رد: لماذا لم يعتبر العلماء الاستقراء من الادلة الشرعية
التحبير شرح التحرير للإمام المرداوى:
{الاستقراء بالجزئي على الْكُلِّي إِن كَانَ ثَابتا، أَي: بِالْكُلِّ إِلَّا صُورَة النزاع فقطعي عَن الْأَكْثَر، وَهُوَ حجَّة بِلَا نزاع} .
الاستقراء نوع من أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال، وَهُوَ: تتبع أَمر كلي من جزئيات، ليثبت الحكم لذَلِك الْكُلِّي، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: استقراء تَامّ، وَهُوَ: إِثْبَات حكم فِي جزئي لثُبُوته فِي الْكُلِّي، نَحْو: كل جسم متحيز، فَإنَّا استقرأنا جَمِيع جزئيات الْجِسْم فَوَجَدْنَاهَا منحصرة فِي الجماد والنبات وَالْحَيَوَان، وكل من ذَلِك متحيز، فقد أَفَادَ هَذَا الاستقراء الحكم يَقِينا فِي كلي وَهُوَ الْجِسْم، الَّذِي هُوَ مُشْتَرك بَين الجزئيات، فَكل جزئي من ذَلِك كلي يحكم عَلَيْهِ بِمَا يحكم بِهِ على الْكُلِّي إِلَّا صُورَة النزاع، فيستدل بذلك على صُورَة النزاع، وَهُوَ مُفِيد للْقطع بِأَنَّهُ الْقيَاس، فَإِن الْقيَاس المنطقي الْمُفِيد للْقطع عِنْد الْأَكْثَر.
قَالَ الْهِنْدِيّ: وَهُوَ حجَّة بِلَا خلاف.
وَلذَلِك قُلْنَا فِي الْمَتْن: وَهُوَ حجَّة بِلَا نزاع.
قَوْله: {أَو نَاقِصا أَي: بِأَكْثَرَ الجزئيات [فظني] وَيُسمى إِلْحَاق الْفَرد بالأعم الْأَغْلَب، وَهُوَ حجَّة عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر: كالوتر يفعل رَاكِبًا فَلَيْسَ وَاجِبا لاستقراء الْوَاجِبَات} .
هَذَا النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الاستقراء النَّاقِص، وَهُوَ الَّذِي تتبع فِيهِ أَكثر الجزئيات لإِثْبَات الحكم الْكُلِّي الْمُشْتَرك بَين جَمِيع الجزئيات، بِشَرْط أَن لَا يتَبَيَّن الْعلَّة المؤثرة فِي الحكم، وَيُسمى هَذَا عِنْد الْفُقَهَاء بإلحاق الْفَرد بالأعم الْأَغْلَب، وَيخْتَلف فِيهِ الظَّن باخْتلَاف الجزئيات، فَكلما كَانَ الاستقراء فِي أَكثر، كَانَ أقوى ظنا.
وَقد اخْتلف فِي هَذَا النَّوْع.
فَاخْتَارَ بعض أَصْحَابنَا، وَصَاحب " الْحَاصِل "، والبيضاوي، والهندي، وَغَيرهم: أَنه حجَّة، لكنه يُفِيد الظَّن لَا الْقطع، لاحْتِمَال أَن يكون ذَلِك الجزئي مُخَالفا لباقي الجزئيات المستقرأة.
وَقَالَ الرَّازِيّ: الْأَظْهر أَنه لَا يُفِيد الظَّن إِلَّا بِدَلِيل مُنْفَصِل، ثمَّ بِتَقْدِير الْحُصُول يكون حجَّة.
وَبِهَذَا يعلم أَن الْخلاف الْوَاقِع فِي أَنه يُفِيد الظَّن أَو لَا؟ أَن الظَّن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ هَل يكون حجَّة.
ورد الْبرمَاوِيّ كَلَام الرَّازِيّ.
وَقد مثله ابْن مُفْلِح، والبيضاوي، وَغَيرهمَا بقولهمَا: الْوتر يصلى على الرَّاحِلَة فَلَا يكون وَاجِبا؛ لأَنا استقرأنا الْوَاجِبَات: الْقَضَاء وَالْأَدَاء من الصَّلَوَات الْخمس، فَلم نر شَيْئا مِنْهَا يُؤدى على الرَّاحِلَة.
وَالدَّلِيل على أَنه يُفِيد الظَّن: أَنا إِذا وجدنَا صورا كَثِيرَة دَاخِلَة تَحت نوع واشتركت فِي حكم، وَلم نر شَيْئا مِمَّا يعلم أَنه مِنْهَا خرج عَن ذَلِك الحكم، أفادتنا تِلْكَ الْكَثْرَة قطعا ظن الحكم بِعَدَمِ الْأَدَاء على الرَّاحِلَة فِي مثالنا هَذَا من صِفَات ذَلِك النَّوْع، وَهُوَ الصَّلَاة الْوَاجِبَة، وَإِذا كَانَ مُفِيدا للظن، كَانَ الْعَمَل بِهِ وَاجِبا.
وَرُبمَا اسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " نَحن نحكم بِالظَّاهِرِ، وَالله يتَوَلَّى السرائر "، كَمَا اسْتدلَّ بِهِ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره.
لكنه حَدِيث لَا يعرف، لَكِن رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم الجنزوي فِي كِتَابه: " إدارة الْأَحْكَام " فِي
قصَّة الْكِنْدِيّ والحضرمي الَّذين اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأصل حَدِيثهمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فَقَالَ الْمقْضِي عَلَيْهِ: قضيت عَليّ وَالْحق لي، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا نقضي بِالظَّاهِرِ وَالله يتَوَلَّى السرائر " وَله شَوَاهِد.
مِنْهَا: حَدِيث المتلاعنين: " لَوْلَا مَا فِي كتاب الله لَكَانَ لي وَلها شَأْن ".
وَفِي " الصَّحِيح " من حَدِيث أم سَلمَة: " إِنَّمَا أَنا بشر، وَإنَّهُ يأتيني الْخصم، فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَلحن بحجته من بعض فأحسب أَنه صدق، فأقضي لَهُ بذلك، فَمن قضيت لَهُ بِحَق مُسلم فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة من النَّار فليأخذها أَو ليتركها ".
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " إِنِّي لم أُؤمر أَن أنقب عَن قُلُوب النَّاس وَلَا أشق بطونهم ".
وَقَول عمر: " إِن الْوَحْي قد انْقَطع، وَإِنَّمَا نأخذكم الْآن بِمَا ظهر لنا "، وَغير ذَلِك وَهُوَ كثير، مِمَّا يدل على أَن الْعَمَل بِالظَّنِّ وَاجِب.
تَنْبِيه: ينشأ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ فِي الاستقراء أَن القياسات المنطقية تَدور على ذَلِك، فَإنَّا إِذا قُلْنَا: الْعَالم متغير، وكل متغير حَادث، فَيكون الْعَالم متغيرا، إِنَّمَا علم بالاستقراء التَّام، وَلذَلِك أَفَادَ الْقطع وَالْيَقِين.
وَإِذا قُلْنَا: الْوضُوء وَسِيلَة لِلْعِبَادَةِ، وكل مَا هُوَ وَسِيلَة لِلْعِبَادَةِ عبَادَة، إِنَّمَا أثبتنا الْمُقدمَة الثَّانِيَة بالاستقراء، وَهُوَ ظَنِّي؛ لِأَنَّهُ من أَكثر الجزئيات.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَرُبمَا ينْدَرج فِيهِ - أَيْضا - مَا ذكره ابْن الْحَاجِب، وَغَيره: الِاسْتِدْلَال من قِيَاس التلازم، وَهُوَ تلازم بَين ثبوتين إِلَى آخِره، كَمَا تقدم مُسْتَوفى محررا.
فَائِدَة: قَالَ ابْن حمدَان فِي آخر " نِهَايَة المبتدئين ": وأوجز من هَذَا أَن الِاسْتِدْلَال إِمَّا بالجزئي على الْكُلِّي وَهُوَ الاستقراء، أَو بالكلي على الجزئي وَهُوَ الْقيَاس، أَو بالجزئي على الجزئي وَهُوَ التَّمْثِيل، أَو بالكلي على الْكُلِّي وَهُوَ قِيَاس وتمثيل انْتهى.
http://shamela.ws/browse.php/book-6336#page-3782