عمرو بن الحسن المصري
:: نشيط ::
- إنضم
- 30 سبتمبر 2012
- المشاركات
- 685
- التخصص
- طالب جامعي
- المدينة
- القاهرة
- المذهب الفقهي
- حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد..
فقد جمعت في هذا الموضوع -بمُناسبة حلول موسم الحج- أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب الحج، والتزمت بعرض الخلاف الفقهي في المسائل إجمالًا ابتداءً ثم بالتفصيل بنقل بعض العبارات عن كل مذهب، وذلك بالرجوع إلى المصادر المعتمدة لكل مذهب لتوثيق حكاية المذهب؛ لأنني كثيرًا ما وقفت على تناقض في كتب الخلاف في حكاية المذهب الواحد، فعزمت على نفسي ألا أنسب قولًا لمذهب إلا بالرجوع إلى مصادره، ولم أكتفِ بذلك بل ذكرتُ من كلامهم بعض العبارات الدالة على هذا المذهب. كما التزمت غالبًا بذكر أدلة كل مذهب من خلال كتبه، مع الرجوع إلى مصدر كل حديث مذكور حفاظًا على ألفاظ الحديث النبوي؛ لأن كثيرًا من كتب الفقه تذكر الأحاديث بالمعنى، مع الالتزام بتخريج جميع الأحاديث والآثار وذكر بعض عللها وذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل في رواتها المُتكلم فيهم، مع ذكر الاعتراضات على الأدلة من أقوال أهل العلم. وعامة هذه المسائل من كتاب الحج اخترتها على وفق اختيار الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله- في كتابه "الرد على أبي حنيفة مما خالف فيه الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ضمن مصنفه، وهذا العمل نقلته من كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور/ كيلاني محمد خليفة، الصفحات (419- 430).
أولًا/ مَسْأَلَةُ إِشْعَارِ الهَدْي
يقول ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (3/ 479): إشعار البدن هو أن يشق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها ويجعل ذلك لها علامة تعرف بها أنها هدي. اهـ.(1) حدثنا وكيعٌ عن هشام الدَّسْتُوَائيِّ عن قتادة عن أبي حسَّان عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر في الأيمن وسَلَتَ الدَّمَ بيده. أخرجه مُسلم (1243).
(2) حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن عُروة عن المِسوَر بن مَخْرمة ومروان: أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحُديبية خرج في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحُليفة قلَّد الهدي وأشعر وأحرم. أخرجه البخاري (4157، 4158).
(3) حدثنا حمَّاد بن خالد عن أَفْلَحَ عن القاسم عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَشْعَر. أخرجه البخاري (1696)، ومُسلم (1321).
وذُكر أن أبا حنيفة قال: الإِشعار مُثْلَةٌ.
***
ويقول ابن منظور في لسان العرب مادة "شعر": وأشعر البدنة أعلمها، وهو أن يشق جلدها أو يطعنها في أسنمتها في أحد الجانبين بمشرط أو نحوه. وقيل: طَعَنَ في سنامها الأيمن حتى يظهر الدم ويُعرف أنها هدي، وهو الذي كان أبو حنيفة يكرهه وزعم أنها مُثلة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع. اهـ.
قال النووي في المجموع شرح المهذب (8/ 321): المراد بالإشعار هنا أن يضرب صفحة سنامها اليمنى بحديدة وهي باردة، مستقبلة القبلة فيديمها ثم يلطخها بالدم؛ لأنه ربما اختلط بغيره، فإذا أشعر وقلد تميز، وربما ندَّ فيعرف بالإشعار والتقليد فيرد، وتقليد الإبل والبقر فيكون بنعلين من هذه النعال التي تلبس في الرجلين في الإحرام، ويستحب أن يكون له قيمة ويتصدق بها بعد ذبح الهدي، وتقليد الغنم بخُرَب القِرَب -الخُرَب جمع الخُرْبَة وهي عروة المزادة (القربة) وقيل أذنها، سميت بذلك لاستدارتها-، والخيوط المفتولة ونحوها؛ لأن الغنم يثقُل عليها حمل النعال، ولا يشعرها؛ لأن الإشعار لا يظهر في الغنم لكثرة شعرها وصوفها. اهـ.
اتفق جمهور الفقهاء على استحباب إشعار الهدي، وكرهه أبو حنيفة وقال: إنه مثلة. وخالفه في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وبعض أتباع مذهبه كالكمال ابن الهمام، ووافقوا جمهور الفقهاء لثبوت أدلة الإشعار وشهرتها.
وقد كان رأي أبي حنيفة في الإشعار سببًا في حمل بعض المحدثين عليه كما سنرى، ولعل عذره في ذلك عدم بلوغه أحاديث الإشعار من طريق يثبت عنده، أو أنه كره إشعار أهل زمانه، أو كان متبعًا في ذلك لبعض شيوخه.
قال صاحب الهداية: وإن أراد المتمتع أن يسوق الهدي أحرم وساق هديه، فإن كانت بدنة قلدها بمزادة أو نعل، وأشعر البدنة عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، ولا يشعر عند أبي حنيفة رحمه الله ويُكره، والإشعار هو الإدماء بالجرح لغة وصفته أن يشق سنامها بأن يطعن في أسفل السنام من الجانب الأيمن أو الأيسر قالوا: والأشبه هو الأيسر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طعن في جانب اليسار مقصودًا، وفي جانب الأيمن اتفاقًا، ويلطخ سنامها بالدم إعلامًا، وهذا الصنيع مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما حسن، وعند الشافعي رحمه الله سنة؛ لأنه مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. ولهما أن المقصود من التقليد أن لا يهاج إذا ورد ماءً أو كلأ، أو يُرَد إذا ضلَّ، وإنه في الإشعار أتم لأنه الزم، فمن هذا الوجه يكون سنة، إلا أنه عارضه جهة كونه مثلة فقلنا بحسنه، ولأبي حنيفة أنه مُثلة وأنه منهي عنه، ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم، وإشعار النبي صلى الله عليه وسلم كان لصيانة الهدي؛ لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به. وقيل: إن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه لمبالغتهم فيه على وجه يخاف منه السِّرَاية -السِّرَاية: سرَى الجرح إلى النفس أي أثر فيها حتى هلكت، لفظة جارية على ألسنة الفقهاء إلا أن كتب اللغة لم تنطق بها. انظر: المغرب (1/ 395)، والمصباح المنبير (1/ 275)-، وقيل: إنما كره إيثاره على التقليد. اهـ. انظر: الهداية وشروحها: فتح القدير (3/ 7)، والعناية (3/ 7)، ونصب الراية (3/ 219).
وقد علَّق الكمال ابن الهمام كما في فتح القدير (3/ 8) على قوله: (ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم) قد يقال: لا تعارض فإن النهي عنه كان بإثر قصة العرنيين عقيب غزوة أحد ومعلوم أن الإشعار كان بعده، فعلم أنه إما مخصوص من نص نسخ المثلة ما كان هديًا أو أنه ليس بمثلة أصلًا، وهو الحق؛ إذ ليس كل جرح مثلة بل هو ما يكون تشويهًا؛ كقطع الأنف والأذنين وسمل العيون، فلا يقال لكل من جرح مثَّل به، والأَوْلَى ما حمل عليه الطحاوي من ان أبا حنيفة إنما كره إشعار أهل زمانه؛ لأنهم لا يهتدون إلى إحسانه، وهو شق مجرد الجلد ليُدمى؛ بل يبالغون في اللحم حتى يكثر الألم ويخاف منه السِّرَاية. اهـ.
قال مالك في المدونة (2/ 552): يقلد الهدي كله ويشعر، والبقر تقلد وتشعر إن كانت لها أسنمة، وإن لم تكن لها أسنمة فلا تشعر، والغنم لا تقلد ولا تشعر، والإشعار في الجانب الأيسر من أسنمتها. اهـ. وراجع: مختصر خليل وشروحه: مواهب الجليل (3/ 981)، والتاج والإكليل (4/ 82)، وشرح الخرشي (2/ 283).
قال الشافعي في الأم (7/ 151): وكان أبو حنيفة يقول: لا تشعر البدن. ويقول: الإشعار مُثلة. وكان ابن أبي ليلى يقول: الإشعار في السنام من الجانب الأيسر. وتشعر البدن في أسنمتها والبقر في أسنمتها أو مواضع الأسمنة، ولا تشعر الغنم، والإشعار في الصفحة اليمنى، وكذلك أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أشعر في الشق الأيمن. وبذلك تركنا قول من قال: لا يشعر إلا في الشق الأيسر. وقد روي أن عبدالله بن عمر كان لا يبالي في أي الشقين أشعر في الأيمن أو الأيسر. اهـ.
وقال النووي في المجموع شرح المذهب (8/ 322): اتفق الشافعي والأصحاب على أنه يسن لمن أهدى شيئًا من الإبل والبقر أن يشعره ويقلده، وبه قال جماهير العلماء من السلف والخلف. وهو مذهب مالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وداود. قال الخطابي: قال جميع العلماء: الإشعار سنة، ولم ينكره أحد غير أبي حنيفة. وقال أبو حنيفة: الإشعار بدعة. ونقل العبدي عنه أنه قال: هو حرام؛ لأنه تعذيب للحيوان ومُثلة، وقد نهى الشرع عنهما. واحتج أصحابنا بحديث عائشة قالت: فتلت قلائذ بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم أشعرها وقلدها.
وأما الجواب عن احتجاجهم بالنهي عن المثلة وعن تعذيب الحيوان فهو: إن ذلك عام وأحاديث الإشعار خاصة فقدمت. وأجاب الشيخ أبو حامد بجواب آخر، وهو أن النهي عن المثلة كان عام غزوة أحد سنة ثلاث من الهجرة، والإشعار كان عام الحديبية سنة ست وعام حجة الوداع سنة عشر فكان ناسخًا. والمختار هو الجواب الأول؛ لأن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع والتأويل، ولأن النهي عن المثلة باقٍ، والله أعلم. اهـ.
قال ابن قدامة في المغني (3/ 293): ويُسن إشعار الإبل والبقر، وهو أن يشق صفحة سنامها الأيمن حتى يدميها، في قول عامة أهل العلم. وقال أبو حنيفة: هذا مثلة غير جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان، ولأنه إيلام فهو كقطع عضو منه. وقال مالك: إن كانت البقرة ذات سنام فلا بأس بإشعارها وإلا فلا. ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائذ بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها. وفعله الصحابة، فيجب تقديمه على عموم ما احتجوا به، ولأنه إيلام لغرض صحيح فجاز، كالكي، والوسم -روى البخاري (1502)، ومُسلم (5680) عن أنس قال: رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم المِيسَمَ وهو يسم إبل الصدقة. أي يُعلِّم عليها بالكي. راجع: النهاية ولسان العرب مادة "وسم". وروى مسلم (5672) عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوسم في الوجه-، والفَصْد -هو شق العرق. راجع: لسان العرب مادة "فصد"-، والحجامة. والغرض أن لا تختلط بغيرها، وأن يتوقاها اللص، ولا يحصل ذلك بالتقليد؛ لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب، وقياسهم منتقض بالكي والوسم. اهـ. وراجع: إعلام الموقعين (3/ 293).
روى الترمذي في جامعه (906) عن وكيع بن الجراح قال: لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا، فإن الإشعار سنة وقولهم بدعة. وروى ابن أبي السائب قال: كنا عند وكيع فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول أبو حنيفة هو مثلة. قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مُثلة. قال: فرأيت وكيعًا غَضِب غضبًا شديدصا، وقال: أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم، ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا.
***
ثانيًا/ مَسْأَلَةُ مَلاَبِسِ الإِحْرَامِ
ثانيًا/ مَسْأَلَةُ مَلاَبِسِ الإِحْرَامِ
ذهب جمهور الفقهاء -الحنفي والمالكية والشافعية والظاهرية- إلى أن المحرم إذا لم يجد النعلين فإنه يلبس الخفين ويقطعهما أسفل من الكعبين، فإن لم يقطعهما وجبت عليه الفدية. وذهب الحنابلة إلى أنه لا يقطع الخفين ولا فدية عليه.(1) حدثنا ابنُ عيينة عن عمرٍو سَمِعَ جابرًا يقول: سمعتُ ابن عباسٍ يقولُ: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (إذا لم يجد المُحرم إزارًا فَلْيَلْبَسْ سراويل، وإذا لم يجدْ نَعلين فَلْيَلْبَسْ خُفَّين). أخرجه البخاري (1814)، ومُسلم (2851).
(2) حدَّثنا الفضْلُ بن دُكَيْنٍ عن زُهيرٍ عن أبي الزُّبيرِ عن جابرٍ قالَ: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: (من لم يجد نعلين فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنٍ، ومَن لم يجد إزارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ). أخرجه مسلم (2854).
(3) حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ عن أيوبَ عن نافعٍ عن ابن عمرَ قال: قال رجل: يا رسول اللهِ ما يَلْبَسُ المُحْرِمُ أو ما يَتْرُكُ المحرم؟ قال: (لا يلبس القميص ولا السَّراويلَ ولا العِمَامَةَ ولا الخُفَّينِ إلا أن لا يجد نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْهُمَا أسفل من الكَعْبَيْنِ). أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (2848) ولفظه عند البخاري (5913)، ومسلم (2850): (من لم يجد نعلين فَلْيَلْبَسْ خُفين ولقْطَعْهًما أسفل من الكعبين).
وذُكر أن أبَا حَنيفة قالَ: لا يَفعلُ؛ فإن فَعَلَ فعليهِ دمٌ.
***
ومن لم يجد الإزار يجوز له أن يلبس السراويل إلى أن يجد ما يتزر به، ولا فدية عليه عند الشافعية والحنابلة والظاهرية. وقال الحنفية: إذا لبس السراويل يومًا كاملًا فعليه الدم وإن لبس أقل من يوم لا دم عليه وعليه الصدقة. وعند المالكية قولان: قول بجواز لبس السراويل إذا عدم الإزار ويفتدي. وقول: لا يجوز ولو عدم الإزار، وهو المعتمد.
ولاخلاف في الخفين والسراويل مبنيٌّ على فهم حديث ابن عباس وجابر من جهة وحديث ابن عمر من جهة أخرى والتوفيق بينهما.
فحديث ابن عباس وجابر يدل على أن المحرم إذا لم يجد النعلين والإزار، فإنه يُباح له لبس الخفين والسراويل دون شرط. وحديث ابن عمر يدل على أن المحرم إذا لم يجد النعلين فإنه يباح له لبس الخفين بشرط أن يقطعهما أسفل من الكعبين، أي لا يلبسهما على الهيئة المعتادة.
فأخذ الحنابلة بما دلَّ عليه حديث ابن عباس وجابر في الخفين والسراويل جميعًا، فأباحوا للمحرم إذا لم يجد النعلين والإزار أن يلبس الخفين والسراويل على الهيئة المعتادة ولا فدية عليه.
قال ابن قدامة في المغني (3/ 138): وحديث ابن عمر مخصوص بحديث ابن عباس وجابر. اهـ.
وأما الشافعية والظاهرية فأباحوا للمحرم لبس الخفين بشرط قطعهما أسفل من الكعبين لئلا يكونا على الهيئة المعتادة، فإذا لبسهما دون قطع وجب عليه الفدية، وأباحوا له لبس السراويل على هيئتها المعتادة، فأَعْمَلُوا الشرط في الخفين؛ حيث ورد في حديث ابن عمر، ولم يُعْمِلُوه في السراويل حيث أُطْلِقَ في حديث ابن عباس.
قال الشافعي في الأم (2/ 160، 161): أرى أن يقطع الخفين؛ لأن ذلك ورد في حديث ابن عمر وإن لم يكن في حديث ابن عباس، وكلاهما صادق حافظ، وليس زيادة أحدهما على الآخر شيئًا لم يؤده الآخر، إما عزب عنه، وإما شك فيه فلم يؤده، وإما سكت عنه، وإما أداه فلم يُزد عنه لبعض هذه المعاني اختلافًا.
وقال: استثنى النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يجد نعلين أن يلبس خفين ويقطعهما أسفل من الكعبين ومن لم يجد إزارًا لبس سراويل فهما سواء، غير أنه لا يقطع من السراويل شيئًا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقطعه. اهـ.
وأما الحنفية والمالكية فإنهم أعملوا الشرط في الخفين والسراويل جميعًا، فاشترطوا في الخفين القطع أسفل من الكعبين، واشترطوا في السراويل أن تشق ويأتزر بها، فإذا لبسهما على الهيئة المعتادة وجبت عليه الفدية.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 135) بعد ذكره لحديثي ابن عباس وابن عمر: فلسنا نخالف شيئًا من ذلك ونحن نقول بذلك ونثبته، وإنما وقع الخلاف بيننا وبينكم في التأويل لا في نفس الحديث؛ لأنا قد صرفنا الحديث إلى وجه يحتمله، فاعرفوا موضع خلاف التأويل من موضع خلاف الحديث فإنهما مختلفان، ولا توجبوا على من خالف تأويلكم خلافًا لذلك الحديث.
فهذا ابن عمر يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلبس الخفين الذي أباحه للمحرم كيف هو وأنه بخلاف ما يلبس الحلال، ولم يبين ابن عباس في حديثه من ذلك شيئًا، فحديث ابن عمر أولاهما، وإذا كان ما أباح للمحرم من لبس الخفين هو بخلاف ما يلبس الحلال، فكذلك ما أباح له من لبس السراويل هو بخلاف ما يلبس الحلال. اهـ. وراجع: المبسوط (4/ 126)، وبدائع الصنائع (2/ 186).
قال صاحب الهداية: ولا يلبس قميصًا ولا سراويل ولا عمامة ولا خفين، إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين.
وقال: وإن لبس ثوبًا مخيطًا أو غطى رأسه يومًا كاملًا فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة.. ثم قال: ولو ارتدى بالقميص أو اتشح به أو ائتزر بالسراويل فلا بأس به؛ لانه لم يلبسه لبس المخيط. اهـ. انظر: الهداية وشروحها: فتح القدير (3/ 30)، والعناية (3/ 30)، ونصف الراية (3/ 232).
يقول الكمال ابن الهمام في فتح القدير (3/ 30): ولا بأس أن يفتق السراويل إلى موضع التكة فيأتزر بها. اهـ.
ومما استدل به الحنفية أيضًا على وجوب الفدية على من لبس السراويل على هيئتها: أن الضرورة التي تبيح للمُحْرِم أن يفعل شيئًا مما حُرِّم عليه لا تسقط الكفارة؛ كما حلق رأسه لأذى بها فإن الكفارة واجبة عليه، وإنما تسقط الآثام خاصة، فكذلك لبس السراويل لضرورة عدم الإزار. وراجع: شرح معاني الآثار (2/ 135، 136).
قال أبو الوليد الباجي في المنتقى (2/ 196): شرط في جواز لبس الخفين عند عدم النعلين قطعهما أسفل من الكعبين، ولا خلاف في ذلك عند جماعة الفقهاء، وحُكي عن عطاء وأحمد بن حنبل وقوم من أصحاب الحديث: أنه إذا لم يجد النعلين لبس الخفين التامين ولم يقطعهما.
ثم قال: والجواب عن حديث ابن عباس: أن ابن عباس حفظ لبس الخفين ولم ينقل صفة لبسه، وعبدالله بن عمر قد نقل صفة لبسه فكان أَوْلَى. اهـ.
وحكى الشيخ عليش -كما في منح الجليل (2/ 305)- روايتين في لبس المحرم للسراويل إذا عدم الإزار، الأولى لا يلبسها ولو افتدى. والثانية: يلبها ويفتدي. وراجع: المنتقى (2/ 196)، وشرح الخرشي (2/ 356)، والتاج والإكليل (4/ 204).
قال النووي في المجموع (7/ 278): مذهبنا أنه يجوز للمحرم لبس خفين بشرط قطعهما أسفل الكعبين، ولا يجوز من غير قطعهما، وبه قال مالك وأبو حنفية وداود والجمهور، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمر وعروة والنخعي، وقال أحمد: يجوز لبسهما من غير قطع، وروي ذلك عن عطاء وسعيد بن سالم القداح، واحتج أحمد بحديث ابن عباس، وأجاب الشافعي والأصحاب عنه بأن حديث ابن عمر فيه زيادة فالأخذ به أَوْلَى ولأنه مفسر، وحديث ابن عباس مجمل، فوجب ترجيح حديث ابن عمر. اهـ.
وقال -في المجموع (7/ 274)-: لو لم يجد إزارًا ووجد سراويل نظر: إن لم يتأتَ منه إزار لصغره أو لعدم آلة الخياطة أو لخوف التخلف عن القافلة ونحو ذلك، فله لبسه ولا فدية لحديث ابن عباس، وهذا إذا لم يمكنه أن يتزر بالسشراويل على هيئته، فإن أمكنه لم يجز لبسه على صفته، فإن لبسه لزمته الفدية. اهـ. وراجع: الأم (2/ 241)، ومختصر المزني (8/ 162).
وقال الخرقي: فإن لم يجد إزارًا لبس السراويل، وإن لم يجد نعلين لبس الخفين ولا يقطعهما ولا فداء عليه. اهـ. انظر: المغني (3/ 138).
وقال أبو محمد بن حزم في المحلى (5/ 63): فإن لم يجد الرجل إزارًا فليلبس السراويل كما هي، وإن لم يجد نعلين فليقطع خفيه تحت الكعبين ولا بد ويلبسهما كذلك. اهـ.
وبالنظر في مذاهب الفقهاء في هذه المسألة، نجد أن حقيقة الخلاف يرجع إلى تباين أنظارهم في الجمع بين الأحاديث، وتأويل بعضها ليتفق مع الآخر؛ فالخلاف في تأويل الحديث وليس في الحديث نفسه كما قال الطحاوي.
وعلى ما تقرر فإن الحنفية لم يخالفوا الحديث في هذه المسألة كما زعم ابن أبي شيبة -وغيره-؛ بل هم أقرب للعمل بالحديث من الحنابلة وأهل الحديث في مسألة الخفين، ووافقهم على ذلك جمهور الفقهاء ومنهم الظاهرية، وأما مسألة السراويل فالقياس يؤيدهم والمالكية.
***
ثالثًا/ مَسْأَلَةُ تَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ المَنَاسِكِ
المناسك التي يقوم بها الحاج يوم النحر أربعة: الرمي ثم النحر ثم الحلق ثم طواف الإفاضة، والسنة ترتيبها هكذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها كذلك، كما جاء في حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم -أخرجه مسلم (3009)-، وفي حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى البدن فنحرها، والحجام جالس وقال بيده عن رأسه فحلق -أخرجه مسلم أيضًا (3214)-.(1) حدثنا ابنُ عُيينةَ عن الزُّهري عن عيسى بن طلحةَ عن عبداللهِ بن عمرٍو قال: أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: حَلَقْتُ قَبْلَ أن أّذبَحَ. قال: (فاذْبَحْ وَلا جُرْمَ). قال: ضبحتُ قبل أن أَرْمِيَ. قال: (ارْمِ وَلا حَرَجَ). أخرجه البخاري (83)، ومسلم (1306).
(2) حدَّثنا عبدالأعلى عن خالدٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابن عباسٍ: أن سائلًا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: رميتُ بعدما أمسيت. فقال: (لا حَرَجَ). قال: وقال: حَلَقْتُ قبل أن أَنْحَرَ. قال: (لا حَرَجَ). أخرجه البخاري (1723).
(3) حدثنا يحيى بنُ آدَمَ حدَّثنا سُفيان عبد عبدِالرحمنِ بنِ عَيَّاشٍ عن زيدِ بن علي عن أبيه عن عبيدِاللهِ بن أبي رَافِعٍ عن عليٍّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أتاهُ رجلٌ فقال: إني أَفَضْتُ قبل أن أَحْلِقَ. فقال: (احلِقْ أو قًصِّرْ ولا حَرَج). أخرجه الترمذي (885) وقال: حديث حسن صحيح لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه من حديث عبدالرحمن بن الحارث بن عياش.
(4) حدثنا أَسْبَاطُ بن محمدٍ عن الشَّيْبَانِيِّ عن زياد بن علاقةَ عن أُسامة بن شَرِيكٍ: أن النبيَّ صلى الله عليه سولم سأَلَهُ رجلٌ فقال: حَلَقتُ قبلَ أن أَذْبَحَ. قال: (لاَ حَرَج). أخرجه أبو داود (2015).
(5) حدَّثنا وكيعٌ عن أُسامة بن زيدٍ عن عَطَاءٍ عن جابرٍ قال: قال رجلٌ: يا رسول اللهِ حلقت قبل أن أَنحَر. قال: (لا حرج). أخرجه ابن ماجه (3052).
وذُكر أن أبَا حنيفة قال: عليه دمٌ.
***
وقد اختلف الفقهاء فيمن قدم شيئًا من ذلك على غيره، فقال أبو حنيفة: عليه دم، وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: ليس عليه شئ، وهو قول الشافعي.
وقال مالك: إذا قدم الحلق على الرمي تلزمه الفدية، وإذا قدم طواف الإفاضة على الرمي يلزمه هدي، وما عدا ذلك فلا شئ عليه.
وقال أحمد: إن أخل بالترتيب ناسيًا أو جاهلًا بالسنة فيها فلا شئ عليه، فأما إن فعله عامدًا عالمًا ففيه روايتان: إحداهما: لا دم عليه، والثانية: عليه دم.
قال صاحب الهداية: ومن أخر الحلق حتى مضت أيام النحر فعليه دم عند أبي حنيفة وكذا إذا أخر طواف الزيارة حتى مضت أيام التشريق فعليه دم عنده وقالا: لا شئ عليه في الوجهين وكذا الخلاف في تأخير الرمي، وفي تقديم نسك على نسك كالحلق قبل الرمي، ونحر القارن قبل الرمي، والحلق قبل الذبح. اهـ. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (3/ 61)، والعناية (3/ 61)، ونصب الراية (3/ 245)، وراجع: بدائع الصنائع (2/ 158)، والمبسوط (4/ 42)، وتبيين الحقائق (2/ 62).
وقال الخرشي في شرحه (2/ 245): إذا قدم الحلق على رمي جمرة العقبة فإنه تلزمه الفدية لوقوعه قبل شئ من التحلل كما في المدونة، فإذا رمى العقبة أمرَّ الموسى على رأسه؛ لأن الحلق الأول وقع قبل محله، وكذلك يلزمه الهدي إذا قدم طواف الإفاضة على رمي جمرة العقبة من الإجزاء على المشهور، ولو قدم كُلًّا من الإفاضة والحلق على الرمي لوجب فيهما فدية وهدي، ثم إن الترتيب بين كل منهما وبين الرمي واجب؛ إذ لو كان مستحبًا لما وجب فيه شئ وهو ظاهر؛ لأن الرمي هو التحلل الأصغر، وإن خالف عمدًا أو نسيانًا أو جاهلًا في غير ما تقدم بأن حلق قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي أو قدم الإفاضة على النحر أو على الحلق أو عليهما فإنه لا دم. اهـ. وراجع: المنتقى شرح الموطأ (3/ 25، 77)، ومختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (4/ 30)، ومنح الجليل (2/ 285)، ومواهب الجليل (3/ 131).
وقال الشافعي في الأم (2/ 237): وأحب للرجل إذا رمى الجمرة فكان معه هدي أن يبدأ فينحره أو يذبحه ثم يحلق أو يقصر ثم يأكل من لحم هديه ثم يفيض، فإن ذبح قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن يذبح، أو قدَّم نسكصا قبل نسك مما يعمل يوم النحر فلا حرج ولا فدية. اهـ. وراجع: المجموع شرح المهذب (8/ 194)، والمنهاج وشروحه: نهاية المحتاج (3/ 307)، وتحفة المحتاج (4/ 123)، ومغني المحتاج (2/ 271).
وقال ابن قدامة في المغني (3/ 230): إن أخل بالترتيب ناسيًا أو جاهلًا بالسنة فيها فلا شئ عليه في قول كثير من أهل العلم، فأما إن فعله عامدًا بمخالفة السنة في ذلك ففيه روايتان: إحداهما/ لا دم عليه، والثانية/ عليه دم. اهـ.
مناقشة حول الأدلة:
يرجع اختلاف الفقهاء في ذلك إلى اختلافهم في ترتيب الأعمال يوم النحر هل هو واجب أم مستحب، وفي فهم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حرج عليه) عندما سُئل عن تقديم نسك على آخر كما في الأحاديث التي ذكرت في صدر المسألة، فيرى الحنفية أن الترتيب واجب وأن معنى (لا حرج) نفي الإثم ولا يلزم منه نفي الجزاء.
وقد قرر الطحاوي ذلك بأن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حرج) يحتمل أن يكون إباحة وتوسعة منه، فجعل للحاج أن يقدم ما شاء من هذين على صاحبه، وقد يحتمل أيضًا أن يكون على الإثم، أي لا حرج عليكم فيما فعلتموه من هذا؛ لأنكم فعلتموه على الجهل منكم به، لا على التعمد بخلاف السنة، فلا جناح عليكم في ذلك.
وقد أيَّد الطحاوي هذا المعنى بأن ألفاظ بعض الروايات جاءت مقيدة بالسهو والنسيان كقول أحدهم: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح -كما في البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص وقد سبق ذكره وتخريجه في اقتباس المسألة أعلاه-. وقول الآخر: إني رميت وحلقت ونسيت أن أنحر -كما عند الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 235) عن علي بن أبي طالب-. فدلَّ ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم إنما أسقط الحرج عنهم في ذلك للنسيان لا أنه أباح ذلك لهم، حتى يكون لهم مباح أن يفعلوا ذلك في العمد.
وأيَّده أيضًا بقول ابن عباس: من قدم شيئًا من حجه أو أخَّره فليهرق لذلك دمًا -أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 363)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 238)، وفي إسناده إبراهيم بن مهاجر وهو صدوق لين الحفظ، قال عنه الثوري وأحمد بن حنبل: لا بأس به. وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث. وفي موضع آخر: ليس به بأس. وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال العجلي: جائز الحديث. راجع: تهذيب الكمال (2/ 212). وقد تابعه أيوب السختياني كما أخرجه الطحاوي (2/ 238) من طريق نصر بن مرزوق عن الخضيب بن نافع. وقد قال عنه أبو حاتم: صدوق عن الخضيب بن ناصح. وقال أبو زرعة: ما به بأس إن شاء الله. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ. راجع: الجرح والتعديل (8/ 472)، وتهذيب الكمال (8/ 256). وعليه فالحديث ثابت عن ابن عباس بمجموع هذين الطريقين، فلا أدري كيف وصف النووي هذه الرواية عن ابن عباس بأنها شاذة في شرح مسلم (9/ 55)-.
فهذا ابن عباس يوجب على من قدم شيئًا من نسكه أو أخره دمصا، وهو أحد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث: (لا حرج) فلم يكن معنى ذلك عنده معنى الإباحة في تقديم بعض المناسك؛ إذ كان يوجب في ذلك دمًا، ولكن كان معنى ذلك عنده على أن الذي فعلوه في حجة النبي صلى الله عليه وسلم كان على الجهل منهم بالحكم فيه كيف هو؟ فعذرهم بجهلهم وأمرهم في المستأنف أن يتعلموا مناسكهم. راجع: شرح معاني الآثار (3/ 236- 238).
ويرى الآخرون أن الترتيب مستحب بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حرج) الذي يدل بظاهره على أن تقديم نسك على آخر جائز ولا فدية عليه.
يقول النووي في شرحه على مسلم (9/ 55): فإن تأولوها على أن المراد نفي الإثم وادعوا أن تأخير بيان الدم يجوز، قلنا: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حرج) أنه لا شئ عليه مطلقًا، ومعناه: افعل ما بقي عليك وقد أجزأك ما فعلته ولا حرج عليك في التقديم والتأخير. اهـ.
فالخلاف في هذه المسألة خلاف في تأويل الحديث وفهمه وليس في ذلك مخالفة للحديث كما ادعى ابن أبي شيبة -وغيره-؛ بل إن قول أبي حنيفة هو الأحوط في المسألة بخلاف قول الآخرين، فلا معنى للاعتراض على أبي حنيفة فيما أخذ فيه بأقوى الدليلين. وراجع: فتح القدير (3/ 63)، والنكت الطريقة ص(59).
***
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وكل عام وأنتم بخير، وجزاكم الله خيرًا.
والله أعلم.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وكل عام وأنتم بخير، وجزاكم الله خيرًا.
والله أعلم.