شهاب الدين الإدريسي
:: عضو مؤسس ::
- إنضم
- 20 سبتمبر 2008
- المشاركات
- 376
- التخصص
- التفسير وعلوم القرآن
- المدينة
- مكناس
- المذهب الفقهي
- مالكي
المصلحة المرسلة هي من أهم الأصول التي تميز بها المذهب المالكي، وهي بمثابة تطبيق لروح الشريعة ومقاصدها، وليست خروجا عليها أو انفلاتا منها، وهي بذلك تحقق نوعا من المرونة والتكيف داخل المنظومة الإسلامية لمواجهة كل المستجدات والنوازل التي تطرأ على مختلف مرافق الحياة، مما يؤكد صلاحية هذه الشريعة وخلودها على مر الأيام والأزمان.
باستقرائنا لموارد الشريعة الإسلامية، وبتتبعنا لكليات أصولها وجزئيات نصوصها، نستخلص أن المقصد العام من التشريع الإسلامي يدور حول جلب المصالح ودرء المفاسد للفرد والمجتمع على حد سواء. والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء الآية 107..
في معنى المصلحة
عرف الأصوليون المصلحة اصطلاحا بأنها: "كل منفعة قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأعراضهم، أو كانت ملائمة لمقصوده وفق شروط وضوابط اتفقوا عليها. وهم يقسمون هذه المصلحة تقسيمات عديدة وفق اعتبارات معينة، أهمها:
*- من حيث اعتبار الشارع لها أو عدم اعتبارها: وهي من هذه الزاوية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
المصلحة المعتبرة: وهي التي اعتبرها الشارع بنص أو إجماع أو بترتيب الحكم على وفقها في صورة بنص أو إجماع. وهي بهذا المعنى حجة لا إشكال فيها.
والمصلحة الملغاة: وهي ما شهد الشرع بإلغائها، وهي باطلة باتفاق العلماء ولا يجوز الإحتجاج بها.
أما المصلحة المسكوت عنها: فهي تلك المصلحة التي لم تشهد لها النصوص الخاصة بالإعتبار أو الإلغاء.
فإن كانت هذه المصلحة ملائمة لتصرفات الشارع بان يكون لها جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل خاص، فهو "الإستدلال المرسل" المسمى بـ "المصالح المرسلة".
وتقسم المصالح باعتبار قوتها في ذاتها: وهي بحسب هذا الإعتبار ثلاثة أقسام : ضرورية وحاجية وتحسينية.
كما تقسم المصلحة من حيث العموم والخصوص، وأيضا من حيث تحقق نتائجها أوعدم تحققها. أي أن المصلحة إما أن يكون تحققها قطعيا، وإما أي يكون ظنيا وإما أن يكون وهميا. فإن كان تحققها قطعيا أو ظنيا اعتبر ذلك الفعل شرعيا، وإن كان وهميا فلا يحتج بها.
وتظهر أهمية هذه التقسيمات الأربعة عند تعارض مصلحتين في مناط واحد، وعندها ينظر إلى هذه الجوانب الأربعة على حسب الترتيب: أي ينظر أولا: إلى اعتبار الشارع لها. وثانيا: إلى قوتها في ذاتها. وثالثا إلى عمومها وخصوصها. ثم رابعا إلى مدى تحقق نتائجها في الخارج.
المصلحة المرسلة
نظر العلماء إلى المصلحة المرسلة من زوايا مختلفة وعبروا عنها باصطلاحات مختلفة؛ فبعضهم عبر عنها بـ "المناسب المرسل"، وبعضهم بـ "الإستصلاح"، وبعضهم بـ "الإستدلال".
والإرسال لغة هو: مجرد الإطلاق. فتقول: أرسلت الناقة إذا أطلقتها. أما اصطلاحا فقد عرفت المصلحة المرسلة بعدة تعريفات يمكن إجمالها في القول بأن "المصالح المرسلة هي كل منفعة ملائمة لمقصد الشارع وما تفرع عنه من قواعد كلية، ولم يشهد لها نص خاص بالاعتبار أو الإلغاء". (1)
ومن هذا التعريف يمكن أن نستخلص ثلاثة قيود تميز المصلحة المرسلة عن غيرها من المصالح وهي:
الأول: أن لا يشهد لها نص خاص بالاعتبار: يخرج بهذا القيد المصالح التي شهدت لها النصوص الخاصة بالاعتبار.
الثاني: أن لا يشهد لها نص خاص بالإلغاء، وهذا القيد يدل على عدم مصادمتها للنصوص الشرعية الخاصة، من أجل إخراج المصالح الموهومة التي جاءت النصوص على خلافها.. مثل القول بإباحة الربا للضرورة الاقتصادية..
الثالث: أن تكون ملائمة لمقصود الشارع وما تفرع عنه من قواعد كلية استقرئت من مجموع النصوص، وبهذا القيد تتميز المصالح المرسلة عن المصالح المعتبرة التي شهدت النصوص الخاصة لعينها بالإعتبار.
موقف العلماء من المصالح المرسلة
اتفق العلماء على عدم جواز "الاستصلاح" في أحكام العبادات؛ لأنها تعبدية وليس للعقل مجال لإدراك المصلحة الجزئية لكل منها. والمقدرات كالحدود والكفارات وفروض الإرث وشهور العدة بعد الموت أو الطلاق، وكل ما شرع محددا واستأثر الشارع بعلم المصلحة فيما حدد به.
ويمكن حصر أقوال العلماء في المصلحة في مذهبين:
المذهب الأول : المانعون من الاحتجاج بالمصالح المرسلة: وقد ذهب إلى هذا الرأي كل من الباقلاني والآمدي وابن الحاجب وابن تيمية...). ومستندهم في ذلك عدم وجود دليل من الكتاب والسنة يدل على جواز العمل بها، أو على عدم اعتبارها..
المذهب الثاني : وهم الآخذون بها، وإن اختلفوا في التسمية وضوابط العمل بها، وهم المالكية على ما هو مشهور، وجمهور العلماء عند التحقيق.
إلا أن ما يميز المذهب المالكي هنا عن غيره من المذاهب هو عد المصلحة المرسلة دليلا مستقلا، منفصلا عن باقي الأدلة. (2) بخلاف المذاهب الأخرى التي أدرجتها تحت دليل من الأدلة المتفق عليها كالقياس على ما هو عليه الجمهور مثل الحنفية والشافعية والحنابلة، أو إرجاعها لمقصود الشارع الذي يدل عليه الكتاب والسنة والإجماع، على ما ذهب إليه الإمام الغزالي.
واتفق المالكية على اشتراط ضابطين لاعتبار المصالح المرسلة: الأول: أن تكون معقولة المعنى في ذاتها جارية على الأوصاف المناسبة، بحيث إذا عرضت على أهل العقول السليمة تلقتها بالقبول. وبهذا القيد يتضح أن مجال العمل بالمصالح المرسلة يتعلق بقسم المعاملات خاصة، دون قسم العبادات لأنها غير معقولة المعنى في الغالب.
والثاني أن تكون ملائمة لمقصود الشارع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا تعارض دليلا من أدلته القطعية (3) ..
وصفوة القول إن الأخذ بالمصلحة المرسلة مبدأ اتفقت جميع المذاهب في الأخذ بها خلافا للظاهرية. وهو ما عبر عنه القرافي بقوله: " وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا، وإن افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وفرقوا بين المسألتين، لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب" (4) .
معارضة المصلحة المرسلة
إذا كانت من شروط الاحتجاج بالمصلحة المرسلة هي عدم مصادمتها للنص الخاص. فإن معارضة المصلحة المرسلة للنص القطعي باطلة باتفاق جميع الأصوليين إلا الطوفي، فتكون آنذاك من قبيل المصالح الملغاة؛ لأنه لا يمكن للنص القطعي أن يعارض مصلحة ملائمة لمقصود الشارع.
أما إن عارضت نصا ظنيا محتملا، من ناحية الدلالة ليشمل عمومات القرآن، أو من ناحية الثبوت ليشمل خبر الآحاد؛ فإن هذه المعارضة هي محل اختلاف الأصوليين.
فإن كانت المعارضة بين المصلحة والنص الظني كلية من كل وجه بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فالأصل تقديم النص الظني عليها، وقد استثنى بعضهم تقديمها عليه وفق شروط معينة، كأن تستند إلى قاعدة كلية قطعية ويتجرد النص الظني عن استناده إلى أية قاعدة من القواعد، فعندها تقدم عليه على ما ذهب إليه المالكية.
وأما إن كانت المعارضة جزئية، أو من وجه، كأن يقتضي النص عموما، وتقتضي هي خصوصا، أو يقتضي النص إطلاقا، وتقتضي المصلحة تقييدا، فهو أيضا محل بحث عند العلماء؛ فبعضهم يرى تخصيص النص أو تفسيره بالمصلحة المرسلة، وبعضهم يرى خلاف ذلك.
لذا يمكن القول بأن التخصيص بالمصلحة المرسلة، هو تعطيل مؤقت لفرد من أفراد العموم لحاجة أو مصلحة اقتضت ذلك. فإذا زالت الحاجة رجع ذلك الفرد المستثنى إلى حكمه الأصلي، وفي هذا خير دليل على أن التشريع الإسلامي لا يعرف العجز والجمود عند نزول النوازل، وتغير الظروف والأحوال (5) .
-----------------------------------------------------
الهوامش:
(1)- المصالح المرسلة وأثرها في مرونة الفقه الإسلامي، ص 59. د. محمد أحمد بوركاب. دار البحوث الإسلامية وإحياء التراث. الطبعة الأولى: 1423هـ/2002م
(2)- الموافقات في أصول الأحكام، للشاطبي 2/39، تحقيق عبد الله دراز. دار المعرفةـ بيروت. الاعتصام للشاطبي، 2/11-115،ضبطه وصححه أحمد محمد الشافي. دار الكتب العلمية، بيروت/ الطبعة الثانية: 1411هـ/1981م. مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، للشريف التلمساني، ص 150.دار الكتب العلمية، طبعة: 1401هـ/1981م. شرح تنقيح الفصول، لشهاب الدين القرافي، ص 446، تحقيق طه عبد الرؤوف سعيد. دار الفكر، الطبعة الأولى: 1393هـ/1973م.
(3)- انظر الموافقات، للشاطبي، ج2/ 306 وما بعدها. الاعتصام: ج2/ ص 129.
(4) - شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص 394
(5)- انظر تفصيل هذا الخلاف في: المصالح المرسلة وأثرها في مرونة الفقه الإسلامي، محمد أحمد بوركاب، ص 401.وما بعدها.
باستقرائنا لموارد الشريعة الإسلامية، وبتتبعنا لكليات أصولها وجزئيات نصوصها، نستخلص أن المقصد العام من التشريع الإسلامي يدور حول جلب المصالح ودرء المفاسد للفرد والمجتمع على حد سواء. والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء الآية 107..
في معنى المصلحة
عرف الأصوليون المصلحة اصطلاحا بأنها: "كل منفعة قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأعراضهم، أو كانت ملائمة لمقصوده وفق شروط وضوابط اتفقوا عليها. وهم يقسمون هذه المصلحة تقسيمات عديدة وفق اعتبارات معينة، أهمها:
*- من حيث اعتبار الشارع لها أو عدم اعتبارها: وهي من هذه الزاوية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
المصلحة المعتبرة: وهي التي اعتبرها الشارع بنص أو إجماع أو بترتيب الحكم على وفقها في صورة بنص أو إجماع. وهي بهذا المعنى حجة لا إشكال فيها.
والمصلحة الملغاة: وهي ما شهد الشرع بإلغائها، وهي باطلة باتفاق العلماء ولا يجوز الإحتجاج بها.
أما المصلحة المسكوت عنها: فهي تلك المصلحة التي لم تشهد لها النصوص الخاصة بالإعتبار أو الإلغاء.
فإن كانت هذه المصلحة ملائمة لتصرفات الشارع بان يكون لها جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل خاص، فهو "الإستدلال المرسل" المسمى بـ "المصالح المرسلة".
وتقسم المصالح باعتبار قوتها في ذاتها: وهي بحسب هذا الإعتبار ثلاثة أقسام : ضرورية وحاجية وتحسينية.
كما تقسم المصلحة من حيث العموم والخصوص، وأيضا من حيث تحقق نتائجها أوعدم تحققها. أي أن المصلحة إما أن يكون تحققها قطعيا، وإما أي يكون ظنيا وإما أن يكون وهميا. فإن كان تحققها قطعيا أو ظنيا اعتبر ذلك الفعل شرعيا، وإن كان وهميا فلا يحتج بها.
وتظهر أهمية هذه التقسيمات الأربعة عند تعارض مصلحتين في مناط واحد، وعندها ينظر إلى هذه الجوانب الأربعة على حسب الترتيب: أي ينظر أولا: إلى اعتبار الشارع لها. وثانيا: إلى قوتها في ذاتها. وثالثا إلى عمومها وخصوصها. ثم رابعا إلى مدى تحقق نتائجها في الخارج.
المصلحة المرسلة
نظر العلماء إلى المصلحة المرسلة من زوايا مختلفة وعبروا عنها باصطلاحات مختلفة؛ فبعضهم عبر عنها بـ "المناسب المرسل"، وبعضهم بـ "الإستصلاح"، وبعضهم بـ "الإستدلال".
والإرسال لغة هو: مجرد الإطلاق. فتقول: أرسلت الناقة إذا أطلقتها. أما اصطلاحا فقد عرفت المصلحة المرسلة بعدة تعريفات يمكن إجمالها في القول بأن "المصالح المرسلة هي كل منفعة ملائمة لمقصد الشارع وما تفرع عنه من قواعد كلية، ولم يشهد لها نص خاص بالاعتبار أو الإلغاء". (1)
ومن هذا التعريف يمكن أن نستخلص ثلاثة قيود تميز المصلحة المرسلة عن غيرها من المصالح وهي:
الأول: أن لا يشهد لها نص خاص بالاعتبار: يخرج بهذا القيد المصالح التي شهدت لها النصوص الخاصة بالاعتبار.
الثاني: أن لا يشهد لها نص خاص بالإلغاء، وهذا القيد يدل على عدم مصادمتها للنصوص الشرعية الخاصة، من أجل إخراج المصالح الموهومة التي جاءت النصوص على خلافها.. مثل القول بإباحة الربا للضرورة الاقتصادية..
الثالث: أن تكون ملائمة لمقصود الشارع وما تفرع عنه من قواعد كلية استقرئت من مجموع النصوص، وبهذا القيد تتميز المصالح المرسلة عن المصالح المعتبرة التي شهدت النصوص الخاصة لعينها بالإعتبار.
موقف العلماء من المصالح المرسلة
اتفق العلماء على عدم جواز "الاستصلاح" في أحكام العبادات؛ لأنها تعبدية وليس للعقل مجال لإدراك المصلحة الجزئية لكل منها. والمقدرات كالحدود والكفارات وفروض الإرث وشهور العدة بعد الموت أو الطلاق، وكل ما شرع محددا واستأثر الشارع بعلم المصلحة فيما حدد به.
ويمكن حصر أقوال العلماء في المصلحة في مذهبين:
المذهب الأول : المانعون من الاحتجاج بالمصالح المرسلة: وقد ذهب إلى هذا الرأي كل من الباقلاني والآمدي وابن الحاجب وابن تيمية...). ومستندهم في ذلك عدم وجود دليل من الكتاب والسنة يدل على جواز العمل بها، أو على عدم اعتبارها..
المذهب الثاني : وهم الآخذون بها، وإن اختلفوا في التسمية وضوابط العمل بها، وهم المالكية على ما هو مشهور، وجمهور العلماء عند التحقيق.
إلا أن ما يميز المذهب المالكي هنا عن غيره من المذاهب هو عد المصلحة المرسلة دليلا مستقلا، منفصلا عن باقي الأدلة. (2) بخلاف المذاهب الأخرى التي أدرجتها تحت دليل من الأدلة المتفق عليها كالقياس على ما هو عليه الجمهور مثل الحنفية والشافعية والحنابلة، أو إرجاعها لمقصود الشارع الذي يدل عليه الكتاب والسنة والإجماع، على ما ذهب إليه الإمام الغزالي.
واتفق المالكية على اشتراط ضابطين لاعتبار المصالح المرسلة: الأول: أن تكون معقولة المعنى في ذاتها جارية على الأوصاف المناسبة، بحيث إذا عرضت على أهل العقول السليمة تلقتها بالقبول. وبهذا القيد يتضح أن مجال العمل بالمصالح المرسلة يتعلق بقسم المعاملات خاصة، دون قسم العبادات لأنها غير معقولة المعنى في الغالب.
والثاني أن تكون ملائمة لمقصود الشارع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا تعارض دليلا من أدلته القطعية (3) ..
وصفوة القول إن الأخذ بالمصلحة المرسلة مبدأ اتفقت جميع المذاهب في الأخذ بها خلافا للظاهرية. وهو ما عبر عنه القرافي بقوله: " وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا، وإن افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وفرقوا بين المسألتين، لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب" (4) .
معارضة المصلحة المرسلة
إذا كانت من شروط الاحتجاج بالمصلحة المرسلة هي عدم مصادمتها للنص الخاص. فإن معارضة المصلحة المرسلة للنص القطعي باطلة باتفاق جميع الأصوليين إلا الطوفي، فتكون آنذاك من قبيل المصالح الملغاة؛ لأنه لا يمكن للنص القطعي أن يعارض مصلحة ملائمة لمقصود الشارع.
أما إن عارضت نصا ظنيا محتملا، من ناحية الدلالة ليشمل عمومات القرآن، أو من ناحية الثبوت ليشمل خبر الآحاد؛ فإن هذه المعارضة هي محل اختلاف الأصوليين.
فإن كانت المعارضة بين المصلحة والنص الظني كلية من كل وجه بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فالأصل تقديم النص الظني عليها، وقد استثنى بعضهم تقديمها عليه وفق شروط معينة، كأن تستند إلى قاعدة كلية قطعية ويتجرد النص الظني عن استناده إلى أية قاعدة من القواعد، فعندها تقدم عليه على ما ذهب إليه المالكية.
وأما إن كانت المعارضة جزئية، أو من وجه، كأن يقتضي النص عموما، وتقتضي هي خصوصا، أو يقتضي النص إطلاقا، وتقتضي المصلحة تقييدا، فهو أيضا محل بحث عند العلماء؛ فبعضهم يرى تخصيص النص أو تفسيره بالمصلحة المرسلة، وبعضهم يرى خلاف ذلك.
لذا يمكن القول بأن التخصيص بالمصلحة المرسلة، هو تعطيل مؤقت لفرد من أفراد العموم لحاجة أو مصلحة اقتضت ذلك. فإذا زالت الحاجة رجع ذلك الفرد المستثنى إلى حكمه الأصلي، وفي هذا خير دليل على أن التشريع الإسلامي لا يعرف العجز والجمود عند نزول النوازل، وتغير الظروف والأحوال (5) .
-----------------------------------------------------
الهوامش:
(1)- المصالح المرسلة وأثرها في مرونة الفقه الإسلامي، ص 59. د. محمد أحمد بوركاب. دار البحوث الإسلامية وإحياء التراث. الطبعة الأولى: 1423هـ/2002م
(2)- الموافقات في أصول الأحكام، للشاطبي 2/39، تحقيق عبد الله دراز. دار المعرفةـ بيروت. الاعتصام للشاطبي، 2/11-115،ضبطه وصححه أحمد محمد الشافي. دار الكتب العلمية، بيروت/ الطبعة الثانية: 1411هـ/1981م. مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، للشريف التلمساني، ص 150.دار الكتب العلمية، طبعة: 1401هـ/1981م. شرح تنقيح الفصول، لشهاب الدين القرافي، ص 446، تحقيق طه عبد الرؤوف سعيد. دار الفكر، الطبعة الأولى: 1393هـ/1973م.
(3)- انظر الموافقات، للشاطبي، ج2/ 306 وما بعدها. الاعتصام: ج2/ ص 129.
(4) - شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص 394
(5)- انظر تفصيل هذا الخلاف في: المصالح المرسلة وأثرها في مرونة الفقه الإسلامي، محمد أحمد بوركاب، ص 401.وما بعدها.