رد: قضاء الصوم عن الشخص المتوفي
وهذا تعقيبنا عليه هناك :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
على الأخ بعض الملاحظات نضعها بحسب ترتيبه هو للموضوع.
الأول : ذكر عن البغوي والعمراني أنهما نقلا الإجماع على أن من استمر به العذر حتى مات فليس عليه شيء.
أما البغوي فلم أطلع على نص كلامه الآن، أما العمراني فلم يدعي الإجماع، وعبارته : "... وبه قال عامة الفقهاء، وقال قتادة وطاووس: يُطعم عنه لكل يوم مسكين" وهذه العبارة "عامة الفقهاء" لا تعني الإجماع، كيف وقد أتبعه ذكر الخلاف عن طاوس وقتادة وبهما اعترض الأخ على الإجماع! وإنما تعنى جل العلماء أي أكثرهم حتى يكون مخالفهم شاذاً، وليس هذا كقولهم "جمهور الفقهاء" لأن هذه العبارة تعطي أنه قول الأكثرين ولو كان مخالفهم كثير. نبهت عليه حتى لا يُعْتَرضُ به.
ثانياً : قوله : " قلت: أما ابن عباس فقد رواه عنه أبو داود أنه قال: (( إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصح أطعم عنه ، ولم يكن عليه قضاء ... )) انظر سنن أبي داود (4/26) مع عون المعبود.
وجملة: (لم يصح) ليست في كل النسخ التي رويت عن أبي داود ، ولم أدر من تفرد بها من تلامذته والذي في بقية النسخ: (ولم يصم)"
أقول : إن ثبتت (لم يصح) فلا إشكال، وإن لم تثبت، فكلامه محتمل، وطاووس وقتادة كلاهما من تلاميذه، فهو مشعر بأنهما أخذا مذهبهما عنه، ولعل هذا مما يُرَجِّح عبارة (لم يصح) والله أعلم. وهذا وإن كان محتملاً ممكن الاعتراض عليه بما ذكره الأخ عن (المصنف) لعبد الرزاق، فإنه شأن المسائل الخلافية، ويكفي في ذلك الظن وهو أمر وجداني، فمن وجده في نفسه كفاه. ولله أعلم. وعبد الرزاق كان اختلط والمرادي راوي (المصنف) عنه سمع منه حال اختلاطه، وقد حاول بعضهم تصحيح روايته معتمداً على أن سماعه منه كتاب، وهذا يصح لو كان سمع منه حال شبابه بحيث يعقل التلقين والتصحيف، أما المرادي فسمع منه قبل أن يبلغ الخامسة، فلا ندري أكان يلقن عبدالرزاق في حضوره أم لا، وهل كان يدس له أم لا، وأيُّ ذلك حصل، فلا يُعْقل إدراك المرادي لشيء من ذلك حينئذٍ، فإن قيل، إنه سمع من أصل موثوق. قلنا : أصل من؟ وما الدليل؟ وحتى لو فرضنا أن الصواب "لم يصم" فيحتمل فيه أن المراد لم يصم لاستمرار عذره أو أنه لم يصم لغير عذر أو أنه أراد الإطلاق، ولا يجوز القطع بأحدها لما عُلِمَ من أن العموم من الأدلة الظنية، وهو وإن كان راجحاً مع عدم المعارض، فليس راجحاً في مسألتنا لما قدمت أن اثنين من أشهر من تتلمذ على يدي ابن عباس أفتى بالإطعام لمن أفطر لاستمرار عذره، ويغلب على الظن، على الأقل ظني، أنهما إنما أخذا ذلك منه. والله أعلم.
ثالثاً : نقل عن شيخ الإسلام قوله : "لأنه لم يجب عليه الصوم قضاء ولا أداء ، فلم تجب عليه الكفارة كالمجنون والصبي.
فإن قيل: فالمريض الذي لا يُرْجَى برؤه قد أوجبتم عليه الكفارة، وهذا أسوأ أحواله أن يكون بمنـزلته.
ثم الوجوب في الذمة لا يشترط فيه التمكن من الفعل كالصلاة والزكاة ، فإذا استقر وجوب الصلاة والزكاة أيضاً في الذمة قبل التمكن ؛ فكذلك الصوم أولى، وإذا استقر في ذمته ؛ فلا بد من الكفارة بدلاً عن ذلك الواجب.
قلنا: المريض الميؤوس منه قد عزم على الفطر في الحال والمآل ؛ ولهذا لم يجب الصوم في ذمته، ولا يجب عليه القضاء البتة، ولا بد من البدل وهو الفدية
أما المريض المرجو والمسافر فهما عازمان على القضاء بشرط القدرة ، فلا يجمع عليهما واجبان على سبيل البدل ..
وأما استقرار العبادات في الذمة قبل التمكن ، فكذلك نقول في الصوم: إنه بإدراك الشهر استقر الوجوب في ذمته، لكن هذه الواجبات في الذمة قبل التمكن معناها إيجاب القضاء عند التمكن، فأما إذا لم يتمكن من القضاء فإنه يموت غير آثم بلا تردد، كما لو حاضت في أثناء الوقت ، وماتت قبل الطهر، أو تلف النصاب قبل التمكن من الإخراج وليس له ما يخرج غيره، ومات قبل اليسار، ونحو ذلك؛ وذلك لأن تكليف ما لا يطيقه العبد الطاقة المعروفة غير واقع في الشرائع ، فالتكليف في العبادة لا بد فيه من القدرة في الحال والمآل، وأما مع انتفائهما فمحال. ا.هـ كتاب الصيام من شرح العمدة (1/452-453)."
أقول : عليه رحمه الله اعتراضات أما قوله "لم يجب عليه الصوم قضاء ولا أداء" غير مسلم لتعلق الوجوب بمجرد رؤيا الهلال، وعدم الأداء كان لمانع لا لعدم الوجوب، وقد سلم هو بذلك حين قال : " وأما استقرار العبادات في الذمة قبل التمكن ، فكذلك نقول في الصوم: إنه بإدراك الشهر استقر الوجوب في ذمته" فإذا سلم استقرار الوجوب في الذمة سقط قوله سابقاً :"لم يجب عليه الصوم قضاء ولا أداء" لأن معنى استقرار الوجوب هو حصوله لا غير. فإذا استقر الوجوب في الذمة وجب الفعل عند الاستطاعة أو عدمها عند عدم الاستطاعة.
أما اعتذاره رحمه الله بقوله : "لكن هذه الواجبات في الذمة قبل التمكن معناها إيجاب القضاء عند التمكن"
أقول : ليس كما قال : بل الواجب عند التمكن هو الفعل لا وجوب الفعل لحصوله في ذمته بمجرد شهود الشهر كما تقدم عن شيخ الإسلام نفسه، فإيجاب القضاء عند التمكن سابق للتمكن، فتحصيله حال التمكن تحصيل حاصل، وهو محال.
وتمثيله بالحائض لو ماتت في أثناء الوقت لا يصح، إذ لا يجب على الحائض أداء ولا قضاء أصلاً، وليس ثمة وجوب مستقر في الذمة لا للأداء ولا للقضاء، حتى لو لم تمت قبل الوقت وعاشت لم يجب عليها شيئ اتفاقاً، وليس كذلك المفطر لعذر مع رجاء شفائه في جميع ذلك.
أما تمثيله بمن تلف نصابه قبل تمكنه، ثم لم يملك ما يؤدي به الزكاة حتى مات، فهذا المثال محتاج إلى دليل فضلاً عن فرعه المقيس به.
وقوله أخيراً : "وذلك لأن تكليف ما لا يطيقه العبد الطاقة المعروفة غير واقع في الشرائع ، فالتكليف في العبادة لا بد فيه من القدرة في الحال والمآل، وأما مع انتفائهما فمحال"
أقول : هو كما قال : لكن لا علاقة لهذا بما نحن فيه، لأنا لم نكلف المريض الصيام حال مرضه، لا أداءً ولا قضاءً، وإنما هو كالمقترض إلى أجل، يجب عليه القضاء عند حلوله، فلو فرضناه أعسر ومات قبل اليسار لم يسقط الدين من ذمته و وجب على ورثته القضاء. وهذا المثال أولى لتشبيهه صلى الله عليه وسلم الصيام بالدين، فهو قياس على أصل.
وهنا دليل لطاووس وقتادة، لعل أخانا لم يتنبه لدلالته لهما، مع استدلاله به في المسألة التي تليها فيمن زال عذره ففرط حتى مات. وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الذي استدل له "من مات وعليه صيام يصوم عنه وليه" فهذا الحديث عام ليس فيه ذكر للمعذور والمفرط.
وكذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن أمرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها، قال: فقال: " أرأيت لو كان عليها دين أما كنت تقضينه؟ " قالت: بلى، قال : " فدين الله عز وجل أحق "
وقد استخدم الأخ هنا قاعدة : "ترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال منـزل منـزلة العموم في المقال" وهي تنبطق على هذه المسألة أكثر من انطباقها على المسألة الثانية كما سيأتي؛ إذ لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي ماتت أكان ذلك عن تفريط منها أو لعذر، وهل ماتت قبل التمكن أم بعد التمكن.
وقد يُعْتَرضُ هنا بأن حديث عائشة فيه الصيام فلماذا عدلتم عنه إلى الإطعام؟ ويجاب عن هذا أن لفظ الحديث صريح في أن من مات وعليه صيام فوليه يقضي عنه بالصوم خاصة، ونحن لا نسلم أن المريض إذا مات فعليه صوم حتى يدخل في حديث عائشة، بل الذي عليه إنما هو الإطعام فقط، فإن مات أدى عنه وليه، وإنما يكون الصيام على من مات بعد تمكنه من الصيام ولم يصم.
فإن قيل : فَلِمَ استدللتم بحديث عائشة إن كانت مسألتكم لا تدخل فيه لأنها في الإطعام وحديث عائشة في الصيام. قلنا : أردنا الاستدلال به على أن البدل سواءً كان القضاء أو الكفارة ينتقل من ذمة الميت إلى ذمة وليه من دون نظر إلى حصول التمكن قبل الموت أو عدم حصوله، وهذا المقدار داخل في حديث عائشة.
أما حديث ابن عباس فليس فيه أصلاً أن الأداء يكون بالصيام. والله أعلم.
إذا تبين لك هذا لم يبقَ للجمهور ما يرجح قولهم على قول قتادة وطاووس. والله أعلم.
وهنا اعتراض على الأخ كان ينبغي تقديمه ولكني ذهلت عنه، وهو أن القسمة التي ذكرها بقوله : " شخص أفطر في رمضان لعذر ثم مات قبل أن يقضي ما أفطره ؛ فله حالتان: 1. أن يستمر به العذر حتى يموت 2. أن يزول عذره فيفرط في القضاء فيدانيه الأجل" هذه القسمة ليست حاصرة لجواز أن يزول العذر ويدانيه الأجل من غير تفريط، وذلك بأن يعتقد أن وجوب القضاء على التراخي، فيموت مع عزمه على القضاء. فهذا لا يكون مفرطاً.
وهذا ومن مات مع بقاء عذره أولى بالقضاء من المتعمد للترك المفرط في القضاء حتى مات، لأن القضاء يُناط بالعذر، ولذلك اختلفوا هل على من ترك فرضاً من الصلاة حتى زال الوقت قضاء أم لا، ولم يختلفوا أن من تركه لعذر كالنوم والنسيان أنه يقضيه. واختلفوا هل على من أفطر في نهار رمضان عمداً أو جامع فيه عامداً عارفاً بالتحريم هل عليه أن يقضي يوماً مكانه أم لا، ولم يختلفوا أن المعذور إذا زال عذره قضاه.
وقد يعترض بما ذكره الأخ من أن الصلاة والصيام عبادات لا تقبل النيابة، فكما لا تُقضى الصلاة عمن تركها معذوراً ثم مات، فكذلك لا يُقضى الصيام عمن أفطر لعذر ثم مات.
والجواب : أن هذا القياس مقابل للنص الذي هو حديث عائشة وابن عباس. ثانياً : لو سلمنا أنه لا يقبل الصيام عمن مات وعليه صيام فلا نسلم أنه لا يكفر عنه، بيانه أن الكفارة يجوز فيها الوكالة، وأن جازت فيها الوكالة جازت النيابة كالدين.
والله أعلم.
ويأتي لاحقاً إن شاء الله الكلام على المسألة الثانية .