د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
تكوين الملكة الفقهية ( 1 )
أ. د. محمد عثمان شبير
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد.. فإن تكوين الملكة الفقهية لدى الدارسين للفقه الإسلامي من الموضوعات المهمة في تدريس علم الفقه، لأنه الهدف الأساس من ذلك التدريس، ولأن الفقهاء ذوي الملكات الفقهية الراسخة هم غرس الله الذين يغرسهم في الأمة الإسلامية لضبط مسيرتها ووضع السياسات العامة التي توجه طريقها في الحياة. وقد أصبحت عودة هؤلاء الفقهاء مما يشغل بال قادة الفكر والتربية والدعوة الإسلامية في هذا العصر، لما ينتظر هؤلاء الفقهاء من دور كبير في نهضة الأمة الإسلامية واستئناف الحياة الإسلامية في المجتمع، هذا بالإضافة لترشيد الصحوة الإسلامية، وترشيد المؤسسات المالية الإسلامية من مصارف وشركات تأمين، والتي يزيد عددها على مائتي مؤسسة.
ومما يزيد هذا الموضوع أهمية أن مؤتمر (علم الفقه الإسلامي في الجامعات.. الواقع والطموح)، الذي دعت إليه جامعة الزرقاء الأهلية في الأردن، بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي وجمعية الدراسات والبحوث الإسلامية، في ربيع الآخر 1420هـ الموافق آب/أغسطس 1999م، جعل هذا الموضوع ضمن المحور الأول من محاور المؤتمر، حيث نص على: (إيجاد الملكة الفقهية الاجتهادية القادرة على التوصل للأحكام الشرعية ومواجهة المستجدات والنوازل التي لم تكن من قبل).
فما حقيقة هذه الملكة ? وما مقومات تكوينها لدى الفقيه ? وكيف نعمل على رعايتها وتقويتها وترسيخها ? للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كتبت هذا البحث وسميته: (تكوين الملكة الفقهية).
وقد اعتمدت في إعداد هذا البحث على كتب ومراجع أصيـلة في الفقه وأصوله وكتب العلوم الشرعية وطريقة تدريسها، وغير ذلك مما له علاقة بموضوع البحث.
وقسمت البحث إلى ثلاثة فصول وخاتمة، وهي:
الفصل الأول: حقيقة الملكة الفقهية.
الفصل الثاني: مقومات الملكة الفقهية.
الفصل الثالث: رعاية الملكة الفقهية.
الخاتمة: لخصت فيها أهم نتائج البحث.
والله أسأل أن يتقبل مني هذا الجهد المتواضع، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وهو - سبحانه - ولي التوفيق، عليه توكلت وإليه أنيب.
الفصل الأول حقيقة الملكة الفقهية:
المبحث الأول: معنى الملكة الفقهية والألفاظ ذات الصلة:
قبل تحديد المقومات التي تتكون منها الملكة الفقهية، لا بد من بيان معنى الملكة الفقهية، والألفاظ ذات الصلة بها، وأنواعها، والحكم التكليفي لتكوينها، وفضلها، وأهميتها، لأن بيان هذه الأمور يعين الباحث على تحديد مكوناتها. ولذا سيشتمل هذا الفصل على المباحث التالية:
1- معنى الملكة الفقهية والألفاظ ذات الصلة.
2- أنواع الملكة الفقهية.
3- الحكم التكليفي لتكوين الملكة الفقهية وفضلها وأهميتها.
وفيما يلي بيان تلك المباحث:
المبحث الأول: معنى الملكة الفقهية والألفاظ ذات الصلة.
يشتمل هذا المبحث على مطلبين، الأول: في معنى الملكة الفقهية، والثاني: في الألفاظ ذات الصلة.
المطلب الأول: معنى الملكة الفقهية:
قبل بيان معنى الملكة الفقهيـة باعتبارها لقبًا على صفة معيــنة، لا بد من بيان جزأيها اللذين تركبت منهما، وهما (الملكة) و(الفقهية)، لأن معناها اللقبي ليس معزل عن معاني ما تركبت منه.
أولاً: تعريف الملكة الفقهية باعتبارها مركبًا إضافيًا:
1- تعريف الملكة:
الملكة في اللغة: مأخوذة من ملك، وهو -كما قال ابن فارس- أصل صحيح يدل على قوة في الشيء وصحة، فيقال: ملك الشيء ملكًا: حازه وانفرد بالتصرف فيه، فهو مالك.. ويقال: أملك العجين ملكًا: قوى عجنه وشده.. ويقال: هو يملك نفسه عند شهوتها: أي يقدر على حبسها.. وهو أملك لنفسه: أي أقدر على منعها من السقوط في شهواتها.
والملكة في الاصطلاح: (صفة راسخة في النفس)، وبعبارة أخرى: (الهيئة الراسخة في النفس) حيث تحصل في النفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، يقال لها (كيفية) أو (حالة)، فإذا كانت تلك الهيئة سريعة الزوال سميت كيفية أو حالة، أما إذا تكررت تلك الهيئة ومارستها النفس حتى رسخت فيها، وصارت متعذرة الزوال، أصبحت ملكة: كملكة الحساب، وملكة اللغة، وملكة الكتابة وغير ذلك.
يظهر مما سبق أن الملكة تختص بثلاث خصائص، هي:
الخاصية الأولى: الملكة صفة في النفس، تطلق على مقابلة العدم. وهي تعين الشخص على سرعة البديهة في فهم الموضوع وإعطاء الحكم الخاص به، والتمييز بين المتشابهات بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر وغير ذلك.
الخاصية الثانية: الملكة صفة مكتسبة وموهوبة، تتحقق للشخص بالاكتساب والموهبة، فاكتسابها يتحقق بالإحاطة بمبادئ العلم وقواعده، كما يرى ابن خلدون، حيث قال: (إن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن). في حين يــــرى بعضــهم أنـــها ليســت مكتســـــبة، وإنمــا هي هــــبـة مــوروثــة لا تكتسب ولا تعلم، فمن وهبه الله ملكة الحفظ كان حافظًا، ومن وهبه الله ملكة التخيل كان شاعرًا.
والحقيقة أن الملكة تجمع بين الأمرين، فهي هبة من الله - تعالى -: تنمو وتزداد بالاكتساب، فقد روي عن الإمام مالك أنه قال: (ليس الفقه بكثرة المسائل ولكن الفقه نور يؤتيه الله من يشاء من خلقه)، وقال الإمام مالك للإمام الشافعي وهو غلام يطلب العلم: (إن الله ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية).
الخاصية الثالثة: الملكة صفة راسخة كالنبتة التي تظهر في الأرض تنمو وتتجذر بالرعاية والعناية، وكذلك الملكة تبدأ ضعيفة، ثم تتقوى وتترسخ في النفس، فإذا ألقى المدرس على التلميذ أصول مسائل العلم وقواعده العامة حصلت له ملكة لكنها ضعيفة. فإذا توسع في الشرح وذكر الآراء المختلفة تجود ملكته وتقوى، فإذا أصبح قادرًا على إدراك العويص المستغلق، وأصبح المدرس لا يترك خفيًا إلا وضحه وفتح مغلقه وأعانه على إدراكه، فقد تهيأت لطالب العلم ملكة راسخة، يقول ابن خلدون: (اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج شيئًا فشيئًا وقليلاً فقليلاً، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن، هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية ضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف.. فتجود ملكته، ثم يرجــع به وقد شــذا فلا يترك عويصًا ولا مهمًا ولا مغلقًا إلا وضحه، وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته...).
2- تعريف الفقهية:
الفقهية قيد في الملكة لإخراج ما ليس بفقهية: كالملكة النحوية، والملكة الحسابية، والملكة الكتابية.
والفقهية في اللغة: نسبة إلى الفقه وهو مأخوذ من فقه، وهو يطلق على الفهم والعلم والفطانة.
وقيل: إن الفقه مشتق من (الفقء) وهو الشق والفتح، كما ذكر ابن الأثير لأن الهمزة تتعاقب مع الهاء لاتحاد مخرجهما، وقد أيد هذا الحكيم الترمذي، وقرر أن الفقه هو معرفة بواطن الأمور والوصول إلى أعماقها، فمن لم يعرف من الأمور إلا ظواهرها لا يسمى فقيهًا، حيث قال: (والفقه مشتق من تفقؤ الشيء، يقال في اللغة: فقأ الشيء إذا انفتح، وفقأ الجرح إذا انفرج عمّا اندمل، والاسم فقئ والهاء والهمزة تبدلان، تجزي إحداهما عن الأخرى، فقيل: فقيء وفقيه.. والفهم هو العارض الذي يعرض في القلب من النور، فإذا عرض انفتح بصر القلب فرأى صورة ذلك الشيء. فالانفتاح هو الفقه، والعارض هو الفهم). ولا مانع من اعتبار الاشتقاقين لما في الثاني من أثر في الالتزام بالأحكام الشرعية.
فقد بين الحكيم الترمذي أثر ذلك الاشتقاق على التزام المسلم بالأحكام الشرعية; حيث قال: (... إن الذي يؤمر بالشيء فلا يرى زين ذلك الأمر، ويُنهى عن الشيء فلا يرى شينه، هو في عمى من أمره.. فإذا رأى زين ما أمر به وشين ما نهي عنه عمل على بصيرة، وكان قلبه عليه أقوى، ونفسه به أسخى، وحمد على ذلك وشكر.. والذي يعمى عن ذلك فهو جامد القلب، كسلان الجوارح، ثقيل النفس، بطيء التصرف).. وقال في موضع آخر: (... فمن فقه أسباب هذه الأمور التي أمر ونهي، بماذا أمر ونهي، ورأى زين ما أمر وبهاءه، وشين ما نهي، تعاظم ذلك عنده، وكبر في صدره شأنه، فكان أشد تسارعًا فيما أمر، وأشد هربًا وامتناعًا مما نهي.. فالفقه في الدين جند عظيم يؤيد الله - تعالى - به أهل اليقين، الذين عاينوا محاسن الأمور ومشاينها، ومقدار الأشياء وحسن تدبير الله - عز وجل - لهم من ذلك بنور يقينهم ليعبدوه على يسر.. ومن حُرِم ذلك عبده على مكابدة وعسر; لأن القلب -وإن أطاع وانقاد لأمر الله - عز وجل - فالنفس إنما تخف وتنقاد إذا رأى نفع شيء أو ضرر شيء، والنفس جندها الشهوات وصاحبها محتاج إلى أضدادها من الجنود حتى يقهرها، وهي الفقه).
ومما يؤيد الأخذ بالاشتقاقين أن عمل الفقيه لا يقتصر على العلم بالأحكام الفقهية وفهمها، وإنما يتعدى ذلك إلى الكشف عن علل الأحكام ومآخذها ومقاصدها، وغير ذلك مما يساعد في عملية استنباط الأحكام الشرعية، ولذلك عرف الفقه بأنه: (الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي تعلق به الحكم).
والفقه في الاصطلاح: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية) وزاده ابن خلدون توضيحًا حين قال: (معرفة أحكام الله في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهية والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت تلك الأحكام من الأدلة قيل لها فقه).
ولم يرتض الآمدي إطلاق الفقه على العلم. فقال: (الأشبه أن الفهم مغاير للعلم; إذ الفهم عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئه لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب، وإن لم يكن المتصف بها عالمًا، كالعامي الفطن).
ولا مانع من إطلاق الفقه على العلم والفهم والفطنة، والكشف عن المعاني الخفية.. والفقيه هو من اتصف بعلم الفقه أو بالاجتهاد، وعرفه البغدادي بأنه: (الضابط لما روى، الفاهم للمعاني، المحسن لرد ما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة).
ثانيًا: تعريف الملكة الفقهية باعتبارها لقبًا:
الملكة الفقهية: (صفة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها).. وعرفها ابن النجار الفتوحي بقوله: (أن يكون الفقه عنده سجية وقوة يقتدر بها على التصرف بالجمع والتفريق والترتيب والتصحيح والإفساد)، ثم قال: (فإن ذلك ملاك الفقه).. وقد فصل القول فيها بعض المعاصرين حينما قال: (القدرة على النظر في الأدلة، وكيفية استنباط الأحكام منها، حتى لا تكاد تعرض عليه حادثة من الحوادث إلا أمكن أن يعطيها ما يليق بها من الأحكام، فضــلاً عن أنه بعد ذلك تطمــئن نفسه إلى ما يعــمل به من أحكام أو يفتي به غيـــره، أو يقضي به بين النــاس، إذ لا يقـــدم على ذلك إلا وهو يعلم الدليل على ما أقدم عليه).
يلاحظ على التعريف الثاني أنه غير شامل، لأنه يقتصر على تخريج الأحكام على الأصول، والترجيح بين الأقوال في المذهب. ويلاحظ على التعريف الثالث أنه شرح تفصيلي لبعض مفردات الملكة الفقهية.. وأما التعريف الأول فهو غير شامل لجميع مفردات الملكة الفقهية، لأنه يقتصر على استنباط الأحكام من الأدلة.
وأما مفردات الملكة الفقهية فهي:
1- فقه النفس: وهي صفة في النفس جبلية تحقق لصاحبها شدة الفهم لمقاصد الكلام، كالتفريق بين المنطوق والمفهوم، قال السيوطي: (وفقه النفس لا بد منه، وهو غريزة لا تتعلق بالاكتساب).
2- القدرة على استحضار الأحكام الشرعية العملية في مظانها الفقهية، وذلك بالإحاطة بمبادئ الفقه وقواعده والوقوف على مسائله، قال ابن خلدون: (الملكة: الإحاطة بمبادئ العلم وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله).
3- القدرة على استنباط الأحكام العملية من الأدلة التفصيلية، وهي صفة مكتسبة تحصل في النفس بالتضلع بالعلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية وغير ذلك مما هو ضروري للاجتهاد.
4- القدرة على تخريج الفروع على الأصول وتخريج الفروع من الفروع، والترجيح في المذهب.
5- القدرة على الترجيح إذا اختلف الفقهاء في مسألة من المسائل، لأن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، فهذه صفة الفقهاء الراسخين في الفقه كما ذكر أبو يوسف.
6- القدرة على التعبير عن مقصود الفقه، ودفع الشبهات الواردة عليه، قال ابن الأزرق: (الشروط الدالة على حصول الملكة في العلم: المعرفة بحصول أي علم كان، وما بني عليه ذلك العلم، وما يلزم عنه، والقدرة على التعبير عن مقصوده، والقدرة على دفع الشبه الواردة عليه فيه).
وبناء على ما سبق يمكن وضـــع تعريــــف للمـــلكة الفقهية، وهو أنها: (صفة راسخة في النفس، تحقق الفهم لمقاصد الكلام الذي يسهم في التمكن من إعطاء الحكم الشرعي للقضية المطروحة، إما برده إلى مظانه في مخزون الفقه، أو بالاستنباط من الأدلة الشرعية أو القواعد الكلية).
المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة بالملكة الفقهية:
من الألفـــاظ ذات الصـــلة بالملكة الفقهية: البصيرة، والحكمة، والاجتهاد.
1- البصيرة:
البصيرة لغة: من بصر وهو العلم بالشيء، ويقال: بصرت بالشيء بصرًا علمت. ويقال: هو بصير به، وجمع بصيرة بصائر.
والبصيــرة في الاصطــلاح: (قـــوة للقــلب المنوَّر بنور القدس، يــرى بها حقـــائق الأشيــاء وبواطنـــها)، فهي بمثــابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء وظواهـــرها. وبعبارة موجزة هي: (قوة القلب المدركة)وعرفها العسكــري بأنها: (تكامـــل العــلم والمعرفة بالشيء).
فالبصيرة تأتي بمعنى الملكة العلمية، فهي أعم من الملكة الفقهية. وقد أشــــــار القــــــرآن إلى ذلك، قـــال - تعالى -: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ)(الأنعام: 104).
2- الحكمة:
الحكمة لغة: من الحكم وهو المنع. سميت الحكمة بذلك، لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال.
والحكمة في الاصطلاح: تطلق على عدة معان منها: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل، والسنة، والفقه بالدين، والعمل به. وقد رجح الإمام مالك أن الحكمة هي الفقه في الدين، حيث قــال: (الذي يقــع في قلبي أن الحــكمة هي الفقه، ومما يتـــبين ذلك أن الرجل تجــده عاقلاً في أمر الدنيا ذا نظر فيها وبصر بها ولا علم له بدينه، وتجــد آخر ضعيــفًا في أمر الدنيا عالمًا بأمر دينه بصيرًا به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة الفقه في دين الله).
والفقه في الدين هو معرفة أسرار الأمور وفقه الأحكام، وبيان المصلحة فيها، والطريق إلى العمل بها، وهو يبعث على العمل والالتزام، كما أن العمل يوصل إلى الفقه في الدين، أو طرق الاستدلال، ومعرفة الحقائق ببراهينها، وهي طريقة القرآن.
فالحكمة تأتي بمعنى الملكة الفقهية، لأنها تنشأ عند الإنسان بأمرين، هما:
الأول: نــور يقذفـه الله في قلب العـالم المسلم، ويؤيد ذلك قوله - تعالى -: (ومن يؤت الحكمـــة فقــــد أوتــــي خيرًا كثيرًا) (البقرة: 269).
والثاني: بالاكتســـاب، ويؤيـــد ذلك مـــا روي عن عبـــد الله ابن مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها). فالحكمة تكتـــسب بالعــــلم، قال ابن مسعود: (نعـــم المجلس مجـــلس تنـــشر فيـــه الحكمة، وترجى فيه الرحمة).
3- الاجتهاد:
الاجتـــهاد لغة: من الجهد، أصــــله المشـــقة، ثم يحمـــل علــيه ما يقاربه، يقال: جهدت نفسي وأجهدت.. والجهد الطاقة.
والاجتهاد في الاصطلاح: (استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي).
فالاجتهاد الفقهي عملية عقلية، يقصد منها تحصيل الحكم الشرعي، سواء عن طريق النظر في الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو عن طريق النظر في نصوص إمام المذهب، فيرجح ويخرج وينقل المذهب كما قال الدهلوي: (حقيقة الاجتهاد هو استفراغ الجهد في إدراك الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة كلياتها إلى أربعة أقسام: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. ويفهم من هذا أنه أعم من أن يكون استفراغًا في إدراك حكم ما سبق التكلم فيه من العلماء السابقين أولاً، وافقهم في ذلك أو خالف، ومن أن يكون ذلك بإعانة البعض في التنبيه على صور المسائل، والتنبيه على مآخذ الأحكام من الأدلة التفصيلية، أو بغير إعانة منه.. فما يظن فيمن كان موافقًا لشيخه في أكثر المسائل، لكنه يعرف لكل حكم دليلاً ويطمئن قلبه بذلك الدليل، وهو على بصيرة من أمره، أنه ليس بمجتهدٍ ظنٌ فاسد).
والاجتهاد هو معرفة الحكم الشرعي بدليله ولو كان متبعًا لغيره في الحكم، فإذا وصل الفقيه لهذه المرحلة كان ذا ملكة فقهية.. فالاجتهـــاد والملكة الفقهية متقـــاربان، ويؤيد ذلك أنه يشــــترط لهما أن يكون الشخص فقـــيه النفس بأن يكون شــديد الفهم لمقاصد الكـــلام. ولأن الفقيه من اتصف بعلم الفقه أو بالاجتهاد، فلا يتصور فقيه غير مجتهد ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق، كما أشار التفتازاني.
المبحث الثاني: أنواع الملكة الفقهية:
إذا كان الاجتهاد مقاربًا للملكة الفقهية فيمكن أن نستخلص أنواع الملكة الفقهية من خلال قراءة متأنية في طبقات المجتهدين ومراتبهم. وفيما يلي بيان لتلك الأنواع.
أولاً: ملكة تقرير القواعد الأصولية والاستنباط الفقهي المستقل:
وهي تتحقق في الفقيه الذي يستقل بإدراك الأحكام الفقهية من الأدلة الشرعية من غير تقليد لغيره في الغالب، لا في الأصول ولا في الفروع، كعلماء الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط الفروع.. ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- كونه فقيه النفس، ليتسنى له استنباط الأحكام الشرعية.
2- التصرف في الأصول التي يبني عليها اجتهاداته الفقهية بتقرير قواعد للاستنباط خاصة به، فلا يقلد فيها غيره.
3- النظر في الآيات والأحاديث والآثار لاستنباط الأحكام للفروع الفقهية، ولو كان مسبوقًا فيها، فينظر في الأدلة المتعارضة، ويختار بعضها على بعض، وينـــبه على مـــآخذ الأحكام في تلك الأدلة.
4- القدرة على استنباط الأحكام الفقهية للقضــايا المستجدة التي لم ينــزل فيها نص شرعي، فيقيس الأشبــاه بالأشــبــاه منها والنظائر بالنظائر.
5- القدرة على إنزال الأحكام المجردة في النصوص الشرعية على الوقائع الحياتية التي تحدث للناس، وهو يتطلب دراسة الواقعة المعروضة دراسة وافية تشتمل على تحليل دقيق لعناصرها وظروفها وملابساتها، زمانًا ومكانًا، كما يتطلب النظر في مآلات الأفعال المتوقعة; لأن النظر إلى نتائج التطبيق ومآلاته أصل معتبر مقصود شرعًا كما قرر الإمام الشاطبي.
ثانيًا: ملكة الاستنباط الفقهي المبني على أصول الغير:
وهي تتحقق في الفقيه القادر على استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية بناء على قواعد الاستنباط التي قررها إمامه. وقد تكون اجتهاداته موافقة لاجتهادات إمامه، وقد تكون مخالفة لها، ومن هؤلاء الفقهاء: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري (182هـ)، وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني (189هـ) من الحنفية، وعبد الرحمن بن القاسم (126هـ)، وأشهب بن عبد العزيز القيسي العامري (204هـ) من المالكية، وإسماعيل بن يحيى المزني (264هـ)، والربيع بن سليــمان المرادي (270هـ) من الشافعية، وأبو بكر أحمد بن محمد الخلال (311هـ) من الحنابلة.
ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- كونه فقيه النفس.
2- القدرة على النظر في كتاب الله والسنة والإجماع والقياس.
3- القدرة على استنباط الأحكام للمستجدات الفقهية.
4- اتباع إمامه في الأصول.
5- التمكن من تنزيل الأحكام على الواقع.
ثالثًا: ملكة التخريج الفقهي:
وهي تتحقــق في الفقيه المتمكن من تخريج الوجوه الفقهية على قواعد إمامه الكلية ونصوصه الفرعية.. فهو متمكن من إلحاق الفروع بالقواعد الكلية، وإلحاق الشبيــه بالشبــيه من الفروع، والتمييز بين المتشابهات بإبداء الفروق والموانع. وهو يحيط بقواعد الاستنباط في المذهب، ويعرف تقييدات مطلقات المذهب، ومخصصات عمومه، ويدرك مآخذ الأحكام التي نص عليها الإمام، ويعرف عللها ومعانيها.
ومن هؤلاء الفقهاء: الحسن بن زياد اللؤلؤي (ت 204هـ) من الحنفية، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن (ابن أبي زيد) القيرواني المالكي (386هـ)، ومحمد بن نصر المروزي (294هـ) الشافعي، والقاضي أبو يعلى محمد بن الحسين (458هـ) الحنبلي.
ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- كونه فقيه النفس.
2- القدرة على معرفة أدلة الأحكام التي نص عليها الإمام، ومعرفة تقييدات مطلقاتها، ومخصصات عمومياتها، ومآخذ الأحكام وعللها ومعانيها ومقاصدها.
3- القدرة على تخريج الأحكام على قواعد الإمام وفروعه.
4- معرفة أصول الاستنباط في المذهب.
5- حفظ أقوال الإمام وأصحابه.
رابعًا: ملكة الترجيح في المذهب:
وهي تتحقق في الفقيه المتمكن من الترجيح بين أقوال الإمام وبعض أصحابه، فيقررها ويرجح قولاً على قول آخر، ويميز أصح الأقوال من غيرها ويرتبها، ويحررها، ويكتب المؤلفات والتصانيف فيها، ويستند في ذلك إلى معرفة أدلة الأحكام ومرجحاتها، وأصول الإمام، ومعرفة علل الأحكام المنصوص عليها في المذهب ومآخذها.
ومن هؤلاء الفقهاء: أبو الحسن بن أبي بكر القدوري (428هـ) من الحنــــفــية، وأبــو الـــوليـــد محمد بن رشـــد القــرطبي، الجــــد (ت 520هـ) من المالكية، وإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني (478هـ) من الشافعية، وعمر بن الحسين الخرقي (334هـ) من الحنابلة.
ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- كونه فقيه النفس.
2- حفظ أقوال الإمام وأصحابه.
3- الإلمام بقواعد الاستنباط في المذهب.
4- إدراك علل الأحكام ومآخذها.
5- القدرة على الترجيح بين الأقوال في المذهب.
خامسًا: ملكة استحضار المذهب (القول المعتمد):
وهي تتحقق في الفقيه بالتمكن من حفظ الأقوال المعتمدة في المذهب، وذلك بفهم واضحات المسائل ومشكلاتها، ومعرفة تقييدات المطلقات، ومخصصات عمومات الأحكام، ولكنه لم يدرك مدارك إمام المذهب ومستنداته في فروعه الفقهية إدراكًا متقنًا، بل سمعها من حيث الجملة من غيره من الفقهاء.
فإذا عرضت له واقعة لا يوجد فيها نص، لا يستطيع أن يخرجها على نصوص إمامه إلا إذا كانت واضحة الشبه بالمسألة المنصوص عليها، بحـــيث يدرك وجه الشبــه بالبــداهة من غير جهد، وذلك لأن إدراك الشبه الخفي يحتاج إلى الإحاطة بمدارك إمام المذهب ومآخذ الأحكام.
ومن هؤلاء الفقهاء: عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي (710هـ) الحنفي صاحب كنز الدقائق، وخليل بن إسحق (776هـ) المالكي صاحب مختصر خليل، وإبراهيم بن يوسف الشيرازي (467هـ) الشافعي، صاحب المهذب، وموسى بن أحمد المقدسي الحجاوي (968هـ) الحنبلي صاحب الإقناع.
ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- كونه فقيه النفس.
2- حفظ المعتمد في المذهب وعدم نقل الأقوال المردودة.
3- معرفة تقييدات المطلقات وتخصيص العمومات.
4- تصنيف الكتب التي تعبر عن المذهب وصياغتها صياغة علمية.
سادسًا: ملكة الترجيح بين المذاهب:
وهي تتحقق في الفقيه الذي يتمكن من دراسة آراء الفقهاء في المذاهب المختلفة دراسة مقارنة، بحيث يصور المسألة تصويرًا دقيقًا، ويعرض آراء المذاهب عرضًا صحيحًا، بحيث يعتمد في تقريرها على الكتب المعتمدة في كل مذهب، ويبين أسباب اختلاف الفقهاء فيها، ويذكر الأدلة التي استند إليها كل مذهب، ثم يقوم بتمحيصها وعركها سندًا ومتنًا ودلالة، ويقارن بعضها ببعض، بهدف الوصول إلى الرأي الذي تقويه الأدلة.
وممن قام بهذا العمل من الفقهاء: محمد بن جرير الطبري (310هـ) في كتاب اختلاف الفقهاء، وأبو عبد الله محمد بن نصر المروزي (294هـ) في كتاب اختلاف العلماء، وأبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر (318هـ) في كتاب الإشراف على مذاهب العلماء، والأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، وأبو الحسن علي ابن محمد المـــاوردي (450هـ) في الحاوي الكبير، وأبو محــمد عبد الله بن أحمد بن قدامة (620هـ) في كتاب المغني، وغير ذلك.
ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- فقيه النفس.
2- القدرة على تمحيص الأدلة، سندًا ومتنًا ودلالة.
3- معرفة أسباب اختلاف الفقهاء.
4- الأمانة العلمية، بحيث ينقل الآراء الفقهية من الكتب المعتمدة في كل مذهب.
5- معرفة تقييدات المطلقات ومخصصات العمومات في جميع المذاهب.
6- معرفة وجوه الترجيح في أصول الفقه.
7- الموضوعية، بحيث يبحث في المسائل الفقهية دون أن يتعصب لرأي من الآراء.
http://www.islamweb.net المصدر: