شهاب الدين الإدريسي
:: عضو مؤسس ::
- إنضم
- 20 سبتمبر 2008
- المشاركات
- 376
- التخصص
- التفسير وعلوم القرآن
- المدينة
- مكناس
- المذهب الفقهي
- مالكي
هو مقال أكتبه على مهل، أحاول فيه نفض الغبار عن قاعدة من القواعد الأصولية، ربما أصبحت منسية، لقلة أو نذرة ذكرها فلا نسمع إلا بسد الذرائع هنا وهناك وهنالك، فتوسع البعض في فهمها واستعمالها وتطبيقها على نحو يتناقض مع الأصل (الإباحة) فتوسعت دائرة التحريم وضيقت أختها، بالرغم من وجود خلاف حول صحة هذا الأصل، وليس هنا مقام بسط ذلك، إنما نتركه لإخواننا الشافعية والظاهرية.
اعلم -أكرمك الله- أن الذرائع كما تسد تفتح، ولما كان سدها هو الأكثر كان هو المقصود عند إطلاق الذرائع.
أما فتح الذرائع، فنظرا لقلة مواطنه، لا نجد العلماء يفصلون القول فيه، كما بالنسبة لقاعدة السد، وإنما تكون لهم إشارة خفيفة إليه.
وفتح الذرائع هو عكس سد الذرائع، ومعناه الأخذ بالوسائل الممنوعة إذا كانت تفضي إلى مآل مطلوب شرعا، نظرا لما فيه من مصلحة. فالوسيلة الممنوعة المؤدية إلى مآل جائز، كان من المفروض أن يكون حكمها المنع تغليبا لجانبه على جانب الجواز، ولأن الإسلام يرفض مبدأ الغاية تجوز الوسيلة، أو مبدأ الغاية تبرر الوسيلة كما قال "ميكيافيل" المأفون، فلا يقبل -الإسلام- من الوسائل إلى الجائز أو المطلوب إلا الشريف الطيب المشروع، ولكن الإسلام لم يغفل عن ضرورات الحياة وضعف الإنسان أمامها، فقدّر الضرورة القاهرة وأباح للمسلم أن يفعل من المحرمات ما يدفع عنه الضرورة ويقيه الهلاك.
إذاً فقد جوز الإسلام للمكلف الوسيلة الممنوعة المؤدية إلى مآل جائز، ولكن بشرط أن يرافقها حال ضرورة ملجئة إن لم يكن هناك طريق آخر لتحقيق المقصود الجائز أو المطلوب، ويقدر الجواز بمقدار الضرورة الملجئة، وهذا ما قصده الله القرآن حين قال : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (البقرة 172)، فالآية قيدت المضطر أن يكون "غير باغ ولا عاد" وفسر هذا بأن يكون غير باغ للذة طالب لها، ولا عاد حد الضرورة، من هذا القيد أخذ الفقهاء مبدأ آخر هو : الضرورة تقدر بقدرها.
فالإنسان وإن خضع لداعي الضرورة، لا ينبغي أن يستسلم لها، ويلقي إليها بزمام نفسه، بل يجب أن يظل مشدودا إلى أصل الحلال باحثا عنه، حتى لا يتمرئ الحرام أو يستسهله بدافع الضرورة.
والإسلام بإباحته المحظورات عند الضرورات، إنما يساير في ذلك روحه العامة، وقواعده الكلية، تلك هي روح اليسر الذي لا يشوبه عسر، والتخفيف الذي وضع به عن الأمة الآصار والأغلال التي كانت من قبلها الأمم، وصدق الله القائل : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }(البقرة 184).
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين3/3: [ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها...]
وإذا رجعنا إلى شريعتنا الغراء نجد أن الشارع أوجب أمورا لا لعينها، بل لكونها وسائل وذرائع لأمور أخرى ثبت طلبه لها، مثل قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } (الجمعة9)، فأمر سبحانه بالسعي إلى صلاة الجمعة، وهو وسيلة غير مقصودة لذاتها، وإنما كان الأمر بها لأنها ذريعة إلى إقامة الصلاة المفروضة بمثل قوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } (البقرة 110)، وكذلك يأمر بترك البيع عند النداء لصلاة الجمعة، والنهي عنه ليس مقصودا لذات البيع، وقد ثبت جوازه ومشروعيته بقوله تعالى: {ْ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْع } (البقرة 274)، بل لتحصيل فريضة السعي إلى الصلاة.
كما نجد الشارع يثيب على فعل الوسيلة ومباشرة مقدمات الخير في قوله تعالى: { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } (التوبة121)
وهو نص في أن الله سبحانه يثيب المجاهد في سبيل الله على ما يناله من جوع، أو عطش، او تعب، ولو لم تكن من صنعه، لأن حصولها إنما كان بسبب توسله إلى الجهاد بالكر والفر والخروج من الوطن والتعرض للمخاطر في الكيد للعدو.
قال القرافي في الفروق 2/32 : [ وينبه على اعتبار الوسائل قوله تعالى -وذكر الآية- ثم قال: فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم، لأنهما حصلا بسبب التوسل إلى الجهاد، الذي هو وسيلة لاعتزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة إلى الوسيلة ].
يتبع
اعلم -أكرمك الله- أن الذرائع كما تسد تفتح، ولما كان سدها هو الأكثر كان هو المقصود عند إطلاق الذرائع.
أما فتح الذرائع، فنظرا لقلة مواطنه، لا نجد العلماء يفصلون القول فيه، كما بالنسبة لقاعدة السد، وإنما تكون لهم إشارة خفيفة إليه.
وفتح الذرائع هو عكس سد الذرائع، ومعناه الأخذ بالوسائل الممنوعة إذا كانت تفضي إلى مآل مطلوب شرعا، نظرا لما فيه من مصلحة. فالوسيلة الممنوعة المؤدية إلى مآل جائز، كان من المفروض أن يكون حكمها المنع تغليبا لجانبه على جانب الجواز، ولأن الإسلام يرفض مبدأ الغاية تجوز الوسيلة، أو مبدأ الغاية تبرر الوسيلة كما قال "ميكيافيل" المأفون، فلا يقبل -الإسلام- من الوسائل إلى الجائز أو المطلوب إلا الشريف الطيب المشروع، ولكن الإسلام لم يغفل عن ضرورات الحياة وضعف الإنسان أمامها، فقدّر الضرورة القاهرة وأباح للمسلم أن يفعل من المحرمات ما يدفع عنه الضرورة ويقيه الهلاك.
إذاً فقد جوز الإسلام للمكلف الوسيلة الممنوعة المؤدية إلى مآل جائز، ولكن بشرط أن يرافقها حال ضرورة ملجئة إن لم يكن هناك طريق آخر لتحقيق المقصود الجائز أو المطلوب، ويقدر الجواز بمقدار الضرورة الملجئة، وهذا ما قصده الله القرآن حين قال : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (البقرة 172)، فالآية قيدت المضطر أن يكون "غير باغ ولا عاد" وفسر هذا بأن يكون غير باغ للذة طالب لها، ولا عاد حد الضرورة، من هذا القيد أخذ الفقهاء مبدأ آخر هو : الضرورة تقدر بقدرها.
فالإنسان وإن خضع لداعي الضرورة، لا ينبغي أن يستسلم لها، ويلقي إليها بزمام نفسه، بل يجب أن يظل مشدودا إلى أصل الحلال باحثا عنه، حتى لا يتمرئ الحرام أو يستسهله بدافع الضرورة.
والإسلام بإباحته المحظورات عند الضرورات، إنما يساير في ذلك روحه العامة، وقواعده الكلية، تلك هي روح اليسر الذي لا يشوبه عسر، والتخفيف الذي وضع به عن الأمة الآصار والأغلال التي كانت من قبلها الأمم، وصدق الله القائل : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }(البقرة 184).
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين3/3: [ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها...]
وإذا رجعنا إلى شريعتنا الغراء نجد أن الشارع أوجب أمورا لا لعينها، بل لكونها وسائل وذرائع لأمور أخرى ثبت طلبه لها، مثل قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } (الجمعة9)، فأمر سبحانه بالسعي إلى صلاة الجمعة، وهو وسيلة غير مقصودة لذاتها، وإنما كان الأمر بها لأنها ذريعة إلى إقامة الصلاة المفروضة بمثل قوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } (البقرة 110)، وكذلك يأمر بترك البيع عند النداء لصلاة الجمعة، والنهي عنه ليس مقصودا لذات البيع، وقد ثبت جوازه ومشروعيته بقوله تعالى: {ْ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْع } (البقرة 274)، بل لتحصيل فريضة السعي إلى الصلاة.
كما نجد الشارع يثيب على فعل الوسيلة ومباشرة مقدمات الخير في قوله تعالى: { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } (التوبة121)
وهو نص في أن الله سبحانه يثيب المجاهد في سبيل الله على ما يناله من جوع، أو عطش، او تعب، ولو لم تكن من صنعه، لأن حصولها إنما كان بسبب توسله إلى الجهاد بالكر والفر والخروج من الوطن والتعرض للمخاطر في الكيد للعدو.
قال القرافي في الفروق 2/32 : [ وينبه على اعتبار الوسائل قوله تعالى -وذكر الآية- ثم قال: فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم، لأنهما حصلا بسبب التوسل إلى الجهاد، الذي هو وسيلة لاعتزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة إلى الوسيلة ].
يتبع
التعديل الأخير: