العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..

فقد طرحتُ موضوعًا مُسبقًا -في ملتقى فقه المناسك- جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب الحج بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحَجِّ)‘‘، وأطرحُ الآن بين أيديكم هذا الموضوع وقد جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتابَي الطهارة والصلاة، ..
.. والتزمت بعرض الخلاف الفقهي في المسائل إجمالًا ابتداءً ثم بالتفصيل بنقل بعض العبارات عن كل مذهب، وذلك بالرجوع إلى المصادر المعتمدة لكل مذهب لتوثيق حكاية المذهب؛ لأنني كثيرًا ما وقفت على تناقض في كتب الخلاف في حكاية المذهب الواحد، فعزمت على نفسي ألا أنسب قولًا لمذهب إلا بالرجوع إلى مصادره، ولم أكتفِ بذلك بل ذكرتُ من كلامهم بعض العبارات الدالة على هذا المذهب. كما التزمت غالبًا بذكر أدلة كل مذهب من خلال كتبه، مع الرجوع إلى مصدر كل حديث مذكور حفاظًا على ألفاظ الحديث النبوي؛ لأن كثيرًا من كتب الفقه تذكر الأحاديث بالمعنى، مع الالتزام بتخريج جميع الأحاديث والآثار وذكر بعض عللها وذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل في رواتها المُتكلم فيهم، مع ذكر الاعتراضات على الأدلة من أقوال أهل العلم. وعامة هذه المسائل من كتاب الحج (الطهارة, الصلاة) اخترتها على وفق اختيار الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله- في كتابه "الرد على أبي حنيفة مما خالف فيه الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ضمن مصنفه، وهذا العمل نقلته من كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور/ كيلاني محمد خليفة، الصفحات (419- 430) -الصفحات (337- 412)-.

أ- المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الحَنَفِيَّةِ (مِنْ كِتَابِ الطَهَارَةِ)

أولًا/ مَسْأَلَةُ نَجَاسَةِ المَاءِ
(1) حَدَّثنا أَبو أُسامَةَ عَنِ الوَليدِ بِنْ كَثيرٍ عن مُحمد بنِ كَعبٍ عن ‘ثبيدِالله بن عبداللهِ عن رافِعٍ بن خَدشيجٍ عن أبي سَعيد الخُدرِيِّ: قِيلَ: يا رسُولَ الله؛ أَنَتوضَّأُ من بِئْرِ بُضَاعَة، وهِي بِئرٌ فِيهَا الحِيَضُ ولُحُومُ الكِلابِ والنَّتِنُ؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المَاءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَئٌ). أخرجه أبو داود (66، 67)، والترمذي (66)، والنسائي في الصغرى (326).
(2) حّدَّثنا أبُو الأَحْوَصِ عن سِمَاكٍ عن عِكْرَمَةَ عن ابنِ عَبَّاسٍ قال: اغتَسَلَ بعضُ أَزوَاجِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في جَفْنَةٍ، فجاء النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ليَغتسِلَ فيهَا أو ليَتَوضَّأَ، فقالت: يا رسُول الله: إنِّي كنتُ جُنُبًا. قال: (إنَّ المَاء لا يَجْنُبُ). أخرجه أبو داود (78)، والترمذي (65)، والنسائي في الصغرى (325)، وابن ماجه (370، 371).
(3) حدَّثنا أبو أُسامة عن الوليدِ بن كَثِيرٍ عن مُحمد بن جَعفَرِ بن الزُّبيرِ عن عُبيدِاللهِ بن عبدِاللهِ بن عُمر عن أَبيهِ قال: قال رسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَم يَحمِل نَجَسًا). أخرجه أبو داود (64، 65)، والترمذي (67)، وابن ماجه (517، 518).
وذُكِرَ أن أبا حنيفةَ قال: يَنجُسُ الماءُ.

***
اتفق الفقهاء المذاهب على أن الماء الكثير لا ينجسه شئ، ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، ويختلفون في حد الكثرة؛ فالمعتبر عند الحنفية في القَدْرِ الكثير رأي المبتلى به، بناءً على عدم صحة ثبوت تقدير شرعًا. ويرى المالكية أن الكثير ما زاد قَدْرُهُ عن آنية الغسل وكذا ما زاد عن قَدْرِ آنية الوضوء على الراجح. ويتفق الشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب، على أن الكثير ما بلغ قلتين فأكثر. وأما الماء القليل الذي خالطته النجاسة فنجس، إذا تغير أو لم يتغير عند جمهور الفقهاء. وذهب مالك ورواية عن أحمد إلى أنه لا ينجس كثير الماء ولا قليله إلا بالتغير. وراجع: الموسوعة الفقهية (1/ 80).
قال صاحب الهداية: وكل ماء وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به قليلًا كانت النجاسة أو كثيرة. وقال مالك رحمه الله: يجوز ما لم يتغير أحد أوصافه. وقال الشافعي رحمه الله: يجوز إذا كان الماء قلتين.
ثم قال: والغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر؛ لأن الظاهر النجاسة لا تصل إليه؛ إذ أثر التحريك في السراية فوق أثر النجاسة، ثم عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال وهو قول أبي يوسف، وعنه التحريك باليد وعن محمد بالتوضي. اهـ. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (1/ 74)، والعناية (1/ 74)، ونصب الراية (1/ 168).
قال الكمال ابن الهمام في فتحا لقدير (1/ 77): حقيقة الخلاف إنما هو في تقدير الكثير الذي يتوقف تنجسه على تغييره للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا به، فقال مالك: ما لم يتغير. وقال الشافعي: قلتان. وقال أبو حنيفة في ظاهر الرواية: يعتبر فيه أكبر رأي المبتلى إن غلب على ظنه أنه بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر لا يجوز الوضوء وإلا جاز.
وعنه اعتباره بالتحريك على ما هو مذكور في الكتاب بالاغتسال أو بالوضوء أو باليد روايات. والأَوَّل أصح عند جماعة. وهو الأليق بأصل أبي حنيفة: أعني عدم التحكم بتقدير فيما لم يرد فيه تقدير شرعي، والتفويض إلى رأي المبتلى بناءً على عدم صحة ثبوت تقديره شرعًا. اهـ. وراجع: المبسوط (1/ 70).
وقال أبو الوليد الباجي في المنتقى شرح الموطأ (1/ 55): وإن كان المُخَالِطُ لماءٍ ولم يغيره نَجِسًا، فإن كان الماء كثيرًا فهو طاهر على الإطلاق، وإن كان الماء قليلًا؛ فالذي رواه أهل المدينة عن مالك أنه طاهر مطهِّر. اهـ. وراجع: مختصر خليل وشروحه: مواهب الجليل (1/ 70)، والتاج والإكليل (1/ 99)، وشرح الخرشي (1/ 75)، ومنح الجليل (1/ 38).
وقال النووي في المجموع شرح المهذب (3/ 162): إذا وقع في الماء الراكد نجاسةٌ ولم تغيره، فحكى ابن المنذر وغيره فيها سبعة مذاهب للعلماء أحدها: إن كان قلتين فأكثر لم ينجس، وإن كان دون قلتين نجس وهذا مذهبنا ومذهب ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد وأبي عُبيد وإسحاق ابن راهويه. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (1/ 84)، ومغني المحتاج (1/ 123)، ونهاية المحتاج (1/ 74).
وقال ابن قدامة في المغني (1/ 30) شارحًا قول الخرقي: "وإذا كان الماء قلتين وهو خمسُ قِرَبٍ فوقعت فيه نجاسة فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة فهو طاهر". والقُلَّة: هي الجرة، سميت قلة؛ لأنها تقل بالأيدين، أي تحمل. ومنه قوله تعالى: (حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا) [الأعراف: 57]، ويقع هذا الاسم على الكبيرة اولصغيرة. والمُراد بها هاهنا قلتان من قلال هجر، وهما خمس قرب كل قربة مائة رطل بالعراقي، فتكون القلتان خمسمائة رطل بالعراقي. هذا ظاهر المذهب عند أصحابنا.
ثم قال: ورُوي عن أحمد رواية أخرى: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير قليله وكثيره. اهـ.
واستند الحنفية إلى دعوى عدم ثبوت تقدير شرعي للماء الكثير الذي يتوقف تنجسه على تغييره، وأجابوا عن تحديد ذلك بالقلتين بأمور، منها:
1- أن ماء بئر بضاعة كان جاريًا قليلًا؛ ولذلك لا يصح الاحتجاج به على أن الماء الدائم الكثير الذي لم تغيره النجساة ليس بنجس.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 12): أما ما ذكرتموه من بئر بضاعة فلا حُجة لكم فيه؛ لأن بئر بضاعة قد اختلف فيها ما كانت، فقال قوم: كانت طريقًا للماء إلى البساتين، فكان الماء لا يستقر فيها، فكان حكم مائها كحكم ماء الأنهار، وقد حُكي هذا القول الذي ذكرناه في بئر بضاعة من الواقدي، حدثنيه أبو جعفر أحمد بن أبي عمران عن أبي عبدالله محمد بن شجاع الثلجي عن الواقدي أنها كانت كذلك.
وكان من الحجة في ذلك أيضًا أنهم قد أجمعوا أن النجاسة إذا وقعت في البئر فغلبت على طعم مائها أو ريحه أو لونه، أن ماءها قد فسد. وليس في حديث بئر بضاعة من هذا شئ، إنما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن بئر بضاعة فقيل له: إنه يُلقى فيها الكلاب والمحائض؟ فقال: (إن الماء لا ينجسه شئ). ونحن نعلم أن بئرًا لو سقط فيها ما هو أقل من ذلك لكان محالًا أن لا يتغير ريح مائها وطعمه، وهذا مما يعقل ويعلم.
فلما كان ذلك كذلك، وقد أباح لهم النبي صلى الله عليه وسلم ماءها وأجمعوا أن ذلك لم يكن وقد داخل الماء التغيير من جهة من الجهات اللاتي ذكرنا: استحال عندنا -والله أعلم- أن يكون سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عن مائها وجوابه إياهم في ذلك بما أجابهم، كان والنجاسة في البئر. ولكنه -والله أعلم- كان بعد أن أُخرجت النجاسة من البئر، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: هل تطهر بإخراج النجاسة منها فلا ينجس ماؤها الذي يطرأ عليها بعد ذلك؟ وذلك موضع مُشْكَلٌ؛ لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يخرج، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الماء لا ينجس). يُريد بذلك الماء الذي طرأ عليها بعد إخراج النجاسة منها لا أن الماء لا ينجس إذا خالطته النجاسة. اهـ.
2- أن القلتين لم يرد في تحديد قدرهما دليل شرعي.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 16): واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر هذا، فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة التي صححناها أن هاتين القلتين لم يبين لنا في هذه الآثار ما مقدارهما. فقد يجوز أن يكون مقدارهما قلتين من قلال هجر كما ذكرتم، ويحتمل أن تكونا قلتين أريد بها قُلَّتَا الرجل وهي قَامَتُهُ. فأُريد إذا كان الماء قلتين أي قامتين لم يحمل نجسًا لكثرته؛ ولأنه يكون ذلك في معنى الأنهار. اهـ.
واستدل الشافعي والحنابلة بما يلي:
1- حديث بئر بضاعة وهو حديث صحيح كما قال أحمد -كما في المغني (1/ 31)-، وقد دلَّ بعمومه على أن الماء لا يتنجس بوقوع شئ فيه من النجاسات، سواء كان قليلًا أو كثيرًا، ولو تغيرت أوصافه أو بعضها، ولكن خُص منه المتغير بالنجاسة بالإجماع، وخُص منه أيضًا القليل إذا لاقته النجاسة بحديث القلتين، فلم يبق إلا الماء الكثير الذي لم تغيره النجاسة فلا ينجسه شئ، وهو محل الشاهد في هذا الحديث، وهكذا كانت صفة بئر بضاعة. راجع: المجموع (1/ 131)، ونيل الأوطار (1/ 36).
يقول الشافعي -كما في اختلاف الحديث المطبوع مع الأم (8/ 610)-: إن بئر بضاعة كثير الماء واسعه، كان يُطرح فيها من الأنجاس ما لا يغير لها لونًا ولا طعمًا ولا يظهر له منها ريح. اهـ. وراجع: الأم (1/ 17).
وقال أبو داود السجستاني صاحب السنن -كما في سُننه عقب الحديث(76)-: سمعتُ قُتيبة بن سعيد قال: سألتُ قيِّمَ بئر بضاعة عن عمقها، قلتُ: أكثر ما يكون فيها الماء. قال: إلى العانة. قلتُ: فإذا نقص، قال: دون العورة.
وقال أبو داود: قدّرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع. وسألتُ الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غُيِّرَ بناؤها عما كان عليه، فقال: لا. ورأيتُ فيها ماء متغير اللون. اهـ.
قال النووي في المجموع (1/ 131): يعني بطول المُكث وبأصل المنبع لا بشئ أجنبي، ولا يلزم أن يكون كانت هكذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقد أجاب الشافعية والحنابلة على ما قاله الطحاوي من أن بئر بضاعة كانت جارية، وما نقله عن الواقدي أنه كان يُسقى منها الزرع والبساتين.
قال النووي في المجموع (1/ 164): قال أصحابنا: هذا غلط ولم تكن بئر بضاعة جارية؛ بل كانت واقفة، وما نقلوه عن الواقدي مردود؛ لأن الواقدي ضعيف عند أهل الحديث -هو مُحمد بن عمر الواقدي صاحب التصانيف، وأحد أوعية العلم على ضعفه، قال عنه أحمد بن حنبل: هو كذا يقلب الأحاديث. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال مرة: لا يُكتب حديثه. وقال البخاري وأبو حاتم: متروك. وقال أبو حاتم أيضًا والنسائي: يضع الحديث. وقال الدارقطني: فيه ضعف. راجع: تهذيب الكمال (26/ 180)، وميزان الاعتدال. والراوي عن الواقدي هذا الأثر هو مُحمد بن شجاع الثلجي الفقيه البغدادي الحنفي صاحب التصانيف مع ورع وعبادة، وجاء من غير وجه أنه كان ينال من أحمد وأصحابه؛ لذا ضعفه المحدثون في رواية الحديث. راجع: الجواهر المضية (3/ 173)، والفوائد البهيّة ص(223)، والأنساب للسمعاني (1/ 512)، وسير أعلام النبلاء (12/ 379)، وميزان الاعتدال (3/ 577)-، وغيرهم لا يحتج بروايته المتصلة، فكيف بما يُرسله أو يقوله عن نفسه، ولو صح أنه كان يُسقى منها الزرع لكان معناه أنه يُسقى منها بالدلو والناضح عملًا بما نقله الأثبات في صفتها. اهـ.
ومما دفع به الطحاوي الاستدلال بحديث بئر بضاعة -كما سبق- استحالة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم في حالة وجود النجاسة في البئر فلا بد أنها أُزيلت قبل ذلك؛ لأنه من المعلوم أن البئر لو سقط فيه ما هو أقل من ذلك لكان مُحالًا أن لا يتتغير أوصافه، واستشهد على ذلك بقصة الحبشي الذي مات في زمزم فنزحها ابن الزبير.
وقد أجاب النووي -كما في المجموع (1/ 165)- عن قصة نزح ماء زمزم بأنها لم تصح، ولو صحت لحُملت على أن دمه غلب على الماء فغيّره، أو نُزحت استحبابًا وتنظيفًا فإن النفس تعافه. اهـ.
2- حديث القلتين -وقد حرّر الدكتور علي جمعة مقدار القلة في كتابه: المكاييل والموازين الشرعية ص(46)، فهي عند الحنفية تساوي (101.56 كيلو جرام) وعند الجمهور تساوي (95.625 كيلو جرام)-: وهذا الحديث يرويه عن عبدالله بن عمر ابناه عُبيدالله، وعبدالله فأما حديث عُبيدالله فسبق تخريجه في أول المسألة.
وأما حديث عبدالله فاختُلف في إسناده، فرواه أبو داود من طريق حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبدالله بن عبدالله بن عمر عن أبيه، ورواه هكذا عن حماد جماعة. ورواه أبو داود أيضًا -في سننه (63)- من طريق حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبدالله بن عبدالله بن عمر عن أبيه. رواوه هكذا عن حماد جماعة أيضًا.
وهذا الاختلاف لا يضر؛ لأن شعيب بن أيوب رواه عن أبي أسامة عن الوليد بن كثير على الوجهين جميعًا -رواه الدارقطني في سننه (1/ 18)، والحاكم في المستدرك (1/ 133)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 260)-: عن محمد بن جعفر بن الزبير ثم أتبعه عن محمد بن عباد بن جعفر فصحّ القولان جميعًا عن أبي أسامة، وصحّ أن الوليد بن كثير رواه عنهما جميعًا، فكان أبو أسامة مرة يحدث به هكذا ومرة يحدث به هكذا.
وقد حاول الحنفية توهين الحديث باختلاف الواقع في أسانيده، وقد أطال في ذلك الزيعلي في نصب الراية (1/ 168) ملخصًا لكلام ابن دقيق العيد في كتاب الإمام؛ حيث جمع طرق الحديث ورواياته واختلاف ألفاظه، ونقل الزيعلي عنه أنه انتهى إلى تضعيف الحديث، وهو خلاف ما نقله عنه تاج السُّبكي حيثُ قال في الطبقات الكبرى (9/ 245): صحّح الشيخ تقي الدين حديث القلتين واختار ترك العمل به، لا لمعارض أرجح؛ بل لأنه لم يثبت عنده بطريق يجب الرجوع إليه شرعًا تعيين لمقدار القلتين. اهـ.
وقد أفرد الحافظ صلاح الدين العلائي جزءًا في تصحيح حديث القلتين والكلام على أسانيده، لخّص فيه طرق الحديث تلخيصًا حسنًا، وذكر ما اعترض به عليه من الاختلاف، وذكر الجواب عن ذلك.
وقال في آخره ص(62): فثبت صحة حديث ابن عمر في اشتراط بلوغ الماء قلتين في دفعه النجاسة، قال الإمام أبو سُليمان الخطابي: الحديث صحيح احتج به الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه وأبو عُبيد وسمى آخرين غيرهم. وممن صحّحه الإمام محمد بن جعفر الطحاوي الحنفي، ولم يعترض على سنده بشئ، وإنما اعترض عليه بجهل مقدار القلتين وأنه ليس له حد محدود. اهـ.
وهذه هي الجهة الثانية التي تكلم منها الحنفية في الحديث، وقد أجاب النووي عن ذلك فقال في المجمو (1/ 165): وأما قولهم: لا نعلم قدر القلتين.فالمُراد قلال هجر كما رواه ابن جرير، وقلال هجر كانت معروفة عندهم مشهورة، يدل عليه حديث مالك بن صعصعة في صحيح البخاري (3207) أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن ليلة الإسراء فقال: (رُفِعْتُ إلى سدرة المُنتهى، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر). فعُلم بذلك أن لاقلال عندهم مشهورة وكيف يظن أنه صلى الله عليه وسلم يُحدد لهم أو يُمثل لهم بما لا يعلمونه ولا يهتدون إليه؟!. اهـ. وقد وقع للإمام النووي وهم في عزو الحديث؛ حيث جعله من رواية أبي ذر في الصحيحين، والصحيح أنه من رواية مالك بن صعصعة عند البخاري.
قال الشافعي -كما في اختلاف الحديث (8/ 610)-: وقِرَب الحجاز قديمًا وحديثًا كبار لعز الماء بها، فإذا كان الماء خمس قرب كبار لم يحمل نجسًا وذلك قلتان بقلال هجر. اهـ.
وهكذا نجد أن تحديد الماء الكثير الذي لا يحمل النجاسة بالقلتين تؤيده بعض الأدلة، وهي إما مختلف في ثبوتها أو دلالتها، وإذا كان الأمر كذلك لا يُحكم على أحد الطرفين المتنازعين في المسألة بمُخالفة الأدلة، وعليه فلا أوافق ابن أبي شيبة في حُكمه بمُخالفة أبي حنيفة للأثر في هذه المسألة.
***
ثانيًا/ مَسْأَلَةُ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ وَالخِمَارِ
(1) حّدثنا أَبُو مُعَاويَةَ عن الأَعمَشِ عن الحَكَمِ عَن عَبدِالرَّحمنِ بْنِ أَبي لَيلَى عن كَعبِ بن عُجْرَةَ عن بِلاَلٍ: أنَّ رسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ علَى الخُفَّيْنِ والخِمَارِ. أخرجه مُسلم (275) -والخِمار: هو العمامة، سُميت بذلك؛ لأنها تخمر الرأي أي تغطيه-.
(2) حدَّثنا يُونُسُ عن دَاوُدَ بن أبي الفُرَاتِ عن مُحمَّدِ بْنِ زيدٍ عن أضبي شُرَيْحٍ عن أَبي مُسْلِمٍ مَولَى زَيدِ بن صُوحَانَ قال: كُنت مَع سَلْمَانَ فَرَأَى رَجُلًا يَنْزَعُ خُفَّيْهِ للوُضُوءِ فقال لَهُ سَلمانُ: امْسَحْ عَلى خُفَّيكَ وعَلى خِمَارِكَ وامسَحْ بنَاصِي؟َتكَ، فإِنِّي رَأَيتُ رسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمسَحُ على الخُفَّيْنِ والخِمَارِ. أخرجه ابن ماجه (563).
(3) حدَّثنَا يَزِيدُ التَّيمِيُّ عَنْ بَكْرٍ عن ابنِ المُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ عن أَبِيهِ عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أنَّهُ مَسَحَ مُقَدَّمَ رَأَسِهِ وَعَلَى الخُفَّينِ، وَوَضَعَ يَدَهُ على العِمَامةِ ومَسَحَ على العِمَامَةِ. أخرجه مُسلم (274).
وذُكِرَ أنَّ أبا حنيفةَ قال: لا يُجْزِئُ المَسْحُ عَلَيْهِمَا.
***
اتفق جمهور الفقهاء -الحنفية والمالكية والشافعية- على أن المسح على العمامة لا يُجزئ في الوضوء. ولهم في ذلك تفصيلات، فقالت المالكية: يجوز المسح على العمامة إن خِيفَ ضرر بسبب نزعها من الرأس، وإن قدر على مسح بعض رأسه مباشرة مسحه وكمل على عمامته وجوبًا. وقالت الحنفية والشافعية: إن جمع بين المسح على الناصية والعمامة أجزأه. وذهب الحنابلة والظاهرية: إلى جواز المسح على العمامة.
قال صاحب الهداية: ولا يجوز المسح على العمامة والقَلَنْسُوَةِ والبُرْقُعِ والقُفَّازَيْنِ؛ لأنه لا حرج في نزع هذه الأشياء، والرخصة لدفع الحرج. اهـ. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (1/ 157)، والعناية (1/ 157)، ونصب الراية (1/ 237).
وقال أبو بكر الجصّاص في أحكام القرآن (2/ 495): واختلف في المسح على العمامة، فقال أصحابنا ومالك والحسن وصالح والشافعي: لا يجوز المسح على العمامة ولا على الخمار. وقال الثوري والأوزاعي: يمسح على العمامة.. وقد بينَّا في حديث المغيرة بن شعبة أنه مسح على ناصيته وعمامته فأخبر أنه فعل المفروض في مسح الناصية ومسح على العمامة، وذلك عندنا جائز. اهـ.
ولم يأخذ الحنفية بأحاديث المسح على العمامة لأمرين:
الأول: أنها أخبار آحاد وردت بأمر يُقيد مطلق الكتاب، وهو لا يجوز عندهم، وهو ما يسمونه بالنسخ بالزيادة.
وبيان ذلك أن قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ) [المائدة: 6] يقتضي بإطلاقه عدم مسح غير الرأس، وقد جاءت أحاديث المسح على العمامة فقيدت هذا الإطلاق بجواز ذلك، وهو ما يعتبرونه نسخًا، ولا يجوز النسخ إلا بالمتواتر أو المشهور.
الثاني: أنها أخبار آحاد وردت في أمر عمّت به البلوى فلا تُقبل، فإن أمر الوضوء يحتاج إلى معرفته عموم الناس، فإذا ورد بطريق آحاد لا يُقبل، وهذا من قواعدهم في قبول الأخبار أيضًا.
يقول صاحب العناية: والتمسك بالحديث الضعيف؛ لأن قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ) [المائدة: 6] يقتضي عدم جواز مسح غير الرأس، والعمل بالحديث يكون زيادة عليه بخبر الواحد وهو نسخ فلا يجوز. اهـ. انظر: العناية شرح الهداية (1/ 751).
ويقول أبو بكر الجصَّاص في احكام القرآن (2/ 495): إن الآثار متواترة في مسح الرأس، فلو كان المسح على العمامة جائزًا لورد النقل به متواترًا في وزن وروده في المسح على الخفين، فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر لم يجز المسح عليها من وجهين: أحدهما: أن الآية تقتضي مسح الرأس، فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم. والثاني: عموم الحاجة إليه فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار. اهـ. وراجع: المبسوط (1/ 101).
وقال أبو الوليد الباجي في المنتقى (1/ 76) شارحًا ما رواه مالك -في موطّأه (69)، والترمذي (102)-: أن جابر بن عبدالله سُئِلَ عن المسح على العمامة فقال: لا، حتى تمسح الشعر بالماء. قال: يقتضي أن المسح على العمامة لا يجزي وبه قال جمهور العلماء. وقال أحمد وداود: يجزي المسح على عمائم العرب. اهـ. وراجع: المدونة (1/ 124).
وقال في حاشية الدسوقي شارحًا قوله في مختصر خليل: "إن خيف غسل جرح كالتيمم مسح.. وعمامة خيف بنزعها" ضرر، ولو أمكنه مسح بعض الرأس أتى به وكمل على العمامة وجوبًا. اهـ. وراجع: مختصر خليل وشروحه: حاشية الدسوقي (1/ 164)، ومواهب الجليل (1/ 207)، ومنح الجليل (1/ 162)، وشرح الخرشي (1/ 201).
قال النووي في المجموع (1/ 438): قال أصحابنها: إذا كان عليه عمامة ولم يرد نزعها لعُذر ولغير عذر مسح الناصية كلها، ويُستحب أن يتم المسح على العمامة سواء لبسها على طهارة أو حدث. وأما إذا اقتصر على العمامة ولم يمسح شيئًا من رأسه فلا يُجزيه بلا خلاف عندنا. اهـ. وراجع: الأم (1/ 41).
وقال ابن قدامة في المُغني (1/ 184): ويجوز المسح على العمامة. اهـ.
قال أبو مُحمد ابن حزم في المُحلى (1/ 303): وكل ما لُبس على الرأي من عمامة أو خمار أو قلنسوة أو بيضة أو مغفر أو غير ذلك: أجزأ المسح عليها، المرأة والرجل سواء في ذلك، لعلة أو غير علة. اهـ.
واستدل الجمهور على عدم جواز المسح على العمامة بما يلي:
1- قوله تعالى: (وَاْمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ) [المائدة: 6] وحقيقته تقتضي إمساسه الماء ومُباشرته، وماسح العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به، وقد سبق وجه الاستدلال الحنفية بهذه الآية.
2- وبأن الرأس عضو طهارته المسح، فلم يجُز المسح على حائل دونه كالوجه واليد في التيمم فإنه مجمع عليه.
3- وبأن الرأس عضو لا تحلق المشقة في إيصال الماء إليه غالبًا، فلم يجُز المسح على حائل منفصل عنه كاليد في القفاز والوجه في البرقع والنقاب.
4- وبأن أحاديث المسح على العمامة وقع فيها اختصار، والمراد مسح الناصية والعمامة ليكمل سنة الاستيعاب لجميع الرأس، يدل على صحة هذا التأويل أنه صرّح به في حديث المغيرة بن شعبة عند مسلم: ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين. وفي رواية: مسح على الخفين ومقدم رأسه وعلى عمامته -وقد سبق تخريجه أول المسألة-.
وروى أبو داود -في سننه (147)- عن أنس قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قِطْرِيَّةٌ، فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة.
وهذا التأويل المتعيين؛ لأن وجوب مسح الرأس ثبت بالقرآن، وجاءت الأحاديث الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة، وفي بعضها مسح العمامة ولم تذكر الناصية، فكان محتملًا لموافقة الأحاديث الباقية، ومحتملًا لمخالفتها، فكان حملها على الاتفاق وموافقة القرآن أَوْلَى.
واستدل الحنابلة والظاهري بالأحاديث الصحيحة في المسح على العمامة؛ ومنها:
1- حديثُ بلال وسلمان والمغيرة المذكورة في أول المسألة؛ ومنها: ما رواه البُخاري (205) عن عمرو بن أُمية قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه.
2- وبأن العمامة حائل في محل ورد الشرع بمسحه فجاز المسح عليه كالخفين.
3- وبأن الرأس عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائله كالقدمين.
4- وبأن الآية لا تنفي المسح على الحائل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مُفسر له، وقد مسح النبي صلى الله عليه وسلم على العمامة وأمر بالمسح عليها، وهذا يدل على أن المراد بالآية المسح على الرأي أو حائله. ومما يُبين ذلك: أن المسح في الغالب لا يصيب الرأس، وإنما يمسح على الشعر وهو حائل بين اليد وبينه فكذلك العمامة، فإنه يُقال لمن لمس عمامته أو قبلها: قبل رأسه ولمسه.
5- أن الأحاديث التي جمعت بين المسح على الناصية والعمامة تُحمل على تعدد الوضوء؛ فأحاديث المسح على العمامة لا تحكي وضوءًا واحدًا.
6- وأجاب ابن القيم على استدلال الحنفية فقال في إعلام الموقعين (2/ 231): إنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على العمامة، وقلتم: إنها زائدة على نص الكتاب، فتكون ناسخة له فلا تُقبل، ثم ناقضتم فأخذتم بأحاديث المسح على الخفين وهي زائدة على القرآن، ولا فرق بينهما، واعتذرتم بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة بخلاف المسح على العمامة، وهو اعتذار فاسد، فإن من له اطلاع على الحديث لا يشك في شهر كل منها وتعدد طرقها واختلاف مخارجها وثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا. اهـ.
وهكذا رأينا أن أحاديث المسح على العمامة لا تثبت عند الحنفية على وفق ما قرروه من قواعد في قبول الأخبار وردها، أضف أنهم لم ينفردوا فيما ذهبوا إليه من عدم جواز المسح على العمامة؛ بل وافقهم جمهور العلماء؛ ومن ثم فإن ما قاله ابن أبي شيبة من مُخالفة أبي حنيفة للأثر أمر غير مقبول، فإن أبا حنيفة جمع بين الأدلة ولم يُخالفها.
وهذه المسألة يظهر فيها بوضوح الفرق بين نظر الفقهاء الذي يلحظ الأدلة الشرعية الأخرى ويوفق بينها عند التعارض، وبين نظر المحدثين الذي يعملون بظواهر النصوص ويرمون من خالفهم بمخالفة السنة (الكلام منقول! ).
***

ثالثًا: مَسْأَلَةُ بَوْلِ الرَّضِيعِ
(1) حدَّثنا ابن عُيَيْنَةَ عن الزُّهري عن عُبيدالله عن أُمِّ قيس ابنة مِحْصَنٍ قالت: دخلت بابنٍ لي على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لم يأكل الطعام فبالَ عليه فدعا بماءِ فرشه. أخرجه البخاري (223)، ومُسلم (693).
(2) حدثنا أبو الأَحْوَصِ عن سِمَاكٍ عن قَابُوِ بن المُخَارِقِ عن لُبَابَةَ بين الحارث قالت: بال الحُسَين بن علي على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: أعطني ثوبك والبَسْ غيرهُ. فقال: (إنما يُنْضَحُ من بولِ الذَّكَرِ، ويُغسلُ من بولِ الأُنْثَى). أخرجه أبو داود (375)، وابن ماجه (522).
(3) حدثنا وَكِيعٌ عن هشامٍ عن أبيهِ عن عائشةَ: أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بصبي فبالَ عليه فأَتْبَعَهُ الماءَ ولم يغسِلْهُ. أخرجه مُسلم (688).
(4) حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى عن جده أبي ليلى قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- جُلُوسًا فجاء الحسين بن علي يحبو حتى جلس على صدره فبال عليه، قال: فابتدرناه لنأخذه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ابني ابني) ثم دعا بماء فصبَّه عليه. أخرجه أحمد في مُسنده (4/ 348)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 284): رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات.
وذُكر أن أبا حنيفة قال: يُغسل.

***
ذهب الحنفية والمالكية إلى أن التطهير من بول الغلام وبول الجارية الصغيرين أكلا أو لا يكون بغسله، وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يجزئ في التطهير من بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح، ويكون برش الماء على المكان المصاب وغمره به بلا سيلان، أما بول الجارية الصغيرة فلا يُجزئ في تطهيره النضح، ولا بد فيه من الغسل. راجع: الموسوعة الفقهية (29/ 117). ويرى الجميع نجاسة بول الغلام إلا أنه عند الشافعية والحنابلة قد خفف في طهارته.
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 92): فذهب قوم إلى التفريق بين حكم بول الغلام وبول الجارية قبل أن يأكلا الطعام. فقالوا: بول الغلام طاهر، وبول الجارية نجس. وخالفهم في ذلك آخرون، فسووا بين بوليهما جميعًا، وجعلوهما نجسين، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. اهـ. وراجع: بدائع الصنائع (1/ 88).
وقال في المدونة (1/ 131): وقال مالك في الجارية والغلام بولهما سواء إذا أصاب بولهما ثوب رجل أو امرأة غسلا ذلك وإن لم يأكلا الطعام. اهـ. وراجع: المنتقى شرح الموطأ (1/ 128)، ومختصر خيلي وشروحه: التاج والإكليل (1/ 162)، ومواهب الجلبل (1/ 106)، وشرح الخرشي (1/ 101)، ومنح الجليل (1/ 54).
وقال النووي في المجموع شرح المذهب (2/ 609): مذهبنا المشهور أنه يجب غسل بول الجارية. ويكفي نضح بول الغلام وبه قال علي بن أبي طالب وأم سلمة والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود. وقال مالك وأبو حنيفة والثوري: يشترط غسل بول الغلام والجارية. وقال النخعي: يكفي نضحهما جميعًا وهو رواية عن الأوزاعي. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (1/ 315)، ونهاية المحتاج (1/ 257)، ومغني المحتاج (1/ 215).
وقال ابن قدامة في المغني (1/ 415): بول الغلام الذي لم يطعم الطعام يجزئ فيه بالرش، وهو أن ينضح عليه الماء حتى يغمره، ولا يحتاج إلى رش وعصر، وبول الجارية يغسل وإن لم تطعم. اهـ. وراجع: إعلام الموقعين (2/ 267)، والمحلى (1/ 113).
وقد حكى كل من الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 92)، وابن عبدالبر في التمهيد (9/ 109)، والباجي في المنتقى (1/ 128): أن بول الصبي الذي لم يطعم طاهر عند من اكتفى في طهارته بالنضح. وهو خطأ لا شك فيه، فمذهبهم أنه نجس خفف في طهارته؛ فالنجاسة نوعان: مغلظة، ومخففة.
قال النووي في المنهاج مع شرحه مغني المحتاج (1/ 92) في القسم الثاني من النجاسة وهي المخففة: وما تنجس ببول صبي لم يطعم غير لبن نضح. اهـ. وقال ابن قدامة في المغني (1/ 415) شارحًا قول الخرقي: "إلا بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، فإنه يثرش الماء عليه" هذا استثناء منقطع؛ إذ ليس معنى الكلام طهارة بول الغلام، إنما أراد أن بول الغلام الذي لم يطعم الطعام يجزئ فيه الرش، وهو أن ينضح عليه الماء حتى يغمره، ولا يحتاج إلى رش وعصر، وبول الجارية يغسل وإن لم تطعم. اهـ.
مناقشة الأدلة:
ويُضاف إلى أحاديث المسألة التي ذكرها ابن أبي شيبة حديثان:
1- ما روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يُغسل بول الجارية وينضح على بول الغلام). قال قتادة: ما لم يطعما الطعام، فإذا أطعما الطعام غسلا. أخرجه أبو داود (377، 378)، والترمذي (613)، وابن ماجه (525).
2- وما روي عن المُحِل بن خليفة عن أبي السمح خادم النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أراد أن يغتسل قال: (ولني قفاك). فأوليه قفاي فأستره به، فأتي حسن أو حسين فبال على صدره فجئت أغسله فقال: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام). أخرجه أبو داود (376).
وقد استدل الشافعية والحنابلة بهذه الأحاديث على أن بول الغلام ينضح وبول الجارية يغسل، وقد جاء النضح مفسرًا في بعضها بأنه الرش؛ كحديث أم قيس وأبي السمح، وهو ما يتفق ومعناه اللغوي. راجع: لسان العرب والنهاية والمصباح المنير مادة: نضح.
قال النووي في المجموع (2/ 608): يشترط في النضح إصابة الماء جميع موضع البول وأن يغمره، ولا يشترط أن ينزل عنه، والغسل أن يغمره وينزل عنه ولا يشترط عصره. وذكر أصحابنا في الفرق بين بول الصبي والصبية من حيث المعنى فرقين: أحدهما: أن بولها أثخن وألصق بالمحل. والثاني: أن الاعتناء بالصبي أكثر فإنه يحمله الرجال والنساء في العادة، والصبية لا يحملها إلا النساء غالبًا؛ فالابتلاء بالصبي أكثر وأعم. اهـ.
وقال الحنفية والمالكية: إن النضح في الحديث يُحتمل أن يكون معناه صب الماء، فقد تسمى العرب ذلك نضحًا، واستدلوا على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأعلم أرضًا يقال لها عمان ينضح بناحيتها البحر، بها حي من العرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر). أخرجه أحمد في مُسنده (1/ 44). والصب غسل، ومنه قول العرب: غسلتني السماء، عند انصباب المطر عليه.
واستدل الطحاوي على ذلك بالأحاديث التي ورد فيها أنه صب الماء على بول الغلام كحديث أبي ليلى، واستدل أيضًا بحديث عائشة: فأتبعه الماء. وقال: واتباع الماء حكمه حكم الغسل، على أنه قد ورد في بعض رواياته: فدعا بماء فنضحه عليه. وفي أخرى: فدعا بماء فصبه عليه، فدل على أن النضح عندهم الصب.
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 93، 94): فثبت بهذه الآثار أن حكم بول الغلام هو الغسل، إلا أن ذلك الغسلب يجزئ منه الصب، وأن حكم بول الجارية هو الغسل أيضًا، وفرق في اللفظ بينهما وإن كانا مستويين في المعنى؛ لأن بول الغلام يكون في موضع واحد لضيق مخرجه، وبول الجارية يتفرق لسعة مخرجه، فأمر في بول الغلام بالنضح: يريد صب الماء في موضع واحد، وأراد بغسل بول الجارية أن يتبع بالماء؛ لأنه يقع في أماكن متفرقة. فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار، وأما وجهه من طريق النظر فإن رأينا الغلام والجارية حكم أبوالهما سواء بعد ما يأكلان الطعام، فإذا كان بول الجارية نجسًا فبول الغلام أيضًا نجس، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. اهـ.
قال أبو عمر ابن عبدالبر في التمهيد (9/ 111، 112): القياس أن لا فرق بين بول الغلام والجارية كما أنه لا فرق بين بول الرجل والمرأة، إلا أن هذه الآثار إن صحت ولم يعاررضها عنه صلى الله عليه وسلم مثلها وجب القول بها، إلا أن رواية من روى الصب على بول الصبي وإتباعه الماء أَصح وأَوْلَى، وأحسن شئ عندي في هذا الباب ما قالته أم سلمة: بول الغلام يصب عليه الماء صبًّا وبول الجارية يُغسل طعمت أو لم تطعم -أخرجه أبو داود (379) عن الحسن عن أمه عن أم سلمة: أنها أبصرت أم سلمة تصب الماء على بول الغلا ما لم يطعم، فإذا طعم غسلته، وكانت تغسل بول الجارية-.
وهذا حديث مفسر للأحاديث كلها مستعمل لها، حاشا حديث المحل بن خليفة الذي ذكر فيه الرش، وهو حديث لا تقوم به حجة والمحل ضعيف، وإذا صبَّ على بول الغلام وغسل بول الجارية وقد علمنا أن الصب قد يمسى نضحًا، كان الفرق بين بول الغلام والجارية الرضيعين ما بين الصب والعراك تعبدًا كان وجهًا حسنًا، وهو أَوْلَى ما قبل به في هذا الباب على ما روي عن أم سلمة، وبالله التوفيق. اهـ.
وعلى كلام ابن عبدالبر مؤاخذتان:
الأولى: أنه ضعف حديث ابي سمح، لضعف المُحِلِّ بن خليفة، وليس كذلك، فالمحل ثقة، وثقه يحيى بن معين والنسائي. راجع: ترجمته في تهذيب الكمال (27/ 290).
الثانية: أنه رجح روايات الصب على روايات الرش، وهو مبني على تضعيفه لحديث أبي المسح وقد علمتَ ما فيه، والصحيح ترجيح روايات الرش لثبوتها في الصحيحن كحديث أم قيس بنت محصن.
يتضح من هذه المناقشة أن الخلاف في المسألة ينحصر في تفسير النضح الوارد في الحديث، فيرى الشافعية والحنابلة أن معناه الرش كما جاء مفسرًا في بعض روايات الحديث، وهو ما يتفق مع معناه اللغوي، ويكون بذلك بول الغلام نجسًا قد خفف في طهارته.
ويرى الحنفية والمالكية أن النضح في الحديث معناه الصب وهو غسل؛ فالفرق عندهم بين بول الغلام والجارية: أن غسل بول الغلام يجزئ فيه الصب، وبول الجارية لا بد فيه من العرك.
فالخلاف في المسألة في فهم الحديث وتفسيره، ولا يُقال في مثل هذا إن أحد الطرفين خالف الحديث؛ ومن ثَمَّ نعلم أن ابن أبي شيبة لم يصب فيما قاله من مخالفة أبي حنيفة للأثر في هذه المسألة.
***

رابعًا: مَسْأَلَةُ الطَّهَارَةِ بِالاِسْتِحَالَةِ
(1) حّدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سًفْيَانَ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ يَحْيَى بِنْ عَبَّادٍ عَنْ أَنَسِ بِنْ مَالِكٍ: أَنَّ أَيْتَامًا وَرِثُون خَمْرًا، فَسَأَلَ أَبُو طَلْحَةَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَجْعَلَهُ خَلًّا: (لاَ). أخرجه مُسلم (1983)، وأبو داود (367).
وَذُكِرًَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لاَ بَأسَ بِهِ.

***
إذا تخللت الخمر بنفسها بغير قصد التخليل يحل ذلك الخل بلا خلاف بين الفقهاء، وإذا خللها صاحبها بعلاج؛ فقال الشافعية والحنابلة ومالك في رواية: لا يحل تخليل الخمر بالعلاج ولا تطهر. وقال أبو حنيفة ورواية عن مالك: التخليل جائز وتطهر. وعن مالك في أصح الروايات عنه: أن التخليل حرام فلو خللها طهرت.
قال صاحب الهداية: وإذا تخللت الخمر حلت، وساء صارت خلًّا بنفسها أو بشئ يُطرح فيها ولا يُكره تخليلها. اهـ. الهداية وشروحها: فتح القدير (10/ 107)، والعناية (10/ 107)، ونصب الراية (6/ 242).
وقال شارح مختصر خليل: روى ابن القاسم تحريم تخليل الخمر، وروى أشهب الإباحة فعلى رواية ابن القاسم لمالك قولان في أكلها إذا خللت، مبنيان على النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا. اهـ. انظر: التاج والإكليل (1/ 139)، وراجع: مواهب الجليل (1/ 98)، وشرح الخرشي (1/ 88)، ومنح الجليل (1/ 50)، وحاشية الدسوقي (1/ 52)، والمنتقى (3/ 153).
وقال النووي في المجموع شرح المهذب (2/ 592): إذا انقلبت الخمر بنفسها خلًّا فتطهر عند جمهور العلماء، ونقل القاضي عبدالوهاب المالكي فيه الإجماع، وحكى غيره عن سحنون المالكي أنها لا تطهر، وأما إذا خُللت بوضع شئ فيها فمذهبنا أنها لا تطهر، وبه قال أحمد والأكثرون. وقال أبو حنيفة والأوزاعي والليث: تطهر، وعن مالك ثلاث روايات أصحها عنه أن التخليل حرام وتطهر فلو خللها طهرت، والثانية: حرام ولا تطهر، والثالثة حلال وتطهر. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (1/ 303)، ونهاية المحتاج (1/ 247)، ومغني المحتاج (1/ 236).
وقال الخرقي كما في المغني (9/ 145): والخمرة إذا أُفسدت فصيرت خلًّا لم تَزُلْ عن تحريمها، وإن قلب الله عينها فصارت خلًّا فهي حلال. اهـ.
واستدل الجمهور بما يلي:
1- ما رواه مُسلم وأبو داود -واللفظ له- عن أنس: أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرًا قال: (أهرقها). قال: أفلا أجعلها خلًّا؟ فقال: (لا).
قال النووي في شرحه على مسلم (13/ 152): هذا دليل الشافعي، والجمهور أنه لا يجوز تخليل الخمر ولا تطهر بالتخليل، هذا إذا خللها بخبز أو خميرة أو غير ذلك مما يلقى فيها، فهي باقية على نجاستها وينجس ما أُلقي فيها، ولا يطهر هذا الخل بعده أبدًا لا بغسل ولا بغيره، أما إذا نُقلت من الشمس إلى الظل أو من الظل إلى الشمس، ففي طهارتها وجهان لأصحابنا: أصحهما تطهر. اهـ.
وأجاب الطحاوي -كما في شرح معاني الآثار (4/ 388)- بأنه محمول على التغليظ والتشديد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بشق زقاق الخمر في مبدأ تحريم الخمر -كما روى ذلك أحمد في مُسنده (2/ 71) عن ابن عمر، وروى الطبراني في الكبير (5/ 99) عن أنس في حديث أبي طلحة وسؤاله عن خمر الأيتام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أهرق الخمر وكسر الدنان)-، غضبًا لله على من غيبها بعد تحريم الله إياها، فعاقبهم بشق زقاقها، وهذا صريح في التغليظ؛ لأن فيه إتلاف مال الغير، وقد كان يمكن إراقة الزقاق وتطهيرها، ولكن قصد بإتلافها التشديد ليكون أبلغ في الردع، وقد يجوز أيضًا أن يكون من غيبها ممن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تخليلها، منعه من ذلك أيضًا عقوبة له، لا لأنه لو خللت لم تحل له. وراجع: نصب الراية (6/ 245).
ومما يدل على ذلك أيضًا ما رواه ابن سعد من طريق سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه: أن عمر حرق بيت رويشد الثقفي وكان حانوتًا للشراب، وكان عمر قد نهاه، فلقد رأيته يلتهب كأنه جمرة. اهـ. انظر: الطبقات الكبرى (5/ 55).
وقال الكاساني في بدائع الصنائع (5/ 113): ويحمل النهي عن التخليل على دفع عادة العامة؛ لأن القوم كانوا حديثي العهد بتحريم الخمر، فكانت بيوتهم لا تخلو عن خمر وفي البيت غلمان وجوار وصبيان، وكانوا أَلفِوا شرب الخمر وصار عادة لهم وطبيعة، والنزوع عن العادة أمر صعب، فَقَيِّمُ البيت إن كان ينزجر عن ذلك ديانة، فَقَلَّما يسلم الأتباع عنها لو أمر بالتخليل، إذ لا يتخلل من ساعتها بل بعد وقت معتبر فيؤدي إلى فساد العامة وهذا لا يجوز، وقد انعدم ذلك المعنى في زماننا ليقرر التحريم ويألف الطبع تحريمها، حملناه على هذا دفعًا للتناقض عن الدليل، وبه تبين أن ليس فيما قلناه احتمال الوقوع في الفساد. اهـ. وراجع: المبسوط (24/ 22)، وتبيين الحقائق (6/ 48).
2- وبما رواه البيهقي من طريق أسلم مولى عمر بن الخطاب: أن عمر بن الخطاب أتى بالطِّلاب -والطِّلاء بالكسر والمد: الشراط المطبوخ من عصير العنب، وهو الرُّبُّ. وراجع: النهاية ولسان العرب مادتي (طلى وربب)-، وهو بالجابية وهو يومئذ يطبخ وهو كعقيد الرُّبِّ فقال: إن في هذا لشرابًا ما انتهى إليه، فلا يشرب خل خمر أفسدت حتى يبدي الله فسادها فعند ذلك يطيب الخل، ولا بأس على امرئ أن يبتاع خلًّا وجده مع أهل الكتاب ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها بدعما عادت خمرًا. قوله أفسدت: يعني عولجت -أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 37)-. وهذا قول يشتهر؛ لأنه خطب به الناس على المنبر فلم ينكر، فكان إجماعًا من الصحابة -يعني سكوتيًّا-.
واستدل الحنفية بما يلي:
1- أخرج مسلم في صحيحه (5471، 5473) عن عائشة وجابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الإدام الخل).
وهو يشمل بعمومه جميع أنواع الخل: المخلل والمتخلل. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه عام خُصَّ منه المخلل بحديث أنس.
2- أخرج الدارقطني في سننه (1/ 49، 4/ 266) من طريق فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن أم سلمة: أنها كانت لها شاة تحتلبها ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما فعلت الشاة). قالوا: ماتت. قال: (أفلا انتفعتم بإهابها؟) قلنا: إنها ميتة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن دباغها يحله كما يحل خل الخمر).
قال الدارقطني: تفرد به فرج بن فُضالة وهو ضعيف، يروي عن يحيى بن سعيد أحاديث لا يُتابع عليها. اهـ.
وفرج بن فُضالة قال عنه أحمد: ثقة. وفي رواية: إذا حدث عن الشاميين فلا بأس، ولكنه حدث عن يحية بن سعيد مناكير. وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث. وفي رواية: ليس به بأس. وفي أخرى: صالح. وقال علي بن المديني: هو وسط وليس بالقوي. وفي رواية: ضعيف لا أحدث عنه. وقال البخاري ومسلم: منكر الحديث عن يحيى بن سعيد. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو حاتم: صدوق يكتب حديثه ولا يحتج به، حديثه عن يحيى بن سعيد فيه إنكار. وراجع: تهذيب الكمال (23/ 156)، والجرح والتعديل (7/ 85)، وميزان الاعتدال (3/ 343).
3- روى البيهقي من طريق المغيرة بن زياد عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير خلكم خل خمركم).
قال البيهقي في السنن الكبرى (6/ 38): تفرد به المغيرة بن زياد وليس بالقوي، وأهل الحجاز يسمون خل العنب خل الخمر. قال: وإن صح فهو محمول على ما إذا تخلل بنفسه، وعليه يحمل أيضًا حديث فرج بن فضالة. اهـ.
والمغيرة بن زياد قال عنه أحمد: مضطرب الحديث، منكر الحديث، أحاديثه مناكير. وقال يحيى بن معين: ثقة. وفي رواية: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح صدوق ليس بذاك القوي. وقال أبو داود: صالح. وقال النسائي: ليس بالقوي. وراجع: تهذيب الكمال (28/ 359)، والجرح والتعديل (8/ 222)، وميزان الاعتدال (4/ 160).
وهكذا تمسّك كل مذهب بأدلته مع تأويل أدلة الآخر لتوافق أدلته، ومع رُجحان أدلة الجمهور وقوتها؛ فإنه لا ينبغي أن نصف الحنفية بمُخالفة الحديث في هذه المسألة؛ لأن الخلاف في فهم الحديث وتأويله لا يُعتبر مُخالفة له، ولما ذكروه من أدلة أخرى.
***
هذا، ولي عودة بمشيئة الله تعالى لطرح المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الحَنَفِيَّةِ (مِنْ كِتَابِ الصَّلاَةِ).
وجزاكم الله خيرًا جميعًا.
والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
ب- المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الصَّلاَةِ)

ب- المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الصَّلاَةِ)

السلام عليكم

ب- المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الحَنَفِيَّةِ (مِنْ كِتَابِ الصَّلاَةِ)

خامسًا/ مَسْأَلَةُ الصَّلاَةِ فِي أَعْطَانِ الإبِلِ
(1) حَدثنا ابْنُ إِدريسَ عن الأَعمَشِ عبد عبدِاللهِ بنِ عبدِاللهِ عن عبدِالرحمنِ ابنِ أَبي لَيلَى عن البَرَاءِ بنِ مالكٍ قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: أُصَلِّي عِي مَرَابِضِ الغَنَمِ؟ قال: (نَعَمْ). قال: أَتَوَضَأُ من لُحُومِهَا؟ قال: (لاَ). قال: فَأُصَلِّي في مَبَارِكِ الإبِلِ؟ قال: لاَ). قال: فَأَتَوَضَّأُ من لُحُومِهَا؟ قال: (نَعَمْ). أخرجه أبو داود (184)، والترمذي (81)، وابن ماجه (494). وقوله: البراء بن مالك صوابه/ البراء بن عازب.
(2) حدَّثنا هُشيمٌ عن يُونُسَ عن الحَسَنِ عن عبدِالله بن مُغَفَّلٍ قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (صَلُّوا في مَرَابِضِ الغَنَمِ، ولاَ تُصَلُّوا في أَعْطَانِ الإِبِلِ، فإنها خُلِقَتْ من الشَّيطَانِ). أخرجه النسائي (735)، وابن ماجه (769).
(3) حدثنَا عُبيدُاللهِ بنُ مُوسَى عن إِسرَائِيلَ عن أَشْعَثَ ابن أبي الشَّعْثَاءِ عن جَعفَرِ ابن أبي ثَورٍ عن جابرِ بن سَمُرَةَ قال: أمرَنَا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن نتوضَّأَ من لُحُومِ الإِبِلِ، وَلا نتوضَّأَ من لُحُومِ الغَنَمِ، وأن نُصَلِّي في دِمَنِ الغَنَمِ، ولا نُصلِّي في أَعطانِ الإبِلِ. أخرجه مُسلم (360). وقوله: دمن الغنم/ ما تلبده الغنم بأبوابها وأبعارها في مرابضها. راجع: النهاية (2/ 134).
(4) حَدَّثنَا يزيدُ بن هَارُونَ حدَّثنا هِشَامٌ عن مُحمَّدِ بن سِيرِينَ عن أبي هُرَيرَةَ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا لم تَجِدُواْ إِلا مَرَابضَ الغنمِ وأعطانَ الإبلِ؛ فَصَلُّوا في مَرَابِضِ الغَنَمِ، ولا تُصَلُّوا في أعطانِ الإبلِ). أخرجه ابن ماجه (768).
(5) حَدثنَا زيدُ بن الحُبَابِ عن عبدِالملكِ بن الرَّبيعِ بن سَبْرَةَ عن أبيهِ عن جدِّهِ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يُصلَّى في أَعْطَانِ الإِبِلِ). أخرجه ابن ماجه (770).
وذُكر أن أبا حنيفةَ قال: لا بَأسَ بذلك.

***
ورد النهي في هذه الأحاديث عن الصلاة في أعطان الإبل، وإباحتها في مرابض الغنم، قال الشافعي: أعطان الإبل: مباركها حول الماء. وقال أحمد: هي التي تقيم فيها الإبل وتأوي إليها.
والمرابض للغنم كالأعطان للإبل، ويُقال: ربضت الغنم وبركت الإبل. وفي بعض ألفاظ الحديث: مراح الغنم؛ وهو مأواها ليلًا. راجع: الأم (1/ 113)، والمجموع (3/ 166)، والمغني (1/ 403)، والنهاية في غريب الحديث والأثر ولسان العرب المواد: عطن، ربض، روح.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى كراهة الصلاة في معاطن الإبل، وذهب الحنابلة والظاهرية إلى عدم صحة الصلاة في أعطان الإبل، وعن أحمد رواية أخرى: أن الصلاة صحيحة. كمذهب الجمهور، وذهب الحنفية إلى جواز الصلاة في معاطن الإبل -وذلك بعد اتفاق الجميع على عدم صحة الصلاة في مواضع النجاسات، فمن صلَّى في معاطن الإبل أو مرابض الغنم لا بد أن يصلي في موضع طاهر منه، أو يبسط شيئًا طاهرًا يصلي عليه-.
قال أو الوليد الباجي في المنتقى (1/ 302): لا خلاف بين العلماء في كراهة الصلاة في عطن الإبل. اهـ. وراجع: مواهب الجليل (1/ 421)، ومنح الجليل (1/ 194)، وشرح الخرشي (1/ 227).
وقال النووي في المجموع شرح المهذب (3/ 166): وتُكره الصلاة في أعطان الإبل، ولا تُكره في مراح الغنم؛ لأن في أعطان الإبل لا يمكن الخشوع لما يُخاف من نفورها ولا يُخاف من نفور الغنم. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (2/ 166)، ونهاية المحتاج (2/ 6)، ومغني المحتاج (1/ 411).
وقال ابن قدامة في المغني (1/ 403): اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في أعطان الإبل فرُوي أن الصلاة لا تصح فيها بحال، وممن رأى أن يُصلي في مرابض الغنم ولا يُصلي في مبارك الإبل؛ ابن عمر، وجابر بن سمرة، والحسن، ومالك، وإسحاق، وأبو ثور. وعن أحمد رواية أخرى: أن الصلاة في هذه صحيحة ما لم تكن نجسة. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة اولشافعي. اهـ. وراجع: الفروع لابن مفلح (1/ 371).
وقال ابن حزم في المحلى بالآثار (2/ 342): ولا تحلُّ الصلاة في عطنِ إبلٍ، وهو الموضع الذي تقف فيه الإبل عند ورودها الماء وتبرك وفي المراح والمبيت. اهـ.
وقد التمس الجمهور علّة النهي عن الصلاة في أعطان الإبل واستبعدوا أن يكون النهي لما يكون في معاطن الإبل من أرواثها وأبوالها؛ لأن ذلك مُتحقِّقٌ أيضًا في مرابض الغنم، وقد أُبيحت الصلاة، وحكم أبوالها وأرواثها جميعًا واحد، سواء من جعلها طاهرة أو جعلها نَجِسَةٌ.
واستبعدوا أيضًا أن تكون العلّة أن الصلاة لا تجوز بحذاء البعير؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُصلي إلى بعيره -رواه الترمذيؤ من حديث ابن عمر (353) وقال: حسن صحيح. والطحاوي في شرح معاني الآثار من حديث عُبادة (1/ 385)-.
وقد ذهب بعضهم إلى أن العِلَّة هي: أن أصحاب الإبل من عادتهم التغوّط بقرب إبلهم والبول، فيُنجِّسُونَ بذلك أعطان الإبل، وأصحاب الغنم من عادتهم تنظيف مواضع غنمهم وترك البول فيه والتغوّط، فأُبيحت الصلاة في مرابضها لذلك؛ فالعلّة هي النجاسة التي تمنع من الصلاة في أيِّ موضع كانت. نقله الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 384) عن شُريك بن عبدالله، ونقله الباجي في المنتقى شرح الموطَّأ (1/ 302) عن ابن القاسم.
وقال الأكثرون إن العلّة هي ما يُخاف من نفارها؛ لأنها خُلقت من الشياطين كما جاء في الحديث، بخلاف الغنم فإنها ذات سكينة. ويؤيد صحّة هذا التعليل ما رواه الشافعي عبدالله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أدركتكم الصلاة وأنتم في أعطان الإبل فاخرجوا منها فصلوا، فإنها جن من جن خُلقت، ألا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ بآنافها، وإذا أدركتكم الصلاة وأنتم في مراح الغنم فصلوا فيها فإنها سكينة وبركة).
يقول ابن الأثير في النهاية (3/ 259): لم يُنه عن الصلاة في أعطان الإبل من جهة النجاسة، وإنما أراد أن الإبل تزدحم في المنهل، فإذا شربت رفعت رؤوسها، ولا يؤمن من نفارها وتفرقها في ذلك الموضع فتؤذي المصلي عندها، أو تلهيه عن صلاته، أو تنجسه برشاش أبوالها. اهـ. ونقل الطحاوي هذا التعليل عن يحيى بن آذم في شرح معاني الآثار (1/ 385)، والباجي عن بعض أصحابه في المنتقى (1/ 302).
وأحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل ثابتة، ولم يذكر الحنفية دليلًا مُقنعًا لعدم الأخذ بها، والذي يُفهم من كلام الطحاوي أن الحنفية لم يأخذوا بها لمُخالفتها القياس.
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 384): فذهب قوم إلى أن الصلاة في أعطان الإبل مكروهة، واحتجوا بهذه الآثار، حتى غلط بعضهم في حكم ذلك فأفسد الصلاة، وخالفهم في ذلك آخرون فأجرزوا الصلاة في ذلك الموطن، وكان من الحجة لهم أن هذه الآثار التي نهت عن الصلاة في أعطان الإبل قد تكلم الناس في معناها وفي السبب الذي كان من أجله النهي. اهـ.
ثم ذكر عدة أقوال في علة النهي حتى قال -فيه (1/ 385)-: وأما حُكم ذلك من طريق النظر فإنَّا رأيناهم لا يختلفون في مرابض الغنم وأن الصلاة فيها جائزة، وإنما اختلفوا في أعطان الإبل فقد رأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم في طهارتها، ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها في طهارتها أو نجاستها، فكان يجئ في النظر أيضًا أن يكون حكم الصلاة في موضع الإبل كهو في موضع الغنم قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومُحمد رحمهم الله تعالى. اهـ.
وكما يظهر من كلام الطحاوي فإن الحنفية لم يأخذوا بهذه الأحاديث لمُخالفتها للقياس، وهذا ما أنكره عليهم غيرهم، ونفي الحنفية نظريًّا -أن يكون تقديم القياس على الخبر من أصولهم، ولكن علميًّا نجد لهم فروعًا تثبت ما نفوه كما في هذه المسألة، وهذا ما دعى بعض الناس للتشكك فيما نفوه.
ومع وضوح مُخالفة الحنفية للأحاديث في هذه المسألة مما يدل على صحة ما أورده ابن أبي شيبة عليهم؛ نجد الكوثري يعترض عليه كعادته في ردوده عليه، ومن عجيب ما قال في هذه المسألة في النكت الطريفة ص(14): أن النظر الذي ذكره الطحاوي -يعني مُخالفة الخبر للقياس- يكون علة في الحديث الذي يفرق بين الأعطان والمرابض؛ بحيث إنه لا يقوى لمُعارضة حديث: (جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا). اهـ.
فأما إعلال الحديث بمُخالفة القياس فلا يُوافقه عليه أحد، حتى أصوليو الحنفية أنفسهم، إلا إذا كان الكوثري يرى صحة نسبة معارضة الخبر بالقياس لأبي حنيفة وأصحابه.
وأما ما ادعاه من المعارضة بين الحديثين؛ فلا معارضة بينهما، فحديث: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) عام، وحديث النهي عن الصلاة في معاطن الإبل خاص، والعام لا يتعارض مع الخاص كما هو مُقرر في موضعه من علم الأصول.
***

سادسًا/ مَسْأَلَةُ الصَّلاَةِ عَلَى القَبْرِ وَصَلاَةِ الغَائِبِ
(1) حدثَنَا حفصٌ وابنُ مُسهِرٍ عن الشَّيبَانيِّ عن الشعبيِّ عن ابن عبَّاسٍ قال: صلَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على قبرٍ بعدما دُفِنَ. أخرجه البخاري (1321)، ومُسلم (954).
(2) حَدثنَا هُشَيْمٌ عن عُثمَانَ بن حَكيمٍ عن خَارجَةَ بن زيدٍ عن عمِّهِ يزيدَ بن الثَّابتِ، وكان أكبرَ من زيدٍ: أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على امرأةٍ بعدما دُفنتْ، فصلَّى عليها وكبَّر أربَعًا. أخرجه النسائي (2022)، وابن ماجه (1528).
(3) حدَّثنَا سعيدُ بن يحيى الحِمْيَري عن سُفيَانَ بن حُسَيْنٍ عن الزُّهريِّ عن أبي أُسَامَةَ ابن سهلٍ عن أبيهِ قال: كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يعودُ فُقرَاءَ أهل المدينةِ، ويَشْهَدُ جَنائِزَهُمْ إذا مَاتُوا. قال: فتُوُفِّيَتْ امرأةٌ من أهلِ العَوَالي. قال: فَمَشَى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى قَبْرَهَا وكبَّرَ أربَعًا. أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 494)، والطبراني في معجمه الكبير (6/ 84) رقم(5586)، وابن عبدالبر في التمهيد (6/ 263)، والخطيب في تاريخ بغداد (9/ 75- 76) كلُّهم من طريق أبي سفيان الحميري به.
(4) حَدثنَا الثَّقَفِيُّ عن أَيُّوبَ عن أبي قِلابَةَ عن أبي المُهَلَّبِ عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ أخًا لَكُم قد مَاتَ فصلُّوا عليهِ) يعني النَّجَاشِيِّ. أخرجه مسلم (953).
(5) حدَّثنَا عبدُالأَعلَى عن مَعْمَرٍ عن الزُّهرِيِّ عن سعيدِ بنِ المُسيَّبِ عن أبي هُريرةَ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على النَّجاشيِّ فكبَّرَ عليهِ أربعًا. أخرجه البخاري (3881)، ومسلم (951).
(6) حَدَّثَنَا يَحيى بنُ آدمَ حدَّثنَا سُفيَانُ بنُ حَيَانَ عن سعدِ بن مينَاءَ عن جابرٍ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على ميتٍ بعد ما دُفنَ. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 151) رقم(12734).
(7) حدَّثنا يزيدُ بنُ هَارُونَ أخبرنا سَليمُ بن حَيَّانَ عن سَعْدِ بن مِينَاءَ عن جابرٍ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على أَصْحَمَةَ وكبَّرَ عليهِ أرْبَعًا. أخرجه البخاري (3879)، ومسلم (952).
وذُكِرَ أن أبَا حنيفَةَ قال: لا يُصلَّى على مَيتٍ مرَّتَيْنِ.
***
تشتمل هذه المسألة على فرعين:
الأول: الصلاة على القبر ويتضمن تكرار الصلاة على الميت.
الثاني: الصلاة على الغائب. ويمكن جعلها شيئًا واحدًا إذا ما اعتبرنا أن الصلاة على الغائب نوعٌ من تكرار الصلاة على الميت.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب الحنفية والمالكية إلى عدم مشروعية تكرار الصلاة على الميت، واستثنى أبو حنيفة من ذلك الولي إذا فاتته الصلاة على الميت فله إعادة الصلاة، وذهبا أيضًا إلى عدم مشروعية صلاة الغائب. وذهب الشافعية والحنابلة إلى مشروعية الأمرين.
قال في الهداية: (فإن صلى غير الولي أو السلطان أعاد الولي) يعني إن شاء، لما ذكرنا أن الحق للأولياء، (وإن صلى لم يجُز لأحد أن يصلي بعده)؛ لأن الغرض يتأدى بالأولى، والتنفل بها غير مشروع؛ ولهذا رأينا الناس تركوا عن آخرهم الصلاة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو اليوم كما وضع. (وإن دفن الميت ولم يصل عليه؛ صلَّى على قبره)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأة من الأنصار. اهـ. الهداية وشروحها: فتح القدير (2/ 119)، والعناية (2/ 119)، ونصب الراية (2/ 315).
قال السرخسي في المبسوط (2/ 51): وإذا صُلِّيَ على جنازة ثم حضر قوم لم يصلوا عليها ثانية جماعةً ولا وحدانًا عندنا، إلا أن يكون الذين صلوا عليها أجانب بغير أمر الأولياء، ثم حضر الولي فحينئذ له أن يعيدها، وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: لا يُصلَّى على ميت غائب. اهـ. وراجع: بدائع الصنائع (1/ 314).
قال أبو الوليد الباجي في المنتقى شرح الموطّأ (2/ 14): قال ابن القاسم وسائر أصحابنا: يصلى على القبر إذا فاتت الصلاة على الميت، فأما إذا لم تفت فلا يصلي عليه، والدليل على المنع من ذلك أن هذا حكم يجب فيه بعد موته، فوجب أن يتكرر مع بقاء حكم الأصل كالغسل. اهـ. وراجع: مختصر خليل وشروحه: شرح الخرشي (2/ 142)، ومنح الجليل (1/ 526)، والتاج والإكليل (3/ 54).
وجاء في كتاب اختلاف مالك والشافعي مع الأم (7/ 222): سألتُ الشافعي عن الصلاة على الميت الغائب وعلى القبر؛ فقال: أستحبها. قلتُ للشافعي: نحن نكره الصلاة على ميت غائب وعلى القبر. فقال: فقد رويتم عن النبي الصلاة على النجاشي، ورويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلَّى على ميت وهو في القبر غائب، فكيف كرهتم ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الصلاة دعاء للميت، وهو إذا كان ملففًا بيننا يصَلى عليه فإنما ندعوا له بوجه علمنا، فكيف لا ندعوا له غائبًا وهو في القبر بذلك الوجه. اهـ. وراجع: المجموع (5/ 205).
قال ابن قدامة في المغني (2/ 195) شارحًا قول الخرقي: (ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر) وجملة ذلك أن من فاتته الصلاة على الجنازة فله أن يصلي عليها ما لم تدفن، فإن دفنت فله أن يصلي على القبر إلى شهر، هذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، رُوي ذلك عن أبي موسى وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي. وقال النخعي والثوري ومالك وأبو حنيفة: لا تُعاد الصلاة على الميت إلا للولي إذا كان غائبًا، ولا يُصلي على القبر إلا كذلك. اهـ. وراجع: إعلام الموقعين (2/ 263).
مناقشات حول الأدلة:
استدل الشافعية والحنابلة بالأحاديث التي ذكرها ابن أبي شيبة والمُثبَتة لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على قبر بعض الصحابة، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب على النجاشي.
وقد أجاب الحنفية والمالكية عن أحاديث الصلاة على القبر بأمور، منها:
1- أن حق الميت قد تأدى بالصلاة الأولى فلو صلى عليه ثانية كان تنفلًا بالصلاة على الجنازة وذلك غير مشروع، ولو جاز هذا لكان الأَوْلى أن يصلي على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرزق زيارته الآن؛ لأنه في قبره كما وضع؛ لأن لحوم الأنبياء حرام على الأرض به ورد الأثر، ولم يشتغل أحد بهذا، فدلَّ أنه لا تُعادُ الصلاة على الميت إلا أن يكون الولي هو الذي حضر، فإن الحق كان له وليس لغيره ولاية إسقاط حقه، وهو تأويل فعل رسول الله صلى الله عليه سولم فإن الحق كان له، قال الله تعالى: (اْلنَّبِيُّ أَوْلَى بِاْلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب: 6]، وهكذا تأويل فعل الصحابة، فإن أبا بكر رضي الله عنه كان مشغولًا بتسوية الأمور وتسكين الفتنة فكانوا يصلون عليه قبل حضوره، وكان الحق له؛ لأنه هو الخليفة، فلمّا فرغ صلى عليه ثم لم يُصل أحد بعده عليه. راجع: المبسوط (2/ 51)، وفتح القدير (2/ 120)، والمنتقى (2/ 14).
2- أن استدلال الشافعية والحنابلة يستند إلى دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على قبر كان قد صُلِّي على من دُفِنَ فيهِ، ولا طريق لهم إلى إثبات ذلك؛ بل نحن ندعي أيضًا أنه لم يكن صلى عليه، وإذا تساوى الدعوتان لم يصح الاحتجاج بالخبر الوارد في ذلك. راجع: المنتقى (2/ 14).
3- أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّلَ صلاته على القبور بما لا طريق لنا إلى العلم بأن حكم غيره فيه كحكمه فقال: (إن هذه القبور ممتلئة ظُلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم). راجع: المنتقى (2/ 14)، وهذا الحديث رواه مُسلم (2259).
وأجابوا عن الاستدلال بالصلاة على النجاشي بعدة أجوبة أيضًا؛ منها:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم رُفع له سريره فرآه، فتكون الصلاة عليه كميت رآه الإمام ولا يراه المأمومون، وقد ورد ما يدل على ذلك؛ فقد روى ابن حبان في صحيحه (7/ 369) من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا صلُّوا عليه). فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوا خلفه فكبَّر أربعًا، وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه. راجع: المبسوط (2/ 51).
2- أن الصلاة على النجاشي كانت من باب الضرورة؛ لأنه مات بأرض لم يقم فيها عليه فريضة الصلاة، فتعين فرض الصلاة عليه لعدم من يُصلي عليه ثَمَّ، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ على غائب غيره، وقد مات من الصحابة خلقٌ كثير، وهم غائبون عنه، وسمع بهم فلم يُصلِّ عليهم، إلا غائبًا واحدًا ورد أن الأرض طُويت له حتى حضره وهو معاوية بن معاوية المُزني. راجع: نصب الراية (2/ 329).
روى الطبراني في المُعجم الأوسط (4/ 163)، ومُسند الشاميين (2/ 12) من طريق نوح بن عمرو بن حوى -ترجم له الذهبي في ميزان الاعتدال (4/ 278) فقال: رُوي عن بقية حديث الصلاة على معاوية بن معاوية المزني قال ابن حبان: يُقال: إنه سرق هذا الحديث. ثم ذكر الذهبي الحديث وقال: هذا حديث مُنكر- ثنا بقية بن الوليد عن محمد بن زياد الألهاني عن أبي أمامة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فنزل عليه جبرائيل فقال: يا رسول الله إن معاوية بن معاوية المزني مات بالمدينة أتحب أن أطوي لك الأرض فتُصلي عليه؟ قال: (نعم)، فضرب بجناحه على الأرض فرفع له سريره فصلى عليه وخلفه صفَّان من الملائكة، في كل صفٍّ سبعون ألف ملك ثم رجع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: (بِمَ أدرك هذا؟) قال: بحُبِّ سورة: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وقراءته إيَّاها جائيًا وذاهبًا وقائمًا وقاعدًا وعلى كل حال.
ورواه ابن سَعد في الطبقات من طريقين: عن زيد بن هارون عن العلاء بن زيد الثقفي -العلاء بن زيد أبو محمد الثقفي، قال عنه علي بن المديني: كان يضع الحديث. وقال البخاري والعقيلي وابن عدي: مُنكر الحديث. وقال أبو حاتم وأبو داود: متروك الحديث. وقال ابن حبان: روى عن أنس نسخة موضوعة لا يحل ذكره إلا تعجبًا. راجع: تهذيب الكمال (22/ 506)، والجرح والتعديل (6/ 355)، والتاريخ الكبير (6/ 520)، وكتاب المجروحين (2/ 180)-، عن أنس بن مالك قال: كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. وعن عثمان بن الهيثم عن محبوب بن هلال المزني -محبوب بن هلال قال عنه أبو حاتم: ليس بمشهور. وقال الذهبي: لا يُعرف وحديثه مُنكر. وذكره ابن حبان في الثقات. راجع: الجرح والتعديل (8/ 389)، وميزان الاعتدال (3/ 442)، والثقات (7/ 529)-، عن عطاء ابن أبي ميمونة عن أنس فذكر نحوه. راجع: نصب الراية (2/ 329).
3- إن كان الميت في صلاة الغائب من جانب المشرق، فإن استقبل القبلة في الصلاة عليه كان الميت خلفه، وذلك لا يجوز، وإن استقبل الميت كان مصليًّا لغير القبلة وذلك لا يجوز أيضًا. راجع: المبسوط (2/ 51).
قال النووي في المجموع شرح المهذب (5/ 211): ومذهبنا جواز الصلاة على الميت الغائب عن البلد سواء كان في جهة القبلة أم في غيرها، ولكن المصلي يستقبل القبلة ولا فرق بين أن تكون المسافة بين البلدين قريبة أو بعيدة ولا خلاف في هذا كله عندنا، ومنعها أبو حنيفة، دليلنا حديث النجاشي وهو صحيح لا مطعن فيه، وليس لهم عنه جواب صحيح؛ بل ذكروا فيه خيالات أجاب عنها أصحابنا بأجوبة مشهورة؛ منها قولهم: إنه طويت الأرض فصار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. وجوابه: أنه لو فتح هذا الباب لم يبقَ وثوق بشئ من ظواهر الشرع لاحتمال انخراق العادة في تلك القضية، مع أنه لو كان شئ من ذلك لتوفرت الدواعي بنقله، وأما حديث العلاء بن زيد فهو ضعيف ضعّفه الحفاظ ومنهم البخاري في تاريخه والبيهقي، واتفقوا على ضعف العلاء هذا وأنه منكر الحديث. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (2/ 27)، ونهاية المحتاج (2/ 485)، وتحفة المحتاج (3/ 150).
قال ابن قدامة في المغني (2/ 195): وتجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر بالنية فيُستقبل القبلة ويُصلي عليه كصلاته على حاضر، وسواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن، كان بين البلدين مسافة القصر أو لم يكن. وبهذا قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز. وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى كقولهما؛ لأن من شرط الصلاة على الجنازة حضورها بدليل ما لو كان في البلد لم تجُز الصلاة عليها مع غيبتها عنه، فإن قيل: لم يكن بالحبشة من يصلي على النجاشي، قُلنا: ليس هذا مذهبكم، فإنكم لا تُجيزون الصلاة على الغريض والأسير ومن مات بالبوادي، وإن كان لم يُصل عليه ولأن هذا بعيد؛ لأن النجاشي ملك الحبشة وقد أسلم وظهر إسلامه فيبعد أن يكون لم يوافقه أحد يصلي عليه. اهـ. وراجع: الفروع (2/ 251).
ويُتلخّص مما سبق أن سبب الخلاف هو تأويل أحاديث الصلاة على القبر وصلاةا لغائب، فعمل بظاهرها الشافعية والحنابلة، وتأولها الحنفية والمالكية على عدّة وجوه، واستدلوا لصحة هذا التأويل بأدلة نقلية ولكنها لا ترقى لرُتبة الاحتجاج، ومن المعلوم أن الخلاف في تأويل الحديث لا يعتبر مُخالفة له؛ ومن ثمَّ فأرى أنه لا وجه للحُكم على الحنفية بمُخالفة الحديث في هذه المسألة.
***

سابعًا/ مَسْأَلَةُ صَلاَةِ المُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ
(1) حدَّثَنَا ابنُ إدريسَ عن حُصَينٍ عن هِلالِ بن يَسَافٍ قال: أخَذَ بيدي زيادُ ابنُ أبي الجُعدِ فأَوْقَفَنِي على شَيخٍ بالرَّقَّةِ يُقال لهُ: وَابِصَةُ بنُ مَعْبَدٍ. قال: صلَّى رجلٌ خَلْفَ الصَّفِّ وحدَهُ فأمَرَهُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يُعيدَ. أخرجه ابن ماجه (1057)، والترمذي (230) وقال: حديث حسن.
(2) حَدثنَا مُلازِمُ بن عمرٍو عن عبدِاللهِ بن بَدْرٍ قال: حدَّثنِي عبدُالرَّحمنِ بن عليِّ بن شَيبَانَ عن أبيهِ عليِّ بنِ شَيْبَانَ، وكان مِنَ الوَفْدِ قال: خَرَجْنَا حتَّى قَدِمْنَا على نبيِّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فبَايَعنَاهُ وَصَلِّينَا خَلْفَهُ، فَرَأى رَجُلًا يُصَلِّي خلفَ الصُّفُوفِ. قال: فوَقَفَ عليهِ نبيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حتَّى انصَرَفَ، فقال: (استَقْبِلْ صَلاتَكَ، فَلا صَلاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ). أخرجه ابن ماجه في سُننه (1056)، وأمد في مُسنده (4/ 23) ،والبيهقي في سننه الكبرى (3/ 105).
وذُكر أن أبا حنيفةَ قال: تُجْزِئُهُ صَلاتُهُ.
***
اختلف الفقهاء في حُكم صلاة المُنفرد خلف الصف دون عذر:
فذهب جمهور الفقهاء -الحنفية والمالكية والشافعية- إلى صحة الصلاة مع الكراهة، وتنتفي الكراهة بوجود العذر. وذهب الحنابلة والظاهرية إلى بُطلان صلاة من صلى ركعة كاملة خلف الصف منفردًا دون عذر.
قال السرخسي في المبسوط (1/ 192): (وإذا انفرد المُصلي خلف الإمام عن الصف لم تفسد صلاته) وقال أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل رحمه الله: تفسد صلاته. ولكن الأَوْلَى عندنا أن يختلط بالصف إن وجد فُرجة، وإن لم يجد وقف ينتظر من يدخل فيصطفان معه، فإن لم يدخل أحد وخاف فوت الركعة جذب من الصف إلى نفسه من يعرف منه علمًا وحُسن الخلق لكي لا يصعب عليه فيصطفان خلفه، فإن لم ينجر إليه أحد فحينئذ يقف خلف الصف بحذاء الإمام لأجل الضرورة. اهـ.
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 393): فذهب قومٌ إلى أن من صلى خلف صف منفردًا، فصلاته باطلة واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: من فعل ذلك فقد أساء، وصلاته مُجزئة عنه. وقالوا: ليس في هذه الآثار ما يدل على خلاف ما قلنا. إلى آخر ما ذكره من الأدلة حتى قال: وكل ما بيّنا في هذا الباب من هذا ومن إجازة صلاة من صلى خلف الصف هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. اهـ.
جاء في المدونة (1/ 194): قال مالك: من صلى خلف الصفوف وحده فإن صلاته تامة مُجزئة عنه ولا يجذب إليه أحدًا. قلتُ: فهل كان مالك يرى بأسًا أن يقف الرجل وحده خلف الصف فيُصلي بصلاة الإمام؟ قال: لا بأس بذلك وهو الشأن عنده. قال ابن القاسم: فقُلتُ لمالك: أفيجذب إليه رجلًا من الصف؟ قال: لا وكَرِهَ ذلك. اهـ. وراجع: التاج والإكليل (2/ 458)، وشرح الخرشي (2/ 2)، ومواهب الجليل (2/ 112)، ومنح الجليل (1/ 159).
قال النووي في المجموع شرح المهذب (4/ 189): لو صلَّى مُنفردًا خلف الصف مع تمكّنه من الصف كره، وصحّت صلاته، وإذا وجد الداخل في الصف فُرجة أو سعة دخلها، وله أن يخرق الصف المتأخرإذا لم يكن فيه فرجة وكانت في صف قدامه لتقصيرهم بتركها، فإن لم يجد فرجة ولا سعة ففيه خلاف حكوه وجهين، والصواب أنه قولان: أحدهما: يقف مُنفردًا ولا يجذب أحدًا. والثاني: وهو الصحيح وقطع به جمهور أصحابنا: أنه يُستحب أن يجذب إلى نفسه واحدًا من الصف ويُستحب للمجذوب مساعدته. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: مُغني المحتاج (1/ 493)، ونهاية المحتاج (2/ 196)، وتحفة المحتاج (2/ 311).
قال ابن قدامة في المغني (2/ 22) شارحًا قول الخرقي: (ومن صلى خلف الصف وحده، أو قام بجنب الإمام عن يساره أعاد الصلاة) وجُملته أن مَن صلى وحده ركعة كاملة لم تصح صلاته وهذا قول النخعي، والحَكَم، والحسن بن صالح، وإسحاق، وابن المنذر. وأجازه الحسن، ومالك، والأوزاعي، والشافعي وأصحاب الرأي. اهـ. وراجع: إعلام الموقعين (2/ 258)، والفتاوى الكبرى (2/ 325).
قال أبو محمد ابن حزم في المُحلَّى بالآثار (2/ 372):وأيّما رجل صلى خلف الصف بطُلت صلاته، ولا يضر ذلك المرأة شيئًا، فإن لم يجد في الصف مدخلًا فليجتذب إلى نفسه رجلًا يُصلي معه، فإن لم يقدر فليرجع، ولا يصلي وحده خلف الصف إلا أن يكون ممنوعًا فيُصلي وتُجزئه. اهـ.
-أدلة الجمهور:
1- روى البخاري (791) عن أبي بكرة: أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (زادك الله حرصًا ولا تعد).
قال الشافعي -كما في اختلاف الحديث بهامش الأم (8/ 636)-: فكأنه أحب له الدخول في الصف، ولم يرَ عليه العجلة بالركوع حتى يلحق بالصف، ولم يأمره بالإعادة؛ بل فيه دِلالة على أنه رأى ركوعه مُنفردًا مجزئًا عنه. اهـ.
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 593): ففي هذا الحديث أنه ركع دون الصف، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة، فلو كان من صلى خلف الصف لا تُجزئه صلاته، لكان من دخل في الصلاة خلف الصف لا يكون داخلًا فيها. ألا ترى أن من صلى على مكان قذر أن صلاته فاسدة؟ ومن افتتح الصلاة على مكان قذر ثم صار إلى مكان نظيف أن صلاته فاسدة؟. فكان كل من افتتح الصلاة في موطن لا يجوز له فيه أن يأتي بالصلاة بكاملها، لم يكن داخلًا في الصلاة، فلما كان دخول أبي بكرة في الصلاة دون الصف دخولًا صحيحًا كانت صلاة المُصلي كلها دون الصف صلاة صحيحة. فإن قال قائل: فما معنى قوله: (ولا تعد). قيل له: ذلك -عندنا- يحتمل معنيين: يحتمل: ولا تعد أن تركع دون الصف حتى تقوم في الصف، ويحتمل: لا تعد أن تسعى إلى الصلاة سعيًا يحفزك فيه النفس. اهـ.
2- ما رواه البخاري (382)، ومسلم (1531) عن أنس بن مالك: أن جدته مُليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له، فأكل منه ثم قال: (قوموا فلأصل بكم). قال أنس: فقمتُ إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لُبِسَ فنضحته بماء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا. فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين.
قال الشافعي -كما في اختلاف الحديث (8/ 636)-: فأنس يحكي أن امرأة صلَّت مُنفردة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فرق في هذا بين امرأة ورجل، فإذا أجزأت المرأة صلاتها مع الإمام منفردة، أجزأ الرجل صلاته مع الإمام منفردًا كما تجزئها هي صلاتها. اهـ.
ولأجل هذه الأدلة حمل الجمهور الأمر الوارد بإعادة صلاة المنفرد خلف الصف على الاستحباب جمعًا بين الأدلة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة للذي خلف الصف)، أي لا صلاة كاملة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة الطعام) -أخرجه مسلم(1274)-.
-أدلة الحنابلة والظاهرية:
1- حديث وابصة ب معبد، وهو حديث اختُلِف في إسناده، فرواه حصين عن هلال بن يساف عن زياد بن أبي الجعد عن وابصة -وقد سبق تخريج هذا الحديث في أول المسألة-. ورواه عمرو بن مُرة عن هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة -أخرجه أبو داود (682)، والترمذي (231)-، وقد رجَّح الترمذي طريف حصين؛ لأنه رُوي من غير وجه عن هلال عن وابصة. ورجَّح أبو حاتم طريق عمرو بن مرة؛ لأنه أحفظ -انظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 100)-.
وقال ابن حبان (5/ 578- 579): سمع هذا الخبر هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة بن معبد، وسمعه من زياد بن أبي الجعد عن وابصة، والطريقان جميعًا محفوظان. وليس هذا الخبر مما تفرَّد به هلال بن يساف.. ثم أخرجه من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن عمه عُبيد بن أبي الجعد عن أبيه زياد بن أبي الجعد عن وابصة. اهـ.
وزياد بن أبي الجعد -راجع ترجتمه في تهذيب الكمال (9/ 444)، والجرح والتعديل (3/ 531)، والتاريخ الكبير (3/ 347)، والثقات لابن حبان (4/ 253)، وتقريب التهذيب (2062)-، وعمرو بن راشد -راجع ترجمته في تهذيب الكمال (22/ 17)، والجرح والتعديل (6/ 232)، والتاريخ الكبير (6/ 330)، والثقات لابن حبان (5/ 175)، وتقريب التهذيب (5027)-، كلاهما مقبول الحديث، فحديث وابصة حسن كما قال الإمام أحمد، وقال ابن المُنذر: ثَبَّتَ الحديثَ أحمدُ وإسحاقُ. اهـ. وراجع: المغني (2/ 22).
2- حديث علي بن شيبان ورجاله ثقات، ولا خلاف على الاحتجاج به.
وقد استدل الحنابلة والظاهرية بالأمر بإعادة صلاة المنفرد خلف الصف الوارد في حديث وابصة بن معبد وعلي بن شيبان وجعلوا الأمر للوجوب؛ ومن ثمَّ حكموا ببطلان صلاة المنفرد خلف الصف، وكذا حملوا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة للذي خلف الصف) على حقيقته ولم يتأولوه، كما أجابوا على أدلة الجمهور.
قال ابن قدامة مُجيبًا على حديث أبي بكرة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاه فقال: (لا تعد) والنهي يقتضي الفساد، وعَذَرَهُ فيما فعله لجهله بتحريمه، وللجهل تأثير في العفو. اهـ. وأجاب عن حديث أنس بقوله: ولا يلزم من كونه موقفًا للمرأة كونه موقفًا للرجل، بدليل اختلافهما في كراهية الوقوف واستحبابه. اهـ. راجع: المغني (2/ 22).
وهكذا نجد أن الخلاف في هذه المسألة بين الفقهاء الذين ينظرون في الأدلة مُجتمعة ويوفقون بينها، وبين المحدثين الذين يعملون بظواهر النصوص، فهو مثال للخلاف المنهجي بين الفريقين، ولا شك أن أدلة الحنفية في هذه المسألة أقوى ثبوتًا وأدق نظرًا، وقد وافقهم جمهور الفقهاء، فدعوى ابن أبي شيبة في مُخالفة أبي حنيفة للأثر مردودة.
***

ثامنًا/ مَسْأَلَةُ قَضَاءِ الصَّلاَةِ
(1) حَدثنَا هُشيمٌ عن أَيُّوبَ عن أبي العَلاءِ حدَّثنا قَتَادةُ عن أنسٍ قال: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَسِي صَلاةً أو نَامَ عنهَا فكَفَّارتُهُ أن يُصلِّيهَا إذا ذَكَرَهَا). أخرجه البخاري (598)، ومسلم (684).
(2) حدَّثنا غُنْدَرٌ عن شُعْبَةَ عن جَامِعِ بن شَدَّادٍ قال: سمعتُ عبدَالرَّحمنِ بن أبي عَلْقَمَةَ قال: سمعتُ عبدَاللهِ بن مَسعُودٍ قال: أقبَلْنَا معَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من الحُدَيْبِيَةِ فَذَكَرُواْ أَنَّهُمْ نَزَلُواْ دَهَاسًا مِن الأرضِ يعني بالدَّهَاِ الرَّمْلَ قال: فقال رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يَكْلَؤُنَا؟). قال: فقال بِلالٌ: أَنَا. فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إذًا نَنَمْ). قال: فنَامُواْ حتَّى طَلَعَت الشَّمسُ. قال: فاستَيْقَظَ أُنَاسٌ فيهم فُلانٌ وفُلانٌ وفيهم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ. قال: فقُلنا: اهضِبُواْ يعني تَكَلَّمُواْ. قال: فاستيقَظَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقالَ: (افعَلُواْ كمَا كُنتُم تَفعَلُونَ). قال: فَفَعَلْنَا. قال: فقالَ: (كذلكَ لِمَنْ نامَ أو نَسِيَ). أخرجه أبو داود (447)، والنسائي في الكبرى (8853).
(3) حَدثَنَا الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ عن عبدِالجَبَّارِ بن عَبَّاسٍ عن عَوْنِ بن جُحَيفَةَ عن أبِيهِ قال: قال رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلَّذِينَ نَامُواْ مَعَهُ حتَّى طَلَعَتِ الشَّمسُ فقالَ: (إنَّكُم كُنتُمْ أَمْوَاتًا فَرَدَّ اللهُ إليكُم أَروَاحضكُم، فمَن نامَ عن صَلاةٍ أو نَسِيَ صَلاةً فَليُصَلِّهَا إذا ذَكَرَهَا وإذا اسْتَيقَظَ). أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/ 192) رقم(895)، والطبراني في المعجم الكبير (22/ 107)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 322) وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير ورجاله ثقات.
(4) حدَّثَنَا ابنُ فُضَيْلٍ عن أبِي إِسمَاعِيلَ عن أبِي حَازِمٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: عَرَّسْنَا مَعَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ ليلةٍ فلَم نَستيقِظْ حتَّى آذَتْنَا الشَّمْسُ، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (ليَأخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنكُم برأسِ راحِلَتِهِ ثُمَّ يَتَنَحَّ عن هّذا المَنزِلِ). ثمَّ دَعَا بالمَاءِ فتَوضَّأَ فسَجَدَ سجدَتَيْنِ ثمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاةُ فَصَلَّى. أخرجه مسلم (680).
وذُكِرَ أنَّ أبَا حَنِفَةَ قال: لا يُجزِئُهُ أن يُصلِّيَ إذا استيقَظَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمسِ أو عندَ غُرُوبِهَا.
***
يحسُن بنا قبل الخوض في تفاصيل المسألة أن نذكر الساعات التي نهي عن الصلاة فيها لتعلق المسألة بها.
1- روى ابن عباس قال: (شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس). أخرجه البخاري (581)، ومسلم (826).
2- وعن عُقبة بن عامر قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نُصلي فيهن أو أن نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب). أخرجه مسلم (831).
3- وعن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الصلاة، قال: (صل صلاة الصبح، ثم اقصر عن الصلاة حين تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار، ثم صلِّ فإن الصلاة محضورة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفئ فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار). أخرجه مسلم (832).
فالأوقات التي نُهِيَ عن الصلاة فيها خمس: اثنتان نُهي عنهما من أجل الفعل وهُما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب، ومعنى ذلك أن وقت الكراهة لا يدخل لمُجرد الزمان، وإنما يدخل إذا فعل فريضة الصبح وفريضة العصر.
وثلاث نُهي عنها من أجل الوقت: عند طلوع الشمس إلى أن ترتفع بمقدار رمح أو رمحين، وعند استوائها في وسط السماء حتى تزول، وعند اصفرارها بحيث لا تتعب العين في رؤيتها إلى أن تغرب، ومعنى ذلك أن الكراهة فيها تتعلق بمُجرد الزمان.
وإنما كانت هذه الأوقات أوقات كراهة؛ لأن الشمس تطلع وتستوي وتصفر بين قرني الشيطان، فتكون الصلاة في هذه الأوقات تشبّهًا بمن يعبدون الشمس؛ لأنهم يعبدونها في هذه الأوقات، ويدل على ذلك ما أخرجه مالك في الموطأ (1/ 220) والنسائي في الكبرى (1/ 482) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات).
واستثنى المالكية من هذه الأوقات وقت الاستواء فلا تُكره الصلاة فيه عندهم، وحجتهم في ذلك عمل أهل المدينة فإنهم كانوا يصلون في وقت الاستواء، وعمل أهل المدينة حجة عند مالك؛ لأن المدينة موطن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والوحي كان ينزل بين ظهرانيهم.
واستثنى الشافعية من كراهة الصلاة في هذه الأوقات الصلاة بمكة ويوم الجمعة عند الاستواء، أما في مكة فلقوله صلى الله عليه وسلم: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) -أخرجه أبو داود (1894)، والترمذي (877)، والنسائي (585)، وابن ماجه (1254)-.
وأما يوم الجمعة عند الاستواء فلِمَا رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، قال: (إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة) -أخرجه أبو داود (1083) قال أبو داود: هو مُرسل. أي منقطع، وله طرق أخرى بالسنن الكبرى للبيهقي (2/ 464)-.
ولا يعلم خلاف بين الفقهاء في كراهة التطوع المطلق في هذه الأوقات. أما السنن فقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى كراهتها، وعن مالك روايتان: إحداهما: إباحة السنن في هذه الأوقات، إلا تحية المسجد فإنها مكروهة عنده، والثانية: كراهة السنن مطلقًا في هذه الأوقات. وأجاز الشافعية صلاة الكسوف وتحية المسجد وكل ما له سبب متقدم عليه. وأجاز الحنابلة ركعتي الطواف.
وأما حكم صلاة الفرض والواجب في هذه الأوقات، فقد ذهب الحنفية إلى أنه تُباح الفوائت بعد الصبح والعصر، ولا تُباح في الأوقات الثلاثة إلا عصر يومه فتُباح عند اصفرار الشمس وذهب جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة- إلى جواز قضاء الصلاة الفائتة في هذه الأوقات. وراجع: الموسوعة الفقهية (7/ 180)، والمنتقى شرح الموطأ (1/ 362)، والمجموع شرح المهذب.
فقد فرَّق الحنفية بين الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها من أجل الفعل فكرهوا صلاة السنة فيها وجوَّزواْ قضاء الفوائت وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة، وأما الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها من أجل الوقت فلم يُجوِّزوا فيها فرضًا ولا نفلًا إلا عصر يومه.
قال صاحب الهداية: ولا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند قيامها في الظهيرة ولا عند غروبها، ولا صلاة جنازة ولا سجدة تلاوة إلا عصر يومه عند الغروب، ويُكره أن يتنفل بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، ولا بأس بأن يُصلي في هذين الوقتين الفوائت ويسجد للتلاوة ويُصلي على الجنازة. اهـ. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (1/ 232)، والعناية (1/ 232)، ونصب الراية (1/ 353).
ورُوي عن أبي يُوسف أنه وافق الشافعي في إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال وقال: للناس بلوى في تحية المسجد عند الزوال يوم الجمعة. راجع: فتح القدير (1/ 233)، وبدائع الصنائع (1/ 295)، وشرح معاني الآثار (1/ 146، 371، 399).
قال السرخسي: واعلم بأن الأوقات التي تُكره فيها الصلاة خمسة: ثلاثة منها لا يُصلَّى فيها جنس الصلوات عند طلوع الشمس إلى أن تبيض وعند غروبها إلا عصر يومه فإنه يؤديها عند الغروب، والأمكنة في هذا النهي سواء عندنا لعموم الآثار، وفي هذه الأوقات الثلاثة لا تُؤدى الفرائض عندنا. وقال الشافعي: النهي عن أداء النوافل فأما الفرائض فلا بأس بأدائها في هذه الأوقات لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليُصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها). ولنا حديث ليلة التعريس. وإنما انتقل من ذلك الوادي؛ لأنه أراد أن ترتفع الشمس فلو جاز الفجر المكتوبة في حال طلوع الشمس لما أخر بعد الانتباه والآثار المرويّة في النهي عامة في جنس الصلوات وبها يثبت تخصيص هذه الأوقات من الحديث الذي رواه الخصم. اهـ. راجع: فتح القدير (1/ 234)، والمجموع (4/ 77).
استدل الحنفية بالأحاديث الصحيحة التي ذكرناها في النهي عن الصلاة بعد طلوع الشمس وعند استوائها وعند غروبها على عدم جواز الصلاة في هذه الأوقات، وأن هذه الأحاديث تشمل بعمومها جميع الصلوات حتى قضاء الفوائت.
واستدل الجمهور بالأحاديث الصحيحة التي ذكرها ابن أبي شيبة وغيرها على جواز قضاء الفوائت في أي وقت عند التذكر، وأن هذه الأحاديث تشمل بعمومها جميع الأوقات حتى أوقات النهي. وتمسك كل فريق بعموم أدلته وادعى تخصيص أدلة المخالف بأدلته، فادعى الحنفية تخصيص عموم الوقت، أي إخراج الأوقات الثلاثة من عموم وقت التذكر في حق الصلاة الفائتة، وادعى الجمهور تخصيص عموم الصلاة، أي إخراج الفوائت من عموم منع الصلاة في الأوقات الثلاثة. راجع: المبسوط (1/ 150).
إذًا فالخلاف في المسألة من باب تعارض العمومات، وهو مما تختلف فيه أنظار المجتهدين في كيفية الجمع بينها وتقديم أي منهما على الآخر، ولا ينبغي والخلاف هكذا أن يرمي أحد الفريقين الآخر بمخالفة الحديث، فكل فريق تمسك بالحديث على حسب ما ترجح لديه، وعليه فإن ابن أبي شيبة لم يكن محقًّا فيما ادعاه من مخالفة أبي حنيفة لظاهر الأثر في هذه المسألة.
***

تاسعًا/ مَسْأَلَةُ سَجْدَتِيْ السَّهْوِ
(1) حَدثنَا جَريرٌ عن مَنصُورٍ عن إبراهيمَ عن عَلقَمَةَ عن عبدِاللهِ قال: صلَّى رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- صَلاةً فَزَادَ أَو نَقَصَ، فلمَّا سلَّمَ وأَقبَلَ على القَومِ بوجهِهِ قالُوا: يا رسُولَ اللهِ، اَحدَثَ في الصَّلاةِ شئٌ؟ قال: (ومَا ذَاكَ؟). قالوا: صلِّيت كَذا وكَذا، فثَنَى رِجْلَهُ فسَجَدَ سَجدَتَينِ ثمَّ سَلَّمَ ثمَّ سلَّمَ وأقبَل على القومِ بوجههِ فقال: (إِنَّهُ لو حَدَثَ في الصَّلاةِ شئٌ أَنبَأتُكُم بهِ، ولكنِّي بَشَرٌ أنسَى كما تنسَونَ، فإذَا نَسيتُ فذَكِّرونِي، وإذا شكَّ أحَدُكُم في صَلاتِهِ فليَتَحَرَّ الصَّوابَ فليُتِمَّ عليهِ، فإذا سلَّم سَجَدَ سجدتينِ). أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572).
(2) حدَّثنَا غُندَرٌ عن شُعبَةَ عن الحَكَم عن إبراهِيمَ عن عَلقَمَةَ عن عبدِاللهِ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أنَّهُ صلَّى الظُّهرَ خمسًا، فقيلَ لهُ: إنَّك صلَّيتَ خمسًا، فسَجَدَ سجدتينِ بعدَمَا سَلَّمَ. أخرجه البخاري (1226)، ومسلم (572).
وذُكِرَ أن أبَا حنيفةَ قال: إذا لم يَجْلِسْ في الرَّابِعَةِ أعَادَ الصَّلاةَ.
***
اتفق فقهاء المذاهب على أن المصلي إذا صلى رباعية فنسي وقام إلى خامسة، فإن ذكر قبل السجود فيها عاد إلى الجلوس وتشهد وسجد للسهو وسلم، وإن ذكر بعد السجود فقال المالكية والشافعية والحنابلة: إنه يتشهد ويسجد للسهو ويسلم، وصحت صلاته فرضًا. وقال أبو حنيفة: إن جلس بعد الرابعة قدر التشهد تمت صلاته بذلك؛ لأن السلام عنده ليس بشرط وتكون الخامسة نافلة فتضم إليها أخرى، وإن لم يجلس عقب الرابعة بطلت فريضته بقيامه إلى الخامسة، وتضم إليها أخرى وتكون نفلًا.
قال صاحب الهداية: (وإن سها عن القعدة الأخيرة حتى قام إلى الخامسة رجع إلى القعدة ما لم يسجد)؛ لأن فيه إصلاح وأمكنه ذلك؛ لأن ما دون الركعة بمحل الرفض. قال: (وألغى الخامسة)؛ لأنه رجع إلى شئ محله قبلها فترتفض (وسجد للسهو)؛ لأنه أخَّر واجبًا. (وإن قيَّد الخامسة بسجدة بطل فرضه عندنا) خلافًا للشافعي رحمه الله؛ لأنه استحكم شروعه في النافلة قبل إكمال أركان المكتوبة، ومن ضرورته خروجه عن الفرض، وهذا؛ لأن الركعة بسجدة واحدة صلاة حقيقة حتى يحنث بها في يمينه: لا يصلي (وتحولت صلاته نفلًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله) خلافًا لمحمد رحمه الله على ما مرَّ -لا يرى محمد بن الحسن أن يشفع الخامسة بركعة؛ لأنه بالفساد يصير خارجًا من الصلاة؛ لأن للصلاة عنده جهة واحدة، ولأن ترك القعدة في كل شفع عنده مُفسد للصلاة، فأما عندهما فتفسد الفريضة ويبقى أصل الصلاة تطوعًا فيشفعها بركعة واحدة؛ لأن ترك القعدة عقيب كل شفع عندهما غير مُفسِد للتطوع. راجع: المبسوط (1/ 277)- (فيضم إليها ركعة سادسة ولو لم يضم لا شئ عليه)؛ لأنه مظنون. (ولو قعد في الرابعة ثم قام ولم يُسلم عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة وسلم)؛ لأن التسليم في حالة القيام غير مشروع، وأمكنه الإقامة على وجهه بالقعود؛ لأن ما دون الركعة بمحل الفرض. (وإن قيد الخامسة بالسجدة ثم تذكر ضم إليها ركعة أخرى وتم فرضه)؛ لأن الباقي إصابة لفظة السلام وهي واجبة، وإنما يضم إليها أخرى لتصير الركعتان نفلًا؛ لأنا لركعة الواحدة لا تُجزئه؛ لنهيه -عليه الصلاة والسلام- عن البتيراء، ثم لا تنوبان عن سنة الظهر، هو الصحيح؛ لأن المواظبة عليها بتحريمه مبتدأة (ويسجد للسهو استحسانًا) لتكطم النقصان في الفرض بالخروج لا على الوجه المسنون، وفي النفل بالدخول لا على الوجه المسنون، ولو قطعها لم يلزمه القضاء؛ لأنه مظنون. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (1/ 508)، والعناية (1/ 508)، ونصب الراية (2/ 200).
وقد تأوَّل الحنفية الحديث: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قعد قدر التشهد في الرابعة، بدليل أن الراوي قال: صلى الظهر. والظهر اسم لجميع أركان الصلاة ومنها القعدة، وهو الظاهر فإنما قام إلى الخامسة على تقدير أنها هي القعدة الأولى، حملًا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو أقرب للصواب. راجع: المبسوط (1/ 227)، وبدائع الصنائع (1/ 178).
جاء في المدونة (1/ 218/ ): قال مالك: لو أن رجلًا صلى المكتوبة أربعًا فظن أنه صلى ثلاثًا فأضاف إليها ركعة، فلما صلى الخامسة بسجدتيها ذكر أنه قد كان أتم صلاته، قال: يرجع ويجلس ويضيف إليها ركعة أخرى ثم يسلم ويسجد لسهوه بعد السلام. قال: وإن كان لم يصل من الخامسة إلا أنه ركع وسجد سجدة رجع أيضًا فجلس وسلم وسجد لسهوه. اهـ.
قال النووي في المجموع شرح المهذب (4/ 74): إذا صلى رباعية فنسي وقام إلى خامسة، فإن ذكر قبل السجود فيها عاد إلى الجلوس وتشهد وسجد للسهو وسلم، وهذا مجمع عليه، وإن ذكر بعد السجود فمذهبنا: أنه يتشهد ويسجد للسهو ويسلم وصحت صلاته فرضًا، وقال أبو حنيفة: إن جلس بعد الرابعة قدر التشهد تمت صلاته بذلك؛ لأن السلام عنده ليس بشرط وتكون الخامسة نافلة فتُضم إليها أخرى، وإن لم يجلس عقب الرابعة بطلت فريضته بقيامه إلى الخامسة، وتضم إليها أخرى ولا يكون نفلًا، وهذا الذي قالوه تحكم لا أصل له. اهـ. وراجع: الأم (1/ 157)، ومُختصر المزني (8/ 110).
قال ابن قدامة في المغني (1/ 383): قوله: (أو صلى خمسًا) يعني في صلاة رباعية فإنه متى قام إلى الخامسة في الررباعية، أو إلى الرابعة في المغرب، أو إلى الثالثة في الصبح، لزمه الرجوع متى ما ذكر فيجلس، فإن كان قد تشهد عقيب الركعة التي تمت بها صلاته سجد للسهو ثم يسلم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه ثم سجد للسهو وسلم، وإن لم يكن تشهد تشهد وسجد للسهو ثم سلم. فإن لم يذكر حتى فرغ من الصلاة، سجد سجدتين عقيب ذكره، وتشهد وصلاته صحيحة. وبهذا قال علقمة، والحسن، وعطاء، والزهري، والنخعي، ومالك، والليث، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور.
ثم قال ردًّا على تأويل الحنفية للحديث بأنه كان قعد في الرابعة: والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلس عقيب الرابعة؛ لأنه لم ينقل، ولأنه قام إلى الخامسة معتقدًا أنه قام عن ثالثة ولم تبطل صلاته بهذا، ولم يضف إلى الخامسة أخرى. اهـ.
ومذهب الجمهور أقرب للعمل بما دلَّ عليه ظاهر الحديث، ولا ريب أن ما لا يحتاج إلى تأويل أَوْلَى مما يحتاج إليه، ولكن من تأوَّل الحديث لا يُقال في حقِّهِ إنه خالف الحديث فلم يُصب ابن أبي شيبة فيما قاله من مُخالفة أبي حنيفة للحديث في هذه المسألة.
***

عاشرًا/ مَسْأَلَةُ جَمْعِ وَتَقْدِيمِ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَةِ
(1) حدَّثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عن عمرٍو عن جَابِرِ بنِ زَيدٍ عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- ثَمَانِيًا جَميعًا وسَبعًا جَميعًا. قال: قُلتُ: يا أَبَا الشَّعثَاءِ، أظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وعَجَّلَ العَصْرَ، وأَخَّرَ المَغرِبَ وعَجَّلَ العِشَاءَ. قال: وأنَا أظُنُّ ذلكَ. أخرجه البخاري (1174)، ومسلم (705).
(2) حَدثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عن الزُّهرِيِّ عن سَالمٍ عن أبِيهِ: أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ إذا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ المَغرِبِ والعِشَاءِ. أخرجه البخاري (1106)، ومسلم (703).
(3) حّدثَنَا وَكِيعٌ عن سُفيَانَ عن أبِي الزُّبَيرِ عن أبي الطُّفَيْلِ عن مُعَاذِ بن جَبَلٍ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ بينَ الظُّهرِ والعَصرِ والمغرِبِ والعِشَاءِ في السَّفَرِ في غَزوَةِ تَبُوك. أخرجه مسلم (706).
(4) حدَّثنا ابنُ مُسْهِرٍ عن ابِ أبي لَيلَى عن عَطَاءٍ عن جَابرٍ قال: جَمَعَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في غَزوَةِ تَبُوكَ بين الظُّهرِ والعَصرِ وبينَ المَغرِبِ والعِشَاءِ. رواه ابن عبدالبر في التمهيد (2/ 341) من طريق ابن أبي شيبة. وابن حبان في صحيحه (6/ 456) من طريق عبدالرحمن بن ثوبان عن جابر.
(5) حّدثنَا يَزيدُ عن مُحمَّدِ بن إسحاقَ عن حَفصِ بنِ عُبيدِاللهِ بنِ أنَسٍ قالَ: كُنَّا نُسَافِرُ معَ أَنَسٍ إلى مَكَّةَ، فكانَ إذا زَالَتْ الشَّمسُ وهُوَ في مَنزِلٍ لَمْ يَركَبْ حتَّى يُصَلِّي الظُّهرَ، فإِذا رَاحَ فحَضَرَتِ العصرُ صلَّى العصرَ، فإِنْ سَارَ مِن منزلِهِ قبلَ أن تَزُولَ الشَّمسُ فحضرَتْ الصَّلاةُ قُلنَا: الصَّلاةَ. فيَقُولُ: سِيرُوا. حتَّى إذا كَانَ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ نَزَلَ فجَمَعَ بينَ الظُّهرِ والعَصرِ، ثُمَّ قال: رأَيتُ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إذا وَصَلَ ضَحْوَهُ بِرَوْحَتِهِ صَنَعَ هَكَذَا. أخرجه البخاري مختصرًا (1108) بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر.
(6) حدَّثنَا أبُو خَالدٍ الأَحمَرُ عن حَجَّاجِ عن عَمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيهِ عن جَدِّهِ: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ بين الصَّلاتَيْنِ في غَزوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ. أخرجه أحمد (2/ 179، 204) وعزا له الهيثمي في المجمع (2/ 158) وقال: فيه الحجاج وفيه كلام.
وذُكِرَ أبن أبَا حنيفةَ قالَ: لا يُجزِئُهُ أن يَفعَلَ ذَلِكَ.
***
أجمع الفقهاء على مشورعية الجمع بين الظهر والعصر في عرفات جمع تقديم في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير في مُزدلفة في وقت العشاء للحاج؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا في حجة الوداع، ولكنهم اختلفوا في تحديد علة هذه الرخصة هل هي السفر أو النُسُك؟ فذهب الحسن البصري، وابن سيرين، ومكحول، والنخعي، وأبو حنيفة، وهو قول للشافعية: إلى أن هذا الجمع من أجل النسك؛ ولهذا فلا فرق في ذلك عندهم بين المُسافر والحاضر، ولا بين العرفي والمكي وغيرهم بعرفة، ولا بين المزدلفي وغيرهم بمُزدلفة، وذهب جمهور الفقهاء -المالكية والراجح عند الشافعية والحنابلة- إلى أن الجمع بعرفة ومزدلفة رخصة من أجل السفر، واحتجوا بالأحاديث الصحيحة المشهورة في الجمع في أسفار النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى.
أما الجمع للسفر فقد ذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع تقديم، أو جمع تأخير بسبب السفر الطويل، الذي تقصر فيه الرباعية ما لم يكن سفر معصية. أما المالكية فلا يشترط للجمع في السفر عندهم طول مسافة السفر أو قصرها. وذهب الحسن البصري، والنخعي، وابن سيري، ومكحول، وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الجمع للمسافر لا تقديمًا ولا تأخيرًا، وتأولوا ما ورد من جمعه صلى الله عليه وسلم بأنه جمع صُورِي، وهو أنه أخَّر الظهر إلى آخر وقتها وقدَّم العصر في أول وقتها، وفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء.
والحنفية لا يُجيزون الجمع لسفر ولا لمطر ولا خوف ولا غيرها من الأعذار التي اختلف جمهور العلماء في جواز الجمع لها، وجعلوه حكمًا خاصًّا بعرفة والمزدلفة. راجع: الموسوعة الفقهية (15/ 284)، والمجموع (4/ 249)، والمغني (2/ 51).
قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (2/ 48): لا يجمع عندنا في سفر بمعنى أن يُصليَ العصر مع الظهر في وقت إحداهما والمغرب مع العشاء كذلك خلافًا للشافعي؛ بل بأن يُؤَخِّرَ الأولى إلى آخر وقتها فينزل فيصليها في آخره ويفتتح الآتية في أول وقتها؛ وهذا جمع فعلًا لا وقتًا. اهـ.
قال السرخسي في المبسوط (1/ 149): (ولا يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما في حشر ولا في سفر) ما خلاف عرفة ومزدلفة فإن الحاجّ يجمع بين الظهر والعصر بعرفات فيؤديهما في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة فيؤديهما في وقت العشاء، عليه اتفق رواة نُسُك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله وفيما سوى هذين الموضعين لا يجمع بينهما وقتًا عندنا. اهـ. وراجع: بدائع الصنائع (1/ 217)، وشرح معاني الآثار (1/ 160)، وتبيين الحقائق (1/ 88)، ونصب الراية (2/ 231).
جاء في مختصر خليل: ورُخِّصَ له جمع الظهرين ببرٍّ وإن قصر ولم يجدَّ بلا كُرْه. اهـ. راجع: مختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (2/ 509)، ومواهب الجليل (2/ 154)، ومنح الجليل (1/ 416)، وشرح الخرشي (2/ 67)، والمدونة (1/ 252).
قال النووي في المجموع شرح المهذب (4/ 249): مذهبنا جواز الجمع بين الظهر والعصر في وقت أيتهما شاء، وبين المغرب والعشاء في وقت أيتهما شاء، ولا يجوز جمع الصبح إلى غيرها، ولا المغرب إلى العصر بالإجماع، ولا يجوز الجمع في سفر معصية، ويجوز الجمع في السفر الذي تُقْصَرُ فيه الصلاة، وفي القصر قولان مشهوران ذكر المصنف دليلهما أصحهما باتفاق الأصحاب: لا يجوز، وهو نص الشافعي في كتبه الجديدة، والقديمة جوازه. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (2/ 392)، ومغني المحتاج (1/ 530)، ونهاية المحتاج (2/ 272).
وقال ابن قدامة في المغني (2/ 56- 58): الجمع بين الصلاتين في السفر وفي وقت إحداهما جائز في قول أكثر أهل العلم، ولا يجوز الجمع إلا في سفر يُبيحُ القصر. اهـ.
استدل الحنفية على عدم جواز الجمع في السفر وغيره بأدلة، منها:
1- عموم الآيات والأحاديث الدالة على وجوب المحافظة على الصلاة في أوقاتها، كقوله تعالى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطُى) [البقرة: 238]، أي في مواقيتها، وقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاًَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مُوْقُوتًا) [النساء: 103]، أي فرضًا مؤقتًا، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يُصلِّ الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى) -أخرجه مسلم (1594)-.
واحتجاجهم بذلك معناه: أن المواقيت ثبتت بالقرآن والسنة المتواترة وكلاهما قطعي، والجمع ثبت بخبر الواحد وهو ظني، والقطعي لا يُعارَض بالظني، فمن قواعدهم أن خبر الواحد لا يُخصِّص عموم القرآن أو السنة المتواترة.
ويُمكن أن يُجاب عن ذلك بأن أحاديث الجمع مشهورة وليست بآحاد، وأنتم تجوِّزون تخصيص عموم القرآن والسنة المتواترة بالمشهور من الأخبار، وهذا الجواب أَوْلَى من جوابي ابن قدامة والنووي على ذلك.
قال ابن قدامة في المغني (2/ 57): وقولهم: لا نترك الأخبار المتواترة. قلنا: لا نتركها وإنما نخصصها، وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالإجماع، وقد جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بالإجماع، فتخصيص السنة بالسنة أَوْلَى، وهذا ظاهر جدًّا. اهـ.
قال النووي في المجموع (4/ 252): أما الجواب عن احتجاجهم بأحاديث المواقيت فهو أنها عامة في الحضر والسفر، وأحاديث الجمع خاصة بالسفر فقُدِّمَت. اهـ.
2- ما رواه البخاري (1682)، ومسلم (3176) عن عبدالله بن مسعود قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين: صلاة المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها.
قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (2/ 48): يعني غلَّس بها فكان قبل وقتها المُعتاد فعلها فيه منه صلى الله عليه وسلم، وكأنه ترك جمع عرفة لشهرته. ثم قال: ويترجَّح حديث ابن مسعود بزيادة فقه الراوي، وبأنه أحوط فيُقدَّم عند التعارض. اهـ.
والترجيح بفقه الراوي من قواعد الحنفية ومنهجهم، لكن رواة الجمع أيضًا فقهاء، وفيهم ابن عباس وعائشة وهما من كبار فقهاء الصحابة.
وأجاب النووي -كما في المجموع (4/ 252)- عن حديث ابن مسعود فقال: إنه نفيٌ، فالإثبات الذي ذكرناه في الأحاديث الصحيحة مقدم عليه؛ لأن مع رواتها زيادة علم. اهـ.
3- ما رواه أبو داود من طريق سليمان ابن أبي يحيى عن ابن عمر قال: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء قطُّ في السفر إلا مرة.
قال أبو داود في سُننه (1209): وهذا يُروى عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موقوفًا على ابن عمر: أنه لم يُر ابن عمر جمع قطّ إلا بتلك الليلة. يعني ليلة استُصرخ على صفية. ورُوي من حديث مكحول عن نافع أنه رأى ابن عمر فعل ذلك مرة أو مرتين. اهـ.
والاختلاف في رفع ووقف الحديث لا يضره عند الحنفية كما هو مُقرّر في منهجهم؛ بل إن ذلك مما يؤيد ثبوت الرفع بعمل راويه به.
قال النووي في المجموع (4/ 252): قدمان أن الحديث إذا رُوي مرفوعًا وموقوفًا هل يُحتج به؟ فيه خلاف مشهور للسلف، فإن سلَّمنا الاحتجاج به فجوابه: أن الروايات المشهورة في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر صريحة في إخباره عن جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجب تأويل هذه الرواية وردَّها، ويُمكن أن يتأول على أنه لم يره يجمع في حال سيره، إنما يجمع إذا نزل أو كان نازلًا في وقت الأولى. اهـ.
4- أن الجمع الوارد في الأحاديث معناه: أن يُؤخر الأولى إلى آخر وقتها فينزل فيصليها في آخره، ويفتتح الآتية في أول وقتها، وهذا جمع فعلًا لا وقتًا، والدليل عليه ما رواه أبو داود من طريق فُضيل بن غزوان عن نافع وعبدالله بن واقد: أن مؤذن ابن عمر قال: الصلاة، قال: سِرْ سِرْ، حتى إذا كان قبل غيوب الشفق نزل فصلى المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق وصلى العشاء. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عجَّل به أمرٌ صنع مثل الذين صنعت، فسار في ذلك اليوم والليلة مسيرة ثلاث. راجع: سُنن أبي داود (1212).
وقد تابع فضيلَ بنَ غزوان على روايته عن نافع بهذا المعنى جماعةٌ؛ منهم عبدالرحمن بن يزيد بن جابر ولفظُه: حتى إذا كان في آخر الشفق. وراجع: سنن أبي داود (1213)، وشرح معاني الآثار (1/ 163)، وسنن الدارقطني (1/ 393) واللفظ لهما.
ومنهم عبدالله بن العلاء ولفظه: حتى إذا كان عند ذهاب الشفق -ذكره أبو داود عقيب حديث (1213) مُعلّقًا-.
ومنهم أسامة بن زيد الليثي ولفظه: حتى إذا كان عند غيبوبة الشفق -رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 163)، وأسامة بن زيد قال عنه أحمد: تركه يحيى بن سعيد بأخرة. وفي رواية: ليس بشئ. وفي أخرى: روى عن نافع أحاديث مناكير. وقال يحيى بن معين: كان يحيى بن سعيد يضعفه. وفي رواية: ثقة صالح. وفي أخرى: ليس به بأس. ومرة: ثقة حجة. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق يَهِم. راجع ترجمته في تهذيب الكمال (2/ 347)، والجرح والتعديل (2/ 283)، وتهذيب التهذيب (1/ 183)، والتقريب (317)-.
ومنهم العطاف بن خالد ولفظه: حتى إذا كاد الشفق أن يغيب -رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 163)، والدارقطني في سننه (1/ 393)، والعطاف بن خالد قال عنه أحمد: ليس به بأس. وقال مرة: صالح الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس به بأس ثقة صالح الحديث. وقال أبو زُرعة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح ليس بذاك، محمد بن إسحاق وعطاف هما باب رحمة. وقال أبو داود: ثقة. وفي موضع: ليس به بأس. وقال مالك: عطاف يُحدِّث؟ قيل: نعم. قال: إنَّا لله وإنا إليه راجعون. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق يهم. راجع ترجمته في تهذيب الكمال (20/ 138)، والجرح والتعديل (7/ 32)، وتهذيب التهذيب (7/ 198)، وتقريب التهذيب (4612)-.
فهؤلاء خمسة رواة اتفقوا على روايته عن نافع عن ابن عمر بهذا المعنى، وخالفهم جماعة فروَوْهُ عن نافع بمعنى يؤيد مذهب الجمهور سيأتي ذكرها في أدلة الجمهور.
وهذا التأويل لأحاديث الجمع يرُدُّه حديث أنس والمحفوظ من حديث ابن عمر كما سيأتي، كما أن الجمع رُخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقًا وأعظم حرجًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين، بحيث لا يبقى من وقت الأُوْلَى إلى قدر فعلها. راجع: المغني (2/ 56).
5- أنا أحاديث الجمع وقع فيها شئ من الاضطراب، ففي بعضها عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة في غير خوف ولا مطر. فقيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج أمته -أخرجه مسلم (1676)-. ولم يقل أحد منا ومنهم بجواز الجمع لذلك.
وأُجيب بأن هذا ليس اضطرابًا في الحديث، ولكنها رخصة زائدة على رخصة الجمع في السفر، وقد صرَّح ابن عباس بالحكمة منها وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يحرج أمته.
وقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، منهم: أشهب من أصحاب مالك، وابن المنذر من الشافعية، وهو قول ابن سيري وجماعة من المحدثين. راجع: شرح صحيح مسلم للنووي (5/ 219).
واستدل الجمهور على جواز الجمع في السفر بالأحاديث التي ذكرها ابن أبي شيبة في أول المسألة، ويُضاف إليها:
1- ما رواه البخاري (1111)، ومسلم (1659) عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّرَ الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركِبَ. وفي رواية لمسلم (1660): كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما.
وفي أخرى له (1661): أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا عجَّل عليه السفر يُؤخِّر الظهر إلى وقت العصر، ويُؤخِّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق.
2- ما رواه مسلم (1656) من طريق عُبيدِاللهِ عن نافعٍ عن ابن عمرَ: كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء.
وقد تابع عُبيدَ اللهِ على روايتِهِ عن نافعٍ بهذا المعنى جماعةٌ؛ منهم أيوب -كما عند أبي داود (1207) عن نافع: أن ابن عمر استصرخ على صفية وهو بمكة، فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عجَّل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين فسار حتى غاب الشفق فنزل بجمع بينهما.
ومنهم مالك -كما في موطّأه، رواية محمد بن الحسن ص(79) حديث رقم(202)- عن نافع: أن ابن عمر حين جمع بين المغرب والعشاء في السفر سار حتى غاب الشفق.
ومنهم عمر بن محمد بن زيد ولفظه: حتى إذا كان بعدما غاب الشفق ساعة -رواه الدارقطني في سننه (1/ 390)-.
فهؤلاء أربعة رواة رَوَوْهُ عن نافع عن ابن عمر بهذا المعنى، فيحصل من هذا مع ما سبق ذكره في أدلة الحنفية أن رواية نافع وقع فيها اختلاف، فرواه فضيل بن غزوان في جماعة بمعنى يُستدَلُّ به للحنفية، ورواه عبيدالله في جماعة أيضًا بمعنى يُستدل به للجمهور، ولا ريب أن رواية عبيدالله وجماعته أرجح؛ لأن رواتها أوثق في حديث نافع ويكفي أن فيهم مالكًا، فإذا نظرنا لروايات الحديث الأخرى عن ابن عمر من غير طريق نافع وجدناها ترجح أيضًا رواية عبيدالله ومتابعيه.
من ذلك ما رواه البخاري (1805) من طريق زيد بن أسلم عن أبيهِ عن ابم عمر وفيه: حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة.
وما رواه أبو داود (1217) من طريق عبدالله بن دينار عن ابن عمر وفيها: فسار حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم.
وذلك يدل على أن المحفوظ في رواية نافع؛ بل في رواية حديث ابن عمر أن الجمع كان بعد غياب الشفق، وهو ما يُؤيِّدُ مذهب الجمهور.
وإذا تقرَّرَ هذا فاعلم أن حديث أنس وابن عمر من أقوى ما استدلَّ به الجمهور؛ لأنهما نصَّا على أن الجمع كان بعد دخول وقت الصلاة الأولى وليس في آخر وقتها؛ ولذلك فإن الطحاوي ركَّز في توجيه النقد والتأويل إليهما.
فبعد أن توجَّه بالنقد لرواية نافع عن ابن عمر بالاختلاف الواقع فيها قال -كما في شرح معاني الآثار (1/ 163)-: فكل هؤلاء يروي عن نافع أن نزول ابن عمر كان قبل أن يغيب الشفق، وقد ذكرنا احتمال قول أيوب عن نافع: حتى إذا غاب الشفق. أنه يحتمل قرب غيبوبة الشفق، فأولى الأشياء أن تحمل هذه الروايات كلها على الاتفاق لا على التضاد، فنجعل ما رُوي عن ابن عمر أن نزوله للمغرب كان بعد ما غاب الشفق أنه على قرب غيبوبة الشفق. اهـ.
ثم انتقل إلى حديث أنس فقال -فيه (1/ 164)-: قد يحتمل أن يكون صفة الجمع من كلام الزهري لا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان كثيرًا ما يفعل هذا، يصل الحديث بكلامه حتى يُتوهم أن ذلك في الحديث. وقد يحتمل أن يكون قوله: إلى أول وقت العصر. إلى أقرب أول وقت العصر. اهـ.
قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (2/ 48): أو يُحمل الشفق المذكور على الحُمرة فإنه مُشترك بينه وبين البياض الذي يلي أطرافه على ما قدمناه -يُشير إلى ما ورد من خلاف في تعيين الشفق، فيرى أبو حنيفة أن الشفق هو البياض الذي في الأُفق بعد الحُمرة، ويرى صاحباه أبو يوسف ومحمد أنه الحمرة، وهو رواية عن أبي حنيفة وهو قول الشافعي. راجع: فتح القدير (1/ 222)-، فيكون حينئذٍ عين ما قلناه من أن ينزل في آخر الوقت فيُصلي الوقتية فيه، ثم يستقبل الثانية في أول وقتها. اهـ.
وبالنظر في أدلة الفريقين نجد أن أدلة الجمهور أكثر مخرجًا مع صحتها وعدم احتياجها للتأويل، وهذا يكفي في ترجيحها على أدلة الحنفية، وأدلة الحنفية وإن كانت صحيحة أيضًا إلا أن ذلك لا يكفي لترجيحها على أدلة الجمهور، ولكي تَسْلَم لهم أدلتهم لا بد وأن يُجيبوا عن أدلة الجمهور، وقد سلك الحنفية في ذلك عدة طرق:
الأول: طريق الرد لأدلة الجمهور بدعوى مُخالفتها لعموم القرآن والسنة المتواترة، وهذا مسلك السرخسي.
الثاني: طريق التأويل لأدلة الجمهور لتتفق مع أدلة الحنفية وهذا مسلك الطحاوي.
الثالث: طريق ترجيح أدلتهم بفقه الراوي وهذا مسلك الكمال ابن الهمام.
وهذا يدلنا على مدى التوافق بين أصول الحنفية في نقد السنة وبين الفروع الفقهية، وهو ما يجعلنا نؤكِّد أن أغلب الأحاديث التي خالفها الحنفية كان لعدم ثبوتها وفق منهجهم في قبول الأخبار.
فالخلاف إذًا ليس فيه مُخالفة للأدلة؛ بل فيه ترجيح بعضها على بعض وفهمها وتأويل بعضها ليتفق مع بعض، والتزم بالمنهج العلمي في نقد الحديث؛ ولذلك فإن دعوى ابن أبي شيبة مُخالفة أبي حنيفة للأثر في هذه المسألة مردودة.
***

الحادي عشر/ مَسْأَلَةُ إِمَامَةِ مَنْ صَلَّى جَالِسًا
(1) حدَّثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عن الزُّهرِيِّ قال: سمعتُ أنسَ بن مالكِ يقُولُ: سقطَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن فرسٍ فَجُحِشَ شِقُّةُ الأيمَنُ فدخلنا عليهِ نعُودُهُ، فحضرتِ الصَّلاةُ فصلَّى بِنَا قاعِدًا وصلَّينَا وراءَهُ قِيَامًا، فلمَّا قضى الصَّلاةَ قال: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ ليُؤتَمَّ بِهِ، فإِذا كّبَّرَ فكّبِّرُوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سَجَدَ فاسجُدُوا، وإذا رَفع فارفعُوا، وإذا قال سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ ربَّنَا ولكَ الحَمدُ، وإن صَلَّى قاعِدًا فصلُّوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ). أخرجه البخاري (508)، ومسلم (411).
(2) حَدثنَا عَبْدَةُ عن هِشَامٍ عن أبيهِ عن عائِشَةَ قالتِ: اشتَكَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فدَخَلَ عليهِ نَاسٌ من أصحابِهِ يَعُودُونَهُ، فصَلَّى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا فصَلُّوا بِصَلاتِهِ قِيَامًا، فأَشَارَ إليهِمْ أَنِ اجْلِسُواْ، فجَلَسُوا فلمَّا انصَرَفَ قال: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فإِذَا رَكَعَ فارْكَعُوا، وإِذا رَفَعَ فارفَعُوا، وإِذا صَلَّى جَالِسًا فصَلَّوا جُلُوسًا). أخرجه مسلم (412).
(3) حَدَّثنا وَكِيعٌ عن الأَعمَشِ عن أبي سُفيَانَ عن جَابِرٍ قال: صُرِعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عن فرَسٍ لهُ فوقَعَ على جِذْعٍ فانفَكَّت قَدَمُهُ. قال: فدَخَلنَا عليهِ نَعُودُهُ وهُوَ يُصَلِّي فِي مَشرُبَةٍ لِعَائِشَةَ جَالِسًا، فصَلَّينَا بِصَلاتِهِ ونَحْنُ قِيَامٌ، فَأَومَأَ إِلينَا أن اجلِسُوا، فلمَّا صلَّى قال: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ، فإذا صَلَّى قَائِمًا فصَلُّوا قِيَامًا، وإِذا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا، ولا تَقُومُوا وَهُو جَالِسٌ كَمَا تَفعَلُ أَهْلُ فَارِسَ بِعُظَمَائِهَا). أخرجه أبو داود (602)، وابن ماجه (485).
(4) حَدَّثنَا أبُو خَالِدٍ عن مُحمَّدِ بنِ عَجْلانَ عن زَيدِ بن أَسْلَمَ عن أبِي صَالِحٍ عن أبي هُريرَةَ قال: قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بهِ، فإِذَا كَبَّرَ فكَبِّرُوا، وإذا قَرَأَ فأَنصِتُوا، وإذا قالَ: (غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلِيهِمْ وَلاَ الضَّالِينَ) فقُولُوا: آمِينَ، وَإِذَا رَكَعَ فارْكَعُوا، وإِذَا قالَ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وإِذا سَجَدَ فاسجُدُوا، وإِذا صَلَّى جَالِسًا فصَلُّوا جُلُوسًا). أخرجه مسلم (415).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قالَ: لا يَؤُمُّ الإِمَامُ وَهُوَ جَالِسٌ.
***
إذا صلى الإمام جالسًا من عُذر فقد ذهب أبو حنيفة والشافعي ومالك في رواية: إلى أن المأمومين يُصلُّونَ خلفه قيامًا. وذهب أحمد وابن حزم وجماعة من المُحدثين: إلى أنهم يُصلَّونَ جُلُوسًا. وذهب مالك في أشهر الروايتين عنه ومُحمَّد بن الحَسن إلى أن الصلاة خلف القاعد لا تصح مُطلقًا.
يتضح من ذلك أن ما حكاه ابن أبي شيبة مذهبًا لأبي حنيفة ليس صحيحًا، وإنما هو مذهب محمد بن الحسن، فهو الذي لا يُجوِّز أن يُصلي الإمام جالسًا، وأما أبو حنيفة فيجوز ذلك لمن به عُذر، إلا أن المأمومينَ يُصلُّونَ خلفَهُ قِيَامًا، وهو مذهبُ جمهور العلماء.
ومع هذا فإن الأحاديث التي ذكرها ابن أبي شيبة تصلح أيضًا للرد على أبي حنيفة؛ حيثُ وردت بأمر المُصلين خلف الإمام الجالس أن يُصَلُّوا جُلوسًا، وقال الجمهور ومعهم أبو حنيفة: يُصلون قيامًا. ولا بأس أن نعتبر مقصود ابن أبي شيبة الرد على مذهب أبي حنيفة والجمهور من جِهَةِ أن المأمومين يُصلون خلفه جُلوسًا، وعلى مذهب مالك ومحمد بن الحسن من جهة جواز صلاة الإمام جالسًا.
قال صاحب الهداية: (ويُصلي القائم خلف القاعد) وقال محمد رحمه الله تعالى: لا يجوز، وهو القياس لقوَّةِ حال القائم، ونحن تركانه بالنص، وهو ما رُوي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى آخر صلاته قاعدًا والقوم خلفه قيام. اهـ. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (1/ 369)، والعناية (1/ 369)، ونصب الراية (2/ 49).
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 404): فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: من صلى بقوم قاعدًا من عِلَّةِ صلوا خلفه قُعودًا، وإن كانوا يُطيقون القيام. وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يُصلون خلفه قيامًا، ولا يسقط عنهم فرض القيام، لسقوطه عن إمامهم. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وكان محمد بن الحسن يقول: لا يجوز لصحيح أن يأتمّ بمريض يُصلي قاعدًا، وإن كان يركع ويسجد. اهـ. وراجع: المبسوط (1/ 214)، وبدائع الصنائع (1/ 142)، وتبيين الحقائق (1/ 95).
قال الباجي في المنتقى شرح الموطأ (1/ 238): إن كان من وراء الإمام قادرين على القيام فالمشهور عن مالك أنه لا يجوز أن يأتموا به، وبه قال محمد بن الحسن. قال سحنون: وقد اختلف في هذا قول مالك. هكذا ذكره أبو محمد في النوادر، والذي في روايتنا في العتبية إنما هو من قول العتبي: إنما اختلف فيها قول مالك والله أعلم. وروى الوليد بن مسلم عن مالك يجوز لهم الائتمام به قيامًا، وبه قال أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي. اهـ. وراجع: مختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (2/ 97)، ومواهب الجليل (2/ 97)، وشرح الخرشي (1/ 24)، ومنح الجليل (1/ 360).
وقال النووي في المجموع شرح المهذب (4/ 161): مذهبنا جواز صلاة القائم خلف القاعد العاجز، وأنه لا تجوز صلاتهم وراءه قعودًا، وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة وأبو ثور والحميدي وبعض المالكية. اهـ. وراجع: الأم (1/ 198) و(7/209) و(8/ 609)، والمنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (2/ 288)، ونهاية المحتاج (2/ 186)، ومغني المحتاج (1/ 465).
وقال ابن قدامة في المغني (2/ 27) شارحًا قول الخرقي: (وإذا صلى إمام الحي جالسًا صلى من وراءه جلوسًا). إن صلى بهم قاعدًا جاز، ويُصلون مِنْ ورائه جلوسًا، فعل ذلك أربعة من الصحابة: أُسيد بن حضير، وجابر، وقيس بن قهدٍ، وأبو هريرة. وبه قال الأوزاعي، وحمّاد بن زيد، وإسحاق، وابن المنذر. اهـ. وراجع: الإنصاف (2/ 260)، والمُحلى (2/ 103).
-أدلة الجمهور:
1- أخرج البخاري (664)، ومسلم (968) عن عائشة قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يُؤذنه بالصلاة فقال: (مُروا أبا بكر فليُصلِّ بالناس). فقُلتُ: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف، إنه متى يَقُمْ مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرتَ عمر. فقال: (مُروا أبا بكر فليُصلِّ بالناس). قالت: فقُلتُ لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمح الناس، فلو أمرتَ عمر. فقال له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّكُنَّ لأنتن صواحب يوسف، مُروا أبا بكر فليُصل بالناس). قالت: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس. قالت: فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفَّة فقام يُهادي بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض. قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسّه ذهب يتأخر فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قم مكانك. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بالناس جالسًا وأبو بكر قائمًا يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر.
وفي رواية لهما -البخاري (683)، ومسلم (9710)- من طريق هشام عن أبيه عن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُصلي بالناس في مرضه فكان يُصلي بهم. قال عُروة: فوُجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج وإذا أبو بكر يؤم الناس، فلمَّا رآه أبو بكر استأجر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كما أنت، فجلس رسول الله حِذاء أبي بكر إلى جنبه، فكان أبو بكر يُصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يُصلون بصلاة أبي بكر.
قال الإمام الشافعي في الرسالة ص(254) الفقرة(702): فلما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه قاعدًا والناس خلفه قيامًا، استدللتا على أن أمره الناس بالجلوس في سقطته عن الفرس قبل مرضه الذي مات فيه، فكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه قاعدًا والناس خلفه قيامًا - ناسخة لأن يجلس الناس بجلوس الإمام. اهـ. وراجع: الأم (1/ 199)، واختلاف الحديث مع الأم (8/ 609)، ومعرفة السنن والآثار (4/ 135).
وقال الحازمي في الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ص(211): وقد اختلف أهل العلم في الإمام يُصلي بالناس جالسًا من مرض، فقالت طائفة: يُصلُّونَ قُعُودًا اقتداءً به، وذهبوا إلى هذه الأحاديث وَرأوْها مُحكمة، وبهِ قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث.
وقال أكثر أهل العلم يُصلُّونَ قيامًا، ولا يُتابعون الإمام في الجلوس، ورأوا أن هذه الأحاديث منسوخة، ممن ذهب إلى ذلك من العلماء: عبدالله بن المبارك، والشافعي وأصحابه، وقد حكينا نحو هذا عن الثوري. اهـ.
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 405): بعد روايته لحديث عائشة: ففي هذا الحديث أن أبا بكر ائتم برسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا والنبي صلى الله عليه وسلم قاعدٌ، وهذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله ما قال في الأحاديث التي في الباب الأول. اهـ. يعني أنها نُسِخَتْ بهِ.
قال الحميدي -كما ذكر البخاري عقب حديث(5658)-: هذا الحديث منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم آخر ما صلَّى صلَّى قاعِدًا، والناس خلفه قيام. اهـ. وهذا يُشعِرُ أن البخاري يميل إلى القول بنسخ أحاديث الجلوس.
وقال الباجي في المنتقى (1/ 238): وقد قال بعض أصحابنا في حديث أنس -يُشير إلى حديث أنس المذكور في أول المسألة-: إنه منسوخ بصلاة أبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي تُوفي منه، وهذا يصح على رواية الوليد بن مسلم، وقد تأول ابن القاسم أنه في النافلة وذلك كله محتمل والله أعلم. اهـ.
وحديث عائشة وقع فيه اختلاف لا يقدح فيه؛ فالذي تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان إمامًا وأبو بكر مأمومًا، وقد رُوي فيه العكس، كما أخرجه الترمذي والنسائي عن مسروق عن عائشة قال: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي تُوفي فيه قاعِدًا -رواه النسائي (78)، الترمذي (363) وقال: حديث حسن صحيح-.
قال الزيعلي في نصب الراية (2/ 55): ومثل هذا لا يُعارض ما وقع في الصحيح مع أن العلماء جمعوا بينهما. اهـ.
قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (4/ 114- 146): إن الصلاة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم إمامًا هي صلاة الظهر، وهي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه بين العباس وعليِّ، والصلاة التي صلاها مأمومًا هي صلاة الصبح من يوم الاثنين، وهي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الفضل بن العباس وغلام له، وهي آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى لسبيله. اهـ. وجمع بينهما أيضًا الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 406) بنحو هذا.
وقال ابن حبان في صحيحه (5/ 488): إن هذه الأخبار كلها صحاح، وليس شئ منها يُعارض الآخر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى في علته صلاتين في المسجد جماعةً، لا صلاة واحدة، غي إحداها كان مأمومًا، وفي الأخرى كان إمامًا. اهـ.
-أدلة الحنابلة:
تمسك الحنابلة بالأحاديث المذكورة في صدر المسألة، وبُار عن الصحابة تؤيد العمل بهذه الأحاديث، ومن ذلك:
1- عن أبي الزبير عن جابر: أنهم خرجوا يُشيِّعونه وهو مريض فصلى جالسًا وصلوا خلفه جلوسًا. أخرجه الشافعي في اختلاف الحديث (8/ 609)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 115).
2- وعن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة قال: إنما الإمام أمير، فإن صلَّى قاعِدًا فصلوا قُعُودًا، وإن صلَّى قَائِمًا فصَلُّوا قِيَامًا. رواه عبدالرزاق في مصنفه (2/ 462)، وابن أبي شيبة (2/ 115).
3- وعن أسيد بن حضير أنه كان يؤم قومه بني عبدالأشهل وأنه اشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه فقالوا له تقدم. قال: لا أستطيع أن أصلي قائمًا. قالوا: لا يؤمنا أحد غيرك ما دمت. فقال: اجلسوا. فصلَّى بهم جُلُوسًا. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 115)، واختلاف الحديث (8/ 69).
4- وعن قيس بن قهد الأنصاري: أن إمامهم اشتكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكان يؤمنا جالسًا ونحن جُلُوس. أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (2/ 462)، وابن أبي شيبة (2/ 115).
وهذه الآثار كلها رُويَت بأسانيد صحيحة -كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/ 176)-.
وقد أنكر الإمام أحمد أن يكون حديث عائشة ناسخًا لهذه الأحاديث، وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين:
الحالة الأولى: إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعدًا لمرض يُرجى برؤه، فحينئذ يُصلون خلفه قعودًا.
والحالة الثانية: إذا ابتدأ الإمام الراتب قائمًا لزم المأمومين أن يُصلوا خلفه قيامًا، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدًا أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم، فإن تقريره لهم على القيام دلَّ على أنهم لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة؛ لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائمًا وصولا معه قيامًا، بخلاف الحالة الأولى فإنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة جالسًا فلما صلوا خلفه قيامًا أنكر عليهم. راجع: المغني (2/ 27).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/ 671): ويُقِوِّي هذا الجمع أن الأصل عدم النسخ، لا سيِّمَا وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدًا، وقد نُسِخَ إلى القعود في حق من صلَّى إمامه قاعدًا، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين وهو بعيد. اهـ.
وقد قال بقول أحمد جماعة من محدثي الشافعية؛ كابن خزيمة وابن حبان وابن المذر.
وأجاب ابن خزيمة على حديث عائشة بأن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يُصلي قاعدًا تبعًا لإمامه لم يُختلف في صحتها ولا في سياقها، وأما صلاته صلى الله عليه وسلم قاعدًا فاختُلِف فيها هل كان إمامًا أو مأمومًا، وما لم يُختلف فيه لا ينبغي تركه لمُختلِفٍ فيه. راجع: صحيح ابن خُزيمة (3/ 52). وقد سبقت الإجابة عن ذلك بأنه كان إمامًا مرة ومأمومًا أخرى.
وادَّعى ابن حبان الإجماع على أن الإمام إذا صلَّى قاعدًا كان على المأمومين أن يُصلُّوا قعودًا، واستدل على ذلك بأن أربعة من الصحابة أفتَوْا بذلك، ولم يُرْوَ عن أحدٍ من الصحابة خلاف لهؤلاء الأربعة، لا بإسناد متصل ولا بإسناد منقطع فكان إجماعًا.
قال ابن حبان في صحيحه (5/ 471): والإجماع عندنا إجماع الصحابة الذين شهدوا هبوط الوحي والتنزيل، وأُعيذوا من التحريف والتبديل، حتى حفظ الله بهم الدين، وصانه عن ثلم القاحدين. اهـ.
قال العلامة أحمد شاكر في التعليق على الرسالة ص(257): ولستُ أرضى من ابن حبان ادعاءه الإجماع، كلمة مُرسلة لا حجة لها، كما قال الشافعي في اختلاف الحديث: ولا يُنسب إلى ساكت قول قائل ولا عمل عامل، إنما يُنسب إلى كلٍّ قوله وعمله، وفي هذا ما يدل على أن ادعاء الإجماع في كثير من خاصِّ الأحكام ليس كما يقول من يدعيه. اهـ. وراجع: اختلاف الحديث (8/ 619)، والأم (1/ 178).
وقد حكى ابن حجر عن بعضهم -ورجحه، كما في فتح الباري (2/ 177)- أنه جمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز، فعلى هذا الأمر من أمَّ قاعدًا لعُذر تخيّر من صلَّى خلفه بين القعود والقيام، والقعود أعلى لثبوت الأمر بالائتمام والاتباع وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وإلى هذا الجمع ذهب ابن حزم -كما في المحلى (2/ 103).
-أدلة مالك ومحمد بن الحسن:
واستدل مالك ومحمد بن الحسن على عدم جواز الصلاة وراء القاعد بما رواه الدارقطني من رطيق جابر الجعفي عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحد بعدي جالسًا).
قال الدارقطني في سننه (1/ 398): لم يروه عن الشعبي غير جابر الجعفي وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة. اهـ. سُنن الدارقطني (1/ 398) ومن طريقه البيهقي في الكبرى (3/ 80).
قال الإمام أبو حنيفة -كما في سنن الترمذي (4347)-: ما رأيتُ أحدًا أكذب من جابر الجعفي، ولا أفضل من عطاء ابن أبي رباح. اهـ. وراجع ترجمته في تهذيب الكمال (4/ 465)، وميزان الاعتدال (1/ 379).
وقد عاب ابن حبان -كما في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (5/ 474)- على محمد بن الحسن بهذا الحديث على أن صلاة الإمام قاعدًا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم فلا يُشاركه فيها أحد من أمته.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 408): وكان محمد بن الحسن يقول: لا يجوز لصحيح أن يأتم بمريض يُصلي قاعدًا، وإن كان يركع ويسجد. ويذهب إلى أن ما كان من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا في مرضه بالناس وهم قيام مخصوص؛ لأنه قد فعل فيها ما لا يجوز لأحد بعده أن يفعله، مِنْ أخذه في القراءة من حيثُ انتهى أبو بكر، وخروج أبي بكر من الإمامة إلى أن صار مأمومًا في صلاة واحدة، وهذا لا يجوز لأحد من بعده باتفاق المسلمين جميعًا، فدلَّ على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان خُصَّ في صلاته تلك بما مُنِعَ منهُ غيرهِ. اهـ.
وقال الباجي في المنتقى (1/ 238): وجه القول الأول أن هذا ركن من أركان الصلاة، فلا يصح الائتمام بمن عجز عنه كالقراءة. اهـ.
من ذلك كله يتبين صحة إيراد ابن أبي شيبة لهذه الأحاديث على مذهب مالك ومحمد بن الحسن؛ حيث إن مذهبهما يُخالف أدلة الجمهور والحنابلة معًا؛ لأن في جميعها جواز صلاة الإمام قاعدًا بعُذرٍ، ودليلهما على الخصوصية لا يصلح للاحتجاج، فلا شك في مُخالفة مذهبهما للحديث، وأما إيرادها على مذهب الجمهور فلا يَحسُن؛ لأنهم قائلون بنسخها، والقول بنسخ الحديث ليس مُخالفه له.
***

الثاني عشر/ مَسْأَلَةُ الكَلامِ فِي الصَّلاةِ
(1) حَدثنَا أبُو مُعَاويَةَ عن الأَعمَشِ عن إِبراهيمَ عن علقمَةَ عن عبدِاللهِ: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سجَدَ سَجدتَي السَّهُو بَعْدَ الكَلامِ. أخرجه البُخاري (401)، ومُسلم (1314).
(2) حدَّثنَا أبُو خالِدٍ عن عششَامٍ عن مُحمَّدٍ عن أبِي هُريرةَ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- تكلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجدَتَي السَّهْوِ. أخرجه البخاري (482)، ومسلم (1316).
(3) حَدثنَا ابنُ عُلَيَّةَ عن خَالِدٍ عن أبِي قِلابَةَ عن أبِي المُهَلَّبِ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنِ: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى العَصْرَ فِي ثَلاثِ رَكَعَاتٍ ثُمَّ انصَرَفَ، فقَامَ إِل~يهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ، فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَقَصَتْ الصَّلاةُ. قال: (وَمَا ذَاكَ؟). قَالَ: صَلَّيتَ ثَلاثَ رَكَعَاتٍ، فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَجْدَتِي السَّهْوِ ثُمَّ سَلَّمَ. أخرجه مسلم (1321).
وذُكِرَ أنَّ أبَا حنيفةَ قالَ: إِذَا تَكَلَّمَ فَلاَ يَسْجُدُهُمَا.
***
اتفق الفقهاء على تحريم الكلام في الصلاة عامدًا وأنه تبطل به الصلاة، وأما من تكلم في الصلاة ساهيًا بكلام قليل فقال مالك والشافعي وأحمد في رواية: لم تبطل صلاته. وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى: تبطل.
قال صاحب الهداية: (ومن تكلم في صلاته عامدًا أو ساهيًا بطلت صلاته) خلافًا للشافعي رحمه الله في الخطأ والنسيان. اهـ. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (1/ 395)، والعناية (1/ 395)، ونصب الراية (2/ 75). وراجع: المبسوط (1/ 170)، وبدائع الصنائع (1/ 233).
جاء في المدونة (1/ 194): وقال مالكٌ في الرجل يُسلم من ركعتين ساهيًا ثم يلتفت فيتكلم قال: إن كان شيئًا خفيفًا رجع فبنى وسجد سجدي السهو. اهـ. وراجع: المنتقى (1/ 172)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 302)، ومختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (2/ 310)، ومواهب الجليل (2/ 30)، وشرح الخرشي (2/ 321)، ومنح الجليل (1/ 302).
وقال النووي في المجموع شرح المهذب (4/ 17): من تكلم ناسيًا في الصلاة ولم يطل كلامه فمذهبنا أنه لا تبطل صلاته، وبه قال جمهور العلماء، منهم ابن مسعود وابن عباسٍ وابن الزبير وأنسٌ وعُروة بن الزبير وعطاءٌ والحسن البصريّ والشعبي وقتادة وجميع المحدثين ومالكٌ والأوزاعي وأحمد في روايةٍ وإسحاق وأبو ثورٍ وغيرهم. وقال النخعي وحمَّاد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأحمد في روايةٍ: تبطُل. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (2/ 140)، ومُغني المحتاج (1/ 411)، ونهاية المحتاج (2/ 35).
وقال ابن قدامة في المغني (1/ 393): من سلَّم عن نقصٍ من صلاته يظُنّ أنها قد تمت ثم تكلم، ففيه ثلاث رواياتٍ: إحداهن أن الصلاة لا تفسد إذا كان الكلام في شأن الصلاة مثل الكلام في بيان الصلاة. والرواية الثانية: تفسد صلاتهم. وهو قول الخلال وصاحبه، ومذهب أصحاب الرأي. والثالثة: أن صلاة الإمام لا تفسد، وصلاة المأمومين الذين تكلموا تفسد. اهـ.
استدل الجمهور على صحة صلاة من تكلم في صلاتِهِ ناسيًا، بحديث أبي هريرة وعِمران بن حُصين في قصة ذي اليدين؛ فقد تكلم النبي صلى الله عليه وسلم مع ذي اليدين، وهو يرى أنه قد أكمل الصلاة، فلما تيقن من نسيانه بنى على صلاته وسجد للسهو، فدلَّ ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم فرَّق بين كلام العامد والناسي.
1- روى البخاري (714)، ومسلم (1318) من طرق كثيرة عن أبي هريرة قال: صلَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فسلم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ذلك لم يكن). فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: (أصدق ذو اليدين؟). فقالوا: نعم يا رسول الله. فأتمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقيَ من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم.
2- أخرج مسلم (1321) عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم في ثلاث ثم دخل منزله، فقال إليه رجلٌ يُقال له الخرباق، وكان في يده طولٌ فقال: يا رسول الله فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال: (أصدق هذا). قالوا: نعم. فصلى ركعةً ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم.
قال الشافعي في الأم (1/ 147): مَنْ تكلم في الصلاة وهو يرى أنه قد أكملها، أو نسيَ أنه في صلاةٍ فتكلَّم فيها، بنى على صلاته وسجد للسهو لحديث ذي اليدين، وأن من تكلم في هذه الحال فإنما تكلم وهو يرى أنه في غير صلاةٍ، والكلام في غير الصلاة مباحٌ. اهـ.
واستدل الحنفية بأحاديث تحريم الكلام في الصلاة ولم يُفرَّق فيها بين العمد والنسيان، فكانت ناسخة لحديث ذي اليدين واستدلوا على النسخ بقرائنَ يأتي ذكرها، بعد ذكر بعض أحاديث النهي عن الكلام في الصلاة.
1- ما أخرجه مسلم (1227) عن مُعاوية بن الحكم السلميّ قال: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ فقُلتُ: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلتُ: وا ثكل أُمِّياه ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصَمِّتُونني سكتُّ، فلمَّا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، بأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني ولا ضرنبي ولا شتمني، وقال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن).
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 444): فدلَّ ذلك على أن كلام ذي اليدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما كلَّمه به، وأن جميع ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته في حديث عمران وأبي هريرة كان والكلام مباحٌ في الصلاة، ثم نسخ بنسخ الكلام فيها. اهـ.
2- ما أخرجه البخاري (1199)، ومسلم (1229) عن ابن مسعودٍ قال: كُنَّا نُسلِّمُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرُدّ علينا، فلمَّا رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله كُنَّا نُسلم عليكَ في الصلاة فترد علينا، فقال: (إن في الصلاة شُغُلًا).
وفي رواية لأبي داود (924)، والنسائي (1221): (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وقد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة).
3- ما أخرجه البخاري (1200)، ومسلم (1231) عن زيد بن أرقم قال: إنا كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه يُكلِّم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالْصَّلاَةِ الوُسْطُى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وقد استدل الحنفية على النسخ بتقدم قصة ذي اليدين؛ لأنه قُتِلَ يوم بدر، ولا يتعارض ذلك مع رواية أبي هريرة للحديث؛ لأن الصحابي قد يروي ما لا يحضره بأن يسمعه من صحابي آخر، وقول أبي هريرة: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معناه صلَّى بالمسلمين، وهذا جائز في اللغة، وأما أحاديث التحريم فمتأخرة؛ لأنها من رواية معاوية بن الحكم وهو متأخر الإسلام، ومن رواية زيد بن أرقم، وصُحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بالمدينة، فدلَّ جميع ذلك على نسخ حديث ذي اليدين بأحاديث تحريم الكلام في الصلاة. راجع: شرح معاني الآثار (1/ 452)، والنكت الطريفة ص(73).
وقد ردَّ الجمهور دعوى النسخ بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الأحاديث ممكن بحمل أحاديث النهي على العامد، وحديث ذي اليدين على الناسي، وأجابوا عما أورده الحنفية من عدة وجوه:
1- أن دعوى نسخ حديث أبي هريرة بحديث ابم مسعودٍ غلطٌ؛ لأنه لا خلاف بين أهل الحديث والسير أن حديث ابن مسعودٍ كان بمكَّة حين رجع من الحبشة قبل الهجرة، وأن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين كان بالمدينة، وإنما أسلمَ أبو هريرة عام خيبر سنة سبع من الهجرة بلا خلافٍ، وأما حديث زيد بن أرقم ومعاوية بن الحكم فليس فيهما بيان أنهما كانا قبل حديث أبي هريرة أو بعده والنظر يشهد أنهما قبله.
2- أن شهود أبي هريرة للقصة محفوظٌ من رواية الثقات، كما في رواية لمُسلم (1320): بينا أنا أُصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا اللفظ لا يحتمل التأويل.
3- أن المقتول يوم بدر ذو الشمالين وليس ذو اليدين، فذو الشمالين اسمه عُمير بن عبدعمرو بن غبشان من خُزاعة -راجع ترجمته في الإصابة (2/ 414، (4/ 378)، والاستيعاب (2/ 469)-، وذو اليدين اسمه الخرباق بن عمرٍو من بني سليمٍ -راجع ترجمته في الإصابة (2/ 271، 420)، والاستيعاب (2/ 458)-، فذو اليدين المذكور في حديث السهو غير المقتول ببدرٍ، وما قاله الزُّهريّ من أن المتكلم في حديث السهو ذو الشمالين -كما عند النسائي (1229)-، فلم يُتابع عليه.
قال ابن عبدالبر في التمهيد (1/ 366): لا أعلم أحدًا من أهل العلم بالحديث عوَّلَ على حديث الزهري في قصة ذي اليدين، وكلهم تركه من روايته لاضطرابه فيه، وإن كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن؛ فالغلظ لا يسلم منه بشرٌ، وكل أحدٍ يؤخذ من قوله ويُترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقد اتضح مما سبق أن الحنفية يرون نسخ حديث ذي اليدين، ودعوى النسخ إن لم تسلم لهم، فإنها تدفع عنهم اتهام ابن أبي شيبة لهم بمُخالفة الحديث؛ لأن القول بنسخ الحديث ليس مُخالفة له كما هو معلوم.
***

الثالث عشر/ مَسْأَلَةُ إِعَادَةِ الفَجْرِ فِي الجَمَاعَةِ
(1) حدَّثنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا يَعْلَى بنُ عَطَاءٍ قال: حدَّثنِي جَابِرُ بنُ الأَسوَدِ عن أبيهِ قال: شَهِدتُ مع النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَجَّتَهُ، قال: فَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الخَيْفِ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتضهُ وانحَرَفَ إذا هُوَ بِرَجُلَينِ فِي آخِرِ القَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فقالَ: (عَلَيَّ بِهِمَا) فَأُتِيَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا فقالَ: (مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟). قَالا: يَا رسولَ اللهِ كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قالَ: (فَلاَ تَفْعَلا، إِذَا صَلِّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتِيتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَلَلِّيَا مَعَهُمْ فِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ). أخرجه أبو داود (575)، والترمذي (219)، والنسائي (858).
(2) حَدثنَا وَكِيعٌ عن سُفيَانَ عن زَيدِ بن أَسلَمَ عن بُسْرٍ عن بِشْرِ بنِ مِحْجَنٍ الدُّؤَلِيّ عَن أبيهِ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِنَحْوِهِ. أخرجه النسائي (857).
وَذُكِرَ أنَّ أبَا حنيفةَ قالَ: لا تُعَادُ الفَجْرُ.
***
مَنْ صلَّى الفريضة ثم أدركها في جماعة يُستحبُّ له إعادتُها، سواء صلَّى الأُولَى في جماعة أم مُنفردًا. وهذا قول الشافعي، وأحمد، وابن حزم. وقال مالك: تُستحب الإعادة لمن صلَّى منفردًا إلا صلاة المغرب، فإنه لا يستحب إعادتها. فإن أعادها فالمستحب عند مالك وأحمد أن يشفعها بركعة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: يُعيد الظهر والعشاء ولا يُعيد سائر الصلوات.
قال صاحب الهداية: (فإن صلَّى من الفجر ركعة ثم أُقيمت يقطع ويدخل معهم)؛ لأنه لو أضاف إليها أخرى تفوته الجماعة، وكذا إذا قام إلى الثانية قبل أن يُقيدها بالسجدة، وبعد الإتمام لا يشرع في صلاة الإمام لكراهة التنفل بعد الفجر وكذا بعد العصر لما قلنا، وكذا بعد المغرب في ظاهر الرواية؛ لأن التنفل بالثلاث مكروه، وفي جعلها أربعًا مخالفة لإمامه. اهـ. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (1/ 473)، والعناية (1/ 473)، ونصب الراية (2/ 169).
وجاء في المدونة (1/ 179): قال مالك: إذا جاء الرجل المسجد وقد صلَّى وحده في بيته فليُصلِّ مع الناس، إلا المغرب فإنه إن كان قد صلاها، ثم دخل المسجد فأقام المؤذن صلاة المغرب فليخرج. قلتُ لابن القاسم: فإن جهل ذلك فصلَّى مع الإمام المغرب ثانية؟ قال: أحب إلى أن يشفع صلاته الآخرة بركعة وتكون الأولى التي صلَّى في بيته صلاته. اهـ. وراجع: المنتقى (1/ 234)، ومختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (2/ 403)، وشرح الخرشي (2/ 18)، ومنح الجليل (1/ 352)، وحاشية الدسوقي (1/ 321).
وقال النووي في المجموع شرح المهذب (4/ 122): الصحيح عند أصحابنا: استحباب إعادة جميع الصلوات في جماعة سواء صلَّى الأولى جماعة أم منفردًا، وهو قول سعيد بن المسيم وابن جُبير والزهري، ومثله عن علي بن أبي طالب وحذيفة وأنس، ولكنهم قالوا في المغرب: يضيف إليها أخرى. وبه قال أحمد، وعندنا لا يُضيف. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (1/ 471)، وتحفة المحتاج (2/ 262)، ونهاية المحتاج (2/ 149).
وقال ابن قدامة في المغني (1/ 426): من صلَّى فرضه ثم أدرك تلك الصلاة في جماعة استحب له إعادتها، أيُّ صلاة كانت، بشرط أن تُقام وهو في المسجد، أو يدخل المسجد وهم يُصلون. فإن أُقيمت صلاة الفجر أو العصر وهو خارج المسجد لم يُستحب له الدخول. قال الأثرم: سألتُ أبا عبدالله عن مَن صلَّى في جماعة ثم دخل المسجد وهم يُصلون أيُصلِّي معهم؟ قال: نعم، إنما هي نافلة فلا يدخل، فإن دخل صلَّى وإن كان قد صلَّى في جماعة. قيل لأبي عبدالله: والمغرب؟ قال: نعم، إلا أنه في المغرب يشفع. اهـ.
وقال ابن حزم في المحلى (2/ 24): وأما إعادة من صلى إذا وجد جماعة تُصلِّي تلك الصلاة، فإن ذلك مستحب -مكروه تركه- في كل صلاة، سواء كان صلَّى منفردًا؛ لعُذرٍ أو في جماعة، وليُصلِّها ولو مرات كلما وجد جماعة تصليها. اهـ.
-أدلة الجمهور:
1- استدل الجمهور على استحباب إعادة الفريضة في جماعة بحديث يزيد بن الأسود وقد سبق سياقه من روابة ابن أبي شيبة وهو صريح في إعادة صلاة الفجر والعصر مثلها.
2- وبحديث مِحجن الدؤلي، ولفظه عند النسائي: أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَذَّنَ بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع ومحجنٌ في مجلسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منعك أن تُصَلِّيَ أَلَسْتَ برجلٍ مُسلمٍ). قال: بلى، ولَكِنِّي كنتُ قد صليتُ في أهلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جِئْتَ فصَلِّ مع الناس وإن كنتَ قد صليتَ).
3- وبما رواه مسلم (1497، 1501) عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنت إذا كانت عليك أُمراءُ يُؤخِّرون الصلاة عن وقتها أو يُميتون الصلاة عن وقتها). قال: قُلتُ: فما تأمرني. قال: (صَلِّ الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصلِّ فإنها لك نافلةٌ). وفي رواية: (فإن أدركتك الصلاةُ معهم فصلِّ، ولا تقل إني قد صليتُ فلا أصلي).
وهذه الأحاديث بعمومها تدل على الإعادة سواء صلَّى وحده أو في جماعة.
وقد روى أنس قال: صلَّى بنا أبو موسى الغداة في المربد، فانتهينا إلى المسجد الجامع فأُقيمت الصلاة فصلينا مع المُغيرة بن شُعبة.
وعن صلة عن حذيفة: أنه أعاد الظهر والعصر والمغرب، وكان قد صلاهن في جماعة. رواهما الأثرم. راجع: المغني (1/ 426).
واستدل مالك على استثناء المغرب بأنها وتر النهار فإن أعادها صارت شفعًا؛ ولذلك استُحب عند إعادتها أن تشفع بركعة، واستدل على تخصيص الإعادة بمن صلَّى منفردًا بالعادة، فإن من صلَّى في بيته عادة يُصلي وحده. راجع: الموطّأ عقب حديث(299).
-أدلة الحنفية:
1- استدل الحنفية على منع إعادة الفجر والعصر بعموم النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث مستوفاة في مسألة قضاء الصلاة، وأجابوا عن حديث يزيد الديلي بأنه معارض بتلك الأحاديث، فَتُقَدَّمُ لزيادة قوتها، ولأن المانع مقدم، واعتبارهم كون الخاص مطلقًا مقدمًا على العام ممنوع؛ بل يتعارضنا في ذلك الفرد وموضعه الأصول، أو يُحمل على ما قبل النهي في الأوقات المعلومة جمعًا بين الأدلة، فتكون الإعادة في الفجر والعصر منسوخة بالنهي عن الصلاة بعدهما، معمولًا بها في الصلوات الأخرى. راجع: فتح القدير (1/ 473)، وشرح معاني الآثار (1/ 364).
2- واستدلوا على نسخ ذلك في المغرب بما رواه الطحاوي عن ناعم بن أُجْيَل مولى أم سلمة قال: كنتُ أدخل المسجد لصلاة المغرب، فأرى رجالًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسًا في آخر المسجد، والناس يُصلون فيه قد صلوا في بيوتهم.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 364): فهؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا لا يُصلون المغرب في المسجد، لما كانوا قد صلوها في بيوتهم، ولا يُنْكِر ذلك عليهم غيرُهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا، فذلك دليل -عندنا- على نسخ ما قد كان تقدمه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز أن يكون مثل ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذهب عليهم جميعًا حتى يكونوا على خلافه، ولكن كان ذلك منهم لما قد ثبت عندهم فيه من نسخ ذلك القول. اهـ.
3- وبما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 365) موقوفًا عن ابن عمر: إن صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة فصلها إلا الصبح والمغرب، فإنهما لا يُعادان في يوم.
قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (1/ 473): وإذا ثبت هذا فلا يخفى وجه تعليل إخراجه الفجر بما يلحق به العصر خصوصًا على رأيهم، فإن الاستثناء عندهم من المُخصصات، ودليل التخصيص مما يعلل ويلحق به إخراجًا. اهـ.
وهذه المسألة كما ترى تشبه مسألة قضاء الصلاة؛ حيثُ قدَّم الحنفية في المسألتين أحاديث النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة، على الأحاديث التي دلَّت على استثناء بعض الصلوات من هذا النهي؛ كقضاء الفوائت وإعادة الصلاة في جماعة، وجعل الحنفية أحاديث النهية لشُهرتها ناسخة لما عداها، وجعل الجمهور الأحاديث الأخرى مخصصة لعموم أحاديث النهي؛ فالخلاف ناشئ عن تعارض الأحاديث وكيفية الجمع بينها، وإذا كان الحال كذلك لا يُوصَف أحد الفريقينِ بمُخالفة الحديث.
***

الرابع عشر/ مَسْأَلَةٌ فِي الجَمَاعَةِ
(1) حدَّثنَا عَبْدَةُ عَن ابنِ أبِي عَرُوبَةَ عن سُلَيمَانَ النَّاجِي عن أبِي المُتَوَكِّلِ عن أبِي سَعيدٍ قال: جَاءَ رَجُلٌ وقد صَلَّى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: فقالَ لَهُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّكُمْ يَتَّجِرُ عَلَى هَذَا؟). قالَ: فقَامَ رَجُلٌ مِن القَوْمِ فَصَلَّى مَعَهُ. أخرجه أبو داود (574)، والترمذي وقال: حديث حسن.
وَذُكِرَ أنَّ أبَا حنيفةَ قالَ: لا تَجْمَعُواْ فِيهِ.
***
ذهب جمهور الفقهاء -الحنفية والمالكية والشافعية- إلى كراهة تكرار الجماعة في مسجد الحي الذي له إمام راتب وجماعة معلومون بغير إذن الإمام. وقال أحمد وإسحاق وادود وابن المنذر: لا تكره. أما إذا لم يكن له إمام راتب، أو كان المسجد في قارعة الطريق، فلا كراهة في الجماعة الثانية والثالثة وأكثر بالإجماع.
قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 153): إن كان مسجدًا له أهل معلوم، فإن صلَّى فيه غير أهله لا يُكره لأهله أن يُعيدوا الجماعة، وإن صلَّى فيه أهله أو بعض أهله، يُكره لغير أهله وللباقين من أهله أن يُعيدوا الجماعة، وإن كان مسجدًا ليس له أهل معلوم بأن كان على شوارع الطريق لا يُكره تكرار الجماعة فيه. اهـ. وراجع: المبسوط (1/ 135)، والموسوعة الفقهيّة (27/ 175).
وقال مالك في المدونة (1/ 181): لا يجمع الصلاة في مسجد مرتين، إلا أن يكون مسجدًا ليس له إمام راتب فلكل من جاء أن يجمع فيه. اهـ. وراجع: المنتقى (1/ 232)، ومختصر خليل وشروحه: والتاج والإكليل (2/ 437)، ومنح الجليل (1/ 367)، ومواهب الجليل (2/ 109)، وشرح الخرشي (2/ 30).
وقال النووي في المجموع (4/ 119): إن كان للمسجد إمام راتب، وليس هو مطروقًا، كره لغيره إقامة الجماعة فيه ابتداءً قبل فوات مجئ إماممه، ولو صلَّى الإمام كُرِهَ أيضًا إقامة جماعة أخرى فيه بغير إذنه؛ لأنه ربما اعتقد أنه قصد الكياد والإفساد، هذا هو الصحيح المشهور به قطع الجمهور، وإن كان المسجد مطروقًا أو غير مطروق وليس له إمام راتب، لم تُكره إقامة الجماعة الثانية فيه؛ لأنه لا يحتمل الأمر فيه على الكياد. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (2/ 277)، ونهاية المحتاج (2/ 162).
وقال ابن قدامة في المغني (2/ 5): ولا يُكره إعادة الجماعة في المسجد، ومعناه أنه إذا صلى إمام الحي، وحضر جماعة أخرى، استحب لهم أن يُصلُّو جماعة، وهو قول ابن مسعود وعطاء والحسن والنخعي وقتادة وإسحاق. وقال سالم وأبو قلابة وأيوب وابن عون والليث والبتي والثوري ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي: لا تُعاد الجماعة في مسجد له إمام راتب في غير ممر الناس، فمن فاتته الجماعة صلى مُنفردًا. اهـ. وراجع: الفروع (1/ 483).
-أدلة الحنابلة:
1- اتسدل الحنابلة بعموم حديث ابن عمر في الصحيحين -عند البخاري (645)، ومسلم (1509)- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذّ بسبعٍ وعشرينَ درجة).
2- وبحديث أبي سعيد السابق في أول المسألة.
3- وبما رواه أحمد في مُسنده (5/ 254) عن أبي أمامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي فقال: (ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيُصلي معه). فقام رجل فصلى معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذان جماعة).
4- وبأنه قادرٌ على الجماعة فاستُحب له فعلها، كما لو كان المسجد في ممر الناس.
-أدلة الجمهور:
استدل الحنفية على كراهة الجماعة بما رواه الطبراني في المعجم الأوسط (7/ 51) من طريق الوليد بن مُسلم عن معاوية بن يحيى عن خالد الحذاء عن عبدالرحمن ابن أبي بكرة عن أبيهِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من بعض نواحي المدينة يُريد الصلاة، فوجد الناس قد صلّوا، فذهب إلى منزله فجمع أهله ثم صلَّى بهم. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 45): رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات. اهـ. وبحثت عنه في المعجم الكبير فلم أجده، ومعاوية بن يحيى أبو مُطيع الأطرابلسي قال عنه أبو حاتم وأبو زُرعة: صدوق مُستقيم الحديث. وقال أبو زُرعة: وأبو علي النيسابوري: ثقة. وقال ابن معين: ليس به بأس. وفي رواية: صالح ليس بذاك القوي. وقال أبو داود والنسائي: لا بأس به. راجع: تهذيب الكمال (28/ 224)، وميزان الاعتدال (4/ 139).
قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 153): ولو لم يُكره تكرار الجماعة في المسجد لما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
ونُعِقِّبُ بأن الحديث ليس بنصٍّ على أنه صلى الله عليه وسلم جمع أهله فصلَّى بهم في منزله؛ بل يحتمل أن يكون صلى بهم في المسجد، وكان ذهابه إلى منزله لجمع أهله لا للصلاة فيه، ومع هذا الاحتمال لا يصح الاستدلال به. راجع: تحفة الأحوذي (2/ 9).
وأَوْلَى مما استدل به الكاساني أن يُقال: إن جمهور العلماء كره تكرار الجماعة لأمرين:
1- لأنه يُفضي في الغالب إلى الاختلاف والفُرقة بين المسلمين، وقد أعرب الإمام الشافعي عن هذا المعنى بأحسن بيان فقال -كما في الأم (1/ 180)-: وأحسبُ كراهية من كره ذلك منهم إنما كان لتفرق الكلمة، وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إمام جماعة، فيتخلف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة، فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف وتفرُّق كلمة وفيهما المكروه. وإنما أكرهُ هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن، فأما مسجد بُنِيَ على ظهر الطريق، أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب، ولا يكون له إمام معلوم، ويُصلي فيه المارة ويستظلون، فلا أكره ذلك فيه؛ لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرق الكلمة. اهـ.
2- ولأنه يُؤدي إلى تقليل الجماعة؛ لأن الناس إذا علموا أنهم تفوتهم الجماعة فيستعجلون فتكثر الجماعة، وإذا علموا أنها لا تفوتهم يتأخرون فتقل الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه بخلاف الماسجد التي على قوارع الطرق؛ لأنها ليست لها أهل معروفون، فأداء الجماعة فيها مرة بعد أخرى لا يؤدي إلى تقليل الجماعات، وبخلاف ما إذا صلَّى فيه غير أهله؛ لأنه لا يؤدي إلى تقليل الجماعة؛ لأن أهل المسجد ينتظرون أذان المؤذن المعروف فيحضرون حينئذ -وراجع: بدائع الصنائع (1/ 153)-. ومتى تعينت المفسدة من أمر مُنِعَ ولو كان في أصله جائزًا؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولا شك أن تعدد الجماعات يسبب فتنًا شديدة بين المسلمين كما هو معلوم.
هذا كله كله إذا كانت الجماعة الثانية كبيرة أو يُدعى إليها، أما إذا كانت هيئتها كالمذكورة في الحديث فقد أجازها طائفة ممن منع تكرار الجماعة على الهيئة المكروهة.
قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 153): ورُوي عن أبي يُوسف أنه إنما يُكره إذا كانت الجماعة الثانية كثيرة، فأما إذا كانوا ثلاثة أو أربعة فقاموا في زاوية من زوايا المسجد وصلوا بجماعة لا يكره. ورُوي عن مُحمد أنه إنما يُكره إذا كانت الثانية على سبيل التداعي والاجتماع، فأما إذا لم يكن فلا يُكره. اهـ.
وقال النووي في المجموع (4/ 119): أما إذا حضر واحد بعد صلاة الجماعة فيُستحب لبعض الحاضرين الذين صلُّوا أن يُصلِّي معه لتحصل له الجماعة، ويُستحب أن يشفع له من له عُذر في عدم الصلاة معه إلى غيره ليُصلي معه لحديث أبي سعيد الخدري. اهـ.
يتضح من ذلك أن مذهب الجمهور ليس فيه مُخالفة للحديث؛ فالمكروه عندهم تلك الجماعة التي يترتب عليها مفسدة بين المسلمين، وهذا أمر ينبغي أن يكون محل اتفاق بين أهل العلم، وليس سببًا في اتهام الجمهور بمُخالفة الحديث كما فعل ابن أبي شيبة.
***

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وجزاكم الله خيرًا.

والله أعلم.
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,490
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

أخانا الفاضل عمرو
كتب الله أجركم ورفع قدركم
جهد مشكور
ولكن لتسهيل القراءة على الإخوة نقترح وضع كل مسألة من المسائل في مشاركة حتى لا يطول الموضوع في المشاركة الواحدة
وجزاكم الله خيرا
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

السلام عليكم

أخانا الفاضل عمرو
كتب الله أجركم ورفع قدركم
جهد مشكور
ولكن لتسهيل القراءة على الإخوة نقترح وضع كل مسألة من المسائل في مشاركة حتى لا يطول الموضوع في المشاركة الواحدة
وجزاكم الله خيرا
اللهم آمين، وجزاكِ الله خيرًا على النصيحة الطيّبة.
 

خديجة نور الدين

:: متابع ::
إنضم
16 نوفمبر 2012
المشاركات
62
الكنية
متابعة
التخصص
شريعة
المدينة
طنجة
المذهب الفقهي
المالكي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

بحث قيم بارك الله فيكم
أما مذهب أبي حنيفة فربما لا زال يحتاج إلى بحث كثير والله أعلم ..
تلامذته قرروا بأن من قواعده "الزيادة على النص نسخ" .. لكن أبا حنيفة زاد على الماء والتيمم "النبيذ" ؛
بحديث غير صحيح ؛ نعم
لكنها تبقى زيادة ما رأيكم ؟؟ ..
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

السلام عليكم

بحث قيم بارك الله فيكم
أما مذهب أبي حنيفة فربما لا زال يحتاج إلى بحث كثير والله أعلم ..
تلامذته قرروا بأن من قواعده "الزيادة على النص نسخ" .. لكن أبا حنيفة زاد على الماء والتيمم "النبيذ" ؛
بحديث غير صحيح ؛ نعم
لكنها تبقى زيادة ما رأيكم ؟؟ ..
وفيكم بارك الله.
مسألة (تقييد مُطلق الكتاب بخبر الواحد)؛ وهو ما يُسمّيه الحنفية بالزيادة على النص أو النسخ بالزيادة:
فقد اختلف الأصوليّون في تقييد مُطلق الكتاب بخبر الواحد، فذهب الجمهور إلى جوازه، وذهب الحنفية إلى المنع من ذلك، وهذا الخلاف مبنيٌّ على مسألة أخرى؛ وهي: هل الزيادة الطارئة على النص نسخ له أولا؟ فقال الجمهور: الزيادة تقييد أو تخصيص لا نسخ. وقال الحنفية: هي نسخ. ومحلُّ الخلاف فيما إذا تعلّقت الزيادة غير المُستقلة بحُكم المزيد عليه ووردت متأخرة عن المزيد عليه بحيث يُمكن النسخ.
وتظهر ثمرة هذا الخلاف في إثبات تلك الزيادة بما لا يجوز النسخ به كخبر الواحد، فعند الحنفية الذي يَرَون أن تلك الزيادة نسخ لا تثبت الزيادة بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد لا ينسخ المتواتر وهو القرآن، وعند الجمهور الذين لا يرون أن تلك الزيادة نسخ يقولون: تثبت الزيادة بخبر الواحد - ويُراجع: أصول الفقه الإسلامي (2/ 1009)، والبحر المحيط (4/ 143)، وأصول السرخسي (2/ 82)، وكشف الأسرار (3/ 192)، والتقرير والتحبير (3/ 75).
هذا، وفي المسألة تفصيل يطول، ولعلّي أنشط لتحرير تلك المسألة قريبًا إن شاء الله تعالى.
ما مذهب الحنفية في التخصيص بالقياس؟ - المشاركة 2#
لكن مسألة النبيذ عند الحنفية لا تندرج ضمن هذا الفرع، ولكِ أن تُراجعي الرابط التالي:
هل يجيز الأحناف القليل من الخمر ؟

هذا، وبالله التوفيق.
 

خديجة نور الدين

:: متابع ::
إنضم
16 نوفمبر 2012
المشاركات
62
الكنية
متابعة
التخصص
شريعة
المدينة
طنجة
المذهب الفقهي
المالكي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

فقد اختلف الأصوليّون في تقييد مُطلق الكتاب بخبر الواحد، فذهب الجمهور إلى جوازه، وذهب الحنفية إلى المنع من ذلك
الخلاف الذي عرضتموه أعرفه ،، وإنما إشارتي كانت إلى هذه النقطة الأولى "...وذهب الحنفية إلى المنع من ذلك..." ،،
والذي قلته أنا هو أن "أبا حنيفة" لعله لم يكن يقول بالمنع من ذلك كما حكاه أصوليو مذهبه ،، اعتبارا بأنه أجراه في مسألة جواز "التوضؤ بالنبيذ" ،، إذ الآية فيها الماء والتيمم فقط ،، أما النبيذ فإنه موجود في خبر الواحد ..
(( أتحدث عن أبي حنيفة خاصة )) ولهذا قلتُ بأن مذهب هذا العالِم لا زال يحتاج إلى بحث كثير ،،
أما تلاميذه فيمنعون من ذلك كما هو مشهور عنهم
وأما الرابط الذي أمددتني به مشكورا فموضوعه حكم "شرب" النبيذ والمسكر عموما ،، ولا علاقة له بمداخلتي بارك الله فيكم
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

السلام عليكم

الخلاف الذي عرضتموه أعرفه ،، وإنما إشارتي كانت إلى هذه النقطة الأولى "...وذهب الحنفية إلى المنع من ذلك..." ،،
والذي قلته أنا هو أن "أبا حنيفة" لعله لم يكن يقول بالمنع من ذلك كما حكاه أصوليو مذهبه ،، اعتبارا بأنه أجراه في مسألة جواز "التوضؤ بالنبيذ" ،، إذ الآية فيها الماء والتيمم فقط ،، أما النبيذ فإنه موجود في خبر الواحد ..
(( أتحدث عن أبي حنيفة خاصة )) ولهذا قلتُ بأن مذهب هذا العالِم لا زال يحتاج إلى بحث كثير ،،
أما تلاميذه فيمنعون من ذلك كما هو مشهور عنهم
وأما الرابط الذي أمددتني به مشكورا فموضوعه حكم "شرب" النبيذ والمسكر عموما ،، ولا علاقة له بمداخلتي بارك الله فيكم
وفيكم بارك الله أختي الكريمة.
بالفعل مذهب الإمام أبي حنيفة في التأصيلات يحتاج إلى تحقيق، ليس في هذه المسألة فحسب وإنما في مُختلف المسائل الأُخرى، كمثال: مسألة تقديم الخبر على القياس، اختلف علماء المذهب في حقيقة رأي أبي حنيفة في هذه المسألة على تفصيل يطول، يُمكن الإطلاع عليه على الرابط التالي:
(مذهب أبي حنيفة في تقديم الخبر على القياس)

مسألة التوضؤ بالنبيذ لا أراها تندرج تحت مسألة النسخ بالزيادة، وإنما تندرج تحت مسألة الماء الذي اختلط بطاهر، فالحنفية لا يرون نجاسة النبيذ بل هو طاهر عندهم؛ لأنه ليس يُعدُّ خمرًا عندهم، وهذا تفصيل للمسألة لمزيد من التوضيح:
الماء الذي خالطه طاهر - الملتقى الفقهي
الماء الذي خالطه طاهر - ملتقى أهل الحديث (مشاركات العضو عمــاد البيه)

أما مسألة الزيادة بالنسخ؛ فهي ثابتة عن أبي حنيفة في غير مسألة، مثال: اشتراط النية في الوضوء -وسيأتي تفصيل المسألة هُنا قريبًا-، والأمثلة كثيرة، وسأطرح تحرير لمسألة النسخ بالزيادة عند الحنفية بشئ من التفصيل بإذن الله عز وجل.

فلي عودة إن شاء الله تعالى.

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

السلام عليكم

...
هذا، وفي المسألة تفصيل يطول، ولعلّي أنشط لتحرير تلك المسألة قريبًا إن شاء الله تعالى.
...

..، وسأطرح تحرير لمسألة النسخ بالزيادة عند الحنفية بشئ من التفصيل بإذن الله عز وجل.

فلي عودة إن شاء الله تعالى.
يُمكنكم الإطلاع على تفصيل مسألة النسخ بالزيادة عند الحنفية على الرابط التالي:
http://feqhweb.com/vb/showthread.php?t=14892&p=121452&viewfull=1#post121452
...

(تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد):
لمعرفة حُكم تقييد مُطلق الكتاب بخبر الواحد لا بُدَّ أولًا من التمهيد بذكر تعريف الخاص وحكمه، ومعنى المطلق والمقيد وحكم كل منهما.
تعريف الخاص: هو اللفظ الموضوع للدلالة على معنى واحد على سبيل الانفراد.
أي أنه اللفظ الذي يدل على معنى واحد لا يقبل الشركة في ذات المعنى المقصود، سواء أكان ذلك المعنى جنسًا كحيوان، أم نوعًا كإنسان وكرجل، أم شخصًا كزيد، فما دام المُسمى المراد واحدًا غير متعدد مقطوع الشركة فهو الخاص.
حكم الخاص: يدل الخاص على معناه الذي وضع له على سبيل القطع واليقين، ولا يحتاج إلى بيان، فخاص القرآن قطعي في دِلالته لا يحتاج إلى بيان، وكل تغيير في حكمه بنصٍّ آخر هو نسخٌ له، فلا بد أن يكون الناسخ في قوَّة المنسوخ من حيث قوة الثبوت، فإذا لم يكن كذلك لم يُقبل على وجه يُنسخ القرآن - راجع كشف الأسرار (1/ 30)، والتوضيح على التلويح (1/ 33)، وأصول السرخسي (1/ 24)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 205)، أبو حنيفة لأبي زهرة ص(217).
معنى المطلق: هو اللفظ الخاص الذي يدل على فرد شائع أو أفراد على سبيل الشيوع ولم يتقيّد بصفة من الصفات.
حكم المطلق: والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل يدلّ على التقييد، وذلك إذا ورد مطلقًا في موضع، دون أن يتقيَّد في موضع آخر؛ مثل قوله تعالى في كفارة اليمين: (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [المائدة: 89] فإن الرقبة بإطلاقها تدلُّ على إجزاء المؤمنة والكافرة.
فإن دلَّ الدليل على تقييد المطلق عُمِلَ بالقيد كما في قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 21] فإن الوصية وردت مطلقة عن التقييد بمقدار معين، ولكن قام الدليل على تقييدها بالثُلث في الحديث المشهور: أن سعد بن أبي وقاص سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصية فقال: (الثُلث والثلث كثير) -أخرجه البخاري (2744)، ومُسلم (4296)-.
معنى المقيد: لفظ خاص يدل على فرد شائع مقيد بصفة من الصفات؛ فالخاص قُيِّدَ بما قلَّلَ شيوعه، والواقع أن المقيد هو مطلق لحقه قيد أخرجه من الإطلاق إلى التقييد.
حكم المقيد: المقيد يُعمل به على تقييده ما لم يدل دليل على إلغاء القيد، فيُلغى حينئذٍ القيد اللاحق به، مثاله في كفارة الظهار: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [المجادلة: 4] ورد الصيام مقيدًا بتتابع الشهرين، وبكونه قبل العودة إلى التَّماس والاستمتاع بالزوجة التي ظاهر منها، فلا يُجزئ في كفارة الظهار تفريق الصيام، كما لا يجزئ كونه بعد الاستمتاع بالزوجة وإن كان متتابعًا - أصول الفقه الإسلامي (1/ 208)، وراجع: مسلم الثبوت (1/ 360)، والبحر المحيط (3/ 413).
وقد
اختلف الأصوليّون في تقييد مُطلق الكتاب بخبر الواحد، فذهب الجمهور إلى جوازه، وذهب الحنفية إلى المنع من ذلك، وهذا الخلاف مبنيٌّ على مسألة أخرى؛ وهي: هل الزيادة الطارئة على النص نسخ له أولا؟ فقال الجمهور: الزيادة تقييد أو تخصيص لا نسخ. وقال الحنفية: هي نسخ. ومحلُّ الخلاف فيما إذا تعلّقت الزيادة غير المُستقلة بحُكم المزيد عليه ووردت متأخرة عن المزيد عليه بحيث يُمكن النسخ.
وتظهر ثمرة هذا الخلاف في إثبات تلك الزيادة بما لا يجوز النسخ به كخبر الواحد، فعند الحنفية الذي يَرَون أن تلك الزيادة نسخ لا تثبت الزيادة بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد لا ينسخ المتواتر وهو القرآن، وعند الجمهور الذين لا يرون أن تلك الزيادة نسخ يقولون: تثبت الزيادة بخبر الواحد - ويُراجع: أصول الفقه الإسلامي (2/ 1009)، والبحر المحيط (4/ 143)، وأصول السرخسي (2/ 82)، وكشف الأسرار (3/ 192)، والتقرير والتحبير (3/ 75).
وهذه الزيادة قد تكون بزيادة جزء في الواجب، كزيادة النفي في حدّ الزنا، عملًا بحديث: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة) -أخرجه مسلم (4509)- زيادة على قوله تعالى في حدّ الزنا: (
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2] فعند الحنفية النفي ليس من الحدّ، بل عقوبة تعزيرية موكولة للإمام، وجعله الجمهور جُزءًا من الحدّ - وفي تلك المسألة تفصيل يطول.
وقد تكون بزيادة شرط في الواجب كاشتراط النيَّة في الوضوء عملًا بحديث: (إنما الأعمال بالنيَّات) -أخرجه البخاري في فاتحة الجامع الصحيح، ومسلم (5036)- زيادة على مضمون قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة: 6]؛ فعند الحنفية النية ليست شرطًا في الوضوء ولكنها مستحبة، وجعلها الجمهور شرطًا - وفي تلك المسألة تفصيل يطول أيضًا.
يقول صاحب فواتح الرحموت (2/ 91): وأما زيادة جزء في الواجب كالتغريب في حد الزنا أو زيادة شرط بعد إطلاق الواجب عنه، كاشتراط الإيمان في رقبة اليمين فهل هو نسخ لحكم المزيد عليه؟ فالحنفية قالوا: نعم نسخ. وهو المسمى عندهم بالنسخ بالزيادة، والشافعية والحنابلة وأكثر المعتزلة قالوا: لا نسخ.
ثم قال: لنا أن المطلق عن تلك الزيادة دلَّ على الإجزاء مطلقًا، سواء مع الزيادة أو مجردًا عنها بدلًا وليس هناك صارف عنه؛ لأن الكلام فيما لا صارف غير هذه الزيادة، وهي مفروضة الانتقاء زمان وجود المطلق فيحمل على الإطلاق ويدل عليه، والتقييد بجزء أو شرط يُنافيه فإنه يقتضي عدم الإجزاء بدونه، فيرفع هذا التقييد حكمًا شرعيًّا، وهو إجزاء الأفراد التي هي مجردة عن هذا التقييد، وهذا ظاهر جدًّا، ولأجل أن زيادة جزء أو شرط نسخ امتنع عندنا الزيادة بخبر الواحد على القاطع كالكتاب، وإلا لزم انتساخ القاطع بالمظنون. اهـ.
وقال صدر الشريعة -كما في شرح التلويح على التوضيح (2/ 75)-: أما زيادة الجزء فإنما تكون بثلاثة أمور: الأول: بالتخيير في اثنين بعدما كان الواجب واحدًا؛ فالزيادة هُنا ترفع حرمة ترك ذلك الواجب الواحد. والثاني: بالتخيير في الثلاثة بعدما كان الواجب أحد اثنين؛ فالزيادة هنا ترفع حرمة ترك أحد هذين الاثنين. والثالث: بإيجاب شئ زائد فالزيادة هنا ترفع إجزاء الأصل. وأما زيادة الشرط فإنها ترفع إجزاء الأصل. وحُرمة ترك الواجب الواحد وحرمة ترك أحد اثنين وإجزاء الأصل أحكام شرعية فرفعها عند الحنفية يُعَدُّ نسخًا. اهـ.
وأخبار الآحاد الواردة بزيادة على ما في القرآن تُعتبر كلها مردودة أو مُهملة عند الحنفية؛ لأنهم يمنعون أن تفيد هذه الأحاديث الإلزام بالفعل أو الترك على وجه الفرضية؛ لأن القول بالفرضية يقتضي نسخ إطلاق القرآن وهو لا يجوز عندهم، وهذا لا يمنع أن يُعمل بها في بعض الأحيان على جهة أخرى غير الفرضية، أي على وجه لا ينسخ القرآن، فإذا لم يكن هناك وجه لذلك لم يعملوا بها - راجع: التقرير والتحبير (2/ 218)، وفواتح الرحموت (2/ 92)، والتلويح على التوضيح (2/ 77).
فمثلًا جاء النص القرآني بالأمر بالطواف مطلقًا عن أي في قوله تعالى: (
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] وجاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم مشترطًا الطهارة لصحة الطواف وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الطواف حول البيت مثل الصلاة) -أخرجه الترمذي (975)-. وهذا الشرط زيادة على ما ورد في النص القرآني، فلم يقولوا بفرضيّة الطهارة للطواف؛ لأن ذلك يُعتبر نسخًا لإطلاق القرآن، وقالوا بوجوبه بحيث لو أخلَّ به جبر بدم.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20] أفاد بإطلاقه فرضية قراءة أي جزء من القرآن في الصلاة فاتحة أو غيرها، وجاء حديث: (لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب) -أخرجه البخاري (756)، ومسلم (900)-، فأفاد أن الصلاة لا تصح بدون قراءة الفاتحة؛ وهذا نسخٌ لإطلاق الآية، فأثبتوا بالقرآن فرض قراءة ما تيسر، وبالخبر وجوب قراءة الفاتحة؛ لأن الزيادة بطريق الوجوب لا ترفع إجزاء الأصل فلا تكون نسخًا فلا تمتنع، بخلاف الزيادة بطريق الفرضية بمعنى عدم الصحة بدونها فإنها ترفع حكم الكتاب.
قال ابن أمير الحاج في التقرير والتحرير (2/ 219): (وعن لزوم الزيادة بالآحاد منعوا إلحاق الفاتحة والتعديل والطهارة بنصوص القراءة والأركان والطواف فرائض، بل ألحقوها وجابات للمذكورات) فلو قالوا: لا تجوز الصلاة بدون الفاتحة والتعديل والطواف بلا طهارة بهذه الأخبار الآحاد كان نسخًا لهذه الإطلاقات بها، وهو لا يجوز فرتبوا عليها موجبها من وجوبها فيأثم بالترك ويلزم الجابر فيما شرع فيه ولا تفسد. اهـ. وراجع: كشف الأسرار (3/ 196).
وقال الزركشي في البحر المحيط (4/ 147): واعلم أن فائدة هذه المسألة: أن ما ثبت أنه من باب النسخ وكان مقطوعًا به فلا يُنسخ إلا بقاطع كالتغريب، فإن أبا حنيفة لما كان عنده نسخًا نفاه؛ لأنه نسخٌ للقرآن بخبر الواحد، ولما لم يكن عند الجمهور نسخًا قبلوه؛ إذ لا معارضة، وقد ردوا بذلك أخبارًا صحيحةً لما اقتضت زيادة على القرآن، والزيادة نسخ ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الآحاد، فردوا أحاديث تعيين الفاتحة في الصلاة ، والشاهد واليمين، وإيمان الرقبة، واشتراط النية في الوضوء. اهـ.
وقال عبدالعزيز البخاري في كشف الأسرار (3/ 192- 193): اتَّفق العلماء على أن الزيادة على النص إن كانت عبادة مستقلّة بنفسها كزيادة وجوب الصوم أو الزكاة بعد وجوب الصلوات لا يكون نسخًا لحكم المزيد عليه؛ لأنها زيادة حكم في الشرع من غير تغيير للأول.
واختلفوا في غير هذه الزيادة إذا ورد متأخرًا عن المزيد عليه تأخرًا يجوز القول بالنسخ في ذلك القدر من الزمان؛ كزيادة شرط الإيمان في رقبة الكفارة، وزيادة التغريب على الجلد في جلد الزاني، بعد اتِّفاقهم على أن مثل هذه الزيادة لو وردت مقارنة للمزيد عليه لا تكون نسخًا؛ كورود رد الشهادة في حدِّ القذف مقارنًا للجَلد فإنه لا يكون نسخًا له للقرآن -يُشير إلى قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 4]-، فقال عامة العراقيين من مشايخنا وأكثر المتأخرين من مشايخ ديارنا: إنها تكون نسخًا معنًى وإن كان بيانًا صورةً، وقال أكثر أصحاب الشافعي: إنها لا تكون نسخًا.
ثم قال: تمسك من قال بأن الزيادة ليست بنسخ أصلًا بوجوهٍ من الكلام:
أحدها/ أنهم بنوا على أصلهم أن المطلق من أنواع العام عندهم وأن العام لا يوجب العلم قطعًا؛ بل يجوز أن يُراد به البعض وبالمطلق المقيد، وإذا كان كذلك ظهر بورود الزيادة المقيدة للمطلق أن المراد من العام البعض ومن المطلق المقيد، فيكون تخصيصًا وبيانًا لا نسخًا؛ وذلك مثل الرقبة المذكورة في كفارة اليمين والظِهار، فإنها اسمٌ عام يتناول المؤمنة والكافرة والزمنة وغيرها، فإخراج الكافرة منها بزيادة قيد الإيمان يكون تخصيصًا لا نسخًا، كإخراج الزمنة والعمياء منها وكإخراج أصل الذمة من لفظ المشركين.
والثاني/ أن حقيقة النسخ لم توجد في الزيادة؛ لأن حقيقة تبديل ورفع للحكم المشروع والزيادة تقرير للحكم المشروع وضم حكم آخر إليه، والتقرير ضد الرفع فلا يكون نسخًا، ألا ترى أن إلحاق صفة الإيمان بالرقبة لا يُخرجها من أن تكون مستحقة للإعتاق في الكفارة وإلحاق النفي بالجلد لا يخرج الجلد من أن يكون واجبًا؛ بل هو واجب بعده كما كان قبله فيكون وجوب التغريب ضم حكم إلى حكم وذلك ليس بنسخ كوجوب عبادة بعد عبادة.
والثالث/ أن الزيادة على النص لو كان نسخًا لكان القياس باطلًا؛ لأن القياس إلحاق غير امنصوص وزيادة حكم لم يوجبه بصيغته وحين كان القياس جائزًا ودليلًا شرعيًّا علم أن الزيادة ليست بنسخ.
والرابع/ أن النسخ أمر ضروري؛ لأن الأصل في أحكام الشرع هو البقاء، والقول بالتخصيص والتقييد يوجب تغير الكلام من الحقيقة إلى المجاز ومن الظاهر إلى خلافه، لكنه متعارف في اللغة فكان الحمل عليه أَوْلَى من الحمل على النسخ.
واحتجَّ من قال بأن الزيادة نسخ معنًى بأن النسخ بيان انتهاء حكم بابتداء حكم آخر. وهذا عند من شرط البدل في النسخ، فأما عند من لم يشترط ذلك فلا حاجة إلى قوله بابتداء حكم آخر، وهذا المعنى موجود في الزيادة على النص فيكون نسخًا، وبيانه أن الإطلاق معنى مقصود من الكلام وله حكم معلوم، وهو الخروج عن العُهدة بالإتيان بما يُطلق عليه الاسم من غير نظر إلى قيد، والتقييد معنى آخر مقصود على مضادة المعنى الأول؛ لأن التقييد إثبات القيد والإطلاق رفعه وله حكم معلوم، وهو الخروج عن العهدة بمباشرة ما وجد فيه القيد دون ما لم يوجد فيه ذلك، فإذا صار المطلق مُقيَّدًا لا بد من انتهاء حكم الإطلاق بثبوت حكم التقييد، لعدم إمكان الجمع بينهما للتنافي؛ فإن الأول يستلزم الجواز بدون القيد، والثاني يستلزم عدم الجواز بدونه. وإذا انتهى الحكم الأول بالثاني كان الثاني ناسخًا له ضرورة. اهـ.

وقد استدل الحنفية لصحة عرض الحديث على القرآن بأدلة نقلية، وسوف أعرض لتلك الأدلة مع ذكر ما اعتُرض به عليها:
الدليل الأول: حديث: (تكثر لكم الأحاديث من بعدي، فإذا رُوي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالفه فردوه). راجع: أصول البزدوي (3/ 10)، وأصول السرخسي (1/ 364)، وفواتح الرحموت (1/ 350).
وهذا الحديث رُوي بألفاظ مختلفة من طرق لا تخلو من مقال، وسوف أذكر بعض طرقه مع بيان عللها، وذكر ما قاله أهل العلم فيه:
1- روى أبو يوسف عن خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر الباقر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا اليهود فسألهم فحدَّثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب الناس فقال: (إن الحديث سيفشو عني، فما آتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما آتاكم عني يُخالف القرآن فليس عني). الرد على سير الأوزاعي ص(25).
قال الإمام الشافعي في الرسالة ص(225) فقرة (618، 619): ما رَوَى هذا أحدٌ يَثْبُتُ حديثُه صَغُرَ ولا كَبُرَ، وإنما هي روايةٌ منقطعةٌ عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شئ. اهـ.
قال البيهقي في المدخل إلى السنن: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابيٍّ فالحديث منقطع، وقد رُوي الحديث من أوجهٍ أُخر كلها ضعيفة. اهـ. مفتاح الجنة ص(21) نقلًا عن المدخل إلى السنن، ولم أجده في القطعة المطبوعة منه.
فقد بيَّن البيهقي أن الشافعيَّ يُضَعِّفُ هذه الرواية بأمرين: جهالة خالد، وإرسال أبي جعفر. فأما جهالة خالد فلا يُوافَق عليها، فقد رَوَى عنه جماعة من الرواة، وتكلَّم عنه الأئمة جرحًا وتعديلًا -خالد بن أبي كريمة روى عنه إسرائيل والسفيانان وشريك وشُعبة ووكيع وغيرهم، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو داود، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال النسائي: ليس به بأس. راجع: تهذيب الكمال (8/ 156)، والجرح والتعديل (3/ 349)-، فانتفت عنه جهالة العين والحال، وثبتت عدالته بتوثيق أحمد وابن معين وأبي داود، وأما الإرسال فإن المُرسل مما يحتج به عند الحنفية كما هو معلوم.
2- رَوَى الطبراني في المعجم الكبير من طريق يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أن رحا الإسلام دائة). قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله، قال: (اعرضوا حديثي على الكتاب، فما وافقه فهو منه وأنا قلته) -المعجم الكبير (2/ 97)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 170): رواه الطبراني في الكبير، وفيه يزيد بن ربيعة وهو متروك منكر الحديث. انتهى-.
وهذا الإسناد له علِّتَان: يزيد بن ربيعة ضعيف -يزيد بن ربيعة قال عنه البخاري: أحاديثه مناكير. وقال أبو حاتم وغيره: ضعيف. وقال النسائي: متروك. وقال الجوزجاني: أخاف أن تكون أحاديث موضوعة. وقال ابن عدي: أرجوا أنه لا بأس به. راجع ترجمته في ميزان الاعتدال (4/ 422) والكامل (7/ 259)-، ولا يُعرف له سماع من أبي الأشعث، وشرحبيل بن آدَهْ أبو الأشعث الصنعاني عامة أحاديثه عن ثوبان بواسطه أبي أسماء الرحبي؛ ولذلك قال ابن الجوزي: روايته عن ثوبان منقطعة. راجع: معالم السنن (4/ 276)، وتهذيب التهذيب (4/ 280)، وتهذيب الكمال (12/ 408).
3- وروى الطبراني أيضًا -في معجمه الكبير (12/ 316)- من طريق أبي حاضر عن الوضين عن سالم بن عبدالله عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سُئِلتْ اليهود عن موسى فأكثروا وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وسُئلتْ النصارى عن عيسى فأكثروا وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وإنه سيفشو عني أحاديث فما آتاكم من حديثي فاقرؤوا كتاب الله واعتبروه، فما وافق كتاب الله فأنا قلته، وما لم يوافق كتاب الله فلم أقله) -قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 170): رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو حاضر عبدالملك بن عبدربه منكر الحديث. وراجع : الجرح والتعديل (5/ 359)، والتاريخ الكبير (5/ 424)-.
4- وَرَوَى الدارقطني من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر بن حُبيش عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون بعدي روة يروون عني الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن. فما وافق القرآن فخذوا به، وما لم يوافق القرآن فلا تأخذوا به).
قال الدارقطني في سننه (4/ 208): هذا وهمٌ والصواب عن عاصم عن زيد ن علي بن الحسين مُرسلًا. اهـ.
5- وروى الدارقطني أيضًا من طريق صالح بن موسى عن عبدالعزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيأتيكم عني أحاديث مختلفة فما جاءكم موافقًا لكتاب الله ولسنتي فهو مني، وما جاءكم مخالفًا لكتاب الله ولسنتي فليس مني).
قال الدارقطني في سننه (4/ 208): صالح بن موسى ضعيف لا يُحتجُّ به. اهـ. وصالح بن موسى قال عنه ابن معين: ليس بشئ. وفي رواية: ليس بثقة. وقال ابن أبي حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدًّا. وقال النسائي: لا يُكتب حديثه ضعيف. وفي موضع آخر: متروك الحديث. راجع ترجمته في تهذيب الكمال (13/ 95).
ورواه الدارقطني أيضًا -في سننه (4/ 208)- من طريق يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. قال البخاري في التاريخ الكبير (3/ 474): وهو وهم ليس فيه أبو هريرة. اهـ.
6- وأخرج البيهقي في المدخل إلى السنن -كما في مفتاح الجنة ص(25)- من طريق أبي الحويرث عن محمد ابن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حدثتم عني مما تعرفون فصدقوا، وما حدثتم عني مما تنكرون فلا تصدقوا، فإني لا أقول المنكر).
قال عبدالعزيز البخاري في كشف الأسرار (3/ 10): وإنما يُعرف ذلك بالعرض على الكتاب. اهـ.
وأبو الحويرث هو عبدالرحمن بن معاوية مُتكلَّمٌ فيه -أبو الحويرث قال عنه مالك: ليس بثقة. وقال أحمد: رَوى عنه سفيان وشعبة وأنكر قول مالك. وقال ابن معين: ليس يُحتجّ بحديثه. وقال النسائي: ليس بذاك. راجع: تهذيب الكمال (17/ 414)-، والحديث مرسل أيضًا.
هذه بعض طرق الحديث، وقد جمع طرقه البيهقي في كتابه المدخل إلى السنن، ولخّصها عنه السيوطي في مفتاح الجنة ص(21- 27)، كما استوعب طرقه شيخنا المحدث عبدالله ابن الصديق الغمّاري في كتابه الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي.
وَسُئِلَ الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث فقال: جاء من طرق لا تخلو من مقال. اهـ. المقاصد الحسنة ص(37).
وقال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة ص(224): هذا المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ولا حسن؛ بل وردت فيه ألفاظ كثيرة كلها موضوع أو بالغ الغاية في الضعف حتى لا يصلح شئ منها للاحتجاج أو الاستشهاد. اهـ.
وقد عارض الإمام الشافعي في رسالته ص(225، 226) فقرة (622) هذا الحديث بما رُوي عن المقدام ابن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسمل أنه قال: (ألا إني أُوتِيتُ الكتابَ ومثلَه معه، ألا يُوشِكُ رجلٌ شبعانُ على أريكتِهِ يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فَأَحِلُّوهُ، وما وجدتم فيه من حرا فَحَرِّمُوُه) -سُنن أبي داود (4604)-.
وقال الخطابي في شرحه -معالم السنن (4/ 276)-: وفي هذا الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يُعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ كان حجة بنفسه، وأما ما رواه بعضهم أنه قال: (إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه، وإن خالفه فدعوه). فإنه حديث باطل لا أصل له، وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعه الزنادقة. اهـ.
وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/ 569): وباب (إذا سمعتم عني حديثصا فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه) لم يثبت فيه شئ، وهذا الحديث من أوضع الموضوعات؛ بل صحّ خلافه: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه). اهـ.
وقال ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 233): وقد أمر الله عز وجل بطاعته وأتباعه أمرًا مطلقًا مجملًا لم يقيد بشئ كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ. قال عبدالرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث. يعني ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله، وإنما أن موافق كتاب الله وبه هداني الله).
وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شئ ونعتمد على ذلك. قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفًا لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما وافقه؛ بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويُحِّر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال. اهـ.
وقال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام (2/ 474): وما ذكروه من الخبر فإنما يمنع من تخصيص عموم القرآن بالخبر أن لو كان الخبر المخصص مخالفًا للقرآن وهو غير مُسلَّم؛ بل هو مبين للمراد منه فكان مقررًا لا مخالفًا، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يُفضي إلى تخصيص ما ذكروه من الخبر بالخبر المتواتر من السنة، فإنه مخصص للقرآن من غير خلاف. اهـ.
وقد وَهِمَ عبدالعزيز البخاري في عزوه هذا الحديث للإمام البخاري وهو في معرض الرد على من ضَعَّفَ الحديث فقال -كما في كشف الأسرار (3/ 10)-: والجواب أن الإمام أبا عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري أورد هذا الحديث في كتابه، وهو الطود المنيع في هذا الفن، وإمام أهل هذه الصنعة، فكفى بإيراده دليلًا على صحّته، ولم يُلتفت إلى طعن غيره بعد. اهـ.
الدليل الثاني: ما رواه البخاري (2563)، ومسلم (3852) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيُّما شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل).
قال السرخسي في أصوله (1/ 364): والمراد كل شرط هو مُخالف لكتاب الله تعالى، لا أن يكون المراد ما لا يوجد عينه في كتاب الله تعالى، فإن عين هذا الحديث لا يوجد في كتاب الله تعالى، وبالإجماع من الأحكام ما هو ثابت بخبر الواحد والقياس وإن كان لا يوجد ذلك في كتاب الله تعالى، فعرفنا أن المراد ما يكون مخالفًا لكتاب الله تعالى، وذلك تنصيص على أن كل حديث هو مُخالف لكتاب الله تعالى فهو مردود. اهـ.
الدليل الثالث: ما رواه مسلم في صحيحه (37833) من طريق أبي إسحاق السبيعي قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الاعظم ومعنا الشعبي، فحدَّث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سُكنى ولا نفقة. ثم أخذ الأَسود كفًّا من حصى فحصبه به فقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أم نسيت، لها السُّكنى والنفقة، قال الله عز وجل: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الطلاق: 1].
وَرَوَى مسلم أيضًا (3790) عن عروة: أنه أخبر عائشة بحديث فاطمة فقالت: ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث.
وفي البخاري (5323، 5324): ما لفاطمة ألا تتقي الله يعني في قولها لا سُكنى ولا نفقة.
وأخرج الطحاوي -في شرح معاني الآثار (3/ 68) عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: كانت فاطمة بنت قيس تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم). وكان محمد بن أسامة بن زيد يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئًا رماها بما كان في يده.
وَرَوَى أبو داود في سننه (2296) عن ميمون بن مهران قال: قدمت المدينة فدُفعت إلى سعيد بن المسيب فقلت: فاطمة بين قيس طلقت فخرجت من بيتها. فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس إنها كانت لَسِنَةً فوُضعت على يدي بن أم مكتوم.
وقد أيَّد الحنفية مذهبهم بهذا الحديث فقالوا: إن عمر وعائشة وأسامة وسعيد ابن المسيب لم يخصّوا قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) [الطلاق: 6] بحديث فاطمة؛ لأنهم كانوا يَرَوْنَ عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.
وقد أجاب صاحب فواتح الرحموت على ذلك فقال -(1/ 350)-: وهذا الخبر كان مشكوك الصحة عند أمير المؤمنين، والخبر المشكوك الصحة للريبة في صدق الراوي غير حجة فضلًا عن التخصيص به، ولا يلزم منه انتفاء التخصيص بالخبر الصحيح. اهـ.
يقول الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام: وأما ما ذكروه من تكذيب عمر لفاطمة بنت قيس فلم يكن ذلك؛ لأن خبر الواحد في تخصيص العموم مردود عنده؛ بل لتردده في صدقها؛ ولهذا قال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت -أخرجه بهذا اللفظ محمد بن الحسن في كتاب الآثار (1/ 132)-. ولو كان خبر الواحد في ذلك مردودًا مطلقًا لما احتاج إلى هذا التعليل. اهـ.

وقد تقرر بما سبق أن الحنفية لا يقبلون الأخبار المخالفة للكتاب، وقد ذكروا أمثلة عملية لذلك، وسأسرد بعض الأمثلة سردًا من غير الوقوف عليها من ناحية التفصيل فيها بذكر الخلاف الفقهي في كل مسألة منها مع الأدلة خشية الإطالة، وإنما نعرج على بعض الأمثلة سريعًا لإظاهر كيفية التطبيق العملي لهذه القواعد عند الحنفية بشئ من الوضوح.
-المثال الأول: متروك التسمية عمدًا.
-المثال الثاني: النفقة والسُكنى للمطلقة ثلاثًا.
-المثال الثالث: القضاء باليمين مع الشاهد.
-المثال الرابع: الطهارة للطواف بالبيت. (مَسْأَلَةُ الطَّهَارَةِ لِلطّوَافِ بِالْبَيتِ)
-المثال الخامس: اشتراط النية في الوضوء. (اشْتِرَاطُ النِيَّةِ فِي الوُضُوءِ)

ويُراجع: كتاب منهج الحنفية في نقد الحديث ص(164- 175 [الأمثلة175- 192]).

والله الموفق.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

السلام عليكم

اشْتِرَاطُ النِيَّةِ فِي الوُضُوءِ

ذهب جمهور العلماء -المالكية والشافعية والحنابلة- إلى أن النية شرط في صحة الوضوء والغسل والتيمم، وبه قال الزهري وربيعة والليث وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود، وهو قول جمهور أهل الحجاز. وذهبت طائفة إلى أنه يصح الوضوء والغسل والتيمم بلا نية، حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي والحسن بن صالح. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري: يصح الوضوء والغسل بلا نية، ولا يصح التيمم إلا بالنية. راجع: المبسوط (1/ 72)، والمجموع (1/ 354)، والمغني (1/ 146)، والمحلى (1/ 90).

(أدلة الجمهور):
1- احتج الجمهور بقول الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...) [البينة: 5] والإخلاص عمل القلب وهو النية والأمر به يقتضي الوجوب.
2- وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). والمراد بالحديث لا يكون العمل شرعيًّا يتعلق به ثواب وعقاب إلا بالنية، ولفظة "إنما" للحصر تُثْبِتُ المذكور وتَنْفِي ما سواه، وأفاد قوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرِئ ما نوى) أن تعيين العبادة المنوبة شرط لصحتها.
3- وبأنها طهارة من حديث تستباح بها الصلاة فلم تصح بلا نية كالتيمم. وقد احترز بهذا من إزالة النجاسة ومن غسل الذمية من الحيض.
4- وبأنها عبادة ذات أركان فوجبت فيها النية كالصلاة، ومما يدل على أنها عبادة قوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان) -أخرجه مسلم (556)-. والأحاديث في فضل الوضوء وسقوط الخطايا به كثيرة مشهورة، وكل هذا مصرح بأن الوضوء عبادة.
فإن قيل: إن المراد بالوضوء الذي يترتب عليه هذا الفضل الوضوء الذي فيه نية، ولا يلزم من ذلك أن ما لا نية فيه ليس بوضوء. فالجواب أن الوضوء في هذه الأحاديث هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقبل صلاة بغير طهور) -أخرجه مسلم (557)-.

(أدلة الأحناف):
1- احتج الحنفية بقوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة: 6] وهو يقتضي جواز الصلاة بوجو الغسل سواء قارنته النية أو لم تقارنه؛ وذلك لأن الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة: وهو إمرار الماء على الموضع. وليس هو عبارة عن النية، فمَن شرط فيه النية فهو زائد في النص، وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما/ أنه يوجب نسخ الآية؛ لأن الآية قد أباحتْ فعل الصلاة بوجود الغسل للطهارة من غير شرط النية، فمن حظر الصلاة ومنعها إلا مع وجود نية الغسل فقد أوجب نسخها، وذلك لا يجوز إلا بنص مثله. والوجه الثاني/ أن النص له حكمه ولا يجوز أن يلحق به ما ليس منه، كما لا يجوز أن يسقط منه ما هو منه. أحكام القرآن للجصّاص (2/ 472).
وأجاب الجمهور عن الاحتجاج بالآية: بأنها مطلقة مصرحة ببيان ما يجب غسله غير متعرضة للنية، وقد ثبت وجوب النية بما سبق، فلا مانع من تقييد مطلق الكتاب بذلك.
2- وبما رواه مسلم في صحيحه (770) عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: (لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين على رأسك الماء فتطهرين). ولم يشرط فيه النية.
3- وبما رواه ابن ماجه في سننه (419) عن عبدالله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ واحدة واحدة فقال: (هذا وضوء مَن لا يقبل الله منه صلاة إلا به). فأشار إلى الفعل المُشاهد دون النية التي هي ضمير لا تصح الإشارة إليه وأخبر بقبول الصلاة به. وذكروا أحاديث كثيرة في الغسل والضوء من غير ذكر للنية ولو كانت واجبة لذكرت.
4- ولأنها طهارة بالماء فكانت كغسل النجاسة، وبيان ذلك أن الماء مطهر في نفسه، والحدث الحكمي دون النجاسة العينية، فإذا عمل الماء في إزالة النجاسة العينية دون النية، ففي إزالة الحديث الحكمي أَوْلَى. وأما التيمم فإن التراب غير مزيل للحدث أصلًا؛ ولهذا لو أبصر المتيمم الماء كان محدثًا بالحدث السابق، فلم يبق فيه إلا معنى التعبّد، وذلك لا يحصل بدون النية، كما أن التيمم عبارة عن القصد لغة، قال الله تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) [البقرة: 276]؛ ففي اللفظ ما يدل على اشتراط النية فيه.
وأجاب الجصّاص -كما في أحكام القرآن (2/ 472)- عن اشتراط النية في صحة الصلاة مع عدم ذكرها في النص: بأنه إنما جاز ذلك فيها من وجهين: أحدهما/ أن الصلاة اسم مُجمل مفتقر إلى البيان غير وجب للحكم بنفسه إلا ببيان يرد فيه، وقد ورد فيه البيان بإيجاب النية فلذلك أوجبناها، وليس كذلك الوضوء؛ لأنه اسم شرعي ظاهر المعنى بين المراد، فمهما ألحقنا به ما ليس في اللفظ عبارة عنه فهو زيادة في النص ولا يجوز ذلك، إلا بنص مثله. والوجه الآخر/ اتفاق الجميع على إيجاب النية فيها، فلو كان اسم الصلاة عمومًا ليس بمُجمل لجاز إلحاق النية بالاتفاق، فهي إذا كانت مجملًا أجَرى بإثبات النية فيها من جهة الإجماع.
وقال صاحب الهداية: (ويستحب للمتوضئ أن ينوي الطهارة) فالنية في الوضوء سنة عندنا، وعند الشافعي فرض؛ فلا تصح بدون النية كالتيمم. ولنا: أنه لا يقع قربة إلا بالنية، ولكنه يقع مفتاحًا للصلاة لوقوعه طهارة باستعمال المطهر بخلاف التيمم؛ لأن التراب غير مطهر إلا في حال إرادة الصلاة، أو هو يُنبئ عن القصد. اهـ. الهداية مع شروحها فتح القدير (1/ 32)، وراجع: المبسوط (1/ 82)، وبدائع الصنائع (1/ 19).

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

السلام عليكم

http://feqhweb.com/vb/showthread.php?t=10455&page=2&p=101190&viewfull=1#post101190
اسمحوا لي بطرح شيئًا من التفصيل فيما يتعلق بمسألة ’’خَبَرُ الوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ البَلْوَى‘‘ في هذه المشاركة، ونسأل الله التوفيق والسداد.

لقد ذهب عامة الحنفية إلى عدم قبول خبر الواحد إذا ورد فيما تعم به البلوى -أي فيما يحتاج إلى معرفته كل أحد حاجة متأكدة مع كثرة وقوعه. راجع: التقرير والتحبير (2/ 295)، والبحر المحيط (4/ 348)، وعموم البلوى ص(43)- ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته للعمل به، وذهب المحدثون وجمهور الأصوليين إلى قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى إذا صحَّ سنده دون شرط آخر. ويرى الحنفية أن ورود خبر الواحد فيما تعم به البلوى أمارة على ضعفه أو نسخه، فالخبر إذا ورد فيما تعمُّ به البلوى ودعت إليه الحاجة فسبيله أن يكون نقله من طريق التواتر أو الاستفاضة، فإذا نُقل بطريق الآحاد دلَّ على أنه ضعيف أو منسوخ. وشرط قبول الحنفية للخبر فيما تعم به البلوى: أن يكون مشهورًا أو تلقته الأمة بالقبول، ولا تلازم بينهما؛ إذ قد يوجد اشتهار للشئ بلا تلقي جميع الأمة له بالقبول، وقد تلقى الأمة الشئ بالقبول بلا رواية على سبيل الاشتهار، وتلقي الأمة بالقبول أقوى في إفادة العلم من مجرد الاشتهار بكثرة الطرق. وقد ذهب بعض الحنفية إلى رد خبر الواحد فيما تعمُّ به البلوى مُطلقًا؛ كالبزدوي والسرخسي وصدر الشريعة والنَّسفي، كما يدلُّ عليه ظاهر كلامهم، وقيَّد بعضهم ذلك بما إذا كان الخبر ورد بإثبات الوجوب أو الحظر، أما إذا دلَّ الخبر على الندب أو الإباحة؛ فلا مانع من العمل به، وممن صرح بذلك: أبو بكر الجصّاص والكمال ابن الهمّام ومحب الدين بن عبدالشكور، فلا يثبت هؤلاء الوجوب أو الحظر بخبر الواحد فيما تعم به البلوى، ويُمكن أن يثبت به الندب أو الإباحة -راجع: أصول السرخسي (1/ 368)، وكشف الأسرار (3/ 16)، والتقرير والتحبير (2/ 295)، والفصول في الأصول (3/ 114)، وفواتح الرحموت (2/ 129)، وشرح المنار (2/ 647)، والتوضيح على التلويح (2/ 17)، والكافي (3/ 1296)، والإحكام للآمدي (2/ 160)، والبحر المحيط (4/ 348)، وعموم البلوى ص(193)-. فمثلًا خبر الواحد المُفيد لغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء عند الشروع في الوضوء -أخرج النسائي (95) أن الحُسين بن عليٍّ قال: دعاني أبي عَليِ بوَضوء فقربته له فبدأ فغسل كفيه ثلاث مرات قبل أن يدخلها في وضوئه ثم مضمض ثلاثًا.. ثم قال: إني رأيت أباك النبي صلى الله عليه وسلم يصنع مثل ما رأيتني صنعت.-، وخبر الواحد في رفع اليدين عند الشروع في الصلاة -رُوي في ذلك أحاديث كثيرة جدًّا، والتمثيل بهذا الحديث لخبر الواحد فيما تعم به البلوى؛ ليس بسديد، فالحديث في أقل أحواله مشهور إن لم يكن متواترًا، وستأتي بعض طرقه عند ذكر الأمثلة في ذلك-، كلاهما مما تعم به البلوى، ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته، ولم يُنقلا نقلًا متواترًا أو مشهورًا، ومع ذلك فقد قَبِلَ الحنفية الخبرين؛ لأن غسل اليدين ورفعهما ليسا من محل النزاع؛ فالحكم المترتب عليهما هو الندب وليس الوجوب، فلا تنافي. راجع: التقرير والتحبير (2/ 296)، ومسلم الثبوت (2/ 130).
قال الكمال ابن الهمّام: خبر الواحد فيما تعمُّ به البلوى -أي يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة مع كثرة تكراره-؛ لا يثبت به وجوب دون اشتهار أو تلقي الأمة له بالقبول عند عامة الحنفية، والأكثر من الأصوليين والمحدثينَ يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى إذا صح سنده، دون اشتراط اشتهار ولا تلقي الأمة له بالقبول. اهـ.
ويتضح مما قاله الكمال أن محل النزاع ينحصر في إثبات الوجوب بخبر الواحد فيما تعم به البلوى؛ لذا نجده يُعَرِّفُ ما يعم به البلوى بقوله: هو فعل او حال يكثر تكرره للكل سببًا للوجوب. فيُعلم لقضاء العادة بالاستعلام او بلزوم كثرته للشرع قطعًا. انظر: التقرير والتحبير (2/ 295- 297).
وقال أبو بكر الجصّاص في الفصول في الأصول (3/ 114، 122): وأما حكم خبر الواحد فيما تعم به البلوى؛ فإنما كان علة لرده من توقيف النبي صلى الله عليه وسلم الكافة على حكمه فيما كان فيه إيجاب أو حظر، فإنهم لا يصلون إلى علمه إلا بتوقيفه، وإذا أشاعه في الكافة ورد نقله بحسب استفاضته فيهم، فإذا لم نجده كذلك علمنا أنه لا يخلو من أن يكون منسوخًا أو غير صحيح في الأصل، ولا يجوز فيما كان هذا وصفه أن يختص بنقله الأفراد دون الجماعة.. وأما الأخبار الواردة في تبقية الشئ على إباحة الأصل، أو نفي حكم لم يكن واجبًا في الأصل أو في استحباب فعل، أو تفضيل بعض القرب على بعض؛ فإن هذا عندنا خارج عن الاعتبار الذي قدمنا؛ وذلك لأنه ليس على النبي صلى الله عليه وسلم بيان كل شئ مباح، ولا توقيف الناس عليه بنص يذكره؛ بل جائز له ترك الناس فيه على ما كان عليه حال الشئ من الإباحة قبل ورود الشرع. وكذلك ليس عليه تبيين منازل القرب ومراتبها بعد إقامة الدلالة على كونها قربًا، كما أن ليس عليه أن يبيين لنا مقادير ثواب الأعمال؛ فلذلك جاز ورود خبر خاص فيما كان هذا وصفه، وتوقيفه بعض الناس عليه دون جماعتهم، حسب ما يتفق من سؤال السائل عنه، أو وجود سبب يوجب ذكره، فيعرفه خواص من الناس وينقلوه دون كافتهم. اهـ.

أدلة الحنفية:
1- احتج الحنفية بأن صاحب الشرع كان مأمورًا بأن يُبيين للناس ما يحتاجون إليه، وقد أمرهم بأن ينقلوا عنه ما يحتاج إليه مّنْ بعدهم، فإذا كانت الحادثة مما تعم به البلوى: فالظاهر أن صاحب الشرع لم يترك بيان ذلك للكافة وتعليمهم، وأنهم لم يتركوا نقله على وجه الاستفاضة، فحين لم يشتهر النقل عنهم عُلم أنه سهو أو منسوخ، ألا ترى أن المتأخرين لما نقلوه اشتهر فيهم، فلو كان ثابتًا في المتقدمين لاشتهر أيضًا، ولم ينفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته. ولهذا لم تُقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان إذا لم يكن بالسماء علة؛ لأنه لو كان ما أخبر به صحيحًا لما جاز أن يختص هو برؤيته دون الكافة. وكذلك لو أخبر مُخبر عن فتنة وقعت في الجامع تفانى فيها الخلق؛ لم يجز قبول خبره دون نقل الكافة. وكذلك لو قال رجل للإمام يوم الجمعة بعد ما سلَّم: إنما صليتَ ركعةً واحدةً. ولم يُخبره غيرُه بذلك مع كثرة المصلين خلفه، لم يجز أن يلتفتَ إلى خبره. راجع: أصول السرخسي (1/ 368)، وكشف الأسرار (3/ 16)، والتقرير والتحبير (2/ 295)، والفصول في الأصول (3/ 114)، وعموم البلوى ص(193).
وأجاب الجمهور بأن الله لم يُكلف نبيه صلى الله عليه وسلم بإشاعة جميع الأحكام؛ بل كلفه إشاعة البعض وجوز له رَدَّ الخلق إلى خبر الواحد في البعض، فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملةِ ما تقتضي مصلحة الخلق أن يُرّدُّوا فيه إلى خبر الواحد ولا استحالة فيه، وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنًا فجيب تصديقه، وليس علة الإشاعة عموم الحاجة أو ندورها؛ بل علته التعبد والتكليف من الله. وأما ما استشهدوا به من الوقائع: فغير مُنَاظِرَةٍ لما نحن فيه؛ إذ الطباع مما تتوفر على إشاعتها عادة فانفراد الواحد يدل على كذبه. انظر: المستصفى (1/ 172)، والإحكام في أصول الأحكام (2/ 164)، وعموم البلوى ص(206).
2- وبأن ما تعم به البلوى لتكرره واشتداد الحاجة إليه: يكثر السؤال عنه من المكلفين لمعرفة حكمه، فيلزم من كثرة السؤال والجواب أن يشتهر هذا الحكم، فإذا لم ينقل عن طريق الاشتهار أو التواتر دلَّ على عدم ثبوته.
3- وبأن ما تعم به البلوى كواجبات وفرائض الصلاة وكنواقض الوضوء، إذا نُقل بطريق الآحاد يلزم منه بُطلان صلاة كثير من الأمة لعدم علمهم بها.
وأجاب الجمهور عن هذا اللازم بأنه غير مُسلَّم؛ لأن من لم يبلغه الخبر فالحكم غير ثابت في حقه، ولا تكليف بمعرفة ما لم يقم عليه دليل. وانظر: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 163)، وعموم البلوى ص(207).
4- ومما يُستدل به على صحة هذا الاعتبار: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على خبر ذي اليدين في قوله: (أقصرت الصلاة أم نسيت). حتى سأل الناس فقال: (أصدق ذو اليدين؟ ). فقال الناس: نعم. -أخرجه البُخاري (714)- لأنه يُمتنع في العادة أن يختص هو بعلم ذلك من بين الجماعة.
5- وبأن الصحابة لم يقبلوا خبر الواحد فيما تعم به البلوى، فقد رد عمر حديث أبي موسى في الاستئذان ثلاثًا؛ لأنه مما تعم به البلوى، وهو في كتاب الله تعالى (لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتًا فَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا) [التوبة: 7]، فاستنكر عمر انفراد أبي موسى بمعرفة تحديد الثلاث دون الكافة مع عموم الحاجة إليه، رُوي عن بُسْرِ بن سعيد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: كنت جالسًا بالمدينة في مجلس الأنصار فأتانا أبو موسى فزعًا أو مذعورًا قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلىَّ أن آتشيَهُ فأتيت بابه فسلمت ثلاثًا فلم يرد عليَّ فرجعت فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك فسلمت على بابك ثلاثًا فلم يَرُدُّوا عليَّ فرجعت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع). فقال عمر: أَقِمْ عليه البينة وإلا أوجعتك. فقال أُبيُّ بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: قُلت: أنا أصغر القوم. قال: فاذهب به. أخرجه البخاري (6245).
وأجاب الجمهور بأن الرد لم يكن مطلقًا؛ ولهذا عمل به لما تابعه أبو سعيد الخدري وخبرهما غير خارج عن الآحاد. راجع: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 163)، والمحصول (4/ 442)، وعموم البلوى ص(211).
فرد الجصّاص على ذلك في الفصول في الأصول (3/ 115، 117) فقال: وقبول عمر لم يقتصر على خبر أبي سعيد الخدري؛ لأن أبا سعيد أخبره عن نفسه وعن الأنصار، فصدَّق أبا سعيد على الأنصار في معرفتهم لصحة ما رواه أبو موسى، فصار كأن الأنصار شهدوا مع أبي سعيد عنده، فصار ذلك من أخبار الاستفاضة والتواتر فلذلك عمل به. اهـ.

أدلة الجمهور:
1- تمسك الجمهور أيضًا بعمل الصحابة؛ فإنهم عملوا به فيما يعم به البلوى، مثل: ما روي عن نافع: أن ابن عمر كان يُكْرِي مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرًا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية: أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي النبي صلى الله عليه وسلم. فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كِرَاءِ المزارع. فتركها ابن عمر بَعْدُ. وكان إذا سُئل عنها بَعْدُ قال: زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. أخرجه البخاري (2343/ 2344).
2- وبأن خبر العدل في هذا الباب يُفيد غلبة الظن على صدقه، فوجب قبوله كخبره فيما لا تعم به البلوى، وإذا كان القياس يُقبل فيما تعم به البلوى مع أنه أعف من خبر الواحد؛ فقبول خبر الواحد فيه أَوْلَى. راجع: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 161)، وعموم البلوى ص(218).
وقد أجاب الحنفية بأن القياس يُوجب الظن بخلاف خبر الواحد، فإنه لا يوجب الظن فيما تعم به البلوى وتشتد الحاجة إليه إلا إذا اشتهر أو قبلوه، فأما إذا لم يشتهر فيغلب على الظن خطؤه، ويُمكن القول بمنع ثبوت حكم ما تعم به البلوى بالقياس لاقتضاء الدليل، وهو قضاء العادة بالاستعلام أو كثرة إعلام الشارع به. راجع: التقرير والتحبير (2/ 296)، وفواتح الرحموت (2/ 130).
3- وبأن الحنفية عملوا بخبر الواحد فيما تعم به البلوى في وقائع كثيرة، فيلزمهم العمل به في سائر الوقائع، ومن ذلك أنهم قبلوا الخبر الوارد في وجوب الوضوء من القهقهة في الصلاة -أخرج الدارقطني (1/ 161) من طريق أبي الملِيحِ بن أسامة عن أبيه قال: بينا نحن نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل ضرير البصر فوقع في حفرة فضحكنا منه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء كاملًا وإعادة الصلاة من أولها. وساقه من طرق كثيرة وبيّن ضعفها وعللها فليُرجع إليه-، وقبلوا الخبر الوارد في وجوب الوضوء من الحجامة والقئ والرعاف -أخرج أبو داود (2381) من طريق مَعْدَانَ بن طلحة أن أبا الدرداء حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر. فلقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد دمشق فقُلت: إن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر. قال: صدق وأنا صببت له وَضوءه. وأخرج الدارقطني (1/ 157) من طريق يزيد بن خالد عن يزيد بن محمد عن عمر بن عبدالعزيز قال: قال تميم الداري قال رسول الله صلى الله عليه وسلك: (الوضوء من كل دم سائل). قال الدارقطني: عمر بن عبدالعزيز لم يسمح من تميم الداري ولا رآه، ويزيد بن خالد ويزيد بن محمد مجهولان. اهـ-. والخبر الوارد في وجوب المضمضة والاستنشاق في غُسل الجنابة -أخرج البُخاري (259) عن أم المؤمنين ميمونة قالت: صببت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلًا فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما، ثم غسل فرجه، ثم قال بيده الأرض فمسحها بالتراب، ثم غسلها، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه وأفاض على رأسه، ثم تنحى فغسل قدميه، ثم أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ يَنْقُضْ بها.-. والخبر الوارد في وجوب الوتر -أخرج أبو داود (1418) عن خارجة بن حُذَافَةَ قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله عز وجل قد أمدكم بصلاة وهي خير لكم من حُمْرِ النِّعَمِ وهي الوتر، فجعلها لكن فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر).-. وخبر المشي خلف الجنازة -أخرج أبو داود (3184) عن أبي ماجدة عن ابن مسعود قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: (ما دون الخبب، إن يكن خيرًا تُعَجَّل إليه، وإن يكن غير ذلك فبُعدًا لأهل النار، والجنازة متبوعة ولا تَتْبَعُ، ليس معها من تقدمها). قال أبو داود: وهو ضعيف، وأبو ماجدة هذا لا يُعرف. اهـ-. وجميع الأمور السابقة مما تعمُّ بها البلوى. راجع: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 160)، والمحصول (4/ 442)، والمستصفى (1/ 171)، وعموم البلوى ص(221).
وقد أجاب الحنفية عن هذه الوقائع بأنها خارج محل النزاع؛ فالقهقهة في الصلاة، والحجامة والقئ والرعاف: أمور تقع نادرًا وليست مما تعمُّ به البلوى. راجع: التقرير والتحبير (2/ 297)، ومسلم الثبوت (2/ 130).
وأما وجوب المضمضة والاستنشاق في غُسل الجنابة ووجوب الوتر: فإنها من الأمور التي اشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهاو أم بفعلها، فأما الوجوب فحكم آخر سوى الفعل، وذلك مما يجوز أن يوقف عليه بعض الخواص لينقلوه إلى غيرهم، فإنما قُبِلَ خبر الواحد في هذا الحكم، فأما أصل الفعل فإنما ثبت بالنقل المستفيض. راجع: أصول السرخسي (2/ 369)، والفصول في الأصول (3/ 116).
وأما خبر المشي خلف الجنازة؛ فهو محمول على الندب، وهذا خارجٌ أيضًا عن محل النزاع؛ لأنه لم يثبت به الوجوب. راجع: الفصول في الأصول (3/ 123).

ومن خلال ما سبق يظهر أن منشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور يرجع إلى الخلاف في العادة، هل تقضي نقل ما تعم بها البلوى نقلًا مستفيضًا أم لا؟
فيرى الحنفية أن العادة تقتضي إشاعة الشارع له بتبليغه لعدد يحصل به التواتر أو الاشتهار، كما أن العادة تقتضي استعلام المكلفين عن حكم ما تعم به البلوى مما يترتب عليه اشتهار هذا الحكم، فإذا نُقل بطريق الآحاد دلَّ على عدم ثبوته فلا يُقبل.
وأما الجمهور؛ فيرون ادة لا تستلزم إشاعة الشارع ما تعم به البلوى، فجائز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما اقتضت مصلحة الخلق أن يُرَدُّوا فيه إلى خبر الواحد، وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنًا فيجب تصديقه وقبول خبره.
وقد ترتب على هذا الخلاف: قبول الجمهور جملةً من الأخبار لم يقبلها الحنفية، وهذا يوضح أن رد الحنفية لبعض أخبار الآحاد كان لعدم ثبوتها وفق منهجهم النقدي، وليس لمجرد الرأي كما يُشاع عنهم، وسوف يزداد ذلك وضوحًا بذكر بعض الأمثلة الفقهية التي احتج فيها الحنفية بهذه القاعدة.

أمثلة خبر الواحد فيما تعم به البلوى:

المثال الأول/ الوضوء من مس الذكر.
يرى الشافعية والمالكية وهو رواية عند الحنابلة: أن مسَّ فرج الآدمي حدث يُنقض الوضوء. ويرى الحنفية وهو رواية أخرى عند الحنابلة: أن مس الفرج لا يُعتبر من الإحداث، فلا يُنقض الوضوء. راجع: المبسوط (1/ 66)، والتمهيد (17/ 202)، والمجموع (2/ 47)، والمغني (1/ 116)، والاعتبار ص(82).
-أدلة الشافعية والمالكية:
1- أخرج مالك في الموطأ (89)، وأبو داود (181)، والنسائي (163) من طريقه عن عبدالله بن أبي بكر ابن مُحمد بن عمرو بن حزم. والترمذي (82)، وابن ماجه (497) من طريق هشام بن عروة. كلاهما عن عروة بن الزبير قال: دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومِنْ مس الذكر. فقال عروة: ما علمت ذلك. فقال مروان: أخبرتني بُسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مسَّ ذكره فليتوضأ).
وفي رواية للنسائي في سُننه (164): قال عروة: فلم أزل أُمَارِي مروان حتى دعا رجلًا مِن حرسه فأرسله إلى بسرة فسألها عما حدثت مروان فأرسلت إليه بمثل الذي حدثني عنها مروان.
وفي رواية لابن حبان في صحيحه (3/ 397)، والدارقطني في سُننه (1/ 146)، والحكام في مُستدركه (1/ 231): قال عروة: فسألت بسرة فصدقته.
قال الترمذي في سُننه (82): حديث حسن صحيح. وقال مُحمد بن إسماعيل: حديث بسرة أصح شئ في هذا الباب. اهـ. وصححه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. راجع: التمهيد (17/ 191)، والمغني (1/ 117).
وقد طعن الطحاوي في حديث بسرة بعدة أمور يُمكن تلخيصها فيما يلي -راجع: شرح معاني الآثار (1/ 72، 73)-:
الأمر الأول: أن عبدالله بن أبي بكر ليس حديثه عندهم بالمُتقن. وروي عن سُفيان بن عيينة أنه قال: كناإذا رأينا الرجل يكتب الحديث عند واحد -من نفر سماهم، منهم: عبدالله بن أبي بكر- سخرنا منه؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون الحديث. والمحدثون يُضعفون ما هو مثل هذا بأقل من كلام مثل ابن عيينة.
ويُجاب بأنهم اتفقوا على جلالته وإتقانه، وممن وثقه: مالك وأحمد وابن معين والنسائي وأبو حاتم وابن سعد والعجلي، فلا يضره من تكلم فيه بعدهم. راجع: تهذيب الكمال (14/ 349)، وتهذيب التهذيب (2/ 133).
الأمر الثاني: أن عروة يروي الحديث عن مروان عن بسرة أو عن الشرطي عن بسرة، وكلاهما ممن لا يُقبل خبره، فمروان حاله معروف -راجع: تهذيب الكمال (27/ 387)، وتهذيب التهذيب (10/ 92)، وميزان الاعتدال (4/ 89)-، والشرطي مجهول.
وأُجيب بأن الحديث ثبت من رواية عروة عن بسرة مباشرة كما سبق. قال الحاكم في المُستدرك على الصحيحين (1/ 230): فظن جماعة ممن لم ينعم النظر في هذا الاختلاف أن الخبر واهٍ لطعن أئمة الحديث على مروان، فنظرنا فوجدنا جماعة من الثقات الحفاظ رووا هذا عن هشام عن أبيه عن مروان عن بسرة، ثم ذكروا في رواياتهم أن عروة قال: ثم لقيت بعد ذلك بسرة فحدثتني بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثني مروان عنها. فدلنا ذلك على صحة الحديث وثبوته على شرط الشيخين وزال عنه الخلاف والشبهة وثبت سماع عروة من بسرة. اهـ. وقد ذكر في الصفحة التالية مناظرة لطيفة بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني بخصوص مسألة انتقاض الوضوء بمس الذكر، فلتنظر هناك.
وقال ابن حبان في صحيحه (3/ 397): وعائذ بالله أن نحتج بخبر رواه مروان بن الحكم وذووه في شئ من كتبنا، فإن عروة سمعه من مروان عن بسرة، فلم يُقْنِعْه ذلك حتى بعث مروان شرطيًّا له إلى بسرة فسألها، ثم آتاهم فأخبرهم بمثل ما قالت بسرة، ثم لم يقنعه ذل حتى ذهب عروة إلى بسرة فسمع منها؛ فالخبر عن عروة عن بسرة متصل ليس بمنقطع، وصار مروان والشرطي كأنهما عاريتان يسقطان من الإسناد. اهـ.
الأمر الثالث: أن هشام بن عروة لم يسمع هذا من أبيه، وإنما أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فدلَّس به عن أبيه فرجع الحديث إلى أبي بكر أيضًا.
ويُجاب عنه بتصريح عروة بالسماع من أبيه، كما عند أحمد في مُسنده (6/ 406)، والترمذي في سُننه (82) من طريق يحيى بن سعيد القطان عن هشام عن عروة قال: حدثني أبي أن بسرة بنت صفوان أخبرته.
ويُحتمل أن يكون هشام سمعه عن أبيه مُباشرة، وسمعه عن أبيه بواسطة أبي بكر ابن محمد، فكان يُحدث به على الوجهين، فيكون من المزيد في متصل الأسانيد، وعلى فرض صحة ما ذكره فالحديث صحيح أيضًا؛ لأن أبا بكر ثقة عابد. راجع: تهذيب الكمال (33/ 137)، وتهذيب التهذيب (12/ 40).
2- وأخرج ابن ماجه (481) من طريق العلاء بن الحارث عن مكحول عن عنبسة بن أبي سفيان عن أم حبيبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مس فرجه فليتوضأ).
قال أحمد بن حنبل: حديث حسن ثابت. اهـ. انظر: المغني (1/ 116)، والتمهيد (17/ 191). وقال أبو زرعة: حديث أم حبيبة في هذا الباب صحيح. وقال الباخري: لم يسمع مكحول من عنبسة بن أبي سفيان، وروى مكحول عن رجل عن عنبسة غير هذا الحديث. وكأنه لم ير هذا الحديث صحيحًا. اهـ. راجع: سنن الترمذي (48).
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 75): هذا منقطع أيضًا. ثم أُسند عن أبي مسهر عبدالأعلى بن مسهر أنه قال: لم يسمع مكحول من عنبسة شيئًا. اهـ. وقال ذلك أيضًا النسائي. راجع: تهذيب الكمال (28/ 470)، وتهذيب التهذيب (10/ 258).
3- وأخرج ابن حبان في صحيحه (3/ 401) من طريق يزيد بن عبدالملك -يزيد بن عبدالملك النوفلي ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم، وقال البخاري: أحاديثه شبه لا شئ، وضعفه جدًّا. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: كان ممن ساء حفظه حتى كان يروي المقلوبات عن الثقات، ويأتي بالمناكير عن أقوام مشاهير، فلما كثر ذلك في أخباره بطل الاحتجاج بآثاره. راجع: تهذيب الكمال (32/ 197)، والمجروحين (3/ 102)، وميزان الاعتدال (4/ 433)-، ونافع بن أبي نُعيم القارئ -نافع بن أبي نُعيم القارئ: أحد القُرَّاء السبعة ومُقرئ أهل المدينة، وثقه يحيى بن معين، وقال علي بن المديني: كان عندنا لا بأس به. وقال أحمد بن حنبل: كان يؤخذ عنه القرآن، وليس بشئ في الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. راجع: ميزان الاعتدال (4/ 242)، ولسان الميزان (7/ 408)-، عن المقبري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حائل فليتوضأ). قال أبو حاتم: واحتجاجنا في هذا الخبر بنافع بن أبي نُعيم دون يزيد بن عبدالملك النوفلي؛ لأنا تبرأنا من عهدته في كتاب الضعفاء. اهـ. والحديث رواه الحاكم في المُستدرك (1/ 233) من طريق نافع وصححه.
وأخرجه أحمد في المُسند (2/ 33)، والدارقطني في السُنن (1/ 147)، والبيهقي في السُنن الكبرى (1/ 133) من طريق يزيد ولفظه: (من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب عليه وضوء الصلاة).
قال البيهقي: ويزيد بن عبدالملك تكلموا فيه. اهـ. ثم أسند عن أحمد بن حنبل أنه سُئِل عنه فقال: شيخ من أهل المدينة ليس به بأس. ثم رواه عن أبي هريرة موقوفًا.
4- وأخرج ابن ماجه (482) أيضًا عن إسحاق بن أبي فروة عن الزهري عن عبدالرحمن بن عبدالقاري عن أبي أيوب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مس فرجه فليتوضأ). وإسحاق بن عبدالله بن أبي فروة: متروك بالاتفاق -إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة قال عنه البخاري: تركوه ونهى أحمد عن حديثه. وقال أحمد: لا تحل عندي الرواية عنه. وقال يحيى بن معين: حديثه ليس بذاك ليس بشئ. وقال عمرو بن علي وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني: متروك الحديث. راجع: تهذيب الكمال (2/ 446)، وميزانت الاعتدال (1/ 193)-.
5- وأخرج ابن ماجه (480) أيضًا عن عبدالله بن نافع عن ابن أبي ذئب عن عُقبة بن عبدالرحمن عن مُحمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مس أحدكم ذكره فعليه الوضوء).
وقد أعلّه الطحاوي بأن الحفاظ رَوَوْهُ عن ابن أبي ذئب مُرسلًا ولم يذكروا فيه جابرصا، فرجع الحديث إلى الإرسال، والمحدثون لا يحتجون بالمراسيل. راجع: شرح معاني الآثار (1/ 75).
6- وروى أحمد في مُسنده (2/ 223) من طريق بقية بن الوليد: حدثني مُحمد بن الوليد الزبيدي -مُحمد بن الوليد الزبيدي متَّفقٌ على توثيقه، وثقه يحيى بن معين وعلي بن المديني وأبو زرعة والنسائي والعجلي ومُحمد بن سعد. راجع: تهذيب الكمال (26/ 586)- حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيّما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ). قال الحازمي في الاعتبار ص(89): هذا إسناد صحيح. اهـ.
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 75) من طريق عبدالله بن المؤمّل/ والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 132) من طريق عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه، كلاهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه البيهقي من طريق المثنى بن الصباح فخالفهم في إسناده فرواه عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن بُسرة. والمثنى بن الصباح ضعيف -المثنى بن الصباح قال عنه أحمد: لا يُسوى حديثه شيئًا، مضطرب الحديث. وقال يحيى بن معين: ضعيف، يُكتب حديثه ولا يُترك. وقال أبو زُرعة وأبو حاتم: ليّن الحديث. وقال التّرمذي: يَضعف في الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. راجع: تهذيب الكمال (27/ 203)، وميزان الاعتدال (3/ 435)-؛ فروايته منكرة لمُخالفتها رواية الثقات.
7- وأخرج الدارقطني في سُننه (1/ 147) من طريق إسحاق بن مُحمد الفروي عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة).
وعبدالله العمري في حفظه شئ -عبدالله بن عمر العمر قال عنه أحمد: صالح لا بأس به. وفي موضع ىخر: كان يزيد في الأسانيد ويُخالف، وكان رجلًا صالحًا. وقال يحيى بن معين: صويلح. وفي رواية: ليس به بأس يُكتب حديثه. وقال علي بن المديني والنسائي: ضعيف. راجع: تهذيب الكمال (15/ 327)، وميزان الاعتدال (2/ 465)-، وله طريقان آخران عند الطحاوي؛ أحدهما: عن صدقة بن عبدالله عن هشام بن زيد عن نافع عن ابن عمر. وصدقة؛ ضعيف -صدقة بن عبدالله قال عنه أحمد: ضعيف ليس حديثه يسوي شيئصا. وضعفه يحيى بن معين وأبو زُرعة والبُخاري والنسائي والدارقطني. وقال مُسلم: مُنكر الحديث. وقال أبو حاتم: محله الصدق وأُنكر عليه القدر فقط. راجع: تهذيب الكمال (13/ 133)، وميزان الاعتدال (2/ 310)-. والثاني: عن العلاء بن سيليمان عن الزهري عن سالم عن أبيه. والعلاء ضعيف أيضًا -العلاء بن سليمان الرقي قال عنه أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: مثنكر الحديث يأتي بمتون وأسانيد لا يُتابع عليها. راجع: ميزان الاعتدال (3/ 101)، ولسان الميزان (4/ 184)، والجرح والتعديل (6/ 356)-.
8- وأخرج أحمد في مُسنده (5/ 194) من طريق ابن إسحاق حدثني مُحمد بن مُسلم الزهري عن عروة بن الزبير عن زيد بن خالد الجهني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من مس فرجه فليتوضأ).
وأخرجه الطحاوي وأوضح أنه غلط؛ لأن عُروة أنكر على مروان حديثه عن بُسرة ولم يقنع بروايته ولا برواية الشرطي، وكان ذلك بعد موت زيد بن خالد بما شاء الله، فلو كان حديث زيد ثابتًا عنده ما أنكر على مروان حديث بُسرة. راجع: شرح معاني الآثار (1/ 73).
9- أخرج الداقطني في سُننه (1/ 147) من طريق عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر بن حفص العمري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون). قالت عائشة: بأبي وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء؟ قال: (إذا مست إحداكن غرجها فلتتوضأ للصلاة). وعبدالرحمن: متروك -عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر العمري قال عنه أحمد: كان كذابًا. وقال النسائي وأبو حاتم وأبو زُرعة: متروك. زاد أبو حاتم: وكان يكذب. راجع: تهذيب الكمال (17/ 234)، وميزان الاعتدال (2/ 571)-.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 74) من طريق عمر بن شريح عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة مرفوعًا: (من مس فرجه فليتوضأ). وعمر بن شريح لين لا يُحتج به -عمر بن شريح قال الذهبي: هو عمر بن سعيد بن سريج بسين مُهملة لا بشين مُعجمة. ليّن تكلم فيه ابن حبان وابن عدي وضعفه الدارقطني. ميزان الاعتدال (3/ 200، 204)، ولسان الميزان (309، 311)-.
وأعلّه الطحاوي أيضًا بأنه مُنكر؛ لأن عُروة لما أخبره مروان عن بُسرة بما أخبره به من ذلك، لم يكن عرفه قبل ذلك، لا عن عائشة ولا عن غيرها.
ويُتلخص مما سبق أن أغلب طرق حديث الوضوء من مس الذكر مُتكلم في أسانيدها، وأصحها -كما قال البُخاري- حديث بًسرة، ويُقاربه حديث أم حبيبة لولا الانقطاع بين مكحول وعنبسة، وإسناد حديث أبي هريرة وعمرو بن شعيب: إسناد حسن.
-أدلة الحنفية:
1- أخرج أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (165) عن ملازم بن عمرو -ملازم بن عمرو وثقه أحمد وابن معين وابن المديني وأبو زُرعة والنسائي. وقال أحمد في رواية: حاله مُقارب. وقال أبو حاتم: لا بأس به صدوق. وقال أبو داود: ليس به بأس. راجع: تهذيب الكمال (29/ 188)- عن عبدالله بن بدر عن قيس بن طلق -قيس بن طلق وثقه العجلي، ويحيى بن معين في رواية، وضعفه أحمد وابن معين في رواية أخرى. وقال أبو حاتم وأبو زُرعة: ليس ممن تقوم به حجة. وقال ابن القطان: يقتضي أن يكون خبره حسنًا لا صحيحًا. راجع: تهذيب الكمال (24/ 56)، وميزان الاعتدال (3/ 397)- بن علي عن أبيه قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ. فقال: (هل هو إلا بضعة منك).
قال أبو عيسى الترمذي: هذا الحديث أحسن شئ يُروى في هذا الباب. اهـ.
وأخرجه الطحاوي من هذا الطريق ثم قال: هذا حديث صحيح مُستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده ولا متنه. ثم أسند عن علي بن المديني أنه قال: حديث ملازم ابن عمرو: أحسن من حديث بُسرة. راجع: شرح معاني الآثار (1/ 76).
وأخرجه ابن ماجه في سُننه (483) من طريق مُحمد بن جابر عن قيس بن طلق به. ومُحمد بن جابر اليمامي: ضعيف -مُحمد بن جابر اليمامي قال عنه الفلاس: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بشئ. وقال البُخاري: ليس بالقوي. وقال النسائي: ضعيف. راجع: تهذيب الكمال (24/ 564)، وميزان الاعتدال (3/ 496)-. وأخرجه أحمد في مُسنده (4/ 22) من طريق أيوب بن عُتبة عن قيس بن طلق به. وأيوب بن عتبة اليمامي؛ ضعيف أيضًا -أيوب بن عتبة اليمامي ضعفه أحمد وابن المديني والفلاس والجوزجاني ومُسلم. وقال ابن معين: ليس بشئ. وفي موضع آخر: ليس بالقوي. وقال البُخاري: هو عندهم ليّن. وقال أبو حاتم: فيه لين. وقال النسائي: مضطرب الحديث. راجع: تذهيب الكمال (3/ 484)، وميزان الاعتدال (1/ 290)-.
2- وأخرج ابن ماجه في سُننه (484) من طريق جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مَسسْتُ ذكري وأنا أُصلي؟ فقال: (إنما هو جزء منك).
وجعفر بن الزبير؛ متروك الحديث -جعفر بن الزبير قال عنه يحيى بن معين: ليس بثقة. وفي رواية: ليس بشئ. وقال الفلاس وأبو حاتم والبخاري والنسائي والدارقطني: متروك الحديث. راجع: تهذيب الكمال (5/ 32)، وميزان الاعتدال (1/ 406)-.
3- أخرج الدارقطي في السُنن (1/ 149) من طريق الفضل بن المُختار عن عبيدالله بن موهب عن عصمة بن مالك الخطمي وكان من الصحابة أن رجلًا قال: يا رسول الله إني احتككت في الصلاة فأصابت يدي فرجي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أفعل ذلك).
والفضل بن المختار: متروك الحديث -الفضل بن المختار قال عنه أبو حاتم: أحاديثه مُنكرة يُحدث بالأباطيل. وقال الأزدي: مُنكر الحديث جدًّا. وقال ابن عدي: أحاديثه مُنكرة، عامتها لا يُتابع عليها. راجع: ميزان الاعتدال (3/ 358)، ولسان الميزان (4/ 449)-. ويتخلص من ذلك أن حديث طلق بن علي من طريق ملازم بن عمرو هو أحسن شئ في هذا الباب كما قال الترمذي.
وأمام هذا التعارض بين حديثيْ بُسرة وطلق: يرى الحنفية أن حديث طلق أصح؛ فيُقدَّم، أو يُجمع بينهما بجعل مس الذكر في حديث بُسرة: كناية عما يخرج منه.
قال الكمال ابن الهمام بعد ذكره للحديثين في فتح القدير (1/ 56): الحق أنهما لا ينزلان عن درجة الحسن، لكن يترجح حديث طلق: بأن حديث الرجال أقوى؛ لأنهم احفظ للعلم وأضبط؛ ولهذا جُعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل.. ومما يدل على انقطاع حديث بُسرة باطنًا: أن أمر النواقض مما يحتاج الخاص والعام إليه.. وإن سلكنا طريق الجمع: جُعل مس الذكر كناية عما يخرج منه، وهو من أسرار البلاغة؛ يسكتون عن ذكر الشئ ويرمزون عليه بذكر ما هو من روادفه، فلما كان مس الذكر غالبًا يُرادف خروج الحدث منه ويلازمه: عُبِّر به عنه كما عبر الله تعالى بالمجئ من الغائظ عما يُقصد الغائط لأجله ويُحل فيه، فيتطابق طريقا الكتاب والسنة في التعبير، فيُصار إلى هذا لدفع التعارض. اهـ.
وقال السرخسي في المبسوط (1/ 66): وما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا بين يدي كبار الصحابة حتى لم ينقله أحد منهم، وإنما قاله بين يدي بُسرة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، ولو ثبت فتأويله: من بال، فجعل مس الذكر عن البول؛ لأن من يبول يمس ذكره عادة كقوله تعالى: (أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنْكُم مِنْ الْغَآئِطِ) ر[النساء: 43]، والغائط هو المطمئن من الأرض كُنِّيَ به عن الحدث. اهـ. وراجع: بدائع الصنائع (1/ 31).
بينما يرى الجمهور أن حديث طلق منسوخ بأحاديث الوضوء من مس الذكر؛ لأن طلق بن علي كان قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم أول سنة من سني الهجرة، حيث كان المسلمون يبنون مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم رجع إلى بلده بعد قدمته تلك، ثم لا يُعلم له رجوع إلى المدينة بعد ذلك، وأبو هريرة ممن روى إيجاب الوضوء من مس الذكر، وكان إسلامه سنة سبع من الهجرة، فكان خبر أبي هريرة بعد خبر طلق لسبع سنين. راجع: السنن الكبرى (1/ 135)، وصحيح ابن حبان (3/ 405)، والاعتبار ص(93).
ومما يؤيد حكم النسخ: ما رواه الطبراني في المُعجم الكبير (8/ 334) من طريق حماد بن مُحمد الحنفي -حمّاد بن محمد: ضُعِّف كما في الميزان (1/ 599)، وشيخه أيوب بن عُتبة: ضعيف أيضًا، وسبقت ترجمته قريبًا- عن أيوب بن عتبة عن قيس بن طلق عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ).
قال الطبراني: ويُشتبه أن يكون طلق سَمِعَ الحديث الأول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، ثم سمع هذا بَعْدُ فوافق حديث بُسرة وأم حبيبة وأبي هريرة وزيد بن خالدٍ وغيرهم، ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من مس الذكر، فسمع الناسخ والمنسوخ. اهـ.
والنظر الحديثي يُرجّح بلا شك حديث بُسرة، فقد رواه جماعة من الصحابة غيرها بعضها بأسانيد حِسَان كما سبق تفصيله، وكثرة الرواة مؤثرة في الترجيح، وأما حديث الرخصة: فإنه لا يُحفظ من طريق توازي هذه الطرق أو تُقاربها، إلا من حديث طلق بن علي اليمامي وهو حديث فرد في الباب.
وتمسك الحنفية بأن خبر الواحد فيما تعم به البلوى لا يثبت به إيجاب، فلم يقبلوا حديث بسرة لإثباته وجوب الوضوء من مس الذكر، وهو أمر تعم به البلوى.

المثال الثاني/ الوضوء مما مسته النار.
روى مُسلم (814، 815، 816) عن عائشة وزيد بن ثابت وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توضؤوا مما مست النار). ورواه أبو داود في سُننه (195) عن أم حبيبة.
ورواه الترمذي في سُننه (79) بذكر قصة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوضوء مما مست النار ولو من ثور أقط). قال: فقال: له ابن عباس: يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ قال: فقال أبو هريرة: يا ابن أخي إذا سمعت حديثًُا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له مثلًا.
وروى مُسلم في صحيحه (817) عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. ثم روى نحوه عن عدة من الصحابة. وروى أبو داود في سُننه (817) عن جابر بن عبدالله قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت الناس.
قال الترمذي في سُننه عقب الحديث (80): والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم مثل سُفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق رأوا ترك الوضوء مما مست النار. وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكأن هذا الحديث ناسخ للحديث الأول حديث الوضوء مما مست النار. اهـ.
وقال الحازمي في الاعتبار ص(97): ذهب أكثر فقهاء الأمصار إلى ترك الوضوء مما مست النار، ورأوه آخر الأمرين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن لم ير منه وضوءًا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.. ومالك بن أنس وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأهل الحجاز عامتهم، وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة، وابن المبارك وأحمد وإسحاق. اهـ. وراجع: الأوسط (1/ 213)، والمبسوط (1/ 80)، وبدائع الصنائع (1/ 32)، وشرح معاني الآثار (1/ 67)، والمنتقى (1/ 67)، والمجموع (2/ 66)، والمغني (1/ 267)، والمحلى (1/ 226).
وقد وقع الخلاف في الوضوء مما مسته النار في زمان الصحابة والتابعين، ثم وقع الإجماع على تركه. قال ابن المنذر في الأوسط (1/ 224): ولا أعلم اليوم بين أهل العلم اختلافًا في ترك الوضوء مما مست النار إلا الوضوء من لحوم الإبل. اهـ.
ويتضح مما سبق أن ترك العمل بحديث الوضوء مما مست النار لأجل أنه منسوخ، وهذا يؤيد وجهة نظر الحنفية: أن الخبر فيما تعم به البلوى إذا لم يُنقل بطريق التواتر أو الاشتهار، دلّ على عدم ثبوته أو نسخه.

المثال الثالث/ الوضوء من حمل الجنازة.
روى أحمد في مُسنده (2/ 454)، وأبو داود (3161)، والترمذي (1009) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ غَسَّل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ). وأخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه (3/ 435)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 301). وقال الترمذي: حديث حسن. وقد رُوي عن أبي هريرة موقوفًا. وقال البخاري في التاريخ الكبير (1/ 396): الأشبه موقوف. وقال الترمذي في العلل الكبير (1/ 142): سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: إن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني قالا: لا يصح في هذا الباب شئ. وقال ابن المنذر في الأوسط (1/ 180): ليس في الباب حديث يُثبت. وقال الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 137): وفي جملة الحديث لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنًا.
وظاهر الحديث يدلُّ على وجوب الغسل من غسل الميت والوضوء من حمله، وقد اختلف أهل العلم في ذلك: فذهب سعيد بن المسيب وابن سيرين والزهري إلى وجوبه. وذهب مالك والشافعي إلى الاستحباب وصرفوا الأمر من الوجوب إلى الندب بأدلة أخرى. وقال أحمد وأبو حنيفة: لا يجب ولا يُستحب، لضعف الحديث وتأولوه. راجع: نيل الأوطار (1/ 297)، والمنتقى (1/ 65)، والمجموع (5/ 144)، والمغنى (1/ 134).
قال السرخسي في المبسوط (1/ 82): ولا يجب عليه بتغميض الميت وغسله وحمله وضوء ولا غسل، إلا أن يصيب يده وجسده شئ فيغسله، لقول ابن عباس: الوضوء مما خرج -أخرجه البيهقي في السُنن الكبرى (1/ 116)-؛ ولأن الميت المُسلم طاهر ومس الطاهر ليس بحدث، ولو كان نجسًا؛ فمس النجس ليس بحدث أيضًا، والذي رُوي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غمض ميتًا فليتوضأ، ومن غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمل جنازة فليتوضأ): ضعيف، قد ردَّه ابن عباس فقال: أيلزمنا الوضوء بمس عيدان يابسة -وأخرج الأثرم كما في المغني (1/ 134) أنه ذُكر لعائشة قول أبي هريرة (ومن حمله فليتوضأ) قالت: وهل هي إلا أعواد حملها-، ولو ثبت من قوله: (من غمض ميتًا فليتوضأ): غسل اليد؛ لأن ذلك لا يخلو عن قذارة عادة، وقوله: (من غسل ميتًا فليغتسل) إذا أصابته الغسالات النجسة. وقوله: (من حمل جنازة فليتوضأ) إذا كان مُحدثًا ليتمكن من أداء الصلاة عليه. اهـ. وراجع: بدائع الصنائع (1/ 32)، وفتح القدير (2/ 133)، ونصب الراية (2/ 329).
وذكر الجصّاص في أحكام القرآن (3/ 456) عدة أحاديث؛ ومنها حديث الوضوء من حمل الجنازة ثم قال: هذه من أحاديث أبي هريرة التي تُرد لمُخالفتها الأصول، وكلها أخبار شاذة قد اتفق الفقهاء على خلاف ظواهرها. اهـ.
وهذا المثال أيضًا يعضد رأي الحنفية في حكمهم بعدم ثبوت الخبر فيما تعم به البلوى إذا لم يُنقل نقلًا متواترًا أو مشهورًا، فاتفق في هذا الحديث أنه لم يثبت من جهة السند، ومن جهة انقطاعه باطنًا؛ لأنه خبر واحد فيما تعم به البلوى.

المثال الرابع/ الجهر بالبسملة.
-اختلف أهل العلم في الجهر بالبسملة عند القراء في الصلاة على ثلاثة أقوالٍ:
القول الأول: استحباب الجهر بالبسملة؛ حيث يجهر بالقراءة في الفاتحة والسورة جميعصا فلها في الجهر حكم باقي الفاتحة والسورة، وإليه ذهب الشافعية، وحكوه عن أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء والقراء، فمن الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعمار بن ياسر وأُبي بن كعب وأبو هريرة وابن عمر وابن عباس، ومن التابعين ابن مسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وابن جبير وابن سيرين وعكرمة. راجع: المجموع (3/ 298).
القول الثاني: الإسرار بالبسملة عند قراءة الفاتحة في الصلاة، وإليه ذهب الحنفية والحنابلة، وحكاه الترمذي في سُننه عقب الحديث (245)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 200) عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -ويُلاحظ أن الخُلفاء الأربعة ذُكروا ضمن القائلين بالقول الأول، مما يدل على اختلاف النقل عنهم في ذلك-. وحُكي عن عبدالله بن مسعود وعبدالله بن الزبير، وبه يقول الحكم وحمّاد والأوزاعي والثوري وابن المبارك وإسحاق. وراجع: المغني (1/ 258)، وأحكام (1/ 21)، والمبسوط (1/ 15).
القول الثالث: عدم القراءة البسملة لا سرًّا ولا جهرًا، وبه قالت المالكية. قال مالك كما في المدونة (1/ 162): وهي السنة وعليها أدركت الناس. اهـ.
-أدلة الشافعية:
1- روى النسائي في سُننه (905)، والدارقطني في سُننه (1/ 305) عن نُعيم بن عبدالله المُجْمِر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة: 1] ثم قرأ بأُمِّ القرآن.. وإذا سلَّم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الدارقطني: صحيح ورواته كلهم ثقات.
ويؤيده ما رواه أحمد في مُسنده (2/ 273)، وأبو داود في سُننه (797) عن عطاء بن أبي رباح أن أبا هريرة قال: في كل صلاة يقرأ فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفي علينا أخفينا عليكم.
ورواه الدارقطني في سُننه (1/ 306) بلفظ أصرح منه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة: 1] قال أبو هريرة: هي آية من كتاب الله، اقرءوا إن شئتم فاتحة الكتاب فإنها الآية السابعة.
واعتبر الحنفية حديث نُعيم عن أبي هريرة من أحاديث الآحاد الشاذة؛ لأنه أثبت الجهر بالبسملة في الصلاة وهو أمر يحتاج إلى معرفته كل المسلمين، فلو كان ثابتًا لورد النقل به مستفيضًا متواترًا كوروده في سائر القراءة، فلما لم يرد كذلك دلَّ على أنه غير ثابت، وعارضوه بحديث آخر عن أبي هريرة ينفي الجهر.
روى مُسلم في صحيحه (1384) عن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ) [الفاتحة: 2] ولم يسكت.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 200): ففي هذا دليل أن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ليست من فاتحة الكتاب، ولو كانت من فاتحة الكتاب لقرأ بها في الثانية كما قرأ فاتحة الكتاب، والذين استحبوا الجهر بها في الركعة الأولى -لأنها عندهم من فاتحة الكتاب- استحبوا ذلك أيضًا في الثانية، فلما انتفى بحديث أبي هريرة هذا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها في الثانية، انتفى به أيضًا أن يكون قرأ بها في الأولى، فعارض هذا الحديث حديث نُعيم بن المجمر، وكان هذا أولى منه لاستقامة طريقه، وفضل صحة مجيئه على مجئ حديث نُعيم. اهـ.
2- روى أحمد في المُسند (6/ 302)، وأبو داود (4001)، والترمذي (3177) عن أم سلمة: أنها سُئِلت عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ).
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 201) بلفظ آخر عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُصلي في بيتها فيقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ). ثم طعن فيه بالاختلاف الوارد في ألفاظه، وفسر الحديث بأن أم سلمة كانت تنعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لسائر القرآن وليس في الصلاة. وقال ابن قدامة في المغني (1/ 258): ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بها. اهـ.
3- روى الترمذي (246) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاته بـ(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك. اهـ.
-أدلة الحنفية:
1- روى مُسلم في صحيحه (1138) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ).
2- وروى البُخاري (743)، ومُسلم (918) في صحيحيهما عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ). وزاد في لفظ مُسلم: لا يذكرون: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). وفي رواية لمُسلم أيضًا (916) قال أنس: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان؛ فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
وفي لفظ للنسائي (907)، وأحمد في مُسنده (3/ 176، 373): فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
وأجاب الشافعية عن حديث عائشة وأنس: بأن معناه أنهم كانوا يبدءون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، وليس معناه أنهم لا يقرؤون: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وأما الروايات الأخرى لحديث أنس فهي رواية للفظ الأول بالمعنى الذي فهمه الراوي، عبذر عنه على قدر فهمه فأخطأ، ولو بلغ الحديث بلفظه الأول لأصاب، فإن اللفظ الأول هو الذي اتفق عليه الحفاظ. اهـ. راجع: سُنن الترمذي عقب الحديث (247)، والمجموع (3/ 298).
وحكم الشافعية على حديث أنس بالاضطراب، بسبب هذا الاختلاف الواقع في ألفاظه، وذكره السيوطي في تدريب الراوي كمثال لعلة المتن، وذكر للحديث تسع علل قادحة في ثبوته. راجع: تدريب الراوي (1/ 254). كما صنَّف ابن حجر الهيتمي كتابًا في بيان وجوه الاضطراب في حديث أنس سماه: "إلصاق عُرَر الهوى والهوس المضللة بمن غوى عن غرر الهدى حتى لم يفهم الاضطراب عن أنس في حديث البسملة" -هذا الكتاب لم يُطبع ويجود منه نُسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم (445) حديث-.
3- وروى الترمذي (245) عن ابن عبدالله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فقال لي: أي بني مُحدث إياك والحدث -قال: ولم أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحديث في الإسلام يعني منه- قال: وقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقولها، فلا تقلها إذا أنت صليت. قال الترمذي: حديث حسن.
4- وروى مُسلم (904) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ) قال الله تعالى: حمدني عبدي) وذكر الحديث. وهذا يدل على أنه لم يذكر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ولم يجهر بها.
وللمسألة تعلق بكون البسملة من القرآن، فقال مالك: إن البسملة ليست من القرآن وبناءً عليه كَرِه قراءتها في الصلاة سرًّا وجهرًا. وقال الشافعي: إنها آية من الفاتحة، وعليه أوجب قراءتها في الصلاة وجوب الفاتحة، واستحب الجهر بها لرجحان أدلته عنده. وقال أبو حنيفة وأحمد: إنها من القرآن حيث كُتبت، وإنها مع ذلك ليست من السور بل كُتبت آية في كل سورة، وذهبا إلى استحباب قراءتها في الصلاة، ولكن يُسن الإسرار بها لرجحان الأدلة بذلك. راجع: نصب الراية (1/ 445)، والمنتقى (1/ 151)، والمجموع (3/ 300).
قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 21): ولو تساوتْ الأخبار في الجهر والإخفاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كان الإخفاء أَوْلَى من وجهين: أحدهما/ ظهور عمل السلف بالإخفاء دون الجهر؛ إذ كان متى رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبران متضادان وظهر عمل السلف بأحدهما: كان الذي ظهر عمل السلف به أَوْلَى بالإثبات. والوجه الآخر: أن الجهر بها لو كان ثابتًا لورد النقل به مستفيضًا متواترًا كوروده في سائر القراءة؛ فلما لم يرد النقل به من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت؛ إذ الحاجة إلى معرفة مسنون الجهر بها كهي إلى معرفة مسنون الجهر في سائر فاتحة الكتاب. اهـ. وانظر: المبسوط (1/ 15)، وفتح القدير (1/ 291).

المثالث الخامس/ رفع اليدين عند الركوع والرفع منه.
ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة وهو رواية عن مالك: إلى أن رفع اليدين عند تكبيرة الركوع وعند الرفع منه سُنة ثابتة، فيرفع يديه إلى حذو منكبيه كفعله عند تكبيرة الإحرام، لتضافر الأحاديث الصحيحة الصريحة على ذلك.
وقال الحنفية والثوري وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي وهو المشهور عن مالك: إن المُصلي لا يرفع يديه إلا لتكبيرة الإحرام. راجع: المبسوط (1/ 14)، وفتح القدير (1/ 310)، ونصب الراية (1/ 520)، وبدائع الصنائع (1/ 207)، والفصول في الأصول (2/ 309)، ومُختصر اختلاف الفقهاء (1/ 199)، والمدونة (1/ 165)، والمنتقى (1/ 142)، والأم (1/ 126)، واختلاف مالك والشافعي (7/ 211)، ومُختصر الخلافيات (2/ 69)، والمغني (1/ 294).
ولكثرة أدلة المسألة واحتدام الخلاف فيها بين المُحدثين والحنفية: صنَّف البُخاري كتابه "رفع اليدين" وأخرج فيه أحاديث وآثار المسألة مستوعبًا طرقها وعللها، وكذلك فعل البيهقي في كتابه "رفع اليدين" فضمنه كتاب البخاري وزاد عليه فوائد حسنة.
وإدراج بعض الحنفية؛ كالسرخسي في أصوله (1/ 369)، والجصاص في الفصول في الأصول (3/ 115) هذه المسألة تحت قاعدة رد خبر الواحد فيما عم به البلوى: فيه نظر؛ لأن أحاديث رفع اليدين عند الركوع والرفع منه بلغت مرتبة التواتر المعنوي -ممن حكم بتواتره: السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص(26، 27)، والكتاني في نُظم المتناثر ص(85) حديث(67)-؛ فقد ذكر البُخاري في كتابه أن سبعة عشر نفسصا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رووا حديث رفع اليدين، وهذا يكفي للحكم بتواتره. وراجع: فتح الباري (2/ 220)، وفتح المغيث للسخاوي (4/ 18).
ورَدَّ بعض الحنفية؛ كالطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 222)، والجصاص في الفصول في الأصول (3/ 201) بعض أحاديث رفع اليدين بقاعدة عمل الراوي بخلاف ما رواه؛ حيث يستدلون بذلك على نسخ الحديث، ولا شك أن هذا الصنيع أصح بالنسبة للصنيع الأول.
والأَوْلَى من هذين: إدراجها تحت أصل ثالث؛ وهو الترجيح بفقه الراوي، كما ورد عن أبي حنيفة نفسه في حكايته المشهور مع الأوزاعي في هذه المسألة -سأُدرج هذه الحكاية في اقتباس مع كلام في الترجيح بفقه الراوي-، ويُمكن القول بأن رد أحاديث رفع اليدين كان من أجل هذه القواعد الثلاثة مجتمعة.
-أدلة الحنفية والمالكية:
1- أخرج أبو داود في سُننه (750) من طريق شُريك عن يزيد ابن أبي زياد -يزيد ابن أبي زياد القرشي الهاشمي قال عنه أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ. وفي موضع آخر: ليس بذاك. وقال يحيى بن معين: لا يُحتج بحديثه. ومرة: ليس بالقوي. وقال العجلي: جائز الحديث وكان بأخرة يُلَقَّنُ. وقال ابن المبارك: ارم به. وقال أبو زرعة: لين، يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال أبو داود: لا أعلم أحدًا ترك حديثه، وغيره أحب إليَّ منه. وقال النسائي: ليس بالقوي. راجع: تهذيب الكمال (32/ 135)، وتهذيب التهذيب (11/ 288)، وميزان الاعتدال (4/ 423)- عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنية ثم لا يعود. ومعنا عندهم: لا يعود إلى رفع اليدين حتى ينصرف من صلاته.
وهذه اللفظة ليست محفوظة في الحديث، فقد رواه جماعة من الحفاظ المتقنين عن يزيد ابن أبي زياد بدون هذه اللفظة، فقال أبو داود عقيب روايته للحديث: وروى هذا الحديث هُشيم وخالد وابن إدريس عن يزيد لم يذكروا ثم لا يعود. اهـ.
ومن هؤلاء سُفيان بن عيينة وكان يُصرح بأن يزيد كان يرويه بمكة بدونها، ثم لما ذهب الكوفة وساء حفظه تلقنها وأدرجها في الحديث، وألحقها في كتابه بين السطرين.
روى الحميدي في مُسنده (2/ 316) عن سفيان قال: حدثنا يزيد ابن أبي زياد بمكة عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه. قال سُفيان: وقدم الكوفة فسمعته يُحدث به فزاد فيه ثم لا يعود، فظننت أنهم لقنوه، وكان بمكة يومئذ أحفظ منه يوم رأيت بالكوفة، وقالوا لي: إنه قد تغير حفظه أو ساء حفظه. وانظر: السُنن الكبرى للبيهقي (2/ 76).
وحكى ابن عبدالبر في التمهيد (9/ 220) كلام ابن عيينة وزاد في آخره: فنظرته فإذا ملحق بين سطرين.
وقال الحافظ ابن حجر في تخليص الحبير (1/ 221): اتفق الحفاظ على أن قوله: ثم لم يعد. مُدرج في الخبر من قول يزيد ابن أبي زياد، ورواه عنه بدونها شُعبة وسُفيان الثوري وخالد الطحان وزُهير.. وغيرهم. وقال أحمد بن حنبل: لا يصح. وكذا ضعفه البُخاري. اهـ. وانظر: الفصل للوصل المدرج في النقل (1/ 373).
وقال النووي في المجموع (3/ 367): وهو حديث ضعيف باتفاقهم؛ ممن نصَّ على تضعيفه: سُفيان بن عيينة والشافعي والحميدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو سعيد الدارمي والبخاري، وغيرهم من المتقدمين، وهؤلاء أركان الحديث وأئمة الإسلام فيه. ولو صحَّ: وجب تأويله على أن معناه/ لا يعود إلى الرفع في ابتداء استفتاحه ولا في أوائل باقي ركعات الصلاة الواحدة. وتعين تأويله جمعًا بين الأحاديث. اهـ.
وقال البيهقي في السُنن الكبرى (2/ 77): وروى هذا الحديث: مُحمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى -مُحمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى قال عنه أحمد بن حنبل: كان سيئ الحفظ مضطرب الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بذاك. وقال شعبة: ما رأيت أحدًا أسوأ حفظًا منه. وقال أبو حاتم: محله الصدق، كان سيئ الحفظ، شُغل بالقضاء فساء حفظه، لا يُتهم بشئ من الكذب، إنما يُنكر عليه كثرة الخطأ، يُكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بالقوي. راجع: تهذيب الكمال (25/ 622)، وميزان الاعتدال (3/ 613)- عن أخيه عيسى عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن البراء قال فيه: ثم لا يعود. ومُحمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى لا يُحتج بحديثه، وهو أسوأ حالًا عند أهل المعرفة بالحديث من يزيد. اهـ.
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل كما في العلل ومعرفة الرجال (1/ 368): حدثني أبي عن محمد بن عبدالله بن نمير قال: نظرت في كتاب ابن أبي ليلى فإذا هو يرويه عن يزيد بن أبي زياد. اهـ.
2- أخرج أبو داود (748)، والترمذي (258) وقال: حديث حسن. والنسائي (1058) من طريق وكيع عن سفيان عن عاصم بن كليب عن عبدالرحمن بن الأسود عن علقمة قال: قال عبدالله بن مسعود: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: فصلى؛ فلم يرفع يديه إلا مرة.
قال أبو داود: هذا مُختصر من حديث طويل، وليس هو بصحيح على هذا اللفظ. اهـ.
والحديث الطويل الذي يُشير إليه أخرجه هو (747)، والنسائي (1031) من طريق ابن إدريس عن عاصم بن كليب عن عبدالرحمن بن الأسود عن علقمة قال: قال عبدالله علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة؛ فكبَّر ورفع يديه، فلما ركع طبق يديه بين ركبتيه. قال: فلما بلغ ذلك سعدًا قال: صدق أخي؛ قد كنا نفعل هذا ثم أمرنا بهذا يعني الإمساك على الركبتين.
فهذا أصل الحديث ليس فيه ما يُفيد أن الرفع مرة واحدة، أو أنه لم يَعُدْ للرفع مرة أخرى، وقد اعتبر العلماء ذلك علة في رواية الثوري، وحكموا بخطأ روايته؛ حيث اختصر الحديث ورواه بالمعنى، وقد أشار البخاري إلى هذه العلة بعد روايته للحديث في جزء رفع اليدين في الصلاة ص(79) حديث(70) وقال: قال أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم: نظرت في كتاب عبدالله بن إدريس عن عاصم بن كليب ليس فيه: ثم لم يعد. اهـ. وانظر: العلل ومعرفة الرجال لأحمد (1/ 369).
وقال ابن أبي حاتم في علل الحديث (1/ 96): سألت أبي عن حديث رواه سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن عبدالرحمن بن الأسود عن عَلقمة عن عبدالله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر فرفع يديه ثم لم يعد. فقال أبي: هذا خطأ، يُقال: وَهمِ الثوري، فقد رواه جماعة عن عاصم.. ولم يقل أحد ما روى الثوري. اهـ.
قال عبدالله بن أحمد كما في العلل ومعرفة الرجال (1/ 369) عن أبيه: كان وكيع يقول هذا من قبل نفسه. يعني ثم لا يعود. اهـ.
والحاصل/ أن الحفاظ اتفقوا على أن لفظة: ثم لا يعود. من خطأ الراوي، فيرى أحمد بن حنبل أن الوهم من وكيع، بينهما يرى أبو حاتم الرازي أنه من شيخه سفيان الثوري.
قال النووي في خلاصة الأحكام (1/ 354): اتفقوا على تضعيف هذا الحديث وأنكروا على الترمذي تحسينه. اهـ.
وقال ابن حبان فيما نقله عنه ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 222): هذا أحسن خبر رُوِي لأهل الكوفة في نفي رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وهو في الحقيقة أضعف شئ يُعوَّل عليه؛ لأن به عللًا تبطله. اهـ.
وقال ابن المبارك: لم يثبت عندي حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه أول مرة ثم لم يرفع. وقد ثبت عندي حديث رفع اليدين؛ ذكره عبيدالله ومالك ومعمر وابن أبي حفصة عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: كأني انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرفع يديه في الصلاة لكثرة الأحاديث وجودة الأسانيد. أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في السنن الكبرى (2/ 79)، وبنحوه: الدارقطني في سننه (2/ 293)، والترمذي بلفظ مختصر عقب حديث (257).
طريق أخرى: ورواه الدارقطني في سننه (1/ 295)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 79) من طريق مُحمد بن جابر -محمد بن جابر اليمامي قال عنه الفلاس: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بشئ. وقال الباخري: ليس بالقوي. وقال النسائي: ضعيف. راجع: تهذيب الكمال (24/ 564)، وميزان الاعتدال (3/ 496)- عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله بن مسعود قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر؛ فلم يرفعوا أيديهم إلا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة.
قال الدارقطني: تفرد به محمد بن جابر وكان ضعيفًا عن حماد عن إبراهيم، وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلًا عن عبدالله من فعله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو الصواب. اهـ.
وقال ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (1/ 335): يجوز أن يكون علقمة لم يضبط، أو ابن مسعود قد خفي عليه هذا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما خفي عليه غيره مثل نسخ التطبيق. اهـ. وراجع: نصب الراية (1/ 527).
وقال الإمام أبو بكر ابن إسحاق الفقه فيما نقله عنه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 81)، والنووي في المجموع (3/ 367): قد صح رفع اليدين عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الخلفاء الراشدين ثم عن الصحابة والتابعين، وليس في نسيان عبدالله بن مسعود رفع اليدين ما يوجب أن هؤلاء الصحابة لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه، وقد نسى ابن مسعود كيفية قيام الاثنين خلف الإمام، وَنَسِي نسخ التطبيق في الركوع وغير ذلك، فإذا نَسِي هذا كيف لا يَنْسى رفع اليدين؟!. اهـ.
3- روى الطبراني في المُعجم الكبير (11/ 385) من طريق ابن أبي ليلى -محمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى سبق ذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه- عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُرفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: حين يفتتح الصلاة، وحين يدخل المسجد الحرام فينظر إلى البيت، وحين يقوم على الصفا، وحين يقوم على المروة، وحين يقف مع الناس عشية عرفة، ويجمع، والمقامين حين يرمي الجمرة). قال الهيثمي في مُجمع الزوائد (2/ 102): رواه الطبراني في الكبير وفيه محمد ابن أبي ليلى وهو ضعيف لسوء حفظه وقد وثق. وزاد في (3/ 238): وحديثه حسن إن شاء الله تعالى.
قال البخاري في كتاب رفع اليدين حديث (145): وقال شعبة: إن الحكم لم يسمع من مقسم إلا أربعة أحاديث؛ ليس فيها هذا الحديث، وليس هذا من المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. وانظر: مقدمة الجرح والتعديل ص(13)، والعلل لأحمد (1/ 192).
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 72) من طريق ابن جُريج قال حُدِّثْتُ عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: (ترفع الأيدي في الصلاة.. ). وهو منقطع؛ فابن جريج لم يسمع من مقسم.
طريق أخرى: وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 452) من طريق ورقاء عن عطاء بن السائب -عطاء بن السائي: ثقة؛ إلا أنه تغير بأَخَرَةٍ وساء حفظه، حُكي ذلك عن أحمد وابن معين وأبي حاتم والنسائي وغيرهم. فمن سمع منه قديمًا مثل شعبة والسفيانين والحمادين: فحديثه صحيح. ومن سمع منه بعد الاختلاط: فلا يُحتج بحديثه. راجع: تهذيب الكمال (20/ 86)، وميزان الاعتدال (3/ 70)، والكواكب النيّرات ص(61)- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السجود على سبعة أعضاء: اليدين والقدمين والركبتين والجبهة، ورفع الأيدي: إذا رأيت البيت، وعلى الصفاء والمروة، وبعرفة، وعند رمي الجمار، وإذا قمت إلى الصلاة). وعطاء بن السائب: ثقة؛ لكنه اختلط. قال الهيثمي في المجمع (3/ 238): عطاء بن السائب قد اختلط.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مُصنفه (1/ 214) عن ابن فضيل عن عطاء به موقوفًا بلفظ: لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن. وفي موضع آخر (3/ 436): ترفع الأيدي في سبعةِ مواطنٍ.
ومحل الشاهد في الحديث/ حصر مواطن الرفع في المواطن السبعة المذكورة، ويُعكّر عليه لفظ الروايات الأخرى: "ترفع الأيدي"؛ فلم يحصرها في عدد معين، وهو ما يجعل الحديث يتسع لاستعمال الأحاديث كلها الواردة في رفع الأيدي والجمع بينها؛ لأن المواطن التي ورد فيها رفع اليدين عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تنحصر في هذه السبعة؛ بل تزيد عليها، فقد ثبتت الأخبار بالرفع في الاستسقاء والدعاء والقنوت وغيرها من المواطن. راجع: نصب الراية (1/ 389).
4- أخرج مسلم في صحيحه (996) عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْسٍ؛ اسكنوا في الصلاة).
وفي رواية له (998): كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله. وأشار بيده إلى الجانبين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علَام تُومِئُون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؛ إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله.
قال النووي في شرحه على مُسلم (4/ 152): "شمس" بسكون الميم وضمها، وهي التي لا تستقر، بل تضطرب وتتحرك بأذنابها وأرجلها، والمُراد بالرفع المنهي عنه هنا/ رفعهم أيديهم عند السلام مشيرين إلى السلام من الجانبين، كما صرح به في الرواية الثانية. اهـ.
وهذا الحديث ليس فيه محل النزاع كما ظهر بوضوح من سياق رواياته، وممن استدل به السرخسي في المبسوط (1/ 15)، ولم يُدخله الطحاوي في مسألة رفع اليدين مع شدة الاحتياج إليه، وقد اشتد إنكار المحدثين على من استدل بهذا الحديث من الحنفية في مسألة رفع اليدين، حتى قال البخاري كما في رفع اليديت في الصلاة فقرة (79) ص(90): ولا يحتج بمثل هذا من له حظ من العلم، هذا معروف مشهور لا اختلاف فيه، ولو كان ذهب إليه لكان رفع الأيدي في أول التكبيرة، وأيضًا تكبيرات صلاة العيد منهيًّا عنها؛ لأنه لم يستثنَ رفعًا دون رفع. اهـ.
وقال النووي في شرحه على مسلم (3/ 403): واحتجاجهم بحديث جابر من أعجب الأشياء وأقبح أنواع الجهالة بالسنة؛ لأن الحديث لم يرد في رفع الأيدي في الركوع والرفع منه ولكنهم كانوا يرفعون أيديهم في حالة السلام من الصلاة ويشيرون بها إلى الجانبين يريدون بذلك السلاة على من على الجانبين، وهذا لا خلاف فيه بين أهل الحديث ومن له أدنى اختلاط بالحديث. اهـ.
-أدلة الجمهور:
لقد تكاثرت الأحاديث المثبتة لرفع اليدين عند الركوع والرفع منه حتى بلغت مرتبة التواتر المعنوي، فقد قال البخاري في رفع اليدين ص(22) فقرة (9): وكذلك يُروى عن سبعة عشر نفسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع. اهـ. وقد خرّجها محقق الكتاب وزاد عليها: حتى بلغت ستة وعشرين صحابيًّا. ثم ذكر أسماءهم وأخرج أغلب أحاديثهم في كتابه.
وقال الحاكم: لا نعلم سنة اتفق على روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة ثم العشرة المبشرة فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفرقهم في البلاد الشاسعة غير هذه السنة. اهـ. راجع: نصب الراية (1/ 417)، وفتح المغيث للسخاوي (4/ 18)، والتقييد والإيضاح ص(230).
وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار (2/ 416): وقد رُوِّينا رفع اليدين عند الركوع والرفع منه عن أكثر من عشرين نفسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. وجمع العراقي رواته كما في فتح المغيث (4/ 8)؛ فبلغوا الخمسين. وانظر: فتح المغيث للسخاوي (4/ 18).
ولهذا كله أدخل السيوطي حديث رفع اليدين في كتابه "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" وذكره من حديث أربعة وعشرين صحابيًّا.
وسأذكر هُنا جملة من أحاديث رفع اليدين لا سيّما ما كان محل نقد للسادة الحنفية.
1- أخرج البخاري (735)، ومسلم (887) من طريق سالم عن عبدالله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وكان لا يفعل ذلك في السجود.
وعارض الحنفية هذا الحديث بما رُوي من عمل ابن عمر خلاف ما رُوي، والقاعدة عندهم: أن الحديث الذي يعمل الراوي بخلافه، وكان ذلك بعد روايته للحديث يدل على نسخ الحديث.
رُوي عن أبي بكر ابن عياش -أبو بكر ابن عياش: ثقة؛ إلا أنه لمّا كبر ساء حفظه، قاله ابن حجر في تقريب التهذيب (7985). وراجع: تهذيب الكمال (33/ 129)، وميزان الاعتدال (4/ 499)، والاغتباط ص(26)، والكواكب النيرات ص(87)- عن حصين عن مجاهد قال: صليت خلف ابن عمر؛ فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبير الأولى من الصلاة. انظر: مصنف ابن أبي شيبة (1/ 214)، وشرح معاني الآثار (1/ 225)، ومعرفة السنن والآثار (2/ 428).
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 225): فهذا ابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع ثم ترك هو الرفع، فلا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ ما قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعله وقامت الحجة عليه بذلك. اهـ.
وأجاب البخاري بأنه غير محفوظ لمخالفته رواية الثقات عن ابن عمر، وبأنه لو صح لكان محمولًا على السهور من ابن عمر كما يقع السهو من الرجل في صلاته. راجع: رفع اليدين في الصلاة ص(54) فقرة (37).
وروى البخاري في كتاب رفع اليدين ص(53) فقرة(36) -وأخرجه أيضًا الحميدي في مُسنده (2/ 277)، وابن عبدالبر في التمهيد (9/ 224)، والدارقطني في سننه (1/ 289)- عن نافع: أن ابن عمر كان إذا رأى رجلًا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى. فكيف يترك ابن عمر شيئًا يأمر به غيره وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
ونُقلِ عن ابن معين قوله: حديث أبي بكر عن حصين إنما هو توهم منه لا أصل له. انظر: رفع اليدين ص(55) فقرة(38).
وروي أيضًا عن طاوس وسالم ونافع ومحارب بن دثار وابن الزبير جميعًا عن ابن عمر: أنه كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه.
ثم قال فيه ص(74) الفقرة (63): ولو تحقق حديث مجاهد أنه لم ير ابن عمر يرفع يديه لكان حديث هؤلاء حين رأو أَوْلَى؛ لأن ابن عمر رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم مع ما رواه أهل العلم من أهل مكة والمدينة واليمن والعراق أنه كان يرفع يديه. اهـ.
قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (2/ 429): وهذا الحديث في القديم كان يرويه أبو بكر ابن عياش عن حُصين عن إبراهيم عن ابن مسعود مرسلًا موقوفًا، ثم اختلط عليه حين ساء حفظه فروى ما قد خولف فيه، فكيف يجوز دعوى النسخ في حديث ابن عمر بمثل هذا الحديث الضعيف؟!. اهـ. وانظر: الاغتباط ص(26).
ومما يدلُّ على اختلاط أبي بكر ابن عياش في هذا الحديث أن الثوري وابن ‘ثيينة خالفاه فروياه عن حصين عن إبراهيم عن ابن مسعود -رواه عبدالرزاق في مصنفه (2/ 71)، ورواه محمد بن الحسن في الموطأ ص(74) من رواية الثوري وحده-. وهما أعلى مرتبة في الضبط والإتقان.
ومما يُضعفه أيضًا: ما رواه البخاري في كتابه رفع اليدين ص(150) فقرة(171) عن مجاهد: أنه كان يرفع يديه.
فتحصل مما سبق أن حديث أبي بكر ابن عياش مُخالف؛ لأمور: الأول/ مُخالفته لما رواه ابن عمر مرفوعًا. الثاني/ مخالفته لما رواه أصحاب ابن عمر من فعل ابن عمر موقوفًا. الثالث/ مخالفته لرواية الثوري وابن عيينة عن حصين. الرابع/ مخالفته للمعروف عن مجاهد. فإذا انضمت هذه المخالفات كلها دلَّت على أن حديث أبي بكر ابن عياش لا أصل له كما قال يحيى بن معين.
وإذا انضم ما رواه الشيخان عن ابن عمر مرفوعًا، إلى ما رواه طاوس وسالم ونافع ومحارب بن دثار وابن الزبير عن ابن عمر موقوفًا، دلّ دِلالة قوية على عدم مخالفة ابن عمر لما رواه، وأن حديث ابن عمر لا يرد عليه اعتراض صحيح.
2- أخرج أبو داود (744)، والترمذي (3751) من طريق الأعرج عن عبيدالله بن أبي رافع عن عليِّ ابن أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبَّر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويصنعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شئ من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر.
وطعن الحنفية في حديث علي ابن أبي طالب بمثل ما طعنوا في حديث ابن عمر، فذكروا ما رُوي من عمل علي بخلاف الحديث، واستدلوا بذلك على نسخ الحديث؛ لأن الصحابي لا يترك العمل بما روي إلا وقد ثبت لديه نسخ للحديث.
رُوي عن أبي بكر النهشلي -أبو بكر النهشلي وثقه أحمد وابن معين والعجلي وأبو داود، وزاد الأخير: كوفي مُرجئ. وقال أبو حاتم: شيخ صالح يُكتب حديثه. راجع: تهذيب الكمال (33/ 156)- عن عاصم بن كليب عن أبيه: أن علي ابن أبي طالب رفع يديه في أول التكبير ثم لم يعد بعد. انظر: الموطأ رواية محمد بن الحسن ص(90)، وشرح معاني الآثار (1/ 225).
قال عبدالله بن أحمد كما في العلل ومعرفة الرجال (1/ 374)، ومسائل عبدالله لأحمد ص(75): قال أبي: لم يروه عن عاصم غير أبي بكر النهشلي أعلمه. كأنه أنكره.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 225): فإن عليًّا لم يكن ليرى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع ثم يترك هو الرفع بعده إلا وقد ثبن عنده نسخ الرفع؛ فحديث علي إذا صح ففيه أكثر الحجة لقول من لا يرى الرفع. اهـ.
روى البيهقي في السنن الكبرى (2/ 80)، ومعرفة السنن والآثار (2/ 421) عن عثمان بن سعيد الدارمي تعليقًا على رواية النهشلي: قد رُوي من هذا الطريق الواهي عن علي، وقد روى الأعرج عن عبيدالله ابن أبي رافع عن عليٍّ: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفعهما عند الركوع وبعدما يرفع رأسه من الركوع. فليس الظن بعلي ان يختار فعله على فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن ليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته أو تثبت به سنة لم يأتِ بها غيره. اهـ.
قال الشافعي: ولا يثبت عن علي وابن مسعود ما رُوي عنهما: أنهما كانا لا يرفعان أيديهما في غير تكبيرة الافتتاح. ولو كان ثابتًا لأشبه أن يكون الراوي رآهما مرة أغفلا ذلك. ولو قال قائل: ذهب عنهما حفظ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظه ابن عمر لكانت له الحجة. اهـ. انظر: السنن الكبرى (2/ 80)، والمجموع للنووي (3/ 367).
قال البخاري في رفع اليدين ص(46- 49) فقرة(30- 32): وحديث عبيدالله أصح مع أن حديث كليب هذا لم يحفظ رفع الأيدي، وحديث عبيدالله هو شاهد، فإذا روى رجلان عن محدث قال أحدهما: رأيته فعل، وقال الآخر: لم أره يفعل، فالذي قال: قد رأيته فعل/ هو شاهد، والذي قال: لم يفعل/ فليس هو بشاهد؛ لأنه لم يحفظ الفعل. وقال عبدالرحمن بن مهدي: ذ1كرت للثوري حديث النهشلي عن عاصم بن كليب فأنكره. اهـ.
3- أخرج أبو داود في سُننه (730)، والترمذي (305) من طريق عبدالحميد بن جعفر -عبدالحميد بن جعفر وثقه أحمد وابن معين، وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال يحيى بن سعيد: كان سفيان يُضعفه من أجل القدر. راجع: تهذيب الكمال (16/ 416)- عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرةٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو قتادة، قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فَلِمَ؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعًا ولا أقدمنا له صحبة. قال: بلى. قالوا: فاعرض. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يُحاذي بهما منكبيه. فذكر الحديث وفيه: رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. إلى أن قالوا: صدقت هكذا كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه البخاري في كتاب رفع اليدين ص(40) فقرة(23)، وأبو داود (734)، وابن ماجه (863) من طريق عباس بن سهل قال: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة؛ فذكروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قام فكبر فرفع يديه، ثم رفع يديه حين كبر للركوع، ثم ركع فوضع يديه على ركبته.
روى الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 227، 259) من طريق عطاف بن خالد قال: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: حدثني رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلوسًا.. فذكر الحديث.
وأعلّ الطحاوي حديث أبي حميد بأمرين؛ الأول: أن المحدثين يضعفون عبدالحميد بن جعفر، وليس كذلك؛ فقد وثقه أكثر العلماء، ولم يُتكلم فيه بجرح يوجب رد حديثه. راجع: نصب الراية (1/ 344)، ومعرفة السنن والآثار (2/ 430). الأمر الثاني: أن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع الحديث من أبي حميد؛ لأن بينهما رجل مجهول كما جاء في رواية عطاف بن خالد. وليس كذلك؛ فقد حكم البخاري كما في التاريخ الكبير (1/ 189) في التاريخ بأنه سمع أبا حميد وأبا قتادة وابن عباس. وراجع: معرفة السنن والآثار (2/ 430).
4- روى مسلم (923) عن وائل بن حجر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر -وصف همام: حيال أذنيه- ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنة على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ثم رفعهما، ثم كبر فركع، فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، فلما سجد سجد بين كفيه.
وأجاب الطحاوي عن هذا بأن عبدالله أقدم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأفهم بأفعاله من وائل بن حجر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه المهاجرون ليحفظوا عنه.
ورَوى عن المغيرة أنه سأل إبراهيم النخعي عن حديث وائل فقال إبراهيم: إن كان وائل رآه مرة يفعل ذلك، فقد رآه عبدالله خمسين مرة لا يفعل ذلك. انظر: شرح معاني الآثار (1/ 224، 226).
قال ابن قدامة في المغني (1/ 294): لا ننكر فضل ابن مسعود؛ لكن بحيث يُقدم على أميري المؤمنين عمر وعلي فلا، مع أن ابن مسعود قد تُرك قوله في الصلاة في أشياء؛ منها أنه كان يطبق في الركوع -يضع يديه بين ركبتيه-؛ فلم يؤخذ بفعله وأُخذ برواية غيره في وضع اليدين على الركبتين، وتُركت قراءته وأُخذ بقراءة زيد بن ثابت، وكان لا يرى التيمم للجنب؛ فتُرك ذلك برواية من هو أقل من رواة أحاديثنا وادنى منهم فضلًا، فهاهنا أَوْلَى. اهـ.
5- أخرج مسلم أيضًا (891) وكذا البخاري في كتاب رفع اليدين ص(41) فقرة(25) عن مالك بن الحويرث قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبّر رفع يديه حتى يُحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لم حمده فعل مثل ذلك.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 225) ولم يتعرض له بالنقد كما تعرض لبقية أدلة الجمهور.
6- أخرج البخاري في كتاب رفع اليدين ص(42) فقرة(26)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 213) عن أنس قال: كان رسول لاله صلى الله عليه وسلم يرفع عند الركوع.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 225): وأما حديث أنس بن مالك فهم يزعمون أنه خطأ وأنه لم يرفعه أحد إلا عبدالوهاب الثقفي خاصة، والحفاظ يوقفونه على أنس بن مالك. اهـ.
قال الدارقطني في سننه (1/ 290): لم يروه عن حميد مرفوعًا غير عبدالوهاب؛ والصواب من فعل أنس. اهـ.
7- وأخرج البخاري في كتاب رفع اليدين ص(114) فقرة(110) من طريق إسماعيل بن عياش -إسماعيل بن عياش: ثقة في روايته عن أهل الشام، مُخلط في غيرهم، صرح بذلك أحمد وابن معين وابن المديني والبخاري والفلاس.. وغيرهم. راجع: تهذيب الكمال (3/ 163)، وميزان الاعتدال (1/ 240)- عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر يفتتح الصلاة وحين يركع.
وأعله الطحاوي كما في شرح معاني الآثار (1/ 225) بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين وليست حجة، فكيف يحتجون على خصمهم بما لو احتج بمثله عليهم لم يسوغوه إياه؟!.
لكن للحديث طرق أخرى: منها ما أخرجه أبو داود في سننه (738) من طريق ابن جريج عن ابن شهاب عن أببي بكر ابن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة مرفوعًا. وأخرجه ابن عبدالبر كما في التمهيد (6/ 108) من طريق سعيد ابن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة.
وأكتفي بهذا القدر من أدلة الجمهور؛ ففي المسألة -كما قلتُ آنفًا- أحاديث كثيرة، ولعل هذا القدر من الأدلة يوضح أن المسألة لا تصلح أن تكون مثالًا لخبر الواحد فيما تعم به البلوى، وإنما هي ألصق بقاعدة عمل الراوي بخلاف ما رُوي، وقاعدة الترجيح بفقه الراوي، كما ظهر واضحًا من خلال المناقشات السابقة حول الأدلة، والتي تعطينا تصورًا أشمل لكيفية نقد علماء الحنفية للأخبار.
وأختم هذا المثال وذاك الرد بحكايتين طريفتين تتعلقان بمسألة رفع اليدين:
رُوي عن وكيع قال: صليتُ في مسجد الكوفة فإذا أبو حنيفة قائم يُصلي وعبدالله بن المبارك إلى حنبه، فإذا ابن المبارك يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع وأبو حنيفة لا يرفع، فلما فرغوا من الصلاة، قال أبو حنيفة لابن المبارك: يا أبا عبدالرحمن رأيتُك تُكثر رفع اليدين؛ أردت أن تطير. قال له ابن المبارك: يا أبا حنيفة قد رأيتُك ترفع يديك حيت افتتحتَ الصلاة؛ فأردتَ أن تطير. فسكت أبو حنيفة. قال وكيع: رحمة الله على ابن المبارك؛ كان حاضر الجواب. انظر: السنن الكبرى للبيهقي (2/ 28)، وتاريخ بغداد للخطيب (13/ 406)، والثقات لابن حبان (8/ 45)، وكتاب رفع اليدين للبخاري ص(107) فقرة(100).
ورُوي عن سفيان بن عيينة قال: اجتمع الأوزاعي والثوري بمنى، فقال الأوزاعي للثوري: لِمَ لا ترفع يديك في خفض الركوع ورفعه؟ فقال: حدثنا يزيد ابن أبي زياد. فقال الأوزاعي: أَروي لك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارضني بيزيد ابن أبي زياد؟ ويزيد رجل ضعيف، وحديثه مخالف للسنة. فاحْمَرَّ وجه الثوري، فقال الأوزاعي: كأنك كرهتَ ما قلتُ؟ قال الثوري: نعم. فقال الأوزاعي: قم بنا إلى المقام نلتعن أيان على الحق. فتبسم الثوري لما رأى الأوزاعي قد احتد. انظر: السنن الكبرى للبيهقي (2/ 82).

كما وأعزو في الختام إلى هذه المُشاركة:
http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=2921&p=100854&viewfull=1#post100854
وأقتبس منها ما يلي:


وأنصح بالإطلاع العام على كتاب: "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور/ كيلاني محمد خليفة. وخصوصًا الصفحات من (198) إلى (219) مبحث: خبر الواحد فيما تعم به البلوى.

وأعتذر عن الإطالة،،

والله الموفق.
 

آلاء التنجي

:: متابع ::
إنضم
13 ديسمبر 2013
المشاركات
12
التخصص
علم الآثار
المدينة
حلب
المذهب الفقهي
المذهب الحنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله بك أستاذ عمرو وجزاك كل خير
أنا مبتدئة في طلب العلوم الشرعية فأرجو أن يتسع صدركم لسؤالي

فقال مروان: أخبرتني بُسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مسَّ ذكره فليتوضأ).

بحسب معلوماتي البسيطة فإن الأئمة والفقهاء لم يختلفوا في الأحاديث المتواترة فهي قطعية الثبوت، وقد فهمت أن حديث بُسرة بنت صفوان هو خبر آحاد.
ولكنني وجدته في كتاب الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة للسيوطي (حديث رقم 17 الصفحة 11) ، وكذلك وجدته في كتاب نظم المتناثر في الحديث المتواتر للكتاني (حديث رقم 34 الصفحة 65).
فاختلط علي الأمر .. كيف يكون هذا الحديث متواتر وكيف يعتبره الأحناف خبر آحاد ؟
واذا كان هناك خلاف حول الحديث وإسناده فلم أورده السيوطي والكتاني في كتبهم وهم من كبار العلماء ؟
أرجو أن تفسر لي مع كل الشكر والتقدير ..
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله بك أستاذ عمرو وجزاك كل خير
أنا مبتدئة في طلب العلوم الشرعية فأرجو أن يتسع صدركم لسؤالي



بحسب معلوماتي البسيطة فإن الأئمة والفقهاء لم يختلفوا في الأحاديث المتواترة فهي قطعية الثبوت، وقد فهمت أن حديث بُسرة بنت صفوان هو خبر آحاد.
ولكنني وجدته في كتاب الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة للسيوطي (حديث رقم 17 الصفحة 11) ، وكذلك وجدته في كتاب نظم المتناثر في الحديث المتواتر للكتاني (حديث رقم 34 الصفحة 65).
فاختلط علي الأمر .. كيف يكون هذا الحديث متواتر وكيف يعتبره الأحناف خبر آحاد ؟
واذا كان هناك خلاف حول الحديث وإسناده فلم أورده السيوطي والكتاني في كتبهم وهم من كبار العلماء ؟
أرجو أن تفسر لي مع كل الشكر والتقدير ..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

وفيكِ بارك الرحمن وجزاكِ خيرًا.
الحديث لا يصل لمرتبة التواتر اللفظي بحال من الأحوال كما هو موضّح في الأعلى، وقد أسلفنا أن المذهب الشافعي يقول بصحّة هذا الحديث، ومعلوم أن السيوطي -رحمه الله- شافعيٌّ المذهب، فقوله بصحّته أو حتى بتواتره قول لما ترجّح عنده ولا يُلغي الخلاف الثابت في هذا الحديث، وهذا نص كلام الكتاني في النظم:
34- ‏(‏ من مس فرجه فليتوضأ‏)‏‏.‏
- أورده في الأزهار من حديث ‏(‏1‏)‏ بسرة بنت صفوان ‏(‏2‏)‏ وجابر ‏(‏3‏)‏ وأم حبيبة ‏(‏4‏)‏ وسعد بن أبي وقاص ‏(‏5‏)‏ وأبي هريرة ‏(‏6‏)‏ وأم سلمة ‏(‏7‏)‏ وزيد بن خالد الجهني ‏(‏8‏)‏ وابن عمرو ‏(‏9‏)‏ وابن عمر ‏(‏10‏)‏ وعائشة ‏(‏11‏)‏ وابن عباس ‏(‏12‏)‏ وأروى بنت أنيس ‏(‏13‏)‏ وأبي بن كعب ‏(‏14‏)‏ وأنس ‏(‏15‏)‏ وقبيصة ‏(‏16‏)‏ ومعاوية بن حيدة ‏(‏17‏)‏ والنعمان بن بشير سبعة عشر نفساً‏.‏​
‏(‏قلت‏)‏ رأيت في عدة نسخ منها أعني الأزهار نسيته أيضاً ‏(‏18‏)‏ لطلق بن علي إلا أنه عزاه فيها لتخريج الأربعة وفي ذلك نظر فإن الأربعة إنما أخرجوه من حديث بسرة كما عند غير واحد والذي أخرجه من حديث طلق الطبراني عزاه له ابن حجر في تخريج أحاديث الهداية وإن روى عنه خلافه فاضطرب فيه حديثه وفي الباب أيضاً كما قاله الترمذي ‏(‏19‏)‏ أبو أيوب وقد أخرج حديثه ابن ماجة فتم عدد من رواه من الصحابة تسعة عشر نفساً وفي الأزهار بعد عد من رواه ما نصه قال ابن الرفعة في الكفاية قال القاضي أبو الطيب ورد في مس الذكر خاصة أحاديث رواها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الصحابة تسعة عشر نفساً أصح حديث فيها كما قال البخاري حديث بسرة اهـ وقوله تسعة عشر هو كذلك في بعض النسخ بتقديم التاء على السين وفي بعضها سبعة عشر بتقديم السين وبعدها باء موحدة وفي شرح الموطأ للزرقاني ما نصه حديث الوضوء من مس الفرج متواتر رواه سبعة عشر صحابياً نقله ابن الرفعة عن القاضي أبي الطيب وقد عده السيوطي في الأحاديث المتواترة اهـ‏.‏​
وقال أيضاً بعده واعلم أن حديث الوضوء من مس الفرج متواتر أخرجه من سبق أي في كلامه وهم مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزمة وابن الجارود والحاكم الثلاثة في صحاحهم عن بسرة وابن ماجة عن جابر وأم حبيبة والحاكم عن سعد وأبي هريرة وأم سلمة وأحمد عن زيد بن خالد الجهني وابن عمرو والبزار عن ابن عمر وعائشة والبيهقي عن ابن عباس وأروى بنت أنيس وذكره ابن منده عن أبي وأنس وقبيصة ومعاوية بن حيدة والنعمان بن بشير وأصحها كما قال البخاري حديث بسرة اهـ​
وممن صرح بأن حديث بسرة هذا صحيح أحمد وابن معين والترمذي وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهي والحازمي قال بعضهم وهو على شرط البخاري بكل حال وقال ابن عمر ابن عبد البر حديث أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب عليه الوضوء قال فيه ابن السكن من أجود ما روى في هذا الباب نقله عبد الحق في الأحكام وقال ابن يونس حديث إيجاب الوضوء من المس رواه خمسة عشر نفساً من الصحابة من بين رجل وامرأة اهـ وتقدم قول فتح المغيث وكذا الوضوء من مس الذكر قيل إن رواته زادت على ستين اهـ واللّه أعلم وعلى وجوب الوضوء من مسه الأئمة الثلاثة وخالف فيه أبو حنيفة محتجاً بحديث طلق بن علي أنه قال يا رسول اللّه ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ فقال وهل هو إلا بضعة منك أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان وقال الترمذي هو أحسن شيء يروى في هذا الباب وأجيب بأنه منسوخ بحديث بسرة لأنها أسلمت عام الفتح وطلق قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يبني المسجد في السنة الأولى من الهجرة ثم رجع إلى قومه ولم يثبت أنه وفد بعد ذلك‏.‏
قلتُ: ودعوى التواتر لا تثبت بمُجرد الصحة أو بعدد مخارجه لا رواته أو بعدد مُخرجّيه! إلا إذا كان التواتر يثبت بذلك (عنده).. وقد قال بصحّته فقهاء المذهب الشافعي -وغيرهم- لكن لم يدّعي أحدًا تواتره، وإنما انفرد بذلك السيوطي وحده.
والأقرب أنه رُبما قصد بالتواتر المذكور "التواتر المعنوي" لا اللفظي، لأن دعوى التواتر لا تستقيم -كما سبق-، ففي حديث المسح على الخفين -مثلًا، في النظم المتناثر من الحديث المتواتر- ذكر الزرقاني في شرح الموطأ وفي فيض القدير -من كلام ابن الهمام الحنفي نقلًا عن أبي حنيفة- وكذلك الكرخي -كما في شرح العقائد النسفية- "أنه في حيّز المتواتر"، وفي المعلم للمازري بأنه "يلتحق بما هو متواتر في المعنى والمفهوم"، ثم قال الكتاني: "وقد نقله عياض في الإكمال، والنصوص بتواتره كثيرة، ولكن تواتره -كما نقلناه عن المازري وعياض- معنوي لا لفظي، وقد صرح بذلك أيضًا السيوطي في شرحه لألفية العراقي"..
أو أنه بالغ في عدّ هذا الحديث من الأحاديث المتواتر - كما بالغ في عدّ غيره من أخبار الآحاد.. حديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) -مثلًا- عدّه السيوطي من الأحاديث المتواترة -كما ذكر الكتّاني في النُظم- ثم قال الكتاني -بعد أن نقل كلام المنذري في الترغيب "أن الأحاديث التي وردت فيها وإن كان لا يسلم شيء منها عن مقال فإنها تتعاضد بكثرة طرقها وتكتسب قوة"-: "والسيوطي رحمه اللّه بالغ فعدّ الحديث كما ترى في المتواتر". انتهى.

ونقول بأن الخلاف في مثل هذه المسألة سائغ وقويّ إن شاء الله تعالى.

والله أعلى وأعلم.
 

آلاء التنجي

:: متابع ::
إنضم
13 ديسمبر 2013
المشاركات
12
التخصص
علم الآثار
المدينة
حلب
المذهب الفقهي
المذهب الحنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

شكرًا جزيلاً أستاذ عمرو
بارك الله بك وبجهودك
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

السلام عليكم

شكرًا جزيلاً أستاذ عمرو
بارك الله بك وبجهودك
وشكرَ الله لكِ وبارك بكِ وجزاكِ خيرًا.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
إنضم
26 أكتوبر 2015
المشاركات
30
الكنية
أبو محمد
التخصص
دراسات إسلامية
المدينة
السعودية
المذهب الفقهي
السنة والجماعة
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

جهد مبارك شكرا لك

وجزاك الله خيرا
 
إنضم
14 أكتوبر 2017
المشاركات
12
الكنية
أبوحمزة
التخصص
قراءات وعلوم قرآن
المدينة
الاسماعيلية
المذهب الفقهي
الشافعي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)

احسنت
 
أعلى