العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

قراءة النصوص ...

إنضم
1 أكتوبر 2011
المشاركات
12
الكنية
ابومالك
التخصص
التفسير والحديث
المدينة
مكة
المذهب الفقهي
حنبلي
قراءة النصوص


من أمثال العرب قولهم: ساء سمعاً فأساء إجابة.
قال المفضل: إن أول من قال ذلك سهيل بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي، وكان تزوج صفية بنت أبي جهل بن أبي هشام، فولدت له أنس بن سهيل، فخرج معه ذات يوم وقد خرج وجهه([1])، ، فوقفا بحزورة مكة. فأقبل الأخنس بن شريق الثقفي فقال: من هذا؟
قال سهيل: ابني.
فقال الأخنس : حياك الله يا بني! أين أمك؟([2])
فقال: لا والله ما أمي في البيت، انطلقت إلى أم حنظلة تطحن دقيقاً.
فقال أبوه: أساء سمعاً فأساء إجابة! فأرسلها مثلاً.
فلما رجعا قال أبوه: فضحني ابنك اليوم عند الأخنس، قال كذا وكذا فقالت الأم: إنما ابني صبي. قال سهيل: أشبه امرؤ بعض بزه. فأرسلها مثلاً([3]).
ومن هذا الباب نقول : أساء قراءة فأساء فهماً فأساء تعليقا!
من المشاكل التي تواجه المشتغلين بتحقيق النصوص التراثية، مشكلة : قراءة النص!
اجتمعت مرّة مع بعض المشتغلين بتحقيق التراث فقال: لقد وقفنا عند رسالة كأنها مقامة أدبية، لم نحسن قراءاتها، فطلبنا العون من بعض المشتغلين في الأدب، فلم يسعفنا بشيء، فاضطررنا إلى إخراج الرسالة مصورة عن المخطوط كما هي!
وإذا كان هذا الأخ تورع ولم يهجم على نص الرسالة، ويخرجه كيفما كان، ورأى السلامة في تصوير صفحات هذه الرسالة كما هي ونشرها، لعلها تقع بين يدي من يحسن قراءتها فيساعد في إخراجها؛ فإنه قد يوجد أناس يخربون النصوص و لا يحققونها، ويخرقونها و لا يخرجونها، ويسمون عملهم : تحقيق.
وقراءة النص قراءة سليمة كما أراده صاحبه، هي محور عمل المحقق لنصوص التراث، و لا أبالغ إذا قلت : وكل متعامل مع التراث .
والمحقق إذا لم يحسن قراءة النص، لم يحسن فهمه وبالتالي لم يحسن خدمته بما يساعد القارئ على فهمه.
ومعلوم أن علامات الترقيم وظيفتها جعل الكلام المكتوب كالمسموع، في ضبط معانيه، فعلامة الاستفهام وعلامة التعجب، والجملة المعترضة، والنقطة والفاصلة، و الفاصلة المنقوطة، كل علامة لها دلالتها في إكساب الكلام المكتوب معاني الكلام المسموع!
فإذا لم يحسن من يريد إخراج النص قراءته فإنه سيضع علامات الترقيم في غير محلها، فتضطرب دلالة النص، فيفهم على غير وجهه الذي أراده صاحبه.
وأذكر أنني قرأت مرة في ذيل طبقات الحنابلة: "قال شيخنا أبو عبدالله بن القيم: حدثني أخو شيخنا عبد الرحمن بن عبد الحليم ابن تيمية - قلت: وقد أجازني عبد الرحمن هذا عن أبيه- قال: كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب، وارفع صوتك حتى أسمع.
قلت: يشير بذلك إلى قوة حرصه على العلم وحصوله، وحفظه لأوقاته"اهـ([4]).
وتكرر هذا الخطأ في قراءة النص في الطبعة المحققة حديثاً، لكتاب ذيل طبقات الحنابلة، وهذه صورة النص فيها:
"قال شيخنا أبو عبد الله بن القيم: حدثني - أخو شيخنا - عبد الرحمن بن عبد الحليم ابن تيمية - قلت: وقد أجازني عبد الرحمن هذا عن أبيه - قال: كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب، وارفع صوتك حتى أسمع.

قلت: يشير بذلك إلى قوة حرصه على العلم وحصوله، وحفظه لأوقاته"اهـ.

قلت : وقراءة القائمَيْن على طبعة ذيل طبقات الحنابلة في الطبعتين لهذا المقطع غير صحيحة، يدل على ذلك أنهما جعلا عبارة (عن أبيه) من مقول ابن رجب في الجملة الاعتراضية التي جعلاها بين شرطتين، فصار الكلام بعده من مقول عبدالرحمن بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، وهنا مشكلات :
الأولى : عبدالرحمن هذا يذكر القصة عن جده، فهي مذكورة في ترجمة عبدالسلام ابن تيمية.
الثانية : قراءة هذا النص فيها أن الذي كان يقرأ ويرفع صوته، هو عبدالرحمن!
ووجه الإشكال أن عبدالرحمن لم يولد إلا بعد وفاة جده بسنوات، فإن وفاة جده كانت سنة 652هـ، وولادة عبدالرحمن حفيده إنما كانت عام 663هـ، فكيف يحكي قصة له مع جده المجد؟!
ويزول الإشكال بالقراءة الصحيحة للنص، فتكون الجملة المعترضة هكذا: "- قلت: وقد أجازني عبد الرحمن هذا – "، ويكون قوله: "عن أبيه" من تمام مقول ابن القيم رحمه الله، فهو الذي يقول: حدثني عبدالرحمن بن عبدالحليم ابن تيمية عن أبيه، أن جده كان إذا دخل الخلاء ...". فقوله: "عن ابيه" متعلقة بحدثني من قول ابن القيم، لا بـ "قد أجازني" من مقول ابن رجب!
وصاحب القصة هو عبدالحليم بن عبدالسلام ولد عام 627هـ، أدرك من حياة أبيه خمساً وعشرين سنة.
فأنت ترى كيف أن قراءة النص بطريقة غير صحيحة جعلت المقطع مشكلاً !
وجاء في كتاب "أخلاق النبي ﷺ" للحافظ أبي جعفر بن حيّان الأصبهاني (ت369هـ) رحمه الله([5])، حديث فيه: "كان سيف رسول الله ﷺ حنفيا".
فعلق المحقق على عبارة: "حنفيا" بقوله: "نسبة إلى الإمام أبي حنيفة النعمان"!
وفي أحد شروح كتاب التوحيد باب ما جاء في النشرة، ذكر الشارح أن مما جاء في صفة النشرة الجائزة ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم تصب على رأس المسحور الآية التي في يونس: ﴿فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر أن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين﴾ إلى قوله: ﴿ولو كره المجرمون﴾.
وقوله: ﴿فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون﴾ إلى آخر أربع آيات .
وقوله : ﴿ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾.
وقال ابن بطال : في كتاب وهب بن منبه أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله"اهـ
علق المحقق على قوله في النص السابق: "ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل": "كذا بالأصل، ولعل الصواب : "ثم يضربه بالماء والقواقل، ويقرا فيه آية الكرسي" والقواقل نباتات هندية من الأفاويه"اهـ([6]).
فهذا المعلق ساء قراءة فساء فهما فساء تعليقا!
وقد يؤثر المذهب والاعتقاد في قراءة النص على وجهه!
قال ابن قدامة رحمه الله: "وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى غَيْرِ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالسِّقَايَاتِ وَإِصْلَاحِ الطُّرُقَاتِ، وَسَدِّ الْبُثُوقِ، وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى ، وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْأَضْيَافِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْبِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ : مَا أَعْطَيْت فِي الْجُسُورِ وَالطُّرُقِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مَاضِيَةٌ([7]).
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : ﴿إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾. "وَإِنَّمَا" لِلْحَصْرِ وَالْإِثْبَاتِ ، تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ ، وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ"اهـ([8]).
قلت : هكذا استدل بعضهم([9]) بما نسب إلى أنس رضي الله عنه، والحسن رحمه الله، في هذا الأثر، فقال بمشروعية صرف الزكاة في إصلاح الجسور وتعبيد الطرق وغير ذلك من المصالح العامة التي لا علاقة لها مباشرة بالجهاد في سبيل الله.
وهذا المعنى الذي فهم من الأثر السابق فيه نظر، بيانه:
أن الصحيح في معنى الأثر: أن إعطاء المسلم زكاته للعمال الذين يوقفهم السلطان على الجسور والطرق يجزئ عنه. وقد كان الولاة يأمرون العمال على جمع الصدقة والعشارون بالوقوف على الجسور والطرق التي يمر عليها أصحاب الأموال الظاهرة ليعشروا عليهم و يأخذوا الزكاة منهم.
ويدل على ذلك أنه جاءت رواية للأثر السابق أخرجها ابن زنجوية في كتاب "الأموال"([10]) نصها: "عن أنس بن مالك والحسن قالا: ما أعطيت في الجسور والعشور فهي صدقة ماضية".
وقد بوّب أبوعبيد على الأثر: "باب ما يأخذ العاشر من صدقة المسلمين وعشور أهل الذمة والحرب"([11]) وأورد جملة من الآثار تدل على ما ذكرت.
وقال في موضع آخر: "إذا مرّ رجل مسلم بصدقته على العاشر فقبضها منه فإنها عندنا جازية عنه، لأنه من السلطان كذلك أفتت العلماء... ثم أورد بسنده الأثر السابق عن أنس بن مالك والحسن"([12]).
ومن ذلك : أن بعضهم لمّا كان مذهبه أن الرسول ﷺ رأى ربه، قرأ الحديث الوارد بنفي الرؤية بما يتفق مع ما يراه!
قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ : "سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنَ تيمية، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ" مَعْنَاهُ: كَانَ ثَمَّ نُورٌ وَحَالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ نُورٌ، فَأَنَّى أَرَاهُ ؟
قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ : أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ "هَلْ رَأَيْت رَبَّك ؟ فَقَالَ : رَأَيْت نُورًا".
وَقَدْ أُعْضِلَ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : "نُورًا إنِّي أَرَاهُ" عَلَى أَنَّهَا يَاءُ النَّسَبِ ؛ وَالْكَلِمَةُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا خَطَأٌ لَفْظًا وَمَعْنًى .
وَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُمْ هَذَا الْإِشْكَالَ وَالْخَطَأَ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ وَكَانَ قَوْلُهُ : "أَنَّى أَرَاهُ؟" كَالْإِنْكَارِ لِلرُّؤْيَةِ حَارُوا فِي الْحَدِيثِ. وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِاضْطِرَابِ لَفْظِهِ ؛ وَكُلُّ هَذَا عُدُولٌ عَنْ مُوجَبِ الدَّلِيلِ .
وَقَدْ حَكَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي فِي ( كِتَابِ الرَّدِّ) لَهُ : إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَبَعْضُهُمْ اسْتَثْنَى ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَشَيْخُنَا يَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِخِلَافِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَقُلْ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ : إنَّهُ رَآهُ ؛ وَلَمْ يَقُلْ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ. وَلَفْظُ أَحْمَد كَلَفْظِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ شَيْخُنَا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "حِجَابُهُ النُّورُ"، فَهَذَا النُّورُ هُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - النُّورُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : "رَأَيْت نُورًا"."اهـ([13]).
ومن ذلك أن بعضهم نسب إلى ابن تيمية القول بجواز سفر المرأة بدون محرم عند أمن الفتنة. وذلك أنه جاء في كتاب "الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" للبعلي (ت803هـ) قوله: "وتحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم. قال أبو العباس: وهذا متوجه في سفر كل طاعة"اهـ([14]).
ويعلق محقق الكتاب على عبارة: "مع عدم المحرم" فيقول متعقبا: "وماذا نصنع في قوله ^: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر ثلاثة أيام - وفي رواية : يوما، وفي رواية: ليلة – إلا ومعها زوجها أو ذو محرم" رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وهذا هو الذي صححه شيخ الإسلام نفسه في الفتاوى"اهـ
قلت: وما ذكره عن شيخ الإسلام في الفتاوى جاء في الاختيارات، حيث قال: "وصحح أبو العباس في الفتاوى المصرية: أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع زوج أو ذي محرم"اهـ([15]).
هكذا قرأ المحقق الفاضل وغيره هذه العبارة أعني قول ابن تيمية: "وتحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم"اهـ
وترتب على هذه القراءة ما يلي:

  • أن ابن تيمية يقول بجواز سفر المرأة بدون محرم إذا أمنت.
  • أن ابن تيمية متناقض في هذه المسألة فقد صحح في موضع آخر منع المرأة من السفر للحج إلا مع زوج أو ذي محرم.
وفي ذلك جميعه نظر؛ بيانه :
أن هذه العبارة : "وتحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم"اهـ قراءتها السابقة غير صحيحة، يوضح ذلك:
أن المرأة إذا أرادت السفر إمّا أن يوجد لها زوج أو ذو محرم أو لا يوجد.
ففي الحال الأولى لا يجوز لها السفر إلا مع زوج أو ذي محرم.
وفي الحال الثانية إذا عدمت المحرم والزوج فلم يوجد لها ذو محرم ولا زوج فإنها إذا أمنت جاز لها السفر، ومعلوم أن الضرورات تبيح المحظورات، وتقدر الضرورة بقدرها. فهذه حال غير الأولى.
فابن تيمية رحمه الله لم يقرر جواز سفر المرأة بدون محرم أو زوج مع وجودهما أو أحدهما، إنما قرر جواز سفر المرأة عند عدمهما إذا أمنت.
وبهذا لا يتعارض كلام الشيخ فهو يصحح في الحال الأولى أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع زوج أو ذي محرم.
ويجوِّز سفرها في الحال الثانية (إذا لم يوجد لها زوج أو محرم) إذا أمنت.
ومن ذلك أن بعضهم قال : "وقد قيل : إن مالكا لما صنف الموطأ قال : جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس ، لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل"اهـ([16] .
ووثق هذا بعزوه إلى الفتاوى الكبرى لابن تيمية رحمه الله، والنص موجود في المحل الذي عزاه إليه، وغليك سياقه لتتبين الخطأ الذي وقع في قراءته.
قال ابن تيمية رحمه الله: " إن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلا الله، حتى إنه لما جمع الناس العلم وبوبوه في الكتب - فصنف ابن جريج التفسير والسنن وصنف معمر أيضا وصنف مالك بن أنس وصنف حماد بن سلمة وهؤلاء من أقدم من صنف في العلم - صنفوا هذا الباب؛
فصنف حماد بن سلمة كتابه في الصفات كما صنف كتبه في سائر أبواب العلم، - وقد قيل : إن مالكا إنما صنف الموطأ تبعا له - وقال : "جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس"، لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل، حتى إنه لما صنف الكتب الجامعة صنف العلماء فيها كما صنف نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري كتابه في الصفات والرد على الجهمية. وصنف عبدالله بن محمد الجعفي شيخ البخاري كتابه في الصفات والرد على الجهمية. وصنف عثمان بن سعيد الدارمي كتابه في الصفات والرد على الجهمية وكتابه في النقض على المريسي. وصنف الإمام أحمد رسالته في إثبات الصفات والرد على الجهمية وأملى في أبواب ذلك حتى جمع كلامه أبو بكر الخلال في كتاب السنة. وصنف عبد العزيز الكناني صاحب الشافعي كتابه في الرد على الجهمية. ... ... ..."اهـ([17]).
أقول: وهكذا يتبين من السياق أن القائل هو حماد بن سلمة، وأن جملة : "وقد قيل : إن مالكا إنما صنف الموطأ تبعا له"، جملة اعتراضية، تنتهي عند قوله: "تبعاً له"، ويعود الكلام بعدها إلى حماد بن سلمة.
ويؤكد هذا أمور:
أولاً : أن موضوع الموطأ ليس الرد على الجهمية في باب الصفات.
ثانياً : أن قصة وضع الموطأ توطئة للناس لتعليمهم الدين، وهذا يناسب اسمه (الموطأ)، فأين هذا والرد على الجهمية وبحث موضوع صفات الله تعالى؟!
ثالثاً : أن وضع حماد لكتاب صفات الله تعالى، واشتهاره بالرد على أهل البدع، هو المناسب أن يكون القول له.
رابعاً : أن الذين ترجموا لمالك رحمه الله لم يذكروا هذه العبارة عنه، مع اهتمام المالكية منهم بمثل هذه العبارة لو كانت صدرت منه، رحم الله الجميع.
خامساً : أن لحاق الكلام ظاهر أنه عن حماد، وكذا سباقه.
* * *
هذه أمثلة توضح أهمية العناية بقراءة النصوص، وأن الخطأ في ذلك يوقع في سوء الفهم وإشكالات يمكن تجنبها بالقراءة الصحيحة.
وهذا الواقع يرشد إلى أهمية مراعاة الأمور التالية:

  • أن يتصف محقق المخطوطات بالمعرفة العلمية بموضوع النص المحقق.
  • أن يحرص المحقق على دقة المقابلة والعرض، ويكون ذلك في أوقات مختلفة ومرات متعددة، أو أن يعطي عمله لغيره يقرأه، فقد يقرأ المحقق النص بحسب ما في عقله لا كما هو.
  • أهمية التجرد في التعليق والفهم، و لا يحاول حمل النص ولي عنقه ليتفق مع ما يراه و يعتقده.
  • التأكد من فهم النص على وجهه، قبل التعليق عليه ببيان معناه .
  • اتهام النفس قبل الهجوم على كلام العلماء وحمله على غير وجهه.
هذا والله أسأل أن يوفقنا ويرزقنا الهدى والرشاد والسداد.




([1]) نبت شعر لحيته.

([2]) أين قصدك ووجهتك؟

([3]) انظر مجمع الأمثال (1/330).

([4]) ذيل طبقات الحنابلة (2/352).

([5]) بدراسة وتحقيق الدكتور السيد الجميلي، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ .

([6]) قرة عيون الموحدين (ضمن مجموعة التوحيد)/ مكتبة الرياض الحديثة، بالرياض/ ص123.

([7]) أخرجه أبوعبيد في الأموال ص685، تحت رقم (1821)، وابن زنجوية في الأموال (1217)، تحت رقم (2308).

([8]) المغني (2/667).

([9]) انظر: تعليق الشيخ خليل هراس على كتاب الأموال لأبي عبيد ص685، ورسالة إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص84.

([10]) (3/217) تحت رقم (2308).

([11]) كتاب الأموال لأبي عبيد ص640 – 649.

([12]) كتاب الأموال ص685.

([13]) نقله الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم فيما جمعه من فتاوى ابن تيمية (6/507-511).

([14]) الاختيارات الفقهية ص115.

([15]) الاختيارات ص116.

([16]) قضية المحكم والمتشابه، د. محمود بن عبد الرازق، ص40. من الشاملة.

([17]) الفتاوى الكبرى (5/15).
 
إنضم
5 مارس 2011
المشاركات
71
الكنية
أبو أويس
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
تلمسان
المذهب الفقهي
مالكي
رد: قراءة النصوص ...

ان تحقيق التراث على مراتب :
فأدناها التحقيق الفني أو المطبعي وإن شئت قل التجاري
أما التحقيق المراد هو اقتناص المسالك والمناهج من المدونات ودون ذلك خرط القتاد .....
 
إنضم
1 أكتوبر 2011
المشاركات
12
الكنية
ابومالك
التخصص
التفسير والحديث
المدينة
مكة
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: قراءة النصوص ...

في رأيي أن أحسن من حقق الكتب في هذا العصر هو الشيخ أحمد شاكر والشيخ محمود شاكر والمعلمي ...

و لا يقرب منهما و لا يساويهما سيد صقر ... نعم مقدماته رائعة .. رحم الله الجميع وأسكنهم فسيح جناته ...
ما رأيكم
 
أعلى