رد: زراعة عضو استؤصل في حدٍّ أو قَصاص
*المسألة الأولى : زرع المجني عليه عضوه
أما المسألة الأولى , وهي أن يعيد المجني عليه عضوه المقطوع إلى محلّه , فأول من سئل عنها وأفتى فيها فيما أعلم : إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى , فقد جاء في المدونة الكبرى ( قلت : - القائل سحنون – أرأيت الأذنين إذا قطعهما رجل عمداً فردها صاحبهما فبرأت فثبتتا , أو السن إذا أسقطهما الرجل عمداً , فردها صاحبها فبرأت وثبتت , أيكون القود على قاطع الأذن أو قاطع السن ؟ قال – أي القاسم - : سمعتهم يسألون مالكاً , فلم يرد عليهم فيها شيئاً . قال : وقد بلغني عن مالك أنه قال : في السنّ القود وإن ثبت , وهو رأيي , والأذن عندي مثله أن يقتص منه . والذي بلغني عن مالك في السنّ لا أدري أهو في العمد يقتص منه , أو في الخطأ أن فيه العقل ؟ إلا أن ذلك كله عندي سواء في العمد وفي الخطأ )(
[1])
ثم تتابعت فيه الروايات عن الإمام مالك وتلامذته رحمهم الله , واتفقت الروايات جميعاً على أن المجني عليه في العمد إن أعاد عضوه إلى محلّه , فلا يسقط القصاص عن الجاني , سواء كان العضو قد عاد إلى هيئته السابقة أو بقي فيه عيب , أما إذا كانت الجناية خطأ فإن قضي على الجاني بالدية , قم أعاد المجني عليه عضوه بعد القضاء , فالروايات متفقة أيضاً على أن الأرش لا يردّ . وأما إذا أعاد عضوه قبل القضاء على الجاني بالدية , ففيه ثلاث روايات . وقد فصل ابن رشد الجدّ هذه المسألة في كتابه ( البيان والتحصيل ) فقال : ( وأما الكبير تصاب سنّه فيقضي له بعقلها , ثم يردها صاحبها فثبتت . فلا اختلاف بينهم في أنه لا يرد العقل إذ لا ترجع على قوتها . هذا مذهب ابن القاسم , وقول أشهب في كتاب ابن المواز , وروايته عن مالك .
والأذن بمنزلة السنّ في ذلك , لا يرد العقل إذا ردّها بعد الحكم فتثبت واستمسكت . وإنما اختلف فيهما إذا ردّها فثبتتا . واستمسكتا , وعادتا لهيئتهما قبل الحكم على ثلاثة أقوال : أحدهما : قوله في المدونة إنه يُقتضى له بالعقل فيهما جميعاً , إن لا يمكن أن يعودا لهيئتهما أبداً , وقال : أشهب : إنه لا يقضى له فيهما بشيء إذا عادا لهيئتهما قبل الحكم . والثالث : الفرق بين السنّ والأذن , فيقضى بعقل السن وإن ثبتت , ولا يقضى له في الأذن بعقل إذا استمسكت وعادت لهيئتهما , وإن لم تعد لهيئتهما عقل له بقدر ما نقصت ... ولا اختلاف بينهم في أنه يقضى له بالقصاص فيهما , وإن عادا لهيئتهما )(
[2])
فالحاصل أن القصاص لا يسقط بالإعادة في حال من الأحوال وأما الأرش ففيه ثلاث روايات :
- لا يسقط الأرش بإعادة عضو المجني عليه .
- يسقط الأرش بذلك .
- يسقط الأرش في الأذن ولا يسقط في السنّ .
ووجه الفرق بين السنّ والأذن على هذه الرواية الثالثة ما حكاه العتبيّ في المستخرجة عن ابن القاسم برواية يحيي , قال ( وسئل – يعني ابن القاسم – عن الرجل يقطع أذن الرجل فيردّها وقد كانت اصطلمت فثبتت , أيكون لها عقلها تامّاً ؟ فقال : إذا ثبتت وعادت لهيئتها فلا عقل فيها , فإن كان في ثبوتها ضعف , فله بحساب ما يرى من نقص قوتها .
قيل له : فالسنّ تطرح , ثم يردها صاحبها فثبتت , فقال : يغرم عقلها تاماً , قيل له : فما فرق بين هذين عندك ؟ قال : لأن الأذن إنما هي بضعة , إذا قطعت ثم ردّت , استمسكت , وعادت لهيئتها , وجرى الدم والروح فيها . وإن السنّ إذا بانت من موضعها ثم ردّت لم يجر فيها دمها كما كان أبداً , ولا ترجع فيها قوتها أبداً . وإنما ردها عندي بمنزلة شيء يوضع مكان التي طرحت للجمال , وأما المنفعة فلا تعود إلى هيئتها أبداً ) .
وشرحه ابن رشد ببيان الروايات الثلاثة المذكورة(
[3]) , ولكنه لم يذكر أحد منهم وجه الفرق بين القصاص والأرش , على الروايات التي تقول بسقوط الأرش دون القصاص عن الجاني بعد إعادة المجني عليه عضوه المقطوع . والذي يظهر لي – والله أعلم – أن القصاص إنما يجب في العمد جزاءً للاعتداء القصديّ من الجاني , عملاً بقوله تعالى ( فَمَنِ اعتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم ) وقوله تعالى ( وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ ) , وإن هذا الاعتداء واقع لا يزول بإعادة المجني عليه عضوه إلى محلّه , فلا يسقط القصاص في حال من الأحوال . أما الأرش , فإنما يجب في الخطأ الذي لا يعتمد فيه الجاني اعتداءً على أحد , وليس الأرش إلا بمكافأة للضرر الحاصل من فعله , واستدراكاً لما فات المجني عليه من العضو أو المنفعة , فإن عاد العضو بمنفعته الفطرية وجماله السابق , انعدم الضرر المستوجب للأرش , فسقط الأرش .
ولكن الذي يظهر أن المختار عن المالكية عدم الفرق بين القصاص والأرش حيث لا يسقط واحد منهما , هكذا ذكره خليل في مختصره , واختاره الدردير والدسوقي وغيرهما , وعلّله الدردير بأن الموضحة إذا برئت من غير شين , فإنه لا يسقط الأرش , فكذلك الطرف إذا أعيد , فإنه لا يسقط أرشه مع كون كل منهما خطأ(
[4])
*مذهب الحنفية في المسألة :
ثم الذي ذكر هذه المسألة بعد الإمام مالك , هو الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله , فقال في كتابه ( الأصل ) ( وإذا قلع الرجل سن الرجل , فأخذ المقلوعة سنة فأثبتها في مكانها , فثبتت , وقد كان القلع خـطأ , فعلى القالع أرش السنّ كاملاً , وكذلك الأذن )(
[5])
فاختار محمد رحمه الله أن إعادة العضو لا يسقط الأرش عن الجاني . ثم أخذ عند الفقهاء الحنفية , فقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله ( وإذا قلع الرجل سنّ الرجل خطأ , فأخذ المقلوع سنه , فأثبتها مكانها فثبتت , فعلى القالع أرشها , لأنها وإن ثبتت لا تصير كما كانت , ألا ترى أنها لا تصل بعروقها ؟ ... وكذلك الأذن إذا أعادها إلى مكانها , لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه في الأصل , وإن التصقت )(
[6])
وهنا علّل السرخسي عدم سقوط الأرش بكون العضو بكون العضو لا يعود إلى حالته السابقة بعد الالتصاق , وفرّع عليه المتأخرون أن ( هذا إذا لم يعد إلى حالته الأولى بعد الثبات في المنفعة والجمال , والغالب أن لا يعود إلى تلك الحالة . وإذا تصور عود الجمال والمنفعة بالإثبات لم يكن على القالع شيء , كما لو نبتت السنّ المقطوع ) كما ذكره الزيلعي غيره عن شيخ الإسلام (
[7]) .
ولكن المسألة عن الحنفية مفروضة في جناية الخطأ , كما رأيت في عبارة الإمام محمد بن الحسن والإمام السرخسي , ولهذا اكتفوا بذكر سقوط الأرش , ولم أجد في كتب الحنفية حكم العمد , وأنه هل يسقط القصاص عندهم فيه بإعادة العضو أو لا ؟ والظاهر أنه لا يسقط وإن أعاده المجني عليه على هيئته , وذلك لما ذكرنا في الحديث عن مذهب المالكية , من أن القصاص جزاء للاعتداء القصديّ من الجاني , وهو واقع لا يزول بهذه الإعادة , فلمّا ذهب الحنفية إلى أن الأرش لا يسقط بها , فلأن لا يسقط بها القصاص أولى(
[8]) .
نعم , ذكر الحنفية أن القصاص يسقط فيما إذا نبتت سنّ المجني عليه بنفسها , ولكن لا يقاس عليه مسألة زرع العضو وإعادته ,. وذلك لأمرين , الأول : أن العضو المزروع لا يكون في قوة النابت بنفسه , والثاني : إن نبتت السنّ بنفسها ربما يدل على أن السن الأولى لم يقلعها الجاني من أصلها , فتصبر شبهة في وجوب القصاص بخلاف ما أعيد بعملية , فإنه ليس في تلك القوة , ولا يدل على أن الجاني بم يستأصله .
فالظاهر أن إعادة العضو من قبل المجني عليه لا يسقط القصاص عند الحنفية أيضاً كما لا يسقطه المالكية .
*مذهب الشافعية :
ثم تكلم في المسألة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى , فقال في كتاب الأم ( وإذا قطع الرجل أنف رجل أو أذنه أو قلع سنه فأبانه ثم إن المقطوع ذلك منه ألصقه بدمه , أو خاط الأنف أو الأذن أو ربط السنّ بذهب أو غيره , فثبت وسأل القود قله ذلك , لأنه وجب له القصاص بإبانته )(
[9]) .
وذكر النووي رحمه الله هذه المسألة في الروضة , فألحق بها مسألة الدية , فقال ( قطع أذن شخص , فألصقها المجني عليه في حرارة الدم , فالتصقت , لم يسقط القصاص ولا الدية عن الجاني , لأن الحكم يتعلق بالإبانة وقد وجدت )(
[10]) .
فاتضح بهذه النصوص أن مذهب الشافعية في هذا مثل المختار من مذهب المالكية , أن إعادة العضو المجني عليه لا يسقط القصاص ولا الأرش .
*مذهب الحنابلة :
وأما الحنابلة فلهم في هذه المسألة وجهان وقد ذكرهما القاضي أبو يعلى فقال ( إذا قطع أذن الرجل و فأبانها ثم ألصقها المجني عليه في الحال فالتصقت , فهل على الجاني القصاص أم لا ؟ قال أبوبكر في كتاب الخلاف : لا قصاص على الجاني وعليه حكومة الجراحة , فإن سقطت بعد ذلك بقرب الوقت أو بعده كان القصاص واجباً , لأن سقوطها من غير جناية عليها من جناية الأول , وعليه أن يعيد الصلاة . واحتج بأنها لو بانت لم تلتحم , فلمّا ردّها والتحمت كانت الحياة فيها موجودة , فلهذا سقط القصاص .
وعندي أن على الجاني القصاص , لأن القصاص يجب بالإبانة , وقد أبانها . ولأن القصاص الإلصاق مختلف في إقرار عليه , فلا فائدة له فيه )(
[11]) .
وكذلك ذكر ابن قدامة القولين , ولم يرجح واحداً منهما وكذلك فعل أبو إسحاق ابن مفلح(
[12]) وذكر المرداوي وشمس الدين وابن المفلح القولين , واختار قول القاضي إنه لا يسقط القصاص(
[13]) واختار البهوتي قول أبي بكر في أنه يسقط القصاص والأرش كلاهما(
[14]) .
*القول الراجح في المسألة :
والقول الراجح عندنا ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والحنفية والشافعية , وجماعة من الحنابلة أن زرع المجني عليه عضوه لا يسقط القصاص أو الأرش من الجاني , لأن القصاص جزاء للاعتداء الصادر منه , وقد حصل هذا الاعتداء بإبانة العضو , فاستحق المجني عليه القصاص في العمد والأرش في الخطأ , فلا يسقط هذا الحق بإعادة عضوه إلى محله وذلك لأمور :
- إن إعادة العضو من قبل المجني عليه علاج طبي للضرر الذي لحقه بسبب الجناية , وإنّ البرء الحاصل بالعلاج لا يمنع القصاص والأرش , كما في الموضحة , وإن عالجها المجني فبرئ فإنه لا يمنع حقه في استيفاء القصاص أو الأرش . فكذلك العضو إذا أعيد بعد الإبانة من الجاني , فإنه لا يؤثر فيما ثبت له على الجاني من قصاص أو أرش .
- إن إعادة العضو من قبل المجني عليه , وإن كان يستدرك له بعض الضرر , فإن العضو لا يعود عادة إلى ما كان عليه من المنفعة والجمال , فإسقاط القصاص أو الأرش فيه تفويت لحق المجني عليه بعد ثبوته شرعاً .
- إن القصاص أو الأرش قد ثبت بالقلع يقيناً , وذلك بالنصوص القطعية , فلا يزول هذا اليقين إلا بيقين مثله , وليس هناك نص من القرآن أو السنّة يفيد سقوط القصاص بإعادة العضو .
ولما ثبت أن إعادة المجني عليه عضوه لا يسقط القصاص عن الجاني , فلو قطع رجل عضوه المزروع مرة ثانية , هل يجب فيه القصاص مرة أخرى ؟ قد صرح أكثر الفقهاء بأنه لا يجب , وعلّله بعضهم بأن العضو المزروع لا يعود إلى هيئته الأصلية في المنفعة والجمال , فهذا الإلصاق لا يعتدّ به , فال الموصلي الحنفي رحمه الله تعالى ( والمقلوع لا ينبت ثانياً , لأنه يلتزق والعصب , فكان وجود هذا النبات وعدمه سواء , حتى لو قلعه إنسان لا شيء عليه )(
[15]) .
ومقتضاه أنه لا يجب القصاص ولا الأرش , لأنه جعل النبات وعدمه سواء , ولكن اليوم أمكن في كثير من الأعضاء المقلوعة أن تعاد فتلتزق بالعروق والعصب , فلا يتأتى فيها التعليل الذي ذكره الموصلي , فالظاهر في حكم أمثالها أن لا يوجب القصاص , لأن العضو المزروع , وإن التزق بالعروق والعصب , فإنه عضو معيب لا يكون بمثابة العضو الأصلي , فلا يقطع به العضو الصحيح في أصل خلقته . ولكن بمثابة العضو الأصلي , فلا يقطع به العضو الصحيح في أصل خلقته . ولكن يجب أن يلزم به الأرش على الجاني الثاني . وهو قول الحنابلة . قال البهوتي رحمه الله ( " وإن قلعه " أي ما قطـع ثم رد فالتحـم " قالع بعد ذلك فعليه ديته " ولا قصاص فيه , لأنه لا يقاد به الصحيح بأصل الخلقة لنقصه بالقلع الأول )(
[16]) .
*****
[1] ) المدونة الكبرى , باب ما جاء في دية العقل والسمع والأذنين 16/113
[2] ) البيان والتحصيل 61/66 , 67 كتاب الديات , راجع أيضا الحطاب 6/262 , والمواق 6/264
[3] ) البيان والتحصيل لابن رشد 61/158 , 159
[4] ) الدسوقي على الدردير 4/256 , 278
[5] ) كتاب الأصل لمحمد بن حسن الشيباني 4/467 كتاب الديات
[6] ) المبسوط للسرخسي 26/98 والمسألة مذكورة أيضا في الهداية وشروحها , راجع فتح القدير 6/227 , وبدائع الصنائع 7/315
[7] ) تبيين الحقائق للزيعلي 6/137 , والبحر الرائق 8/305 , وردّ المحتار لابن عابدين 6/585
[8] ) ردّ المحتار 6/585 , 586
[9] ) كتاب الأم للشافعي رحمه الله 6/52 , تفريع القصاص فيما دون النفس من الأطراف
[10] ) روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي 9/197 وراجع أيضا المجموع شرح المهذب 17/252
[11] ) المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى 2/267 , 268
[12] ) المغني لابن قدامة 9/422 , والشرح الكبير 9/431 , والمبدع لابن مفلح 8/309
[13] ) الإنصاف للمرداوي 10/100 و والفروع لابن مفلح 5/655
[14] ) كشاف القناع للبهوتي 5/641 , وشرح منتهى الإرادات 3/296
[15] ) الاختيار لتعليل المختار للموصلي 5/39
[16] ) شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/296