عمرو بن الحسن المصري
:: نشيط ::
- انضم
- 30 سبتمبر 2012
- المشاركات
- 645
- التخصص
- طالب جامعي
- المدينة
- القاهرة
- المذهب الفقهي
- حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا مُحمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فإن موضوعيّة التعامل مع خلافات الفقهاء تتمثّلُ في التوقّف وعدم الاستعجال في تقرير النتائج والأحكام، فما لم يكن المرءُ مُطمئنًّا إلى ما اهتدى إليه، متيقنًا مما وصل إليه؛ فإنه لا يتبنّى رأيًا أو مذهبًا، لما يترتبُ عن ذلكَ من نتائج علميّة أو دينيّة.
وقد يُخيّل للقارئ المستعجل أن التوقّف في العقل الفقهي عجزٌ وسكونٌ يتعارض مع طبيعة الفكر الاجتهادي، الذي يشترط مؤهلات كافيةً للإجابة عن مُشكلات الحياة وقضاياها، والحقيقة أن العقل الفقهي الواقف أو المُتوقّف إلى أن تتبدّى الحقيقة أمامه واضحةً ليس دونها حجاب هو أشدُّ ما يكون انسجامًا مع ذاته، وأقربُ ما يكون التزامًا بمُقتضيات البحث، وتمسُّكًا بمتطلبات المعرفة ومناهجها في حالته هذه -حالة التوقّف-؛ ذلك أن العَجلةَ في ميدانِ البحثِ عن الحقيقةِ غير محمودة الغبّ ولا مأمونة العواقب، وكيف تستقيم دعوى لا يسندها برهان! وكيف يقوم استقراء على بعض جزئيّاته! ..
ولا بُدّ من التذكير هُنا أن فقهاء الإسلام وهم "يتّفقون" في الجواب أو تقرير الحقائق، كان يسندهم في ذلك خوف الله ورقابته من أن يتجنّوا على الحقيقة العلميّة، أو يفتحوا بابًا للتديّن الخاطئ، باعتبار الفقه فهمًا للدين على ما هو عليه، لا كما يُراد له أن يكونَ.
ولم يكن ضغط الواقع ليُؤثّرَ في تقريرِ المعارف الفقهيّة؛ بل إن كلمة ((لا أدري)) ظلّت تتردد في مجالس الدرس وتنشأ عليها الأجيال، مع التحذير من أن يُؤتى العقل الفقهي من قِبَل الاستعجال وعدم التأنّي، فإذا أخطأ الرجل ((لا أدري)): أُصيبت مقاتله، وقد كتب حافظ المغرب العلاّمة ابن عبدالبر -رحمه الله- فصلًا مُمتعًا في كتابه: جامع بيان العلم. تحت عنوان: "ما يلزم العالم إذا سُئِلَ عمّا لا يدريه من وجوه العلم": (2/ 62- 69)، أكّدَ به أن من العلم والفقه أن يقول الإنسان لما لا يعلم: لا أدري، ومما جاء فيه:
جامع بيان العلم: (2/ 64): سُئِلَ الشعبيّ عن مسألةٍ، فقال: هي زبَّاد هلباء ذات وبر -ربَّاء: يُقال للداهية الصعبة زبَّاء ذات وبر: يعني أنها جمعت بين الشعر والوبر، أراد أنها مسألة مُشكَلَة، شبّهها بالناقة النفور لصعوبتها. راجع: لسان العرب: باب زيب: (1/ 428) ط. الدار المصرية. ومعنى هلباء: أي كثير الشعر، ويُقال: وقعنا في هلبة هلباء: أي في داهية دهياء؛ مثل هلبة الشتاء: أي شدّته. راجع: لسان العرب: باب هلب: (1/ 285- 286)-، لا أحسنها، ولو أُلقيت على بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأعضلت به، وإنما نحنُ في العنوق ولسنَا في النوق. فقال له أصحابه: قد استحيينا لك مما منك. فقال: لكن الملائكة المُقرّبين لم تستحِ حين قالت: (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة: 32].
جامع بيان العلم: (2/ 66): وعن ابن عونٍ قال: قال: كنتُ عند القاسم بن مُحمد -وهو أبو محمد القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحد الفقهاء السبعة-؛ إذ جاءه رجلٌ فسألَهُ عن شئ. فقال القاسم: لا أُحسِنُه. فجعل الرجل يقول: إني رفعتُ إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أُحسنه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي ألزمها، فوالله ما رأيتك أنبل منك اليوم. فقال القاسم: والله لأن يُقطع لساني أحب إليًّ من أن أتكلّم بما لا علم لي به.
جامع بيان العلم: (2/ 66- 67): وقاله عبدالرحمن بن مهديّ: كُنَّا عند مالكٍ بن أنس؛ فجاءه رجلٌ فقال له: يا أبا عبدالله جئتُكَ من مسيرة ستَّة أشهر، حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها. قال: فسل. فسأله الرجل عن المسألة. فقال: لا أُحسنها. قال: فبُهِتَ الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شئ. فقال: أيُّ شئ أقول لأه بلدي إذا رجعتُ إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: لا أُحسِنُ.
ولك أن تنظر في حال الفتوى في أغلب القنوات الفضائيَّة في أيامنا هذه لترى أن كلمة ((لا أدري)) التي ورَّثها عُلمَاءُ الإسلام تلاميذهم، وبثُّوهَا في مُصنّفاتهم إخلاصًا واحترامًا للحقيقة العلميّة قد غابت شمسها واختفت أنوارها؛ بل لم يعُد لها وجودٌ! ولكَ أن تسألَ معي عن: أي الفريقين أهدى وأعلمُ وأقربُ للصوابِ؟!
والأمر ذاته يتكرر في البحوث والدراسات الأكاديميّة: فمن النادر جدًّا أن يَتَوَقَّفَ باحثٌ يكتب رسالة أو أطروحة في مسألةٍ أو قضيةٍ؛ لأنه إن فعلَ ذلك قد يُبخس الدرجة أو يُقال له: قُل فيها برأيك! وقد تعوَّد بعض الطُلاب أو عُوِّدوا الترجيح في المسائل الخلافيّة، وهم في مرحلة التدرّج دون أدنى إلمام بمباحث التعارض والترجيح، أو معايير التغليب والموازنة بين المصالح والمفاسد، وَلَيْتَهُم فعلوا ذلك دربةً وتمرينًا؛ ولكنهم يفعلونه ورُبما اعتقدوه دينًا وذهبًا، وقد يمضي أحدهم فيُفتي به ويعلِّمُه الناس! ..
ومن هذا القبيل ما كُنَّا نسمعُ أحدهم إذا سُئِلَ عن مسألةٍ اختلف فيها العُلماء؛ فيُبادر مُجيبًا السائل: مسألة فيها قولان؛ استحياءً أن يقول لِمَا لا يعلم: لا أعلم، وفي ظَنِّهِ أنه أَجَاب، وهو يجهل أن الاختلاف ليس من حُجج الإباحة كما هو مُقَرَّرٌ في ضوابط الخِلاف.
ويُراجع: الأساسُ في فقه الخِلاف، للدكتور/ أبو أمامة نوّار بن الشّلي. ص(212- 214).
والله أعلم.