رد: انزال الناس منازلهم:
الشيخ الفاضل أبو الفضل بورك فيكم
ما ذكرتموه واقع وللأسف وفي نظري أن له أسباباً أهمها :
1 - الكبر :
فإن بعض الناس يرى نفسه أكبر من أن يخاطب الناس بمقاماتهم وألقابهم ومنازلهم التي أعطاهم الله إياها من أمور الدين والدنيا فيرى أن منزلته تنقص ومقامه يقل لو خاطبهم بذلك فتأنف نفسه عن التواضع لهم .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ضبط الكبر : ( الكبر بطر الحق وغمط الناس ) رواه مسلم .
والغمط الازدراء والاحتقار والاستصغار وضبطت في بعض الروايات غمص بالصاد وهي بمعناها .
2 - الحسد :
فإن بعض الناس يرى أنه لو خاطب من يستحق الإجلال والتقدير بما يليق به فإنه يرفعه ويعلي مكانته فتعلو منزلته عليه أو يتعلق الناس به ويعظمونه فيقع في قلبه حسد أن يقعوا في تلك المنزلة في قلوب الناس وكأن عقله يقول " نجاح غيري يعني فشلي " وليس لغيره مدح وثناء إلا أن يكون ذلك يصب في مدحه هو من حيث هو سبب في ذلك .
3 - الطبع الغليظ والعنف الجبلي :
إذ بعض الناس خلق غليظاً فظَّاً إما بسبب البيئة أو التربية أو الطبع النفسي فهو لا يحسن اختيار الألفاظ في التعامل مع الخلق فلا مقدمات لطيفة ولا فن في التعامل ولا ذوق في اختيار الكلمات فقاموسه كله يدور بين الأمر والنهي الصريحين بصيغة ( افعل ) و ( لا تفعل ) مع العلو والاستعلاء وكثرة النقد والتجريح والاتهام ، وأما المدح والثناء والدعاء والألقاب الحسنة فلا مكان لها في مفردات ألفاظه وربما كانت بمفهومه من ألفاظ التملق والنفاق والكذب والميوعة !!!.
4 - المخالفة في الرأي إما عقيدة أو فقهاً أو منهجاً أو حزباً أو اختلاف البلد أو العرق أو القبيلة أو غيرها .
إذ يعز الإنصاف والعدل عند الخلق مع الاختلاف في مثل هذه الأمور فتأخذ البعض الحمية لمعتقده أو مذهبه أو حزبه أو بلده أو غير ذلك فينقص مخالفه حقه أو يتعمد انتقاصه واحتقاره ليذهب رأيه ومذهبه وهذا كله من الهوى المذموم وليس هو من صفات العلماء الربانيين الصادقين إذ الحق يعرف بدليله لا بهذه الأمور .
ولقد ضرب العلماء الربانيون أجمل الأمثلة في ذلك :
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لا يدع الإنصاف حتى مع مخالفيه عقيدة وفقها ولم يمنعه خلافه لهم ورده عليهم من أن يذكر لهم مزاياهم ويثني عليهم بما هم متصفون به من صفات المدح فهو مع خلافه ورده على الباقلاني والجويني والغزالي والرازي والآمدي وغيرهم يذكر ما هم عليه من صفات المدح ويثني عليهم في تلك الجوانب .
فهو يقول عن الباقلاني رحمه الله : " أفضل المتكلمين المنتسبين للأشعري ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده " مجموع الفتاوى ( 5 / 98 )
ويمتدحه كثيرا في ردوده على الباطنية ومواقفه العظيمة من النصارى .
ويقول عن إمام الحرمين الجويني رحمه الله : " وأبو المعالي وأمثاله أجل من أن يتعمد الكذب لكن القول المحكي قد يسمع من قائل لم يضبطه وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم " درء تعارض العقل والنقل ( 2 / 310 ) .
ويقول عن الغزالي رحمه الله : " وكان من أعظم الناس ذكاء وطلبا للعلم وبحثا عن الأمور ولما قاله كان من أعظم الناس قصداص للحق وله من الكلام الحسن المقبول أشياء عظيمة بليغة ومن حسن التقسيم والترتيب ما هو به من أحسن المصنفين ..."
وكثيراً ما يمتدح ما يذكره الفخر الرازي في ردوده على النصارى والفلاسفة .
ويقول عن الآمدي إنه " أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور وأعرفهم بالكلام والفلسفة " درء تعارض العقل والنقل ( 4 / 234 )
وقال عنه : " كان من أحسنهم إسلاماً وأمثلهم اعتقاداً " مجموع الفتاوى ( 18 / 52 ) .
وكان ابن السبكي يقول عن تعظيم ابن تيمية لوالده تقي الدين السبكي - مع خلافه المشهور له - : " كان لا يعظم أحدا من أهل العصر كتعظيمه له " طبقات الشافعية ( 10 / 194 )
وذكر ابن السبكي أيضا أن ابن تيمية لما رأى علاء الدين الباجي عظمه ولم يجر بين يديه بلفظة فأخذ الشيخ علاء الدين يقول : تكلم نبحث معك ، وابن تيمية يقول : مثلي لا يتكلم بين يديك أنا وظيفتي الاستفادة منك " طبقات الشافعية ( 10 / 342 )
وهذا ابن دقيق العيد - رحمه الله - الإمام الفذ لا يمنعه خلافه لابن تيمية أن يقول عنه : " لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يريد ويدع ما يريد ".
ويعجبني كلام لابن القيم - رحمه الله - في كتابه النفيس بدائع الفوائد ( 3 / 132 - 134 ) أنقله بنصه لروعته يقول رحمه الله :
( فائدة :
كثير من الناس يطلب من صاحبه بعد نيله درجة الرياسة الأخلاق التي كان يعامله بها قبل الرياسة فلا يصادفها فينتقض ما بينهما من المودة وهذا من جهل الصاحب الطالب للعادة ، وهو بمنزلة من يطلب من صاحبه إذا سكر أخلاق الصاحي ، وذلك غلط ؛ فإن للرياسه سكرة كسكرة الخمر أو أشد ، ولو لم يكن للرياسة سكرة لما اختارها صاحبها على الآخرة الدائمة الباقية ، فسكرتها فوق سكرة القهوة بكثير ، ومحال أن يرى من السكران أخلاق الصاحي وطبعه ، ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيس القبط بالخطاب اللين فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعاً وعقلاً وعرفاً ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب رؤساء العشائر والقبائل .
وتأمل امتثال موسى لما أمر به كيف قال لفرعون : "هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى " فأخرج الكلام معه مجرج السؤال والعرض لا مخرج الأمر وقال : " إلى أن تزكى " ولم يقل إلى أن أزكيك فنسب الفعل إليه هو ، وذكر لفظ التزكي دون غيره لما فيه من البركة والخير والنماء ثم قال : " وأهديك إلى ربك " أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك وقال : " إلى ربك " استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه ورباه بنعمه صغيرا ويافعا وكبيرا
وكذلك قول إبراهيم الخليل لأبيه : " يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً " .
فابتدأ خطابه بذكر أبوته الدالة على توقيره ولم يسمه باسمه ثم أخرج الكلام معه مخرج السؤال فقال : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا ؟ ولم يقل : لا تعبد ثم قال : يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فلم يقل له : جاهل لا علم عندك بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على هذا المعنى فقال جاءني من العلم ما لم يأتك ثم قال : فاتبعني أهدك صراطا سويا ، هذا مثل قول موسى لفرعون : " وأهديك إلى ربك " ثم قال : " يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً " فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه كما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه ، وقال " يمسك " فذكر لفظ المس الذي هو ألطف من غيره ثم نكر العذاب ثم ذكر الرحمن ولم يقل الجبار ولا القهار فأي خطاب ألطف وألين من هذا
ونظير هذا خطاب صاحب يس لقومه حيث قال : " يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون "
ونظير ذلك قول نوح لقومه : " يا قوم إني لكم نذير مبين أن أعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى " .
وكذلك سائر خطاب الأنبياء لأمتهم في القرآن إذا تأملته وجدته ألين خطاب وألطفه بل خطاب الله لعباده وألطف خطاب وألينه كقوله تعالى : " يا ايها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .." الآيات .
وقوله تعالى : " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له " .
وقوله : " يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور " .
وتأمل ما في قوله تعالى : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً " من اللطف الذي سلب العقول .
وقوله تعالى : " أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين " على أحد التأويلين أي نترككم فلا ننصحكم ولا ندعوكم ونعرض عنكم إذا أعرضتم انتم وأسرفتم ؟ .
وتأمل لطف خطاب نذر الجن لقومهم وقولهم : " يا قومنا أجيبوا داعى الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم " )