العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

شرح تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الحَنَفِيَّةِ - فِي ’’الرِّوَايَةِ بِالمَعْنَى‘‘

إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمدُ لله ربّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنا مُحمّدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعينَ، وبعدُ..

فالرِّوايةُ بالمعنى من طُرقِ الأداء في الحديث الشريف، والأداء عند الحنفية نوعان: عزيمة، ورخصة.
فالعزيمة: أن يؤدى على الوجه الذي سمعه بلفظه ومعناه.
والرخصة: أن يؤدى بعبارته معنى ما فهمه عند سماعه.

(مذاهب العلماء في الرواية بالمعنى):
وقد اختلف العلماء في رواية الحديث بالمعنى؛ فذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء وأئمة الحديث إلى جواز الرواية بالمعنى في الجملة بشرط أن يكون الراوي عارفًا بدِلالات الألفاظِ واختلاف مواقعها، وإن كان نقل الحديث بلفظه أَوْلَى من نقله بالمعنى.
وقال بعض أهل الحديث: لا تجوز الرواية بالمعنى مطلقًا، وهذا مذهب عبدالله ابن عمر من الصحابة ومحمد بن سيرين وجماعة من التابعين ومذهب الظاهرية وهو اختيار أبي بكر الرازي (الجصَّاص) من الحنفية - وراجع في ذلك: كشف الأسرار (3/ 55)، وتوجيه النظر (2/ 671)، فقد استوفى الآراء وأدلتها وناقشها مناقشة قيمة.

-مذهب الجمهور المجوّزين للرواية بالمعنى:
قال ابن الصلاح في علوم الحديث ص(213): "إذا أراد رواية ما سمعه على معناه دون لفظه، فإن لم يكن عالمًا بالألفاظ ومقاصدها، خبيرًا بما يُحيل معانيها، بصيرًا بمقادير التفاوت بينها، فلا خلاف أنه لا يجوز له ذلك، وعليه أن لا يروي ما سمعه إلا على اللفظ الذي سمعه من غير تغيير.
فأما إذا كان عارفًا بذلك فهذا مما اختلف فيه السلف وأصحاب الحديث وأرباب الفقه والأصول، فجوزه أكثرهم، ولم يجوزه بعض المحدثين وطائفة من الفقهاء والأصوليين من الشافعيين وغيرهم، ومنعه بعضهم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجازه في غيره.
والصحيح جواز ذلك في الجميع إذا كان عالمًا بما وصفناه، قاطعًا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه؛ لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأولين، وكثيرًا ما ينقلون معنًى واحدًا في أمر واحد بألفاظ مختلفة، وما ذلك إلا لأن مُعَوَّلهم كان على المعنى دون اللفظ". انتهى. وراجع: تدريب الراوي (2/ 98)، والكفاية ص(198)، وفتح المغيث (3/ 137)، ومنهج النقد ص(227).
*أدلة الجمهور:
_وقد استدل الجمهور على ذلك بأدلة نقلية وعقلية؛ منها:
1- ما رواه الطبراني من طريق يعقوب بن عبدالله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده قال: أتينا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلنا له: بآبائنا أنت وأمهاتنا يا رسول الله، إنا نسمع منك الحديث فلا نقدر أن نؤديه كما سمعناه. فقال: (إِذا لم تحِلّوا حَرامًا ولم تحرموا حَلالًا وأصبْتُم المعنى فَلا بَأس). رواه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 100)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 154): رواه الطبراني في الكبير ولم أرَ من ذكر يعقوب ولا أبيه. اهـ. ورواه أيضًا الخطيب في الكفاية ص(199)، وراجع: الإصابة (2/ 71)، (3/ 288).
2- اتّفاقُ الصحَابةِ على روايَتِهم بعض الأوَامِر والنّواهِي بألفاظِهم كأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا، وكانوا ينقلون الحديث الواحد الذي جرى في مجلس واحد في واقعة معينة بأَلفاظ مختَلِفة ولم يُنكر بعضهم على بعض فيه - كشف الأسرار (3/ 56)، والمحصول (2/ 1/ 667)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (2/ 146).
3- ما رواه ابن ماجه -في سُننه (23)-، والدارمي أن ابن مسعود كان يقول عند الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو دون ذلك أو فوق ذلك، أو قريبًا من ذلك أو شبيهًا بذلك. سُنن ابن ماجه (23) المقدمة، 3- باب التوقي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الدارمي -في سننه (1/ 95)- عن أبي الدرداء أنه كان إذا حدَّث بحديثٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا أو نحوه أو شبهه أو شكله.
4- ما يُعلم بالضرورة أن الصحابة الذين رَوَوْا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس، وما كانوا يكررون عليها في ذلك المجلس؛ بل كما سمعوها يذكرونها، وما ذكروها إلا بعد الأعصار والسنين، وذلك يوجب القطع بتعذر روايتها على تلك الألفاظ. (!!!!)
5- ومن أقوى حججهم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم للعارف به، فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية، فبأن يجوز إبدالها بعربية أخرى أَوْلَى، ومن أنصف علم أن التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها وبين العجمية - كشف الأسرار (3/ 56)، والمحصول (2/ 1/ 667)، والإحكام للآمدي (2/ 146)، ونزهة النظر للحافظ ابن حجر العسقلاني ص(94)، وشرح نزهة النظر للشيخ ابن العثيمين مع تعليقات الشيخ الألباني ص(226- 229)، ونتيجة النظر في نخبة الفكر للحافظ الشُّمُنّي القُسطَنطيني ص(173)، والباعث الحثيث للحافظ ابن كثير شرح الشيخ أحمد شاكر مع تعليقات العلامة الألباني (2/ 399- 405).

-
مذهب المانعين من الرواية بالمعنى:
قال
ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (2/ 86): "حكم الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يُورَدَ بنص لفظه، لا يُبَدَّل ولا يُغَيَّر إلا في حالٍ واحدة، وهي أن يكون المرء قد تثبت فيه وعرف معناه يقينًا، فيُسأل فيُفتي بمعناه وموجبه، فيقول: حكم رسول الله بكذا ونهى عن كذا... وأما من حدَّث وأَسْنَدَ القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل له إلا تحري الألفاظ كما سمعها لا يُبدِّل حرفًا مكان آخر وإن كان معناهما واحدًا، ولا يقدم حرفًا ولا يؤخر آخر". انتهى.
وقال
أبو بكر الرازي في الفصول في الأصول (3/ 211): "قد حكينا عن الحسن والشعبي أنهما كانا يُحدِّثان بالمعاني، وكان غيرهم -منهم ابن سيرين- يُحدِّث باللفظ. والأحوط عندنا ذكر اللفظ وسِياقه على وجهه دون الاقتصار على المعنى، سواء كان اللفظ مما يحتمل التأويل أو لا يحتمله، إلا أن يكون الراوي مثل الحسن والشعبي في إتقانهما للمعاني والعبارات التي هي وفقها غير فاضلة عنها ولا مقصرة، وهذا عندنا إنما كانا يفعلانه في اللفظ الذي يحتمل التأويل، ويكون للمعنى عبارات مختلفة فيعبران تارة بعبارة وتارة بغيرها.
فأما ما لا يحتمل التأويل من الألفاظ فإنا لا نظن بهما أنهما كانا يغيرانه إلى لفظ غيره، ومع احتماله لمعنى غير معنى لفظ الأصل، وأكثر فساد أخبار الآحاد وتناقضها واستحالتها إنما جاء من هذا الوجه؛ وذلك أنه قد كان منهم من يسمع اللفظ المحتمل للمعاني فيعبر هو بلفظ غيره، ولا يحتمل إلا معنًى واحدًا، على أنه هو المعنى عنده فيفسد.
والدليل على صحة ما ذكرنا من وجوب نقل اللفظ بعينه قوله صلى الله عليه وسلم:
(نضَّر الله امراً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها، رُبَّ حامل فقهٍ لا فقه له، ورُبَّ حاملِ فقه إلى من هو أفقه فيه) -رواه بهذا اللفظ الطبراني في المعجم الكبير (17/ 49) من طريق عبيد بن عمير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث مروي في السنن بطرق كثيرة وألفاظ مختلفة؛ منها ما رواه أبي داود (3660)، والترمذي (2868)، وابن ماجه (230) عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع)- فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل اللفظ بعينه، ليعتبره الفقهاء ويحملوه على الوجوه التي يصح حمله عليها". انتهى.
*
أدلة المانعين:
1-
تمسك المانعون من الرواية بالمعنى بحديث:(نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها). وأداؤه كما سمع هو أداء اللفظ المسموع.
2-
وبحديث البراء بن عازب لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء النوم وفيه:(ونبيك الذي أرسلت)فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبرسولك الذي أرسلت)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ونبيك الذي أرسلت) -البخاري (247)، ومسلم (7057)-. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يضع لفظة رسول موضع لفظة نبي، وذلك حق لا يحيل المعنى وهو صلى الله عليه وسلم رسول ونبي.(!!!)
3-
أنه ثبت بالتجربة أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر ما لم ينتبه له أهل الأعصار السالفة من العلماء المحققين، فعُلم أنه لا يجب في كل ما كان من فوائد اللفظ أن يتنبه له السامع في الحال، وإن كان فقيهًا ذكيًّا نفسه، فلو جوزنا النقل بالمعنى فربما حصل التفاوت العظيم مع أن الراوي يظن أن لا تفاوت.
4-
أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ نفسه، كان للراوي الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه؛ بل هذا أَوْلَى، لأن تبديل لفظ الراوي أَوْلَى بالجواز من تبديل لفظ الشارع، وإن كان ذلك في الطبقة الثالثة والرابعة فذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول؛ لأن الإنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة لكن لا ينفك عن تفاوت وإن قلَّ، فإن توالت هذه التفاوتات كان التفاوت الأخير تفاوتًا فاحشًا، بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة - المحصول للرازي (2/ 1/ 667)، وكشف الأسرار (3/ 55)، والإحكام للآمدي (2/ 148).

-
تفصيل مذهب الحنفية:
رخَّص الحنفية في رواية الحديث بالمعنى إجمالًا، وعند التفصيل نجد أنهم لم يُجوِّزوا ذلك في بعض أقسام السنة، وقد قسم الحنفية السُنَّة إلى خمسة أقسام:
القسم الأول/المُحكم وهو الذي لا يشتبه معناه ولا يحتمل غير ما وضع له، وهذا يجوز نقله بالمعنى لكل من كان عالمًا بوجوه اللغة؛ لأن المراد به معلول الحقيقة، وإذا كساه العالم باللغة عبارة أخرى لا يتمكن فيه تهمة الزيادة والنقصان.
القسم الثاني/الظاهر وهو ما كان يحتمل غير ما ظهر من معناه، من عام يحتمل الخصوص، أو حقيقي يحتمل المجاز، وهذا لا يجوز نقله بالمعنى إلا لمن جمع إلى العلم باللغة والعلم بفقه الشريعة؛ لأنه إذا لم يكن عالمصا بذلك لم يُؤْمَن إذا كساه عبارة أخرى، أن لا يكون تلك العبارة في احتمال الخصوص والمجاز مثل العبارة الأُوْلَى، وإن كان ذلك هو المراد به، ولعل العبارة التي يُروى بها تكون أعمّ من تلك العبارة لجهله الفرق بين العام والخاص، فإذا كان عالمًا بفقه الشريعة يقع الأمن عن هذا التقصير منه عند تغيير العبارة، فيجوز له النقل بالمعنى كما كان يفعله الحسن والنخعي والشعبي.
القسم الثالث/المُشكل والمشترك وهذان لا يجوز فيهما النقل بالمعنى أصلًا؛ لأن المراد بهما لا يعرف إلا بالتأويل، والتأويل يكون بنوع من الرأي كالقياس، فلا يكون حجة على غيره.
القسم الرابع/المُجمل ولا يتصور فيه النقل بالمعنى؛ لأنه لا يوقف على المعنى فيه إلا بدليل آخر، والمتشابه كذلك؛ لأنا ابتُلينا بالكفّ عن طلب المعنى فيه فكيف يتصور نقله بالمعنى؟! .
القسم الخامس/جوامع الكلم (التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقد جوَّز بعض الحنفية روايتها بالمعنى على الشرط المذكور في الظاهر، والصحيح عندهم أنه لا يجوز ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصًا بهذا النظم على ما رُوي أنه قال: (أوتيت جوامع الكلم) -أخرجه البخاري (7013)، ومسلم (1195)-، أي خصصت بذلك، فلا يقدر أحد بعده على ما كان هو مخصوصًا به، ولكن كلٌّ مُكلَّفٌ بما في وسعه نقل ذلك اللفظ ليكون مؤدِّيًا إلى غيره ما سمعه منه بيقين، وإذا نقله إلى عبارته لم يؤمن القصور في النظم الذي هو من جوامع الكلم، وكان هذا النوع هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم أداها كما سمعها).
-وانظر: أصول السرخسي (1/ 356)، وكشف الأسرار (3/ 57).

ويُراجع كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور كيلاني محمد خليفة، ص(302- 307).


هذا، والله أعلم وردُّ العلم إليه أسلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الحَنَفِيَّةِ - فِي ’’الرِّوَايَةِ بِالمَعْنَى‘‘

السلام عليكم

(طرق الحفظ):
يرى الحنفية أن طرق الحفظ نوعان: عزيمة ورخصة.
أما العزيمة: فهو أن يحفظ المسموع من وقت السماع والفهم إلى وقت الأداء من غير واسطة الخط.
وكان هذا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبينه للناس، وهذا فضل اختصه الله به، لقوة نور القلب استغنى عن الخط، وكان أغلب الصحابة لا يكتبون ما يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل كانوا يحفظونها ويروونها عن ظهر قلب ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان هذا مذهب أبي حنيفة في الأخبار الوشهادات جميعًا؛ ولهذا قلَّت روايته، حتى قال بعض الطاعنين: إنه كان لا يعرف الحديث، ولم يكن على ما ظن به؛ بل كان أعلم أهل عصره بالحديث، ولكن لمراعاة شرط كمال الضبط قلَّتْ روايته. انظر: أصول السرخسي (1/ 350، 379)، وكشف الأسرار (3/ 50).
وعلى هذه الطريقة نشأ كبار المحدثين من التابعين حتى شاعت الكتابة وصار الضبط نوعان: ضبط صدر وضبط كتاب.
أما الرخصة: فهو أن يعتمد الكتاب، إلا أنه إذا نظر في الكتاب فتذكر فهو عزيمة أيضًا ولكنه مشبه بالرخصة، وإذا لم يتذكر فهو محض الرخصة على قول من يجوِّز ذلك.
-والكتابة نوعان: تذكرة وإمام.
_فالتذكرة: هو أن ينظر في المكتب فيتذكر به ما كان مسموعًا له، والنقل بهذا الطريق جائز سواء كان مكتوبًا بخطه أو بخط غيره، وذلك الخط معروف أو مجهول؛ لأنه إنما ينقل ما يحفظ، غير أن النظر في الكتاب كان مذكرًا له فلا يكون دون التفكر، ولو تفكر فتذكر جاز له أن يروي ويكون خبره حجة، فكذلك إذا نظر في الكتاب فتذكر.
_وأما النوع الثاني: فهو أن لا يتذكر عند النظر ولكنه يعتمد الخط، وهذا اختلف فيه الإمام مع صاحبيه، فأبو حنيفة أخذ بما هو العزيمة وقال: لا يجوز له أن يعتمد الكتاب ما لم يتذكر؛ لأن النظر في الكتاب لمعرفة القلب كالنظر في المرأة للرؤية بالعين، ثم النظر في المرآة إذا لم تفده إدراكًا لا يكون معتبرًا؛ فالنظر في الكتاب إذا لم يفده تذكرًا يكون هدرًا؛ وهذا لأن الرواية لا تكون إلا بعلم، والخط يشبه الخط فبصورة الخط لا يستفيد علمًا من غير التذكر، وما كان الفساد في سائر الأديان إلا بالاعتماد على الصور بدون المعنى؛ فالرواية عند أبي حنيفة لا تكون إلا من حفظه أو تذكره.
وأخذ أبو يوسف ومحمد بالرخصة فقالا: يجوز أن يعتمد الخط وإن لم يتذكر. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الكتاب المسموع له بخطه أو بخط رجل معروف، ولا بين أن يكون الكتاب محفوظًا في يده أو في يد أمين آخر. انظر في ذلك: أصول السرخسي (1/ 357)، وكشف الأسرار (3/ 52).
قال ابن الصلاح في علوم الحديث (ص 213): "إذا وجد سماعه في كتابه وهو غيرذاكر لسماعه ذلك، فعن أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي أنه لا يجوز له روايته، ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه وأبي يوسف ومحمد أنه يجوز له روايته بشرط أن يكون السماع بخطه أو بخط من يثق به، والكتاب مصون بحيث يغلب على الظن سلامته من التغيير وتسكن نفسه إلى صحته، فإن تشكك فيه لم يجز الاعتماد عليه". اهـ. وراجع: تدريب الراوي (2/ 97).
أما إذا وجد سماعه بخط مجهول فعلى وجهين: إما أن يكون مفردًا فلا يحل له الرواية به، وإما أن يكون مكتوبًا بخطوط مختلفة مجهولة فيحل له الرواية؛ لأنهم لا يجتمعون على الزور والكذب. انظر: أصول السرخسي (1/ 357)، وكشف الأسرار (3/ 52).
-الوجادة: وإذا وجد كتابًا ليس من سماعه بخط أبيه مثلاً أو بخط رجل معروف، فله أن يحدث به ويقول: وجدت بخط أبي أو بخط فلان. لا يزيد عليه ليكون أبعد عن التهمة، ويسوف الإسناد والمتن [أصول السرخسي (1/ 359)، وكشف الأسرار (3/ 53)]. وقد جازف بعضهم فأطلق فيها حدثنا وأخبرنا وأُنكر عليه [علوم الحديث (ص 178)، وتدريب الراوي (2/ 61)، وفتح المغيث (3/ 20)].

وراجع كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور كيلاني محمد خليفة، (ص 300، 302).

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الحَنَفِيَّةِ - فِي ’’الرِّوَايَةِ بِالمَعْنَى‘‘

السلام عليكم

(طرق التحمل _السماع_):
يقسم الحنفية طرق التحمل وهي مايعبرون عنه بطرق السماع إلى قسمين: عزيمة وهو ما فيه سماع. ورخصة وهو ما ليس فيه سماع.
أما العزيمة فتنقسم إلى أربعة أنواع:
الأول/ السماع من الشيخ.
الثاني/ القراءة على الشيخ.
الثالث/ الكتابة.
الرابع/ الرسالة.
ويجعلون النوعين الأول والثاني في نهاية العزيمة لما فيهما من سماع حقيقي، وأما النوعان الأخيران فيخلفان النوعين الأَوَّلَين لما فيهما من شبه بالرخصة.
وأما الرخصة فتنقسم إلى نوعين: الإجازة والمناولة - راجع: كشف الأسرار (2/ 38)، وأصول السرخسي (1/ 375)، والكافي (3/ 1329)، والتوضيح على التلويح (2/ 23)، وشرح المنار (ص 655).
أنواع العزيمة:
_النوع الأول/ السماع من الشيخ.
وصورة ذلك: أن يقرأ الشيخ من حفظه أو كتابه والطلاب يسمعون، وهي الوسيلة التي تلقى بها الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رووا بها للناس، ثم المحدثون من بعدهم، ويوسغ عند المحدثين للسامع أن يستخدم عند الرواية جميع ألفاظ الأداء؛ مثل حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت فلانًا وقال لنا وذكر لنا، وأرفعها حدثنا وسمعت. راجع: تدريب الراوي (2/ 8)، وعلوم الحديث (ص 132)، وفتح المغيث (2/ 155)، ومنهج النقد في علوم الحديث (ص 222).
_النوع الثاني/ القراءة على الشيخ.
وصورة ذلك: أن يقرأ الطالب من حفظه أو كتابه على الشيخ وهو يسمع فيقول القارئ أهو كما قرأت عليك؟ فيقول الشيخ: نعم. وهو ما يسميه أكثر المحدثين بالعرض.
ويرى الحنفية أن إقرار الشيخ ينزل منزلة قراءته؛ ولذلك فالمختار عندهم أن يقول الراوي في النوعين عند الأداء: حدثنا فلان - كشف الأسرار (3/ 42)، أصول السرخسي (1/ 376)، والكافي (3/ 1331).
ويرى المحدثون أن الأحوط في الرواية بها: قرأت على فلان، أو ثُريِء عليه وأنا أسمع فأقر به. ثم عبارات لاسماع مقيدة: كحدثنا أو أخبرنا قراءة عليه.
ومَنَعَ إطلاق حدثنا وأخبرنا: ابنُ المبارك ويحيى بن يحيى التميمي وأحمد بن حنبل والنسائي وغيرهم، وجوزوها طائفة. قيل: إنه مذهب الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان والبخاري وجماعات من المحدثين ومعظم الحجازيين والكوفيين - تدريب الراوي (2/ 16)، وعلوم الحديث (ص 138)، وفتح المغيث (2/ 176)، ومنهج النقد في علوم الحديث (ص 224).
ومنهم من أجاز فيها سمعت، ومَنَعَتْ طائفة حدثنا وأجازت أخبرنا، وهو مذهب الشافعي وأصحابه، ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق، وقيل: إنه مذهب أكثر المحدثين، ورُوي عن ابن جرير والأوزاعي وابن وهب، ورُوي عن النسائي أيضًا، وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث - تدريب الراوي (2/ 14)، وعلوم الحديث (ص 138)، وفتح المغيث (2/ 170)، ومنهج النقد (214)، وقفو الأثر (ص 109).
-واختلف في أيهما أرجح؛ السماع من الشيخ، أم القراءة عليه؟ وذلك على ثلاثة أقوال:
الأول/ المساواة بينهما وحُكي عن مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة ومعظم علماء الحجاز والكوفة والبخاري وأكثر أئمة المحدثين واختاره ابن الساعاتي من الحنفية.
الثاني/ ترجيح السماع على القراءة، وحُكي عن جمهور أهل المشرق وخراسان، وهو ما صححه أبو عمرو بن الصلاح.
الثالث/ ترجيح القراءة على الشيخ، وحُكي عن أبي حنيفة وابن أبي ذئب ورواية عن مالك.. وغيرهم.
قال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص 277): "والعلة التي احتج بها من اختار القراءة على المحدث على السماع من لفظه ظاهرة؛ لأن الراوي ربما سها وغلط فيما يقرَؤه بنفسه، فلا يرد عليه السامع، وإما لأنه ليس من أهل المعرفة بذلك الشأن، أو لأن الغلط صادف موضع اختلاف بين أهل العلم فيه، فيتوهم ذلك الغلط مذهبه فيحمله منه على وجه الصول، أو لهيبة الراوي وجلالته، فيكون ذلك مانعًا من الرد عليه".
روى السليماني -هو أحمد بن علي بن عمرو بن أحمد البيكندي البخاري أبو الفضل، محدث صاحب تصانيف، ولد سنة (311 هـ)، وتوفي (404 هـ) راجع: السير (17/ 200). ونقله عنه السخاوي في فتح المغيث (2/ 172)- من حديث الحسن بن زياد قال: كان أبو حنيفة يقول: قراءتك على المحدث أثبت وأوكد من قراءته عليك، وإنه اقرأ عليك فإنما يقرأ على ما في الصحيفة، وإذا قرأتَ عليه فقال: حَدِّث عني ما قرأتَ فهو توكيد.
وروى الخطيب البغدادي من طريق أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: لأن أقرأ على المحدث أحب إليَّ من أن يقرأ عليَّ. -الكفاية (ص 276).
ومحل الخلاف ما إذا قرأ الشيخ في كتابه، فأما إذا قرأ الشيخ من حفظه فالسماع أعلى بالاتفاق.
قال السرخسي: "وأهل الحديث يقولون السماع أحق؛ لأنه طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبعد من الخطأ والسهو فيكون أحق فيما هو المقصود، وهو تحمل الأمانة بصفة تامة، ورُوي عن أبي حنيفة أن قراءتك على المحدث أقوى من قراءة المحدث عليك، وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لكونه مأمون السهو والغلط؛ ولأنه كان يذكر ما يذكره حفظًا، وكان لا يكتب ولا يقرأ المكتوب أيضًا، وإنما كلامنا فيمن يخبر عن كتاب لا عن حفظه، حتى إذا كان يروي عن كتاب فالجانبان سواء في معنى التحدث بما في الكتاب.
ألا ترى أن في الشهادات لا فرق بين أن يقرأ مَنْ عليه الحق ذِكْرَ إقراره عليك وبين أن تقرأه عليه، ثم تستفهمه: هل تقر بجميع ما قرأتُه عليك؟ فيقول: نعم. وبكل واحد من الطريقين يجوز أداء الشهادة، وباب الشهادة أضيق من باب الخبر، فكان المعنى فيه أن ((نعم)) جواب مختصر، ولا فرق في الجواب بين المختصر والمشبع، فيصير ما تقدم كالمعاد في الجواب كله.
ثم للطالب من الرعاية عند القراءة عادة ما ليس للمحدث؛ فعند قراءة المحدث لا يؤمن من الخطأ في بعض ما يقرأ لقلة رعايته، ويُؤمَن من ذلك إذا قرأ الطالب لشدة رعايته.
فإن قيل: عند قراءة الطالب يُتوهم أنه يسهو المحدث عن بعض ما يسمع، وينتفي هذا التوهم إذا قرأه المحدث لشدة رعاية الطالب في ضبط ما يسمع منه.
قلنا: هو كذلك، ولكن السهو عن سماع البعض مما لا يمكن التحرز عنه عادة هو أيسر مما يقع بسبب الخطأ في القراءة، فمراعاة ذلك الجانب أَوْلَى". أصول السرخسي (1/ 375)، وراجع: كشف الأسرار (3/ 40)، والكافي (3/ 1330).
-الانشغال عن السماع:
ذهب الحنفية إلى عدم صحة سماع من حضر مجلس السماع واشتغل بقراءة كتاب آخر غير ما يقرؤه القارئ، أو اشتغل بالكتابة لشيء آخر، أو اشتغل بتحدث أو لغو أو لهو، أو اشتغل عن السماع لغفلة أو نوم، إلا أن مقدار ما لا يمكن التحرز عنه من السهو الغفلة يجعل غفوصا للضرورة - أصول السرخسي (1/ 378)، كشف الأسرار (3/ 48)، وراجع: تدريب الراوي (2/ 23)، وعلوم الحديث (ص 145).
_النوع الثالث والرابع/ الكتابة والرسالة.
-أما الكتبة: فهي أن يكتب المحدث إلى غيره على رسم الكتب -وذلك بأن يكون مختومًا بختم معروف، معنويًا وهو أن يكتب فيه قبل التسمية من فلان ابن فلان، إلى فلان ابن فلان، ثم يبدأ بالتسمية، ثم بالثناء، ثم بالمقصود. قاله صاحب كشف الأسرار (3/ 41)-، ويذكر في كتابه: حدثني فلان عن فلان إلى آخره، ثم يقول: وإذا جاءك كتابي هذا وفهمت ما فيه فحدث به عني.
-وأما الرسالة: فهي أن يقول المحدث للرسول: بلغ عني فلانًا أنه قد حدثني بهذا الحديث فلان ابن فلان ويذكر إسناده، فإذا بلغك رسالتي هذه فاروه عني بهذا الإسناد - أصول السرخسي (1/ 376)، وكشف الأسرار (3/ 41)، والكافي (3/ 1330).
واحتج الحنفية على صحة ذلك بأن الكتاب والرسالة إلى الغائب بمنزلة الخطاب للحاضر شرعًا وعرفًا.
-أما شرعًا فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا بتبليغ الرسالة إلى الناس كافة، وقد بلغ الغيب بالكتاب والرسالة كما بلغ الحضور بالخطاب، وكذلك الطلاق والعتاق وسائر العقود المتعلقة بالكلام يثبت بهما كما يثبت بالخطاب.
-وأما عرفًا فلأن الناس يعدونهما مثل الخطاب حتى قلد الخلفاءُ والملوكُ القضاءَ والإمارة بالكتاب والرسالة كما قلدوها بالمشافهة وعدوا مخالفهما مخالفًا للأمر فعرفنا أنهما مثل الخطاب - كشف الأسرار (3/ 42)، أصول السرخسي (1/ 376)، والكافي (3/ 1331).
-اشتراط البينة لصحة المكاتبة:
ويشترط الحنفية لصحة الكتابة والرسالة أن يثبتا بالحجة أي بالبينة التي تثبت بمثلها الكتب على ما عرف في كتاب القاضي إلى القاضي -كشف الأسرار (3/ 42)-، وعند عامة أهل الحديث لا حاجة إلى البينة؛ بل يكفي في ذلك أن يعرف المكتوب إليه خط الكاتب وإن لم تتم البينة.
يقول ابن الصلاح في علوم الحديث (ص 174): "ومن الناس من قال: الخط يشبه الخط فلا يجوز الاعتماد على ذلك. وهذا غير مَرضِيٍّ؛ لأن ذلك نارد، والظاهر أن خط الإنسان لا يشتبه بغيره ولا يقع فيه إلباس. وراجع: تدريب الراوي (2/ 57)، وفتح المغيث (3/ 10).
-لفظ الأداء في المكاتبة:
والمختار عند الحنفية في هذين النوعينِ الأخيرينِ أن يقول عند الأداء: أخبرنا؛ لأن الكتاب والرسالة ليسا مشافهة، ولكنه إخبار له بكتابه، فإن الكتاب ممن بعد كالخطاب ممن حضر، والرسول كالكتاب أو أقوى؛ لأن معنى الضبط يوجد فيهما، ثم الرسول ناطق والكتاب غير ناطق.
وعليه فإذا حلف أن لا يتحدث بِسِرِّ فلان أو لا يتكلم به، فكتب به أو أرسل رسولاً لم يحنث، ولو تكلم به مشافهة حنث، ولو حلف لا يخبر به فكتب أو أرسل يحنث بمنزلة ما لو تكلم به.
والدليل عليه أن الله تعالى أكرمنا بكتابه ورسوله، ثم لا يجوز لأحد أن يقول حدثني الله ولا كلمني الله. إنما ذلك لموسى عليه السلام خاصة، كما قال تعالى: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 164] ويجوز أن يقول أخبرنا الله بكذا أو أنبأنا ونبأنا. فلهذا كان المختار في الوجهين الأَوَّلَين وفي الأخيرين أخبرني - أصول السرخسي (1/ 376)، وكشف الأسرار (2/ 42)، والكافي (3/ 1331).
وأما عند المحدثين فالصحيح عندهم أن يقول في الرواية بالمكاتبة: كتب إليَّ فلان قال: حدثنا فلان. أو أخبرني فلان مكاتبة أو كتابة ونحوه، ولا يجوز إطلاق حدثنا وأخبرنا، وجوزه الليث ومنصور وغير واحد من علماء المحدثين وكبارهم - علوم الحديث (ص 174)، وتدريب الراوي (2/ 59)، وفتح المغيث (3/ 11).
-تقديم المكاتبة على المناولة:
يقدم الحنفية المكاتبة على المناولة، يدل على ذلك جعلهم المكاتبة من أنواع العزيمة، والمناولة من أنواع الرخصة، وقد علل ذلك عبدالعزيز البخاري بأن الكتابة اولرسالة مثل الخطاب فكانا من باب العزيمة، بخلاف المناولة والإجازة في حق الحاضر؛ لأن الأصل في حقه الخطاب؛ ولهذا لم يوجد التبليغ من النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحضور بهذين الطريقين فلم يكونا مثل الخطاب، إلا أننا جوزناها ضرورة فكانا من باب الرخصة لا من باب العزيمة -كشف الأسرار (2/ 42)-. وأما المحدثون فيساوون في الصحة والقوة بين المكاتبة والمناولة المقرونتينِ بالإجازة - علوم الحديث (ص 174)، وتدريب الراوي (2/ 55)، وفتح المغيث (3/ 2).
أنواع الرخصة:
_النوع الأول/ الإجازة.
قال أبو الحسين بن فارس: الإجازة مأخوذة من جواز الماء الذي تسقاه الماشية والحرق يقال: استجزته فأجازني. إذا أسقاط ماء لماشتيك وأضك. كذا طالب العلم يستجيز العالم علمه فيجيزه، فيقول له: أجزت لك رواية مسموعاتي - علوم الحديث (ص 163)، وتدريب الراوي (2/ 42)، وفتح المغيث (2/ 214).
والإجازة لها أنواع كثيرة، وكلها مختلف في صحتها، وأعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة أن يجيز معيَّنًا لمعيَّن، كأن يقول: أجزتُ لك رواية صحيح البخاري، أو ما اشتملت عليه فهرستي هذه.
والصحيح الذي قاله جمهور أهل العلم من المحدثين وغيرهم واستقر عليه العمل: جواز الرواية بهذا النوع من الإجازة والعمل بها.
وأبطلها جماعة من المحدثين وغيرهم، وهو إحدى الروايتينِ عن الإمام الشافعي، وقال به من أئمة الحنفية أبو طاهر الدبَّاس -هو الإمام أبو طاهر محمد بن محمد بن سفيان الدبَّاس، إمام أهل الرأي بالعراق، ولم تذكر سنة مولده ولا سنة وفاته، وهو من أقران أبي الحسن الكرخي المتوفى سنة (340 هـ)، وتفقه أبو طاهر على القاضي أبي خازم البصري، وصار إمام عصره، وتخرج به جماعة من الأئمة، وكان يوصف بالحفظ ومعرفة الروايات، وولي القضاء بالشام، ثم خرج منها إلى مكة فمات بها. راجع: الجوهرة المضية (3/ 323)، والفوائد البهية (ص 187)-.
فقد رُوي عنه أنه قال: مَنْ قال لغيره: أجزتُ لك أن تروي عني ما لم تسمع، فكأنما يقول أجزتُ لك أن تذكب عليَّ - علوم الحديث (ص 150)، وتدريب الراوي (2/ 29).
وذهب الحنفية إلى صحة هذه الإجازة الخاصة المعينة بشرط أن يكون المجيز عالمًا بما في الكتاب والمجاز له فهمًا ضابطًا، وإلا بطلت عند أبي حنيفة ومحمد وصحت عند أبي يوسف - قفو الأثر (ص 109).
يقول السرخسي: "وشرط الصحة في الإجازة والمناولة أن يكون ما في الكتاب معلومًا للمجاز له مفهومًا له، وأن يكون المجيز من أهل الضبط والإتقان قد علم جميع ما في الكتاب، وإذا قال حينئذٍ أجزتُ لك أن تروي عني ما في هذا الكتاب كان صحيحًا؛ لأن الشهادة تصحُّ بهذه الصفة، فإن الشاهد إذا وقف على جميع ما في الصك، وكان ذلك معلومًا لمن عليه الحق فقال: أجزتُ لك أن تشهد عليَّ بجميع ما في هذا الكتاب كان صحيحًا، فكذلك رواية الخبر.
فأما إذا كان المجيز عالم بما في الكتاب؛ فقد قال بعض مشايخنا: إن على قول أبي حنيفة ومحمد لا تصح هذه الإجازة، وعلى قول أبي يوسف تصح، على قياس اختلافهم في كتاب القاضي إلى القاضي وكتاب الشهادة، فإن علم الشهاد بما في الكتاب شرط في قول أبي حنيفة ومحمد ولا يكون شرطًا في قول أبي يوسف لصحة أداء الشهادة.
والأصح عندي -القائل السرخسي- أن هذه الإجازة لا تصح في قولهم جميعًا، إلا أن أبا يوسف استحسن هناك لأجل الضرورة؛ فالكتب تشتمل على أسرار لا يريد الكاتب والمكتوب إليه أن يقف عليها غيرهما، وذلك لا يوجد في كتب الأخبار.
تم الخبر أصل الدين أمره عظيم وخطبه جسيم، فلا وجه للحكم بصحة تحمل الأمانة فيه قبل أن يصير معلومًا مفهومًا له، ألا ترى أنه لو قرأ عليه المحدث فلم يسمع ولم يفهم لم يجز له أن يروي، والإجازة إذا لم يكن ما في الكتاب معلومًا له دون ذلك، كيف تجوز الرواية بهذا القدر". أصول السرخسي (1/ 377)، وراجع: كشف الأسرار (3/ 43).
أما المحدثون فاستحسنوا ذلك ولم يشترطوه، يقول ابن الصلاح في علوم الحديث (ص 164): "إنما تستحسن الإجازة إذا كان المجيز عالمًا بما يجيز، والمجاز له من أهل العلم؛ لأنها توسع وترخيص يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها، وبالغ بعضهم فجعله شرطًا فيه، وحكاه أبو العباس الوليد بن بكر المالكي عن مالك، وقال الحافظ أبو عمر بن عبدالبر: الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة وفي شيء معين لا يشكل إسناده والله أعلم". اهـ.
وقد اقتصر تصحيح الحنفية للإجازة على هذه الإجازة الخاصة المعينة وبشرط علم وفهم المجاز به من المجيز والمستجيز، وأما بقية أنواع الإجازة؛ كإجازة غير المعيَّن، أو الإجازة بغير معيَّن، أو بمجهول، أو الإجازة للمعدوم فلا يرى الحنفية صحتها.
قال السرخسي: "فأما إذا قال المحدث: أجزتُ لك أن تروي عني مسموعاتي. فإن ذلك غير صحيح بالاتفاق، بمنزلة ما لو قال رجل لآخر: اشهد عليَّ بكل صك تجد فيه إقراري، فقد أجزتُ لك ذلك، فإن ذلك باطل.
وقد نُقل عن بعض أئمة التابعين: أن سائلاً سأله الإجازة بهذه الصفة، فتعجب وقال لأصحابه: هذا يطلب مني أن أجيز له أن يكذب عليَّ. وبعض المتأخرين جوَّز ذلك على وجه الرخصة لضرورة المستعجلين، ولكن في هذه الرخصة سد باب الجهد في الدين، وفتح باب الكسل فلا وجه للمصير إليه". أصول السرخسي (1/ 378).
_النوع الثاني/ المناولة.
وهي ضربان:
الأول/ المناولة المقرونة بالإجازة، وهي أعلى أنواع الإجازة.
وصورتها: أن يدفع الشيخ أصل سماعه أو ما قام مقامه من فرع مقابل به، مُمَلِّكًا أو مُعيرًا، أو يُحضر الطالب أصل نفسه أو الرفع المقابل به، فيتأمله الشيخ ثم يناوله أيًّا كان منها قائلاً: هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه، أو أجزتُ لك روايته عني.
وهذه المناولة كالسماع في القوة عند الزهري وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري ومجاهد والشعبي ومالك وغيرهم. والصحيح أنها منحطة عن السماع والقراءة، وهو قول الثوري والأوزاعي وابن المبارك وأبي حنيفة والشافعي والبويطي والمزني وأحمد وإسحاق - قفو الأثر (ص 110)، وتدريب الراوي (2/ 45).
الضرب الثاني/ المناولة المجردة بأن يناوله مقتصرًا على هذا سماعي، فلا يجوز الرواية بها على الصحيح الذي قاله الفقهاء وأصحاب الأصول وعابوا على المحدثين المجوزين - علوم الحديث (ص 165)، وتدريب الراوي (2/ 45).
وهذا مذهب الحنفية أنه لا اعتبار للمناولة بدون الإجازة؛ لأنها تأكيد الإجازة، ولا اعتبار للمزكِّد بدون المؤكَّد - كشف الأسرار (3/ 45).
-لفظ الأداء في الإجازة والمناولة:
والمستحب عند الحنفية أن يقول عند الرواية: أجاز لي فلان، فإن قال أخبرني فهو جائز أيضًا، وليس ينبغي له أن يقول حدثني، فإن ذلك مختص بالإسماع وحده. والمناولة لتأكيد الإجازة، فيستوي الحكم فيما إذا وُجدا جميعًا أو وثجدت الإجازة وحدها - أصول السرخسي (1/ 377)، وكشف الأسرار (2/ 44).
وأما عند المحدثين فالصحيح الذي عليه الجمهور المنع من إطلاق حدثنا وأخبرنا، وتخصيصها بعبارة مشعرة بها: كحدثنا وأخبرنا إجازة، أو مناولة وإجازة، أو إذنًا، أو فيما أذن لي، أو أجازني، أو ناولني، أو شبه ذلك، واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة - علوم الحديث (ص 169)، وتدريب الراوي (2/ 52).

وراجع كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور كيلاني محمد خليفة، (ص 291، 300).

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الحَنَفِيَّةِ - فِي ’’الرِّوَايَةِ بِالمَعْنَى‘‘

السلام عليكم

أنصح بمراجعة كتاب "الموازنة بين منهج الحنفية ومنهج المحدثين في قبول الأحاديث وردها" ، لمؤلفه: عدنان علي الخضر .. الصفحات (444-461).

والله الموفق.
 
أعلى