رد: عن فقد شروط التحقيق فى المذاهب فى عصرنا ..
لعدة أسباب منها عدم تحكيم الشريعة فى دول اسلامية كثيرة وأسباب أخرى
أنا أتفق مع هذا الطرح ، فعدم التحاكم إلى الشريعة وجّه كثيراً من الطلبة إلى دراسة القانون الوضعي ، وهؤلاء الطلبة كانوا يتجهون قبل ذلك إلى الدراسة الشرعية ـ من أراد منهم أن يلتحق بالقضاء ـ . لذا ترى في بعض الدول التي تطبق الشريعة ـ ولو بشكل مختل ـ يتجه حتى طلبة المحاماة إلى التفقه الشرعي ودراسة القوانين الوضعية بشكل أكثر انضباطاً منه في البلاد التي تُحصر فيه الشريعة في (قانون الأسرة) .
وأيضاً في الدول الإسلامية قديماً كان الجميع يشعر باحتيجاه إلى فقيه يرجعون إليه في فض النزاعات بينهم ولو لم يكن قاضياً ، كالمفتيين والمحكمين ، وكان كثير من الناس يسعى لذلك إما طلباً للمعاش أو تصدر المجالس ، ثم يكتب الله لهم الإخلاص ، ثم يكونون هم بعد ذلك من أسباب لجوء غيرهم إلى هذه الدراسات.
وأيضاً التضييق على الفقهاء والمتفقهين في كثير من البلدان سبب ذلك، ومن صور التضييق سلب الأوقاف التي كانت مدارس الفقه المشهورة تعتمد عليها كالأزهر والزيتونة ومدارس الفقه في غيرها من البلدان، وهذه الأوقاف كانت عوناً كبيراً على الدراسة المذهبية ، لأن كثيرا منها كان يوقف على طلبة المذاهب خصوصاً ، فترى من يوقف وقفاً على طلبة المذهب الحنفي وآخر على طلبة المذهب الشافعي وهكذا.
وهذا مما يرفع عبئاً وهماً عن قاصد التفقه وعن الداعي إليه.
وكذا مرت البلاد الإسلامية بفترة تنفير شديدة من الإسلام ككل في بعض البلاد ، ومن التدين بشكل خاص في بعض آخر ، وتحميل الإسلام أعباء التخلف في العالم الإسلامي ، وقد عايشت ذلك في عدن فترة قصيرة من عمري لم تسمح بإدراك الأثر في حينه ، لكني رجل سؤول ، فعلمت أن مدارس البيحاني مثلاً أغلقت وتوقف ـ بشكل رسمي من قبل الدولة ـ التعليم الشرعي فيها وغيرت المناهج لتصير المواد الشرعية وما يتعلق بها ثانوية لا تؤثر في المحصلة العامة للطالب إلا يسيراً .
كما علمتُ أن عامة طلبة الشيخ الغرياني تمت ملاحقتهم وتصفيتهم كالشيخ البيحاني الذي خرج من عدن فاراً بنفسه والباحميش وأحمد كريم بخش الذين الذين أكرما بالشهادة ـ كما نرجوه لهم ـ وغيرهم ، فمما لا شك فيه أن مثل هذه البيئة التي تنتج جيلاً لا يعلم عن الإسلام شيئاً له وزن لا تنشئ جيلاً متعطشاً لتتميم دراسته الشرعية ، إذ كيف يشعر برغبة في تميم ما لم يبدأه أصلاً.
وأخيرا بعد البعد الشديد عن الشريعة في مناهج الدول العربية والإسلامية ظهرت صحوة إسلامية ارتبطت ابتداءً بالتنفير من التقليد والتمذهب ، وكان لها الأثر الأعظم في توجه شباب الدعوة الكُثُر إلى النفور من طلب العلم الشرعي وفقاً لمذهبٍ بعينه ، وإلا فقد كان يمكن أن يكونوا وقوداً يذكي نار الفقه حتى ينفي عن هذا العصر الظُلَم ، فضاعت أعمار كثير من هؤلاء الشباب في تمحيص أبواب العبادات من غير قاعدة منضبطة ، لأنه تارة يقرء النصوص كما يفهمها الإمام البدر الشوكاني وأخرى كما يفهمها البدر الصنعاني وأخرى كما يفهمها ابن حزم ، وكلما انتقلوا إلى كتاب رؤوه ينقض ما اعتقدوه أولاً ، وهذه الفروع المختلفة لا يجمعها أصل منضبط ، فكانوا يتهيبون كل التهيب الخروج إلى باب المعاملات إلا قليلاً منهم ، فمنهم من نكص على عقبيه وترك المعاملات جملة واقتصر على العبادات لكثرة الرويات الحديثية فيها ، فيجد نفسه تسكن إليها ما لا تسكن إلى القراءة في المعاملات لقلة الرواية فيها بالنسبة إلى تلك ، وكثرة إعمال الرأي فيها مع ما نشؤوا عليه من عدم إعطاء قيمة لقول إمامٍ بعينه ، حتى وُجِدَ فيهم من يقول : القاعدة الفلانية ـ ويذكر إحدى القواعد الفقهية ـ بُل عليها ، وهذا الشخص معدود في العلماء له أشرطة ومصنفات ومركز يذهب إليه الطلبة لطلب العلم.
والكل فيه خير لأنهم يقصدون إلى طلب العلم بإخلاص ، ولكن كم من مريدٍ للخير يصيبه.
وقد عاد كثير من هؤلاء إلى دراسة الفقه وفقاً للمذاهب الفقهية الأربعة المعروفة ، لكن بشكل متدرج.
وأنا أسأل الله أن يتمم ذلك بفضله وكرمه.
ولست ممن يعتقد وجوب تقليد إمام بعينه ، ولكن لا أرى أن يبدأ الطالب الطلب مجتهداً أيضاً.
وقد عاب الدارقطني على أحمد بن كامل القاضي أنه لا يجعل قول إمامٍ له أصلاً ، وهو من أئمة المحدثين العاملين بالحديث.
أسأل الله لي ولغيري التوفيق والسداد