عنهما، وإنما كان الناس يصلون: يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، هكذا في الصحيح، فإقامة هذه الصلاة كان معروفا، فلما رأى عمر ذلك قال: "إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل"، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب أقرإ الصحابة، رضي الله عنهم، قال عبد الرحمن بن عبد القارئ: "وخرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: "نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون".فقد اتضح من هذا الخبر أن الناس كانوا يصلون، وأن الذي كان ينقصهم إنما هو العودة إلى ما فعله النبيe في تلك الليالي الثلاثة، ثم تركه للمانع المعروف، وكتب الله تبارك وتعالى أن تتم إقامة هذه السنة من جديد على يد عمر، فلما فعل ذلك سماه بدعة، فلعله إنما سماه كذلك باعتبار الزمن الفاصل بين اشتراعها وبين إعادة بعثها من جديد، أو بالنظر إلى المداومة عليها، وقد منع ا النبيe من المداومة ما علمت، ومن المستبعد جدا أن يكون عمر لم يطلع على إقامة النبيe هذه الصلاة في تلك الليالي، ثم يسمي جمع الناس على قارئ واحد اجتهادا منه بما سماه، ثم يكون في تلك الكلمة ملجأ للمجترئين على البدع، يتدثرون بها، على أننا لو افترضنا هذا المستبعد، وعلمنا اتفاق الصحابة على إقامة هذه الصلاة؛ فإنها لا تكون بدعة بحال، لمزيتهم المعروفة، ولكون إجماعهم هو الذي حضي بالإجماع، ولأن الإقتداء بعمر مأمور به كما تقدم، ولا سيما في هذا الأمر الذي وافقه عليه الصحابة.وذهب بعض أهل العلم إلى أن عمر-رضي الله عنه -لما كان من عادته أن يصلي من الليل بعد أن يستيقظ، لا أوله، ثم أمر أبيا بما أمره به؛ أطلق لفظ البدعة بهذا الاعتبار، ويؤيد هذا الاتجاه قوله: "والتي ينامون عنها أفضل".وأيا ما كان فلا ينبغي لمسلم يستبرئ لدينه وعرضه أن يعتمد على هذا القول من عمر ليغطي به المخالفات، ويحسن به ما أراد من البدع، فإن تعليق عمر إنما كان على صلاة التراويح الثابت الاجتماع فيها على قارئ واحد بالسنة الفعلية، مع كونها مشروعة بالسنة القولية.[h=4]حكم الفعل الذي زال مقتضيه[/h]تقدم أن الفعل الذي منع منه مانع بالنص، يشرع فعله متى زال المانع، وهكذا الفعل الذي فعلهالنبيe، أو أمر به لسبب معين، فإن الأصل انتهاء مشروعية فعله متى زال السبب .ومن العلماء من قال بصلاحيته للإقتداء، حتى مع زوال السبب،ولعلهم نظروا إلى أن النبي eكان إذا فعل فعلا أثبته،كما هو الشأن في صلاته راتبة الظهر، إذ شغل عنها، فصلاها بعد العصر، فداوم عليها،ولأن بعض الأفعال قد انتهت مقتضياتها، ومع ذلك استمر على فعلها، والذي يظهر-والله أعلم-أن المشروعية تنتهي بانتهاء السبب،إلا أن يدل دليل على خلاف هذا،ويتضح ذلك بأنه قد صح أن النبيe أمر أصحابه في عمرة القضاء أن يرملوا الأشواط الثلاثة الأول في الطواف، وأن يمشوا بين الركنين، وصح تعليل ذلك بقول المشركين: "إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب،ولقوا منها شرا"، فأطلع الله تعالى نبيه على ما قالوه، فأمر أصحابه بالرمل في الأشواط الثلاثة[4] .ومعلوم أن المقتضي لهذا الرمل قد زال، كما زال المقتضي للاضطباع، ومع ذلك فإنهما ظلا مشروعين كما لا يخفى، وكان الأصل أن ينتهي ذلك، إلا أنه قد دل الدليل على بقائهما، فقد سعى النبيe ثلاثة أشواط، ومشى أربعة في الحج والعمرة[5]، وهذا بعد زوال المقتضي، وكان ابن عباس يرى أن ذلك ليس بسنة، وهو في الصحيح، .لكن روى أبو داود من طريق أبي الطفيل عنه اعتبار ذلك سنة[6]، والظاهر أن هذا آخر قوليه، بعد أن بلغه فعل النبي e في حجة الوداع، وموقفه هاهنا شبيه بموقفه من غسل يوم الجمعة، فقد جاء عنه القول بعدم الوجوب، وتعليل الغسل بما عللته به عائشة ـ رضي الله عنهما ـ وهو أن الناس كانوا مهان أنفسهم[7]، فشرع الغسل لتغير رائحة أبدانهم، وأمروا بالاغتسال، فيكون الاغتسال بدون هذه العلة مستحبا، وقد راعى بعض العلماء هذه العلة، فقالوا بوجوب الغسل، واستحبابه حسب حالة الجسم[8]، ومعلوم أن الغسل مطلوب عند جمهور العلماء طلب استحباب أو وجوب دون قيد، فإن كان مقتضيه الأمر المذكور، فمن الممكن أن يكون قد تدرج في اشتراعه، فكان في أول الأمر مطلوبا ممن قام به سببه ثم شرع بإطلاق . وقد عبر عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-عن الإقتداء بعد زوال المقتضي بقوله: "فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب وقد أطأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟، ولكن لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رســول اللهe "[9] .ونظير هذا في تركه الالتفات إلى التعليل؛ قوله وهو يقبل الحجر الأسود: " أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبيe استلمك ما استلمتك"[10] .ولا يخفى أن بعض أعمال الحج والعمرة استمرار لما فعله بعض الأنبياء والصالحين كالسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار، فلعل الرملان والاضطباع أجريا هذا المجرى تذكيرا بما فعله النبيe وصحابته الكرام في عمرة القضاء والله أعلم .ومن الواضح أن كلامنا ليس إلا في المقتضي الذي زال نهائيا كما هو في هذه الأمثلة، فأما الذي يحضر ويغيب كما هو الشأن في تعليل النهي عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث عند من رآه غير منسوخ، ونحوه، فكلامنا ليس فيه .ضابط المتروك إشفاقا على الأمة:صح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: "كانe ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس، فيفرض عليهم"[11] .وهذا من عظيم إشفاقه على أمته، ورحمته بها، كما هو الشأن في سؤاله ربه أن يوسع عليهم في الأحرف التي يقرأ بها القرآن، فوسع له إلى سبعة أحرف، وفي التخفيف عنهم في عدد الصلوات المفروضات بإشارة من موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فخفف الله عنهم . والحديث يحتمل أمرين :أحدهما: أن يكون المعنى أنه كان يريد أن يقوم ببعض الأعمال فلا يعملها أصلا، خشية الافتراض، وهذا إذا أطلع عليه عائشة - رضي الله عنها - فقد صار مشروعا بتمنيه إياه، كسائر ما تمناه . والثاني: أنه كان لا يداوم على بعض الأعمال، أو لا يظهرها، للسبب المذكور، وهذا الاحتمال هو الراجح . وكيفما كان الأمر فإن العمل إذا لم ينقل إلينا بأنه قد عمله، أو تمناه، فمن أين لنا أن نعرف أنه مشروع ؟ .ولهذا كانت هذه المسألة عظيمة الأهمية، فإنه تحت زعم الترك إشفاقا على الأمة، تقبع بعض البدع والضلالات، وقد يقال أيضا إن الفعل الفلاني إنما تركه خشية الافتراض، وحيث إن هذه الخشية قد أمنت بعد وفاته، فلا بأس بفعل ما لم يفعله !.وأنت ترى بأنهم في الوقت الذي يقرون فيه مع غيرهم من المسلمين؛بأن عهد التشريع انتهى بوفاة النبيe، يعودون لما قالوا، فيدخلون ما يحلو لهم في الدين بآرائهم، ثم يرسلون عليها غطاء الإشفاق على الأمة، وقد رأيت بعض أهل العلم الناصحين، يحتج لمشروعية الإكثار من الذكر وتلاوة القرآن والصلاة في بعض الشهور، بما قلناه، بل وعلل تركه eا افتراض جزاء الصيد في حرم المدينة المنورة بالإشفاق على الأمة، أو أنه تركه لعظم الجرم، فهو كاليمين الغموس، وأحسب أن الذي ساق إلى هذا إنما هو نصرة مذهب من يرى تفضيل المدينة المنورة على مكة المكرمة، ولما كان جزاء الصيد في حرم مكة قد ثبت بالنص، علل ترك افتراض جزاء الصيد في المدينة بما علله به ردا على من قد يستدل بوجوب جزاء الصيد في مكة على أفضليتها [12]، والصواب أن كل ما شرعه الله في كتابه أو شرعه رسوله e بقوله أو فعله أو تقريره؛ هو مصلحة للناس، وما كان فيه من مشقة على بعضهم -لظروفهم الخاصة-فإنهم يجدون في الشرع التيسير الخاص بهم . أما إن عللنا ما تركه النبي e بالإشفاق على الأمة من غير أن نستند إلى دليل؛ فإننا بذلك نفتح باب التقول في الدين على مصراعيه، فكيف إذا أضفنا إلى ما تقدم القول بمشروعية ذلك الذي تركه ؟.ولهذا فإنه لا يسوغ تعليل ترك النبيe فعل الشيء بعد أن يفعله بأن يقال إنما تركه بسبب كذا، سواء أكان التعليل بالإشفاق أو بغيره، اللهم إلا أن تكون العلة منصوصة أو مستنبطة على وفق القواعد المقررة في علم الأصول، ومن باب أولى أن لا يجوز تعليل ما لم يفعله أصلا بعلة، ثم يقال إنها زالت، ولهذا يشرع فعل ذلك المتروك! .والمتتبع لأحوالهeيعلم أنه إذا أراد أن يشرع عملا ما، ثم خشي أن يشق على أمته؛ فعله ولم يأمر به، كما هو شأن السواك عند كل صلاة وعند كل وضوء، لكن ترك الأمر به منصوص، وتعليل الترك كذلك .كما أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا خشي أن يفرض على أمته عمل لمداومته عليه؛ فعله لتثبت مشروعيته، ثم تركه، كما تقدم توضيحه في صلاة الليل جماعة، وقد نص على علة ترك مداومته عليها .ومن ذلك تأخير العشاء فقد أخرها مرة أو أكثر، ليبين مشروعية التأخير، ثم ترك ذلك، لكنه علل الترك بقوله: "إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي" .ويقابله أمره e بالإبراد بصلاة الظهر، وتعليل هذا الأمر منصوص بقوله: "فإن شدة الحر من فيح جهنم" [13] .ومن ذلك تركه الخروج مع كل جيش يخرج للجهاد، خشية أن تحمل القدوة به بعض الناس على الخروج، فيشق ذلك عليهم، أو تعطل المصالح الأخرى [14] .وقد قيل إن منه ترك الاعتمار في رمضان، مع أن العمرة فيه تعدل حجة[15]؛ شفقة على أمته، وإبطالا لما كان عليه المشركون من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فيكون الاعتمار فيها أفضل بالنسبة للنبيe، وفي رمضان أفضل بالنسبة لغيره . ومنه تركه التطويل في الصلاة، بعد عزمه على التطويل، ولكنه بين السبب، كما قال: "إني لأدخل في الصلاة فـأريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه"[16] فهذا ترك للتطويل االمناسب للجماعة، بسبب بكاء الصبي، والتطويل والتخفيف من الأمور النسبية، وقد قال-عليه الصلاة والسلام-: "إذا أم أحدكم فليخفف". وهكذا يتبين لنا أن الأمر إذا كان مما ينبغي اشتراعه فلا بد أن يفعله النبي-عليه الصلاة والسلام-أو يأمر به، فإن منعه من الاستمرار عليه مانع الإشفاق على الأمة، أو مانع خشية الافتراض، أو غيرهما تركه وبين موجب الترك، وهذا من تمام حفظ الدين من التلاعب، نظرا إلى أن الترك كما تبين لنا من قبل تشريع . إذا تبين هذا، فإن ما تركه خشية الافتراض يفعل بعد وفاته .وما تركه خوف المشقة فالمرجع فيه مراعاة أحوال الناس .وفي كل الأحوال،لا يسوغ الإقدام على تعليل ما تركه أصلا، وكذا ما تركه بعد فعله، بأنه إنما تركه غشفاقا على أمته، ثم ينصب هذا العتعليل المختلق حجة لمشروعية فعل المتروك، والله أعلم .ج-ما لم يوجــد مقتضيـه:هذا هو القسم الثالث من أقسام الفعل باعتبار المقتضي والمانع وجودا وعدما، وهو أقلها وجودا، فـــإن ما كان قربة من الأفعال،

[1] اقتصروا عن قواعد إبراهيم :لم يقيموا الكعبة عليها حين أعادوا بناءها،والحدثان بكسر فسكون القرب،والحجر:بكسر الحاء الحائط القصير الواقع في الجهة الشمالية من الكعبة،وقواعد إبراهيم لا تشمله كله،وقد بين مقدار ما فيه من الكعبة في الأحاديث الصحيحة،وذلك ما بين خمسة وسبعة أذرع .

[2] السيرة1/282.
[3] اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، ص/279

[4] رواه البخاري عن ابن عباس،كتاب المغازي،باب عمرة القضاء .

[5] رواه البخاري عن ابن عمر،كتاب الحج،باب الرمل في الحج والعمرة

[6] الحديث:1889.

[7] هذه إشارة إلى قولها"كان الناس مهان أنفسهم،فقيل لهم :لو اغتسلتم،متفق عليه،والمهان جمع ماهن،وهو الخادم،وأثر ابن عباس رواه أبو داود،الحديث 353.

[8] انظر شرح الدردير مع حاشية الدسوقي على مختصر خليل:باب الجمعة1/185 .

[9] لفظ أبي داود،وصححه الألباني،وهو في صحيح البخاري بنحوه،باب الرمل في الحج والعمرة .
[10] رواه البخاري انظر المرجع السابق .

[11] رواه الشيخان،البخاري في كتاب التهجد،باب تحريض النبيeعلى صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب،ومسلم في كتاب صلاة المسافرين،باب استحباب صلاة الضحى .

[12] انظر المدخل لابن الحاج ـ رحمه الله ـ 2/3 ـ 4

[13] متفق عليه من حديث أبي هريرة .

[14] إشارة إلـى حديث أبي هريرة المتفق عليه،وفيه:"ولولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلف سرية "،وقد رواه البخاري في كتابي الإيمان والجهاد ،ومسلم في كتاب الإمارة .

[15] إشارة إلى حديث ابن عباس مرفوعا،وفيه:فإن عمرة في رمضان حجة"

[16] رواه البخاري في باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي .
 

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
رد: درء الشكوك

لا بد أن يفعله النبيe، لكن الذي لم يوجد مقتضيه في حياته قسمان :الأول: هو الذي شرعه بأمره أو بتمنيه أو بالإخبار به[1]، فما كان كذلك لم يفعله، لكونه معلقا بزمن أو بسبب لم يأتيا بعد، فلو افترضنا أنه لم يصل صلاة الكسوف مع أمرنا بذلك إذا كان كسوف بقوله: "فإذا رأيتم ذلك،فافزعوا إلى الصلاة"؛ لكان هذا من ذلك القبيل، أي من قسم ما أمر به، ويمكن التمثيل له بقتال الطائفة الباغية المشروع قتالها بالقرآن الكريم، وكذا قتال مانعي الزكاة، والخوارج المشروع قتالهم بالسنة، وغير ذلك مما هو مشروع بالنصوص، غير أنه لم يوجد مقتضيه في عهد الرسالة، فكيف يفعل؟.والثاني: ما لم يأمر به ولا تمناه ولا أخبر به على النحو السابق، ولكنه حدث مقتضيه بعد وفاته، فهذا موضع نظر أهل العلم والاجتهاد، قال ابن تيمية: "وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحة، ثم هنا للفقهاء طريقان :أحدهما: أن ذلك يفعل ما لم ينه عنه، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة .والثاني: أن ذلك لا يفعل ما لم يأمر به، وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة "[2] .وقول الإمام ابن تيمية: " إن ذلك لا يفعل ما لم يأمر به"،لا يتفق مع المفترض في قوله: "من غير معصية الخالق"، لأن نزاع العلماء لا ينبغي أن يكون في المأمور به، الذي لم يحضر سببه في وقته، كما تقدم، بل في المسكوت عنه، إلا أن يكون مراده بالمأمور به المستحب .ومن هنا فإن كل ما أحدث مما يقصد به التقرب إلى الله تعالى بشخصه أو بوصفه، هو من البدع، لهذا الاعتبار .أما ما لم يكن كذلك مما تعتبر مقتضياته متجددة بحسب تطور حاجات الإنسان، وترقيه في اكتشاف نواميس هذا الكون وصولا إلى تسخير ما جعله الله تعالى في دائرة التسخير، ولم يمنع منه الشرع، ومثله اختلاف العادات والأعراف، وتطور الحياة في المآكل والمشارب والأزياء والمراكب، والاتصال، ووسائل التعليم، وتغير مقاصد الناس بالألفاظ في المعاملات، فإنه متى احتيج إلى شيء منه فعل، ومتى تغير العرف اعتبر، ولا حجر على الناس في شيء منه، ما لم يمنع منه الدليل الخاص، لأن الأصل في هذه المسائل الجواز فيستصحب، قال الشاطبي: "فإن التزام الزي الواحد، والحالة الواحدة، والعادة الواحدة، فيه تعب ومشقة، لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال، والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه، ولم يكن ثم معارض"[3] .لكن ينبغي أن يعلم أن هذا المجال الواسع الذي تركه الشرع الحنيف للناس رحمة بهم، ليس صحراء لا معالم يهتدى بها فيها، فإنه وإن خلا من الأدلة التي تتناول أشخاص المسائل، وجزئيات القضايا، إلا أنه مقيد بالأصول والمقاصد العامة التي هي السياج الواقي للإنسان من أن تنقلب حريته ضد مصالحه ومنافعه الحقيقية التي لا يستقل تمام الاستقلال بإدراكها على الوجه الأكمل، والمرجع فيه أهل الإختصاص من المسلمين، المؤطرين بالفقهاء، قال تعالى:]ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير[ .ومن تمام كلام الشاطبي السابق: "نعم لا بد من المحافظة في العوائد على الحدود الشرعية والقوانين الجارية، على الكتاب والسنة".إن هذا الأصل عظيم يـنبغي العناية به وفقهه، حتى لا ينخدع المؤمن الباحث عن الحق بتهويل بعض المجازفين الذين إذا نبهوا إلى شيء من المحدثات، اعترضوا جادين أو هازلين بما طرأ ويطرأ على العادات والأعراف ومجالات الحياة المختلفة من تغيرات لا تصادم الشرع، وألزموا المتسنن بتركها زاعمين أنها بدع، وإلا نسبوه إلى التناقض، ألا فليعلم أن هذا الظن ربما أردى أصحابه، فإنه من سوء الظن بالله تعالى وبشرعه الذي ارتضاه لخلقه، وجعله وافيا بمصالحهم وحاجاتهم، وقد يكون شعبة من شعب الاعتقاد بمناهضة الدين لكل تطور وهو من الجهل الفاضح .ومما يعينك على تبين هذا الأمر،أن تعلم أيها المؤمن أن ما يطرأ على أحوال الناس من تغـير لا يعدو أقساما أربعة :أولها: ما يكون التغير فيه مخالفا للشرع، لكونه على خلاف الأمر أو النهي، فهذا مردود لا كلام فيه،ولا يحتاج إلى أن يذكر له مثال. وثانيها: ما كان الشرع متشوفا إلى تغييره، كما هو الشأن في تحرير الأرقاء .وثالثها: ما كان الشرع متشوفا إلى تحسينه لأن في هذا التحسين تحقيقا للمطلوب الشرعي من وجود ذلك الشيء على وجه أكمل. ومثاله أن الخيل كانت لها مكانة مرموقة في الجهاد على عهد النبوة وما تلاه،حتى إن النبيeجعل للفارس ثلاثة أسهم في الغنيمة، وللراجل سهم واحد، وما ذلك إلا لجدوى الخيل في القتال .لكن الشارع متشوف بلا ريب إلى إعداد القوة المستطاعة، وهي تختلف من زمن لآخر، قال تعالى: ]وأعدوا لهم ما استطعتم من قـوة[،وقال-عليه الصلاة والسلام-"ألا إن القوة الرمي"[4]، (ثلاثا)، فهل يقول عاقل بعد هذا إن الدبابة والطائرة والصاروخ وغيرها من وسائل الحرب الحديثة بدعة، وأن الحصان خير منها ؟.ورابعها: ما ليس فيه مناهضة للشرع، ولا الشرع متشوف إلى تغييره ولا إلى عدمه، وهذا شأن المباحات في المآكل والملابس والمراكب، وما يصطلح عليه الناس في معاملاتهم ووصاياهم ومقاصدهم بالألفاظ ونحو ذلك، لكن إن كان في شيء من ذلك تخفيف للمشاق، وتحسين لأوضاع المعيشة دون سرف كتحسين وسائل السفر والاتصال مثلا، فإن الشارع يتشوف إليها لما فيها من تقريب الشقة، وسرعة الاتصال .ومثاله أن الشارع أوجب في زكاة الفطر صاعا من أصناف معينة سماها، لكنه ليس له حكم يلزم الناس الاقتيات بشيء معين دون غيره، ما دام الجميع مشمولا بالحل، فإذا لم تعد تلك الأصناف موجودة في بلد، أو انقرضت من على هذه الأرض، أو تغيرت عادات الناس فلم تعد من بين ما يأكلون، فهل يقال إن هذا التغير مخالف للشرع، فيعفى الناس من إخراج غير تلك الأصناف كيفما كان؟هذا مستبعد، ولو قدرنا وجود تلك الأصناف، إلا أن عادات الناس تغيرت، بحيث لم يعودوا يقومون بإعداد بعض أنواع الطعام في بيوتهم، وجرت عاداتهم بشرائه من المحلات جاهزا، فإن هذا ليس مناهضا للشرع كذلك، ومن ثم فإن من الإحسان إلى الفقير أن نعطيه قيمة زكاة الفطر نقدا، بدل أن نعطيه قمحا أو شعيرا إن وجدناهما، ليقوم هو بالبيع من جديد، حتى يحصل على النقود .وهذه الأمثلة كما ترى لها صلة بالعبادات، والمسائل المنصوصات، لكن مراعاة مقاصد الشرع، وما طرأ على العادات من تغير لا مخالفة فيه للشرع، أفضى إلى هذا، فكيف بما كان من محض العادات؟.كل بدعـة ضـلالـة:اعلم أيها المؤمن أن عموم هذه الكلية محفوظ، لا يلحقه استثناء، لكنه قد التبس أمره على بعض الناس، ووقع فيه من الخلط وقلة الضبط شيء كثير، ومع ذلك ظلت معالمه واضحة، وحدود الحق فيه لمن وفقه الله لائحة، ومن تمسك بالأصل فلم يتزحزح عنه إلا بالدليل، فهو المصيب المفلح المستبرئ لدينه، ومن وقع في شيء من المخالفة ممن اجتهد ونصح، فإنه مأجور أجر الاجتهاد، والله أعلم بالمراد، لكن لا يسوغ متابعة العالم فيما ذهب إليه لمن تبين له خطؤه، أما من اتبع المتشابه وضرب به المحكم من الكتاب والسنة، ولم ينظر في أعمال السلف، فإن الحذر منه مطلوب، كما قال تعالى: ]فأما الذين في قلوبهم زيغ،فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة،وابتغاء تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الالباب[، قال عليه الصلاة والسلام بعد أن تلا هذه الآية: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله،فاحذروهم".[5]ولله در الإمام مسلم فقد صدر كتاب العلم بهذا الحديث، وهو ليس في كتاب القدر كما قال ابن كثير في التفسير، فكأنه يريد أن يقول إن من اتبع المتشابه وعرف منه ذلك ليس بعالم، وهكذا ذكر هذا الإمام للحديث المتفق عليه، والذي فيه: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"، فإن الألد في اللغة هو الأعوج، والعوج هنا عوج الفكر وعدم الاستقامة على طريق البحث، والخصم الشديد الخصومة، وهذا شأن النافق في حال خصومته كما ورد بذلك الحديث: "وإذا خاصم فجر"، فليس بعالم من كان هذا شأنه . وقد جعل الله تعالى متبعي المتشابه في مقابل الراسخين في العلم، وبين أن في قلوبهم زيغا، وهذا كاف في التحذير منهم، لكن النبيe صرح بذلك، لأن زيغهم غير قاصر عليهم . ومن أسباب الاختلاف في هذا الأمر؛ تفاوت أنظار الناس في التحديد الدقيق للبدعة، والحد الفاصل بين البدعة في الشرع والبدعة في اللغة، ومن ثم اختلافهم في تصنيف بعض الأعمال التي حدثت في عهد الصحابة وهم أعرف الناس بالمسنون والمبتدع، كجمعهم المصحف الشريف، واتفاقهم على حد شارب الخمر، وغير ذلك مما ذكره أهل العلم، لاسيما الشاطبي، وبينوا أنه ليس مما يصدق عليه وصف الابتداع، حتى يعتمد عليه في القول بأن من البدع ما هو حسن والمانع من اعتبار تلك الأمور بدعا إما لأن مشروعيتها منصوص عليها، وإما لأنها مما لا يتم الواجب الثابت وجوبه إلا به، وإما لأنه من المصالح المرسلة، وهي ما لم يشهد له نص خاص بالاعتبار ولا بالإلغاء، وهذه المصالح معتمدة عند معظم أهل العلم، إما بتنصيصهم على اعتبارها، وإما بالنظر إلى منحاهم الاجتهادي الذي يتبين منه مراعاتهم إياها.ومما يستدل به بعضهم في هذا الصدد قول عمر-رضي الله عنه-عن صلاة التراويح، حين جمع الناس على قارئ واحد: "نعم البدعة هذه"، وقد تقدم الكلام عليه .وليس غرضي هنا أن أتعرض بالتفصيل لهذا الذي أشرت إليه، بل أريد أن أقف قليلا عند بعض النصوص المتعارضة حسب الظاهر في هذا الموضوع، لما رأيت من كثرة اعتراض بعض الناس به على تلك الكلية، وكثرة السائلين عنه كلما ذكرتهم بتلك الكلية التي تنعت كل محدثة بأنها بدعة .روى ابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول اللهeقال: "إنما هما اثنتان: الكلام والهدي، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد، ألا و إياكم ومحدثات الأمور،فإن شر الأمور محدثاتها،وكل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة"[6].وقد جاءت ألفاظه إلا الفقرة الأولى منه في أحاديث أخرى:ـ منها حديث جابر عند مسلم[7]، وابن ماجه، وابن أبي عاصم[8]، ومنها حديث العرباض عنـد أبي داود [9]والترمذي[10] وابن ماجه وغيرهم، ونقف فيه عند الأمور الآتية: -فقوله : "إنما هما اثنتان"، فيه تشويق، إذ لم يتقدم لمرجع ضمير المثنى فيه ذكر، وتأنيثه يدل على أن المقصود به خصلتان، فإن الخصلة كالخلة تطلق على الفضيلة غالبا، وقد فسرتا بالكلام والهدي .والمعنى أن مدار الفلاح والنجاح عليهما، فهو كقوله-عليه الصلاة والسلام-"تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض"[11]، وقوله:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضا"[12] ،،،الحديث.-وقوله: "الكلام والهدي"؛ المقصود العلم والعمل،

[1]ما أخبر به؛إن كان مع مدحه فهو مشروع،وإن كان مجردا فالصواب أنه مشروع ما لم يكن منهيا عنه .

[2] اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم 279.

[3] الاعتصام،2/78.

[4] رواه مسلم عن عقبة بن عامر،باب فضل الرمي والحث عليه،وذم من علمه ثم نسيه.

[5] متفق عليه وهذا لفظ مسلم في أول كتاب العلم .

[6] المقدمة،باب اجتناب البدع والجدل،وقد قال العراقي إسناده جيد،انضر فيض القدير لـلمناوي .
[7] كتاب الجمعة،باب تخفيف الخطبة

[8] باب ما ذكر(من)زجر النبيe عن محدثات الأمور وتحذيره منها .

[9] سبق في المقدمة

[10] أبواب العلم،باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة
[11] رواه الحاكم عن أبي هريرة،وانظر صحيح الجامع للألباني،ح/2937.

[12] متفق عليه:البخاري في كتاب العلم،باب فضل من علم وعلم،ومسلم في كتاب الفضائل .
 

سهيلة حشمت

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 ديسمبر 2011
المشاركات
179
التخصص
فقه
المدينة
000000000
المذهب الفقهي
شافعى
رد: درء الشكوك

فإن الكلام إلى العلم أقرب، وإن الهدي بالعمل والتطبيق أوفق، ولأن السنة بيان عملي للقرآن، دون أن يعني ذلك أنها ليست علما، وإنما المراد أنها قائمة على القرآن، ومرجعها إليه، ومن عرف القرآن المعرفة الصحيحة استمسك بالسنة الاستمساك الحق . -وقوله: "فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد"؛ بيان لأرقى ما ينبغي للمسلم أن يجعله غايته في أمر دينه علما وعملا، إذ لا أحسن في الكلام من كلام الله، ولا أحسن في الهدي من هدي رسول اللهe، فتضمن هذا المقطع كمال العلم، وهو القرآن، وكمال العمل وهو السنة، فهل من راغب ؟ .-والتعبير بأفعل التفضيل في هذا المقام الذي هو تمهيد للتحذير من المحدثات، كأنه إشارة إلى ترك ما قد يستحسنه المرء من عنديته كيفما كان، فإنه إذا كان مبتغاه الحق فكيف يترك الأحسن إلى الحسن؟، وقد لا يكون كذلك في واقع الأمر، فإن هذا ليس إلا بحسب ما يرى، وإلا فإنه لا مقارنة بين الكتاب والسنة، وبين غيرهما من الآراء والظنون، ومعلوم أن البدع كلها إنما تولدت من التحسين الذي لا يستند إلى الدليل، أو يستند إلى شبهة، أو احتمال مرجوح في الدليل. -وقوله: "وإياكم ومحدثات الأمور"؛ تحذير من كل محدث في الدين، قولا كان أو فعلا أو اعتقادا، وهذا يتضمن توكيد النهي عن الإحداث في الدين، فإن التحذير عند أهل العلم يقع في مقابل الإغراء، وهو تحريض على الفعل، والتحذير تنفير منه .وفيه إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الأمور المحدثة، وهي أمور الدين، فإن هذا هو مصب التحذير، لأن الشارع لا يحذر من كل محدث بإطلاق، ولهذا قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، فالمحكوم عليه بالرد هو ما كان من أمر الدين عند محدثه أو فاعله، ولهذا أضاف النبي e الأمر إلى نفسه، على غرار الإضافة في قوله عز وجل:]فليحذر الذين يخالفون عن امره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم[.وقد تكلف من ذهب إلى أن الضمير في قوله تعالى :]عن امره[؛ يرجع إليه سبحانه، ثم ادعى أن الأمر هاهنا هو ما دل عليه النهي في قوله تعالى:]لا تجعلوا دعاء الرسول[، لكون النهي عن الشيء أمرا بضده !!.، والصواب أن هذا الأمر ليس هو طلب الفعل، بل هو أعم منه، وأن الضمير راجع إلى الرسولe لأن السياق في استئذانه، والنهي عن جعل دعائه كدعاء غيره .-وقوله: "فإن شر الأمور محدثاتها"؛ تنفير من المنهي عنه ببيان ضرره، وهو كون المحدثات شر الأمور، فهي لهذا جديرة بالاجتناب، وكون المحدثات شر الأمور؛ قد يعلمه الشخص وقد لا يعلمه، بل قد يرى أن الخير فيها، إذ كثيرا ما تأتي السنن على خلاف الرأي كما جاء في الأثر، وقد قال عبد الله بن عمر لرجل سأله عن الحجر : "رأيت رسول الله e يستلمه ويقبله"، فقال الرجل: "أرأيت إن زحمت؟، أرأيت إن غلبت؟، فقال له ابن عمر" :دع أرأيت باليمن"[1]، وكأنه فهم منه معارضة السنة بالرأي، وإلا فإن السؤال مشروع .فمن رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن وفر عليهم النصب في البحث عن مضار كل شيء ومنافعه، حتى يمكنهم أن يقرروا بعد ذلك فعله، أو الكف عنه، إذ أن كل ما أوجبه أو ندب إليه أو أباحه، هو خير، ونافع غير ضار، وكل ما حرمه أو كرهه، هو شر، ضار غير نافع .وكثير من الأوامر والنواهي لا يقترن بها بيان المصلحة، ولا بيان المفسدة، اكتفاء بالتسليم الذي هو أساس الدين، فإن قدم الإسلام لا تقوم إلا عليه، وطاعة الله ورسوله واجبة، علم المسلم المصلحة فيما شرع له أو جهلها، لكن لما كان مقام الابتداع فيه اشتباه، كان التنصيص على أن شر الأمور محدثاتها، والمقصود أن المحدث في الدين لا خير فيه، ولا مصلحة، مهما كان . -وقوله: "وشر الأمور محدثاتها "، إنما كانت كذلك، لأن فيها افتياتا على كمال العلم، وهو القرآن، وعلى كمال العمل، وهو السنة، والافتيات لا يكون إلا مع شائبة التشريع وهو الابتداع . والأمور شاملة لكل ما خولف فيه الحق، لكن عموم الأمور هاهنا عموم نوعي لا جنسي، فهو نظير ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبيe كان يعلمهم الاستخارة في الأمور كلها، فإن الاستخارة إنما تكون في المباحات، أما الواجبات والمحرمات والمكروهات والمندوبات فقد اختار لنا ربنا فيها فأمرنا ونهانا . ومخالفة الحق إما أن تكون بترك المأمور، أو فعل المحظور، وإما أن تكون بإحداث ما لم يشرعه الله ورسوله، وغير سائغ حمل قولهe: "وشر الأمور محدثاتها"؛ على ما كان من البدع المنهي عنها بخصوصها، قال الإمام ابن تيمية: "هذا تعطيل للنصوص، من نوع التحريف والإلحاد، ليس من نوع التأويل السائغ،،،"[2]، وقد رد ـ رحمه الله ـ ذلك الحمل من خمسة وجوه، فانظرها، ومن ثم يكون فيه دلالة على أن البدع شر من المعاصي الخالصة، لعدة اعتبارات:ـ أولها باعتبار ما فيها من جراءة على اقتحام حمى التشريع، وهو عبادة الله تعالى بما لم يأذن به .ـ وثانيها لكونها تتضمن القول على الله بغير علم .ـ وثالثها لأن مرتكب المعصية أقرب إلى التوبة من مجترح البدعة، إذ يندر أن يتوب المبتدع كما يشهد به الواقع، وتدل عليه الآثار[3] .ـ وقوله: "وكل محدثة بدعة"؛ تعريف جامع مانع للبدعة، وهو صالح لأن يشمل البدعة اللغوية، والبدعة في الشرع، ومعلوم أن البدعة اللغوية أعم من الشرعية، لكن لما كان الشارع إنما يهتم ببيان الحقائق الشرعية، اعتبر هذا حكما منه على المحدثات في الدين لا غير .ولما أخبر عن المحدثة بالبدعة وكان معناهما متقاربا، احتاجت هذه الجملة إلى مزيد بيان، فاعتبرت تمهيدا لذكر الكلية التي بعدها، إذ أنها هي المقصودة، ولذلك والله أعلم استغنى عن هذا التمهيد في رواية جابر عند مسلم، إذ بعد التحذير قال: "فإن كل بدعة ضلالة"، وكذلك في بعض روايات حديث العرباض عند ابن أبي عاصم .وفي رواية أخرى لابن أبي عاصم استغني عن وصف المحدثة بالبدعة، فبعد التحذير قال: "فإن كل محدثة ضلالة".فهذا تعريف للبدعة لا يحتاج معه إلى غيره، فإن المعرفين منهم من توسع في التعريف حتى جعله شاملا للعادات فأفرط، ومنهم من قصره على العبادات ففرط، والحديث صالح لأن يشمل ما أحدث من العبادات، وما قصد به التعبد من العادات .وقد أحسن الشاطبي ـرحمه الله-في تعريفه الثاني لها بقوله: "البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية"[4] . -وفي قوله: "وكل بدعة ضلالة"؛ حكم عام على البدع بأنها ضلالات، بحيث لا يستثنى منها شيء، فإن لفظ(كل)أعلى ألفاظ العموم، قال القاضي عبد الوهاب من المالكية: "ليس في كلام العرب بعد(كل)كلمة أعم منها"[5] .-ويدل قوله: "وكل بدعة ضلالة"، على اشتراك البدع في وصف الضلال وهو ضد الهدى، فإن أمور الدين إذا لم تكن سننا فإنها تكون بدعا، لكن البدع وإن اشتركت في هذا الوصف، فإنها متفاوتة الضرر، لتفاوتها فيما يترتب عليها من أثر :ـ فمنها ما هو في العقائد .ـ ومنها ما هو في الأقوال .ـ ومنها ما هو في الأفعال .وتفاوت تأثير هذه االأنواع معروف .ـ ومنها البدع الحقيقية .ـ ومنها البدع الإضافية، والشبهة فيها أعظم، والفتنة فيها أشد . ـ ومنها ما هو جزئي .ـ ومنها ما هو كلي، لكونه أساسا لمجموعة من البدع تولدت عنه. لكن وصف الضلال يشملها على تفاوتها، كما قال تعالى:]فما ذا بعد الحق إلا الضلال[. ـ وقوله: "وكل ضلالة في النار"؛ يفيد أن البدعة في النار، وقد جعلها خاتمة مطاف هذه السلسة من الكليات، وإذا كانت الضلالة وهي مجرد وصف يتلبس به فاعله في النار، فكيف بمحدث الضلالة والداعي إليها والعامل على وفقها ؟.ولعله لم يقل الضالون في النار في هذا المقام، لأن المرء قد يضل عن الحق في مسألة أو جملة مسائل، ولا يكون ذلك مستوجبا دخوله النار، إذا كان مراده اتباع الحق، ولم يتمكن من العلم به .وفي مقابل ذلك قد يبتدع الشخص بدعة واحدة، أو يعملها مصرا عليها فيختلف عن السابق .والمقصود أن هذه الكلية فيها تنفير شديد من الابتداع ببيان أن البدع في النار، فالمبتدعة وأهل الأهواء كذلك من باب أولى، وقد سبق قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حديث الفرق ـ "كلها في النار إلا واحدة: ما أنا عليه وأصحابي"، وما من فرقة خالفت هديه وهدي أصحابه إلا وفيها ابتداع قل أو كثر . ومما يشاكل هذا قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ"ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار"[6]، فإنه إذا كان الثوب المتجاوز به الحد المشروع في النار، فكيف بلابسه؟، ولا مانع أن يكون كل ما ليس بحق من الصفات وغيرها مما يرمى في النار، لكونه خبيثا، وإن كان المراد ملابس الصفة أو فاعل الفعل، وقد قال تعالى: "ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم". ـ إن هذه الكلية كان رسول اللهe يضمنها مفتتح خطبه، كما يشعر به لفظ "كان" في حديث جابر، ويكررها بعمومها، ولم يلحق بها استثناء، مما يقطع معه أن عمومها محفوظ غير مخصوص، وقد أشار إلى ذلك الشاطبي، حيث قال: "قد تقرر في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية، أو دليل شرعي كلي، إذا تكررت في مواضع كثيرة، وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فرعية، ولم يقترن بها تقييد، ولا تخصيص، مع إعادة تكررها، وإعادة تقررها؛ فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم"[7] .- وزيادة على كونه e كان يضمن تلك الكلية خطبه؛ فإنه كان يذكرها في المواعظ غير الخطب، ومن الأدلة على ذلك حديث العرباض بن سارية الذي فيه: "وعظنا رسول اللهe موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون "، وفيه قوله-عليه الصلاة والسلام-: فإن كل بدعة ضلالة ".- ومما يلاحظ أن الأسلوب في الحديث لم يجر على نسق واحد، كأن يقول: "كل كلام فكلام الله أحسن منه، وكل هدي فهدي محمد e خير منه…الخ، بل إنه لما كان في المقام الذي لا يختلف المسلمون فيه سنيهم وبدعيهم، من حيث المبدأ كما يقال، وإن دلت أعمالهم على مخالفة المبدإ، لما كان في هذا الموقف، اكتفى بصيغة التفضيل، مع أنه لا مجال للمقارنة بين كلام الله تعالى وكلام غيره، ولا بين هدي رسول اللهeوهدي غيره، فلما أتى الموضع الذي فيه الاشتباه غير الأسلوب، واستعمل أقصى ألفاظ العموم عند العرب، وكرره ثلاث مرات:ـ في التعريف بالمحدثات: "كل محدثة بدعة". ـ وفي الحكم عليها بالضلال: "كل بدعة ضلالة".ـ وأخيرا ببيان أنها في النار: "كل ضلالة في النار".كل هذا إمعانا في البلاغ، وتوكيدا للبيان، والله المستعان. ومع كل هذا الذي رأيت؛ فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن عموم الحديث غير محفوظ، بل هو مخصوص، قال النووي -رحمه الله - إن قوله -عليه السلام-: "وشر الأمور…المراد من شر الأمور، وإلا فبعض الأمور السابقة(يقصد السابقة على الإسلام)شرمن كثير من المحدثات"[8]، وقد تابع النووي على هذا بعض الناس، وليس بمستقيم، ومرادهم بذلك أن الشرك مثلا شر المحدثات، وإحداثه سابق على زمن الخطاب بهذا الحديث فلا ينتهض القول بعمومه .والجواب أن النبيeوإن كان هنا يحذر أمته مغبة الوقوع في البدع مستقبلا، فليس ذلك بمانع أن يكون حكمه على المحدثات بأنها شر الأمور متناولا للماضي أيضا، والمسلمين إذا فعلوا من البدع ما تقدمهم الناس إليه، فليس ذلك بمخرج أعمالهم عن الابتداع، والشرك من جملة ما أحدث بلا ريب، فإن الله تعالى فطر عباده على الحق وخلقهم حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: "كل مولود يولد على الفطرة[9]…الحديث، فتبين أن هذا العموم ليس بمخصوص.وقال النووي - رحمه الله- أيضا: "وكل بدعة ضلالة"، هذا عام مخصوص، والمراد غالب البدع، قال أهل اللغة:هي كل شيء عمل على غير مثال سابق، قال العلماء:البدعة خمسة أقسام، وذكر أمثلة للبدعة المندوبة والمباحة، وأيد ما ذهب إليه بقول عمر السابق: "نعم البدعة هذه"، كما أيد إمكانية دخول التخصيص للحديث مع وروده بلفظ كل، بقوله تعالى: ]تدمر كل شيء[،يعني مع أن تلك الريح لم تدمر كل شيء[10] .والإمام النووي ليس الوحيد الذي قال بانقسام البدع خمسة أقسام، فقد نحا هذا النحو من قبله سلطان العلماء العز بن عبد السلام، كما هو مذكور في كتابه القيم قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وذهب إلى ذلك أيضا الحافظ ابن حجر و السيوطي، ونقل عن الشافعي ـ رحمه الله ـأنه قال: "البدعة بدعتان: فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم"[11]، فاشترط موافقة السنة، فإما أنه يقصد البدعة التي هي أعم من الشرعية، ومع هذا لا إشكال، وإلا فالنزاع في الموافقة والمخالفة للسنة . وعلماء المسلمين ينبغي أن يعرف لهم قدرهم، لكن ليس من اللازم متابعتهم في كل ما ذهبوا إليه، لمن تبين له الحق في خلاف ما ذهبوا إليه .ومعظم الاختلاف إنما يرجع إلى كيفية تصنيف بعض الأعمال بعد الاتفاق على مشروعيتها، فالقائلون بتلك الأقسام يرون أن تلك الأعمال من البدع االحسنة، ولعلهم غلبوا وصف الجدة، والفريق الآخر يرى أنها ليست من البدع في شيء، لوجود الدليل عليها، وهذا هو الصواب، على أن الاختلاف واقع بين الفريقين في مشروعية بعض الأعمال أيضا .فمثلا تصنيف كتب العلم-وهو المثال الذي ذكره النووي للبدعة المستحبة -ليس منها في شيء، بل إنه إما من الوسائل والمقدمات، فيعطى حكم المقاصد و الغايات، ولعدم الدليل على المنع منه كما تقدم، ولا يختلف الأمر فيما ذكره العز مثالا للبدعة الواجبة، وهو تصنيف كتب النحو، ومن العجب أن يقول مع اعتباره إياه بدعة واجبة: "إنه من مقدمة الواجب"، وأعجب منه أن يذكر الاجتماع على صلاة التراويح مثالا للبدعة المستحبة، وقد تقدم توضيحه، وذكر مثالا للبدعة المباحة المصافحة عقب الصبح والعصر، ولا يخفى بعده، وكذلك التبسط في أنواع الأطعمة، فإنه ليس بدعة مباحة، إذ أن هذا كان موجودا في العهد الأول، وكل زمن يكون التبسط فيه بحسبه، وقد قال الله تعالى: ]قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق[، ولعموم قوله تعالى: ]وكلوا واشربوا ولا تسرفوا[.قال ابن كثير: "وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن كثير من طيبات المآكل والمشارب، وتنزه عنها ويقول: "إني أخاف أن أكون كالذين قال الله وبخهم وقرعهم: ]أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها[ [12].وربما اعتبر قول عمر هذا دليلا للمخالف لكونه لم يفعل ذلك،ولكنه من جهة أخرى يدل على أن تلك الأمور كانت معروفة عندهم .أما قول عمر-رضي الله عنه-عن صلاة التراويح؛ فقد تبين لنا من قبل وجه وصف ما قـام به من جمع الناس على قارئ واحد بالبدعة،ونحن نقبل من كل أحد أن يقول عن أي سنة تركها النبيeلمانع،كما سبق بيانه،أو تناساها الناس فلم يعملوا بها،ثم أحيا العمل بها أحدهم،أن يقول عنها:نعم البدعة هذه، فتعليق عمر-رضي الله عنه-إنما كان على شيء مسنون بلا خلاف،فكيف يستدل به على ما فيه شبه اختلاف؟ .أما قول الله تبارك وتعالى:] تدمر كل شيء بأمر ربها [فلا حجة فيه على ما قاله االنووي، فإن الريح صالحة لتدمير كل شيء، لكن الله تعالى إنما أذن لها في تدمير ما شاء تدميره، وقد روي عن ابن عباس قوله:"تدمر كل شيء بعثت له"،فيظهر مـن قوله هذا أنه قيد"كل شيء"بشبه الجملة بعده، وهو قوله تعالى:]بأمر ربها[، فإنه وإن كان حالا من فاعل تدمر، إلا أنه في معنى تدمر كل شيء مأذون لها بتدميره، ولأن الخلاف ليس في جواز تخصيص لفظ"كل"، بل في وجود المخصص، وهو في الآية قد ظهر،فأين هو في الحديث؟ .فالحاصل أن الأمور التي استدل بها النووي وغيره على تقسيم البدع إلى حسنة وسيئة إما أنها لا يصدق عليها وصف البدعة، وإما أنها مما دل الدليل على مشروعيته بالنص أو الإجماع، كما هو الشأن في جمع المصحف، فلا تصلح لتخصيص تلك الكلية . فإن قيل: إن المخصص هو قول رسول اللهe: "من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء" الحديث[13]، وقد نص النووي أيضا على أنه مخصص لتلك الكلية، قلت: لا والله، ما هذا بصالح للتخصيص، وإليك بعض ما تطمئن إليه نفسك : - إن حديث السن وارد على سبب، ومعرفة سبب الورود بمثابة معرفة سبب النزول في الإعانة على فهم المراد من النصوص، وخلاصته أن جماعة فقراء وفدوا على النبي e وهو جالس مع أصحابه، فلما رأى ما بهم من فاقة تمعر وجهه، فأمر بلالا فأذن، ثم أقام فصلى، ثم خطب فقال: ]يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة[الآية، ثم قرأ الآية التي في سورة الحشر:]يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد[ الآية، وقال: "تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، قال الراوي: فجاء رجل من الأنصار بصرة حتى كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه النبيe يتهلل كأنه مذهبة، ثم ذكر الحديث[14] .وليس معنى الإشارة إلى سبب ورود الحديث القول بقصـر النص عليه، فإن العبرة بعموم لفظه كما عليه جمهور أهل العلم، وإنما المقصود أن يقال به في كل ما شابه السبب، مما هو مشروع بالدليل بشخصه ووصفــه إن كان من العبادات، فإن كان من غيرها فالأمر قد يختلف، فكل من أحيا سنة بالدعوة إليها، أو بفعلها، بأن كانت منسية أو مجهولة، أو مخالفة، بحلول البدعة محلها؛ صدق عليه الحديث، فهو نظير قولهe: "من دل على خير؛ فله مثل أجر فاعله"، فالمقصود الأول بالحديث التنويه بعظم أجر البادئ بالخير المشروع فعله وهذا الذي قلته، هو ما قرره النووي نفسه -رحمه الله –حيث قال: "فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: "فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها، فتتابع الناس، وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان"، لكنه أضاف: "وفيه تخصيص قولهe: "كل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة"، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة"[15] .قلت الذي لا ريب فيه أن حديث"السن"؛ هو المقيد أو المخصوص بتلك الكلية: "وكل بدعة ضلالة"، وقد تبين لنا أن عمومها محفوظ، وإن شئت قلت إن هذا الحديث غير ممكن شرعا أن يراد به العموم فيمن يسن، ولا الإطلاق فيما يسن، وهذا بالضرورة الشرعية التي لا يماري فيها مسلم، وإليك البيان: - أما أنه ليس على عمومه فيمن يسن؛ فلأنه لكي يقبل من الشخص أن يسن؛ ينبغي أن يكون عالما بما يسنه، عارفا بالمجال الذي يتأتى فيه السن، فعلم من هذا أن ليس المراد منه العموم، فيقصر مثلا على العلماء، وكل مسلم عالم بما هو ضروي من الدين، وكثير منهم يعلم المشهورات غير الضرورية، وفي الدين أمور خفية لا يعلمها إلا القليل، ولا أظن الذين جعلوا البدع أقساما ينازعون في هذا، ناهيك عن غيرهم، وهو أمر برهاني لا مناص من إقرار المخالف به.فإن قيل: يسن وهو غير عالم بمشروعية ما سنه، ثم يتبين أنه قد وافق الحق فيؤجر هو ويؤجر من عمل بما سنه؛ فالجواب أنه يكون ملوما ولو أصاب الحق، لا مأجورا، لاقتفائه ما لا علم له به، فأنى يكون له أجر السن وأجر العامل به؟، قال تعالى: ]ولا تقف ما ليس لك به علم[، هذا إذا افترضنا أنه أصاب الحق فكيف إذا لم يصبه ؟. وأما أنه ليس على إطلاقه فيما يسن؛ فهذا مجمع عليه بين المسلمين، ولأن السنة في الحديث مقيدة بكونها حسنة، ومن أين يعلم كونها كذلك؟، فاستيقنا أن "من" لا يراد بها العموم .فإن قيل: يعرف الحسن بالعقل؛ فالجواب أن العقل يمكن أن يدرك ما يلائم الطبع وما لا يلائم، فيحسن ويقبح، لكنه لا يقضي بترتب الثواب على فعل يزعم أنه حسن، والعقاب على فعل يزعم أنه قبيح بمجرد العقل، وكلامنا فيما هذا شأنه، والحديث رتب على سن تلك الحسنة الأجر .لا مناص للمخـالف إذا لم يقل بما قلنا أن يفتح الباب أمام التحسين والتقبيح العقليين في الدين، في العبادات والمعاملات على السواء، فإن الحدود بينهما تضيق أحيانا، وقد انفتح بسبب تلك الأقوال وغيرها خرق عظيم في الدين بالفعل، والمقصود إثبات أن عموم هذا الحديث غير محفوظ بالاتفاق، بخلاف تلك الكلية، فإن عمومها محفوظ، أو هو محل نزاع، وما كان موضع اتفاق مقدم على غيره . وإذا لم يقبل المخالفون بالجمع بين الحديثين، بل بين تلك القاعدة وبين حديث السن على النحو الذي ذكرته كما هو الحق، فإن الملاذ حينئذ التحاكم إلى الترجيح لعدم معرفة التأريخ، بل لو عرف، لما كان للقول بالنسخ سبيل، لتكرار الدليل المانع كما تقدم، ولأنهما خبران، والنزاع في نسخ الأخبار معروف، وإذا بلغ الأمر هذه المرحلة؛ فإن الكلية المذكورة هي الراجحة بالمرجحات الآتية :- كون عمومها محفوظا كما تبين، أما عموم معارضها فمخصوص بالإجماع، فيمن يسن وفيما يسن، والعموم المحفوظ مقدم على العموم المخصوص .- كونها ليست واردة على سبب، ومعارضها وارد على سبب، وغير الوارد على سبب أوغل في الشمول، فيقدم على معارضه الوارد على سبب، حتى قال بعض العلماء إن الوارد على سبب يقصر عليه، ونظيره إنما يلحق به بالقياس .- كون تلك الكلية مانعة، ومقابلها مجيز، والدليل الحاظر مقدم على الدليل المبيح، فإن درء المفاسد مقدم على جلب للمصالح .- كون الأصل في العبادات المنع، وتلك الكلية على وفق المنع، والمقابل على خلافه، ومعظم النزاع الواقع في المحدثات مقصور على ما يقصد به التعبد .- كون الترك من غير زهد في المتروك؛ أيسر من فعل ما ينبغي أن يترك، لأن سبيل الأول ترك الأوامر، وسبيل فعل المتروك فعل النواهي، ونحن مأمورون أن نأتي من الأوامر ما استطعنا، وأن نجتنب النواهي دون قيد، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم"[16].وسبحانك اللهم و بحمدك،أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك،والحمد لله رب العالمين. / وكتبه بن حنفية العابدين[h=6] بن محي الدين[/h][h=6] عفا الله عنه[/h] طبع الكتاب على يد دار الإمام مالك بالجزائر سنة 1421هـ / 2000م [h=6] [/h]
[h=6] الفهرس [/h][h=6]المقدمة 01[/h][h=6]المقصود بالسنة التركية 10 [/h][h=6]حجية السنة التركية 12 [/h][h=6]أقسام تروك النبي e 20 [/h][h=6]علاقة الفعل والترك بالمقتضي والمانع 43 [/h]1 – وجود المقتضي وانتفاء المانع 44
2 – وجود المقتض والمانع معا 54
[h=6]حكم الفعل الذي زال مقتضيه 60[/h]ضايط ما تركه النبيe إشفاقا على الأمة 64
3 – الفعل الذي لم يوجد مقتضيه 69
كل بدعة ضلالة 76
شرح حديث التحذير من المحدثات 79
أحسن الكلام وأحسن الهدي 79
البدع شر من المعاصي 84
تفاوت البدع في الضرر 88
عموم كل بدعة ضلالة لا مخصص له 90
[h=6] [/h][h=6] [/h][h=6] [/h][h=6] [/h][h=6] [/h][h=6] [/h]

[1] البخاري:كتاب الحج،باب تقبيل الحجر .

[2] اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم:273.

[3] إن الله حجز ـ أو قال حجب ـ التوبة عن كل صاحب بدعة"،كتاب السنة لابن أبي عاصم، النص/37 .

[4] الاعتصام 1/28 .

[5] إرشاد الفحول للشوكاني،العموم،المسألة السادسة،الفرع الثالث .

[6] رواه البخاري عن أبي هريرة في كتاب اللباس،باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار .

[7] الاعتصام 1/141.

[8] شرح النووي على صحيح مسلم

http://www.feqhweb.com/vb/#_ftnref9 [9] متفق عليه من حديث أبي هريرة،البخاري في كتاب الجنائز،ومسلم في كتاب القدر

[10] شرح صحيح مسلم6/154

[11] فتح الباري:13/213 .

[12] تفسير القرآن العظيم 6/285،286،وانظر الدر المنثور السيوطي7/445 ـ 448

[13]رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي في كتاب الزكاة،باب الحث على الصدقة وأنواعها وأنها حجاب من النار"‏.

[14] الفاقة الحاجة الشديدة،الكوم(بفتح الكاف) أصله من الارتفاع،والمراد شيء كثير من الثياب والطعام،يتهلل:يستنير،مذهبة:مموهة بالذهب .

[15] شرح صحيح مسلم7/104.

[16] رواه الشيخان من حديث أبي هريرة .
 
أعلى