عمرو بن الحسن المصري
:: نشيط ::
- إنضم
- 30 سبتمبر 2012
- المشاركات
- 685
- التخصص
- طالب جامعي
- المدينة
- القاهرة
- المذهب الفقهي
- حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بِسْمِ اللهِ، والصلاةُ والسَّلامُ علَى رسولِ اللهِ، وبعدُ:
فقد رأيتُ أن أجمع في هذا الموضوع ما أضفتُه من مشاركات خاصة بهذه المسألة، في [الصفحة 2] من موضوع (خبر الاحاد اذا تقلته الامة بالقبول فهو بمعنى المتواتر عند الحنفية)..
المشاركة 24# /
يُقسم الحنفية الحديث من حيث الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اتصال كامل بلا شبهة وهو المتواتر، واتصال فيه ضرب شبهة صورة وهو المشهور، واتصال فيه شبهة صورة ومعنى وهو الآحاد.
القسم الأول: المتواتر/
وهو الخبر الذي رواه قوم لا يُحصى عددهم، ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب، ويدوم هذا الحد فيكون آخره كأوله وأوسطه كطرفيه.
كذا عرفه البزدوي والنسفي وزاد عبدالعزيز البخاري وابن ملك: وأن يكونوا عالمين بما أخبروا علمًا يستند إلى الحس لا إلى دليل عقلي. وذلك مثل نقل القرآن والصلوات الخمس وأعداد الركعات ومقادير الزكوات وما أشبه ذلك. وهذا القسم يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علمًا ضروريًّا، ومنكر المتواتر ومخالفه كافر. راجع: كشف الأسرار (2/ 360)، وأصول السرخسي (1/ 282)، وشرح المنار ص(615)، والفصول في الأصول (3/ 37)، والتلويح على التوضيح (2/ 3)، والتقرير والتحبير (2/ 235).
القسم الثاني: المشهور/
وهو ما كان من الآحاد في الأصل ثم انتشر حتى نقله قوم لا يتوهم تواطؤهم على الكذب وهم القرن الثاني والثالث.
ويُسمى هذا القسم مشهورًا أو مستفيضًا، من شهر يشهر شهرًا أو شهرة فاشتهر أي وضح، ومنه شهر سيفه إذا سله، واستفاض الخبر أي شاع، وخبر مستفيض أي منتشر بين الناس.
وهو القسم الثاني من أقسام الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي فيه ضرب شبهة صورة لا معنى، ولأنه كان من أخبار الآحاد في القرن الأول كان في الاتصال ضرب شبهة صورة، ولما اشتهر وتلقته الأمة بالقبول مع عدالتهم وشدتهم في الدين كان بمنزلة المتواتر، والمعتبر في الاشتهار ما كان في القرن الثاني والثالث لا القرون التي بعدهما، فإن عامة أخبار الآحاد اشتهرت في هذه القرون ولا تُسمى مشهور.
والفرق بين المتواتر والمشهور أن المتواتر نُقل من مبدأ التلقي بطريق التواتر في حلقات السند في العصور الثلاثة كلها، أما المشهور فإن الحلقة الأولى فيها مفقود منها التواتر بعكس الحلقتين التاليتين.
والمحدثون شعتبرون المشهور قسمًا من أقسام الآحاد، والحنفية يعتبرونه قسيمًا للمتواتر والآحاد، ويعدونه في منزلة مستقلة دون المتواتر وفوق الآحاد، ويرى الجصاص أن الأخبار على ضربين: متواتر وآحاد، واعتبر المشهور أحد قسمي المتواتر.
واتفق الحنفية على أن الأحاديث المشهور يخصص بها عام القرآن ويقيد بها مطلقه كما هو حكم السنة المتواترة، وهو ما يُعرف عندهم بمبدأ الزيادة على كتاب الله وهو نسخ عندهم، وإن كان لا يصح به مطلق النسخ.
والزيادة على النص بالخبر المشهور مثل زيادة الرجم في حق المحصن بقوله صلى الله عليه وسلم: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم) -أخرجه مسلم (4509)-. وبرجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزًا وغيره -راجع: صحيح مسلم (4510- 4532)-، والمسح على الخفين بحديث المغيرة بن شعبة وغيره -أخرجه البخاري (182)، ومسلم (649)-، والتتابع في صوم كفارة اليمين بقراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) -سورة المائدة الآية 89 وهذه قراءة عبدالله بن مسعود وأُبيّ بن كعب رواها عنهما ابن جرير في تفسيره (7/ 30)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 60)، والحاكم في المستدرك (2/ 303)، وعبدالرزاق في مصنفه (8/ 513)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 88)، وراجع: الدر المنثور للسيوطي (3/ 155-، وقد تحقق النسخ معنى في هذه الصور بهذه الزيادات، فإن عموم قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالْزَانِي) [النور: 2] يتناول المحصن كما يتناول غيره، فبزيادة الرجم انتسخ حكم الجلد في حقه، وكذا قوله تعالى: (وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة: 6] يتناول حال المتخفف في إيجاب الغسل، فبزيادة المسح انتسخ الحكم في هذه الحالة. وكذا إطلاق قوله عز اسمه (فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ) [المائدة: 89] يوجب جواز التفرق فيه، فبتقييده في التتابع انتسخ جواز التفرق، وليس هذا عند الحنفية من قبيل التخصيص؛ لأن من شرطه عندهم أن يكون المخصص مثل المخصوص منه في القوة، وأن يكون متصلًا لا متراخيًا، ولم يوجد الشرطان جميعًا.
واختلف الحنفية فيما يُفيده المشهور؛ فذهب أبو بكر الجصاص وجماعة على أنه مثل المتواتر فيثبت به علم اليقين، لكن بطريق الاستدلال لا بطريق الضرورة، وهو يتفق مع ما قاله الحافظ ابن حجر من أن المشهور إذا احتفَّ بقرائن -بأن كانت له طرق متباينه سالمه من ضعف الرواة والعلل- أفاد العلم النظري، وجعل الحنفية القرينة الانتشار في القرن الثاني والثالث وتلقي الأمة له بالقبول.
وذهب عيسى بن أبان وعامة الحنفية إلى أنه يوجب علم طمأنينة، وهو علم يطمئن به القلب فوق الظن مع توهم الكذب، أي جانب الصدق يترجح فيه بحيث تطمئن القلوب، ولكن لا ينتفي عنه توهم الكذب والغلط.
وجاحد المشهور لا يكفر بالاتفاق؛ لأن إنكاره وجحوده لا يؤدي إلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم عدد لا يتصور تواطؤهم على الكذب؛ بل هو خبر واحد قبله العلماء في العصر الثاني، وإنما يؤدي إلى تخطئة العلماء وليست بكفر؛ بل هي بدعة وضلال، بخلاف إنكار المتواتر فإنه يؤدي إلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ المتواتر بمنزلة المسموع منه، وتكذيب الرسول كفر.
-وللأحنلاف تفصيل حسن فيمن جحد المشهور فقد قسمه عيسى بن أبان إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم يضلل جاحده ولا يكفر؛ مثل خبر الرجم، لاتفاق العلماء من الصدر الأول والثاني على قبوله.
2- قسم لا يضلل جاحده ولكن يُخطئ ويُخشى عليه المأثم، نحو خبر المسح على الخفين لشبهة الاختلاف فيه في الصدر الأول؛ فقد رُوي عن عائشة وابن عبا أنهما كانا ينكران المسح على الخفين، ونُقل رجوعهما عن ذلك -أما إنكار عائشة فقد رُوي أنها قالت: لأن أقطع رجلي بالوسَى أحب إليَّ من أن أمسح على الخفين. قال ابن الجوزي: موضوع على عائشة، وضعه محمد بن مهاجر البغدادي. راجع: تنزيه الشريعة لابن عراق (2/ 71). والثابت عنها إحالة علم ذلك إلى عليٍّ، أخرج مسلم (661) عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة فسألتها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الدارقطني بسند ضعيف (1/ 194) أنها قالت: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين منذ نزلت عليه سورة المائدة حتى لحق بالله عز وجل. وأما إنكار ابن عباس فقد أخرج أحمد في مسنده (1/ 323، 366) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قد مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين، فاسألوا هؤلاء الذين يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح قبل نزول المائدة أو بعد المائدة، والله ما مسح بعد المائدة، ولأن أمسح على ظَهْرِ عَابِرٍ بالفلاة أحب إِلَيَّ من أن أمسح عليهما. وروى البيهقي في سننه الكبرى (1/ 273) روجوعه عن ذلك: عن موسى بن سلمة قال: سألت ابن عباس عن المسح على الخفين فقال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة. قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح-، فلشبهة الاختلاف لا يضلل جاحده، ولكن يُخشى عليه الإثم؛ لأن باعتبار الرجوع يثبت الإجماع، وقد ثبت الإجماع على قبوله في الصدر الثاني والثالث، ولا يسع مخالفة الإجماع؛ فلذلك يُخشى على جاحده الإثم.
3- قسم لا يُخشى على جاحده المآثم ولكن يخطأ في ذلك، مثل الأخبار التي اختلف فيها الفقهاء في باب الأحكام؛ لأنه لما ظهر فيها الاختلاف في كل قرن، كان لكل من ترجح عنده جانب الصدق أن يخطئ صاحبه، ولكن لا يؤثم في ذلك؛ لأنه صار إليه عن اجتهاد والإثم في الخطأ موضوع عن المجتهد. راجع: كشف الأسرار (2/368)، وأصول السرخسي (1/ 292)، وشرح المنار ص(618)، والتلويح على التوضيح (2/ 3)، والتقرير والتحبير (2/ 235).
القسم الثالث: الآحاد/
وهو كل خبر يرويه الواحد أو الاثنان فصاعدًا لا عبرة للعدد فيه بعد أن يكون دون المشهور والمتواتر.
وهذا هو القسم الثالث من أقسام الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الحنفية، وهو اتصال فيه شبهة صورةً ومعنًى، أما ثبوت الشبهة فيه صورة؛ فلأن الاتصال بالرسول صلى الله عليه وسلم لم يثبت قطعًا، وأما معنًى؛ فلأن الأمة ما تلقته بالقبول.
وخبر الواحد يوجب العمل ولا يوجب العلم يقينًا، أي لا يوجب علم اليقين ولا علم الطمأنينة، وهو مذهب أكثر أهل العلم وجملة الفقهاء. راجع: كشف الأسرار (2/ 370)، وأصول السرخسي (1/ 321)، وشرح المنار ص(619)، والتلويح في التوضيح (2/ 3)، والتقرير والتحبير (2/ 235).
وفيه تفصيل عند الحنفية.
يتلخص مما سبق أن الخلاف بين الحنفية والمحدثين في تقسيم الأخبار ينحصر في المشهور، أما الآحاد والمتواتر فلا خلاف فيهما؛ فالمحدثون يعرفون المشهور بما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ درجة التواتر، ويجعلونه من أقسام الآحاد المفيدة للظن الوجبة للعمل، إلا إذا احتفَّ بقرائن فإنه يُفيد العلم النظري.
أما الحنفية فيعرفونه بأنه ما كان أحاديًّا ثم تواتر، ويجعلونه في مرتبة فوق خبر الواحد وأدنى من التواتر، وأنه يوجب علم طمأنينة؛ ولذلك جوزوا الزيادة به على كتاب الله تعالى التي هي تعدل النسخ بخلاف الآحاد.
وما ذهب إليه الحافظ ابن حجر من إفادة المشهور للعلم النظري، يكاد يكون متطابقًا مع مذهب الحنفية، مما يدل على تأثره بهم في ذلك.
وينبغي على من يُطالع كتب مذهب معين أن يتعرف أولًا على مصطلحاتهم، حتى لا يخلط بين الأمور ويقع في الخطأ والزلل؛ فالشائع من مذهب الحنفية أنهم لا يجوزون الزيادة بخبر الواحد على الكتاب، فمن لم يعلم أن الحديث المشهور عند الحنفية ليس من أقسام الآحاد، وقع في الحيرة عندما يجدهم يجوزون الزيادة بالمشهور على الكتاب.
(فائدة): كثير من الباحثين يُهملون تقسيمًا من أهم ما ينبغي أن يُعلم في هذا الصدد. وهو تقسيم الخبر إلى ما يتضمن تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى التبليغ عن الله، وإلى ما يتضمن تصرفه بمقتضى إمامته للأمة، أو ما يسمى بالسياسة الشرعية، ومن المعلوم أن لأبي حنيفة رأيًا اختلف به عن أكثر الأئمة، في تمييز هذه التصرفات بعضها عن بعض. فهو مثلًا انفرد بالذهاب إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال: (من أحيا أرضًا ميتة فهي له). بوصف كونه إمامًا لا بوسف كونه مبلغًا؛ لذا فلا يجوز لأحد أن يستقل بإحياء أرض ميتة دون استئذان الإمام في ذلك، خلافًا للجمهور. وهو مثلًا يرى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتغريب في حدّ الزنا داخل أيضًا في تصرفاته بحكم الإمامة، ولذا فهو لا يدخل في الحدّ الذي هو حكم تبليغي دائمًا، وإنما يدخل في التعازير التي يتم البتّ فيها بمقتضى حكم الإمامة. ولو حفل المرء بهذا التقسيم وركز عليه لرأى أن كثيرًا من الخلافات المعروفة بين أبي حنيفة وبقية الأئمة تندرج تحته.
وراجع: منهج الحنفية في نقد الحديث ص(93- 107)، وتقديم الدكتور البوطي له ص(18، 19).
والمشاركة 25# /
(مُخالفة خبر الواحد للسنة المعروفة)
من قواعد الحنفية في قبولة حديث الآحاد أن لا يخالف السنة المعروفة، ويعتبرون تلك المخالفة انقطاعًا باطنًا يقدح في صحة الحديث وثبوته، ومعنى المخالفة هنا هو ذاته المتقدم عند الحديث على مخالفة الحديث للكتاب.
والمراد بالسبنة المعروفة: المتواترة أو المشهورة أو ما تلقته الأمة بالقبول، والمشهور عند الحنفية كما سبق قسم من أقسام المتواتر، وليس من أقسام الآحاد كما في اصطلاح المحدثين؛ لذا فالآحاد عندهم وهو ظني لا يعارض السنة المعروفة؛ لأنها قطعية.
قال السرخسي في أصوله (1/ 366): الغريب من أخبار الآحاد إذا خالف السنة المشهورة فهو منقطع في حكم العمل به؛ لأنه ما يكون متواترًا من السنة أو مستفيضًا أو مجمعًا عليه فهو بمنزلة الكتاب في ثبوت علم اليقين به، وما فيه شبهة فهو مردود في مقابلة اليقين، وكذلك المشهور من السنة فإنه أقوى من الغريب لكونه أبعد عن موضع الشبهة؛ ولهذا جاز السخ بالمشهور دون الغريب؛ فالضعيف لا يظهر في مقابلة القوي. اهـ.
ثم أوضح السرخسي أهمية هاتين القاعدتين السابقتين -أعني عرض الحديث على الكتاب والسنة المشهورة- فقال -كما في أصول السرخسي (1/ 367)-: ففي هذينِ النوعينِ من الانتقاد للحديث علم كثير، وصيانة للدين بليغة، فإن أصل البدع والأهواء إنما ظهر من قبل ترك عرض أخبار الآحاد على الكتاب والسنة المشهورة، فإن قومًا جعلوها أصلًا مع الشبهة في اتصالها برسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أنها لا توجب علم اليقين، ثم تأولوا عليها الكتاب والسنة المشهورة فجعلوا التبع متبوعًا، وجعلوا الأساس ما هو غير متيقن به فوقعوا في الأهواء والبدع، بمنزلة من أنكر خبر الواحد فإنه لما لم يجوز العمل به احتاج إلى القياس به وفيه أنواع من الشبهة، أو إلى استصحاب الحال وهو ليس بحجة أصلًا، وترك العمل بالحجة إلى ما ليس بحجة يكون فتحًا لباب الإلحاد وجعل ما هو غير متيقن به أصلًا، ثم تخريج ما فيه التيقن عليه يكون فتحًا لباب الأهواء والبدع، وكل واحد منهما زيف مردود، وإنما سواء السبيل ما ذهب إليه علماؤنا -رحمهم الله- من إنزال كل حجة منزلتها، فإنهم جعلوا الكتاب والسنة المشهورة أصلًا، ثم خرجوا عليهما ما فيه بعض الشبهة وهو المروي بطريق الآحاد مما لم يشتهر، فما كان منه موافقًا للمشهور قبلوه، وما لم يجدوا في الكتاب ولا في السنة المشهورة له ذكرًا قبلوه أيضًا وأجبوا العمل به، وما كان مخالفًا لهما ردوه، على أن العمل بالكتاب والسنة أوجب من العمل بالغريب بخلافه، وما لم يجدوه في شيء من الأخبار وصاروا حينئذ إلى القياس في معرفة حكمه لتحقق الحاجة إليه. اهـ. وانظر: كشف الأسرار (3/ 13)، والفصول في الأصول (3/ 144)، وشرح المنار (2/ 647)، والتلويح على التوضيح (2/ 17).
وفي هذا المبحث أمثلة؛ منها:
-مسألة (القضاء بالشاهد واليمين).
-ومسألة (بيع الرطب بالتمر).
ويُراجع كتاب منهج الحنفية في نقد الحديث ص(192، 193 [الأمثلة193- 197]).
والمشاركة 26# /
يقول التهانوي في قواعد علوم الحديث ص(62):واختلف الحنفية فيما يُفيده المشهور؛ فذهب أبو بكر الجصاص وجماعة على أنه مثل المتواتر فيثبت به علم اليقين، لكن بطريق الاستدلال لا بطريق الضرورة، وهو يتفق مع ما قاله الحافظ ابن حجر من أن المشهور إذا احتفَّ بقرائن -بأن كانت له طرق متباينه سالمه من ضعف الرواة والعلل- أفاد العلم النظري، وجعل الحنفية القرينة الانتشار في القرن الثاني والثالث وتلقي الأمة له بالقبول.
((بل الحديثُ إذا تلقَّته الأُمَّةُ بالقبول فهو عندنا في معنى المتواتر.
قال الجصَّاص في أحكام القرآن له (1/ 386): وقد استعمَلَت الأُمة -أي في نقصان العدة- هذين الحديثين -يعني حديث أبي داود 2: 257، وابن ماجه 1: 672 "عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طلاقُ الأمَة تطليقتان، وعِدّتُها حَيضتان". وحديث ابن ماجه 1: 672 والدراقطني 4: 38 "عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طلاقُ الأمَة اثنتان. وعِدّتُها حَيضتان"-، وإن كان وروده -أي هذا اللفظ: "طلاقُ الأمة تطليقتان"- من طريق الآحاد، فصار في حيِّز التواتر، لأن ما تلقَّاه الناس من أخبار الآحاد بالقبول فهو عندنا في معنى المتواتر، لما بيناه في مواضع. اهـ.)) انتهى.
والمشاركة 27# /
جاء في ((الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة)) للعلاّمة عبدالحي اللكنوي، مع تعليقات الشيخ عبدالفتاح أبو غدّة (ص 50-52):
"وفي ((فتح المغيث بشرح ألفية الحديث)) (ص 120) للسَّخاوي:
...
وكذا إِذا تلقَّت الأُمَّةُ الضعيفَ بالقبول يُعمَلُ به على الصحيح، حتى إِنه يُنزَّلُ منزلةَ المتواترِ في أنه يَنْسَخُ المقطوعَ به،
[أي يُعمَلُ به وجوبًا، ويكون ذلك العمَلُ تصحيحًا له، كما صرَّح به الحافظ ابنُ حجر في ((نُكَتِه على مقدمة ابن الصلاح)) ونَقَله عن جماعةٍ من أئمة الأصول. ويُفهَمُ هذا من قولِ تلميذه السخاويُّ هنا: "حتى إنه ينزَّلُ منزلةَ المتواتر".
وقد جمَعتُ نصوص علماءِ المحدِّثين والفقهاءِ الدالَّة على ذلك جمعًا وافيًا حتى صَلَحتْ -لطولِها- أن تكون رسالةً مستقلة، فرأيتُ أن أجعلها في آخر هذا الكتاب..]
ولهذا قال الشافعيّ في حديث (لا وصية لوارث): إِنه لا يُثبتُهُ أهلُ الحديث، ولكن العامَّة تلقَّتْه بالقبول وَعمِلُوا به حتى جعلوه ناسخًا لآيةِ الوصيَّة.
[قلت: كَتَب شيخنا الإمامُ الكوثريّ رحمه الله تعالى في كتابه: ((المقالات)) مقالاً خاصًّا بهذا الحديث: (ص 65-67)، نَقَل فيه إجماع العلماء على العَمل به، كما نقَل أيضًا أنه حديثٌ صحيحٌ سندًا، فانظره]". انتهى.
والمشاركة 28# /
جاء في كتاب ((الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة)) للعلاّمة عبدالحي اللكنوي، مع "التعليقات الحافلة على الأجوبة الفاضلة" للشيخ عبدالفتاح أبو غدّة (ص 228- 238)؛ بحثٌ نفيس يتعلق بهذا الموضوع، فآثرتُ أن أنقله ههنا بالحرف لنفاسته:
((وجوبُ العمل بالحديث الضعيف إِذا تلقاه الناسُ بالقبول وَعمِلوا بمدلوله، ويكونُ ذلك تصحيحًا له.
جاء في ((الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة)) للعلاّمة عبدالحي اللكنوي، مع تعليقات الشيخ عبدالفتاح أبو غدّة (ص 50-52):
"وفي ((فتح المغيث بشرح ألفية الحديث)) (ص 120) للسَّخاوي:
...
وكذا إِذا تلقَّت الأُمَّةُ الضعيفَ بالقبول يُعمَلُ به على الصحيح، حتى إِنه يُنزَّلُ منزلةَ المتواترِ في أنه يَنْسَخُ المقطوعَ به،
[أي يُعمَلُ به وجوبًا، ويكون ذلك العمَلُ تصحيحًا له، كما صرَّح به الحافظ ابنُ حجر في ((نُكَتِه على مقدمة ابن الصلاح)) ونَقَله عن جماعةٍ من أئمة الأصول. ويُفهَمُ هذا من قولِ تلميذه السخاويُّ هنا: "حتى إنه ينزَّلُ منزلةَ المتواتر".
وقد جمَعتُ نصوص علماءِ المحدِّثين والفقهاءِ الدالَّة على ذلك جمعًا وافيًا حتى صَلَحتْ -لطولِها- أن تكون رسالةً مستقلة، فرأيتُ أن أجعلها في آخر هذا الكتاب..]
ولهذا قال الشافعيّ في حديث (لا وصية لوارث): إِنه لا يُثبتُهُ أهلُ الحديث، ولكن العامَّة تلقَّتْه بالقبول وَعمِلُوا به حتى جعلوه ناسخًا لآيةِ الوصيَّة.
[قلت: كَتَب شيخنا الإمامُ الكوثريّ رحمه الله تعالى في كتابه: ((المقالات)) مقالاً خاصًّا بهذا الحديث: (ص 65-67)، نَقَل فيه إجماع العلماء على العَمل به، كما نقَل أيضًا أنه حديثٌ صحيحٌ سندًا، فانظره]". انتهى.
تقدَّمَت الاحالةُ إلى هذا البحث في التعليق (ص 52) عند قول السخاوي رحمه الله تعالى في مبحث العمل بالحديث الضعيف: "وكذا إذا تلقَّت الأمَّةُ الضعيفَ بالقبول يُعمَلُ به على الصحيح". وها أنا ذا أوردُ هنا ما أحلت إليه هناك استكمالاً لمقاصد هذا الكتاب فأقول:
سُئِلَ العلاّمةُ المحدِّث الفقيه الشيخ حُسَين بن محسن الأنصاري اليماني المتوفى ببلدة بهوبال من الهند 1327 رحمه الله تعالى عن قول الإمام الترمذي في ((جامعه)) إذا ذكَرَ حديثًا ضعيفًا قال: "والعملُ عليه عند أهل العلم".
مِن ذلك قولُه في باب الجمع بين الصلاتين (1/ 303) من حديث حَنَشٍ عن عكرمة عن ابن عباسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ جَمَعَ بين الصلاتين من غيرِ عُذْر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر).
قال أبو عيسى: "حَنَشٌ هذا هو أبو عليّ الرَّحبي، وهو حُسَينُ بنُ قيس، وهو ضعيفٌ عند أهل الحديث، ضعَّفه أحمدُ وغيره، والعملُ على هذا عند أهل العلم: أن لا يُجمَع بين الصلاتين إِلا في السَّفر أو بعَرَفة".
والمسئولُ عنه: أنَّ القاعدة المقرَّرة التي اتَّفقَ عليها المحدِّثون أنه لا يُقبلُ في الأحكام إِلا الحديثُ الصحيحُ أو الحسَنُ، وهذا الحديثُ ضعيف، فكيف ساغَ لأهلِ العلمِ العَمَلُ به؟ بَيّنوا لنا ذلك من كلام أئمةِ الحديث بيانًا واضحًا جُزيتم خيرًا.
فقال رحمه الله تعالى في الجواب: اعلم -وفقنا الله وإياك- أنَّ الحديث الضعيف هوما فقَدَ شرطًا من شروط المقْبول الذي هو أعمُّ من الصحيحِ والحَسَن، ومعنى كونهِ أعمَّ أنه يصحُّ أن يَشْترك في مفهومِه كثيرون. فإنَّ المقبول صادِقٌ على الحَسَنِ والصحيحِ وعلى غيرِهما أيضًا.
قال السيوطي في ((شرح نَظْم الدُّرَر)) المسمى بـ((البَحر الذي زخَر)): "المقبول:
ما تلقاه العلماء بالقبولِ وإن لم يكن له إسنادٌ صحيح، فيما ذكره طائفة من العلماء، منهم ابنُ عبدِالبرّ. ومثَّلُوه بحديثِ جابر رضي الله عنه: (الدينارُ أربعةٌ وعشرون قيراطًا).
أو اشتهرَ عند أئمة الحديث بغير نكيرٍ منهم، فيما ذكره الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايينيُّ وابنُ فوْرك، كحديثِ (في الرِّقةِ -الفِضّة الخالصة- ربعُ العُشر)، وحديثِ (لا وصيَّة لوارث).
أو وافق آية من القرآن، أو بعض أصولِ الشريعة، حيث لم يكن في سنده كذّاب، على ما ذكره ابنُ الحضّار".
وقال السيوطيُّ أيضًا في ((التعقُّبَات على الموضوعات)) (ص 12) بعد أن ذكر حديثَ حَنشٍ السابقَ: (مَنْ جمَعَ بين الصلاتين من غير عُذْرٍ فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر): "أخرجه الترمذيُّ وقال: العملُ على هذا عند أهلِ العلم. فأشار بذلك إِلى أنَّ الحديث اعتضَد بقول أهل العلم. وقد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قولَ أهل العلم به وإِن لم يكن له إِسناد يُعتمد على مثله".
وقال السيوطيُّ أيضًا رحمه الله تعالى في ((تدريب الراوي)) (ص 24): "قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإِن لم يكن له إسناد صحيح".
قال ابن عبدالبرِّ في ((الاستذكار)) لما حَكَى عن الترمذيّ أنَّ البخاريّ صَححَ حديث البحر: (هو الطهورُ ماؤه): "وأهلُ الحديثِ لا يُصححون مثل إسناده، لكن الحديث عندي صحيح، لأن العلماء تلقوه بالقبول".
[قلتُ: بل قد صحَّحوا إِسنادَهَُ ومَتْنَهُ، قال الحافظُ الزيلعي في ((نصب الراية)) عند كلامه على هذا الحديث (1/ 97-98): "قال البيهقي في ((كتاب المعرفة)): هذا حديثٌ أودَعه مالك بن أنس ((الموطَّأ)) ورواه أبو داود وأصحابُ السنن وجماعةٌ من أئمة الحديث فيكتبهم مُحتجِّين به، وصحذَحه البخاريَّ فيما رواه الترمذي عنه.
وإنما لم يُخرجه البخاري ومسلمٌ في ((صحيحهما)) لاختلافٍ وقَعَ في اسم (سعيد بن سَلَمة)، و(المغيرة بن أبي بُرْدَة)، ولا يضرُّ اختلاف من اختَلَف عليه فيه، فإنَّ مالكًا قد أقام إسناده عن صفوان بن سليم، وتابعَهُ الليثُ بن سعد، عن يزيد، عن الجُلاح، كلاهما عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة ابن أبي بُردة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فصار الحديثُ بذلك صحيحًا، والله أعلم". ثم حقَّقَ الزيلعيُّ نفيَ جهالةِ العين والحالِ عن (سعيد بن سلمة) و(المغيرة ابن أبي بُرْدة) ونقلَ توثيقَهما وقال أيضًا: "ولهذا صحَّحهُ الترمذي، وحَكى عن البخاري تصحيحه".
وكذلك حقَّقَ شيخُ الزيلعيِّقبلَهُ: الحافظ علاء الدين المارديني في ((الجوهر النقي)) (1/ 4) نفي الجهالةِ عنهما، وتوثيقَهما ثم قال: "ولهذا صحَّحَ الترمذي هذا الحديث، وحَكى عن البخاريتصحيحَه، وصحَّحه ابنُ خُزَيمة وغيرُه".
وقال الحافظُ ابنُ حجر في ((تهذيب التهذيب)) في ترجمة (سعيد بن سَلمة) (4/ 42) "وصحَّحَ البخاري -فيما حكاه عنه الترمذي في ((العلل)) المفرد- حديثَهُ في البحر: (هو الطذَهورُ ماؤه) الحِلُّ مَيْتتهُ)، وكذا صحَّحهُ ابنُ خُزيمة وابنُ حِبَّان وغيرُ واحد".]
وقال في ((التمهيد)): رَوَى جابرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم (الدينارُ أربعةٌ وعشرون قيراطًا). قال:"وفي قولِ جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه: غنًى عن الإسناد فيه".
وقال الأستاذُ أبو إسحاق الاسْفراييني: "تُعرَفُ صحةُ الحديث إذا اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم. وقال نحوَهُ ابنُ فُوْرَك، وزادَ بأن مَثَّل ذلك بحديث: (في الرذِقَةِ -الفِضَّة الخالصةِ- ربعُ العُشر، وفي مائتي درهم خمسةُ دراهم)".
وقال أبو الحسن بن الحضَّار المالكي في ((تقريب المَدارك على موطَّأ مالك)): "قد يعلمُ الفقيهُ صحةَ الحديث -إذا لم يكن فيه سندهِ كذّاب- بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة، فيحمله ذلك على قبوله والعمل به".
وقال الحافظُ ابنُ حجر في ((الافصاح على نُكَتِ ابنِ الصلاح)): "ومن جملة صفاتِ القبولِ -التي لم يتعرَّض لها شيخُنا (يعني الحافظ العراقي)- أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث، فإنه يُقبل حتى يجبُ العمل به. وقد صرح بذلك جماعة من أئمة الأصول. ومن أمثلتهِ: قول الشافعي: وما قلت -يعني في تنجيس الماء بحلول النجاسة فيه- من أنه إِذا تغيَّر طعمُ الماءِ أو ريحهُ أو لونهُ، يُروَى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجْهٍ لا يُثبِتُ أهلُ الحديثِ مِثلَه، لكنهُ قولُ العامةِ لا أعلمُ بينهم اختلافًا".
وقال العلامةُ (الحافظ) ابنُ القيم الحنبلي رحمه الله تعالى في كتاب ((الروح)) (ص 14): "ويدلُّ على هذا -أي على أنَّ الميتَ يعلمُ مِن حالِ الأحياء وزيارتِهم له وسلامِهم عليه- ما جرَى عليه عمَلُ الناسِ قديمًا وإلى الآن: مِن تلقين الميت في قبره، وقد سُئلَ عنه الإمامُ أحمدُ رحمه الله تعالى فاستحسنه واحتجَّ عليه بالعَمل.
ويُروَى فيه حديثٌ ضعيفٌ ذكَرَه الطبرانيُّ في ((معجمه)) من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات أحدكم فسوَّيتم عليه التراب فليَقُم أحدكم على رأسِ قبره ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يَسْمعُ ولا يُجيب، ثم ليقُلْ: يا فلان بن فلانة، الثانية، فإنه يستوي قاعدصا، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، يقول: أرشدْنا رحمك الله، ولكنكن لا تَسمَعون. فيقول: اذكُرْ ما خَرَجْتَ عليه من الدنيا: شهادةَ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسولُ الله، وأنك رضيتَ باللهِ ربًّا، وبالإسلام دينصا، وبمحمد نبيًا، وبالقرآن إمامًا، فإنَّ مثنكَرًا ونَكيرًا يتأخذَرُ كل واحدٍ منهما ويقولُ: انطلقْ بنا، ما يُقعِدْنا عند هذا وقد لُقِّنَ حُجَّتَه؟ ويكونُ اللهُ ورسولُه حَجيجه دونهما. فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يَعْرِف أمَّه؟ قال: يَنسُبُه إلى أمه حواء: يا فلان بن حواء).
فهذا الحديث وإن لم يثبت فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار: كافٍ في العمل به".
وقال مُحقِّقُ الحنفية الإمامُ الكمال ابنُ الهُمام في ((فتح القدير)) في آخر الفصل الأول من فصول كتاب الطلاق (3/ 143) عند قوله صلى الله عليه وسلم: (طلاقُ الأمَةِ ثِنْتان، وعِدَّتُها حَيْضَتان)، الذي رواه أبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجه والدارقطني عن عائشة مرفوعًا. قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكَرَ عن بعضهم تضعيفَه ثم رَدَّهُ: "ومما يُصحّحُ الحديث أيضًا عملُ العلماء على وفقه. وقال الترمذي عقيبَ روايته: حديثٌ غريبٌ، والعملُ عليه عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرِهم. وفي ((سنن الدرقطني)) (2/ 441): "قال القاسمُ وسالمٌ: عَمِلَ به المسلمون". وقال مالك: شهرة الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده".
وقال الحافظُ السخاوي في ((فتح المغيث بشرح ألفية الحديث)) (ص 120-121): "وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يُعمل به على الصحيح، حتى أنه ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به، ولهذا قال الشافعي رحمه الله تعالى في حديث (لا وصية لوارث): إنه لا يُثبتُهُ أهلُ الحديث، ولكن العامَّة تلقتْه بالقبولِ وعملوا به حتى جعلوه ناسخًا لآية الوصية".
وقال العلاّمةُ صالحُ بن مَهدي المَقْبِلي اليَمني في بعض مؤلَّفاته: إن الحديث الصحيحَ بالمعنى الأخص عند المتأخرين مِن حَواليْ زمن البخاري ومسلم هو: ما رواه العدلُ الحافظُ عن مثلهِ من غير شذوذٍ ولا عِلذَة، وبالمعنى الأعمّ عند المتقدِّمين من المحدثين وجميعِ الفقهاء والأصوليين هو: المعمولُ به.
فإذا قال المحدِّث من المتأخِّرين: هذا حديثٌ غيرُ صحيح، فإنما نَفى معناه الأخصَّ باصطلاحه، فلا ينفي الأعمَّ، وحينئذ فيُحتمَلُ أنَّ الحديث حسنٌ، أو ضعيفٌ، أو غيرُ معمولٍ به. فيجبُ لأجل هذا الاحتمال البحثُ عن الحديث فإن كان حسنًا أو ضعيفًا معمولاً به كان مقبولاً، وإن كان ضعيفًا غيرَ معمولٍ به كان غيرَ مقبول. ولا تُرَدُّ أحاديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرَّد القولِ المحتمَل.
وقال الشيخ إبراهيم الشبرخيتي المالكيّ في ((شرح الأربعين النووية))(ص 39): "ومحلُّ كونهِ لا يُعمَلُ بالضعيفِ في الأحكام ما لم يكن تلقَّاه الناس بالقبول، فإن كان كذلك تعين وصار حجة يعمل به في الأحكام وغيرها كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى".
قلتُ:حديثُ (لا وصية لوارثٍ) رُوِي بألفاظٍ مختلفة، وقد صَححَ الترمذي بعضَ طُرقِه، وحَسَّنَ بعضَها. قال الحافظُ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (5/ 287): ولا يخلو إسناد كلٍّ منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن الحديث أصلاً، بل جنح الشافعي في ((الأم)) إلى أنَّ هذا المتن متواترٌ فقال: وجَدْنا أهلَ الفُتْيا ومَنْ حَفِظنا عنهم مِن أهل العلم بالمغازي من قريش لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عامَ الفتح: (لا وَصيَّةَ لوارث) ويأثُرونه عمن حَفِظوه فيه ممَّن لقوه مِن أهلِ العلم، فكان نَقْلَ كافَّةٍ عن كافة، فهو أقوى مِن نقْلِ واحدٍ.
وقد نازعَ الفخرُ الرازي في كونِ الحديث متواترًا، قال: وعلى تسليم ذلك فالمشهورُ من مذهبِ الشافعي أنَّ القرآن لا يُنسَخُ بالسُّنة.
قال الحافظ: لكن الحجَّة في هذا إجماعُ العلماءِ على مقتضاه كما صرَّح به الشافعي وغيرُه. انتهى.
فتصحيحُ الترمذي لبعض طُرقِه، وتحسينُه لبعضِها: لِما اعتَضَد عنده من التلقي والإجماع، وإلا فقد علمتَ -كما قاله الحافظ- أنه لا يخلو إسنادُ كلٍّ منها عن مقال. [قلت: سبقت الإشارة تعليقًا في (ص 52) إلى أنَّ شيخنا الإمام الكوثري رحمه الله تعالى حقَّقَ في كتابه ((المقالات)) (ص 65-67): أنه حديث صحيح سندًا، كما نَقَلَ إِجماعَ العلماءِ على العَملِ به، فانظره].
فعلى هذا: فتمثيل أئمةِ الحديث للضعيفِ بحديثِ (لا وَصيَّة لوارث) بأنه ليس له إِسنادٌ ثابتٌ: باعتبار أنَّ كل إسنادٍ منه لا يخلو عن مقال، لا باعتبار التلقي والإجماع على العملِ به، والله أعلم.
ومن هذا الباب - أي من باب الضيف المتلقى بالقبول:
1- حديثُ (من ذرعَهُ القيء وهو صائم فليس عليه القضاء، وإن استقاءَ فليَقْضِ).
قال الحافظُ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) في كتاب الصيام في باب الحجامة والقيءِ للصائم (4/ 152): "رَوَى البخاري في التاريخ الكبير، قال: قال مُسَددٌ عن عيسى بن يونس، حدثنا هشام بن حسان، عن محمدبن سِيرين، عن أبي هريرة رفعَهُ: (من ذَرعَهُ القيء...). قال البخاري: لم يصحّ.
ورواه أصحابُ السنن الأربعة والحاكمُ من طريق عيسى بن يونس، وقال الترمذيّ: غريبٌ لا نَعرِفُه إلا مِن رواية عيسى بن يونس عن هشام، وسألتُ محمدًا -يعني البخاريَّ- عنه فقال: لا أراه محفوظًا.
وقد أخرجه ابن ماجه والحاكم من طريق حفص بن غياث أيضًا عن هشام. قال الترمذيُّ: وقد رُوِيَ من غير وجهٍ عن أبي هريرة، ولا يَصح إسنادُه وعليه العَملُ عند أهلِ العلم".
2- ومن هذا الباب أيضًا: ما أخرجه الترمذي في ((جامعه))في باب ما جاء في الصلاة الدابَّةِ في الطين والمَطر (2/ 203) من حديث عُمَر بن الرمَّاح، عن كثير بن زياد، عن عَمْرو بن عثمان بن يَعْلى بن مُرَّة، عن أبيه، عن جدِّهِ أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم سَفر، فانتهوا إلى مَضيقٍ فحضرت الصلاةُ، فمُطِروا، السماء من فوقهم، واليلَّةُ من أسفَلَ منهم، فأذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلتِه وأقام، وتقدَّم على راحلته فصلَّى بهمُ يوميء إيماء، يجعلُ الجودَ أخفضَ من الركوع.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ تفرَّدَ به عُمَرُ بن الرمّاح البَلْخيّ، لا يُعرَفُ إلا من حديثِه، وقد رَوَى عنه غيرُ واحدٍ مِن أهل العلم، وكذا رُوِيَ عن أنس بن مالك أنه صلى في ماءٍ وطين على دابتِه، والعمَلُ على هذا عند أهلِ العلم، وبه يقولُ أحمد وإسحاق.
قال الحافظ ابن حجر في ((التخليص الحبير)) آخِرَ باب الأذان (1/ 79): "وقد رواه الترمذيّ وأحمدُ والدارقطنيّ من حديث يَعْلى بن مُرَّة، إلى أن قال: وقال الترمذيُّ: تفرَّدَ به عُمَر بن الرمَّاح، وضعَّفه البيهقي وابن العربيّ وابن القطَّان، وقال عبدالحق (الإشبيلي): إسنادُه صحيح، والنوويّ: إسنادُه حَسن، وقد رواه الدارقطني من هذا الوجه بلفظ (فأمر المؤذِّنَ فأذّنَ وأقام، أو أقامَ بغير أذان، ثم تقدَّم فصلَّى). ورجَّحَ السُّهيْليّ هذه الروايةَ لأنها بيَّنت ما أُجمِلَ في رواية الترمذي وإن كان الراوي له عن عُمَر بن الرماح -وهو شَبَابةُ بن سَوَّار- عنده شديدَ الضّعْف".
فعلى كونِ عُمر بن الرماح ضعيفًا عند الترمذي والبيهقي وابن العربي وابن الطقان: يَصحُّ قولُ الترمذي: وعليه العملُ عند أهل العلم، لتلقيهم له بالقبول.
وأما على تصحيحِ الحافظِ عبدالحقّ له وتحسينِ النووي فهو حُجّةٌ بنفسه، فلا إشكال.
3- وما أخرجه الترمذي أيضًا في باب ما جاء في الرَّجُل يَقْتُل ابنَهُ، أيُقادُ منه أم لا؟ من حديث إسماعيل بن عيَّاش، عن المثنَّى بن الصبَّاح، عن عمرو ابن شُعَيب، عن أبيه عن جَدِّه، عن سُراقة بن مالكٍ قال: حضرْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقيدُ الأبَ من ابنِه، ولا يُقيدُ الابنَ من أبيه.
قال الترمذي: هذا حديثٌ لا نَعْرفُه من حديثِ سُرقة إلا من هذا الوجه، وليس إسنادُه بصحيح، رواه إسماعيلُ بن عيَّاش عن المثنَّى بن الصبَّاح، والمثنَّى بن الصبَّاح: يُضعَّف في الحديث.
وقد رَوى هذا الحديث أبو خالد الأحمرُ عن الحجاج عن عَمْوا بن شعيب عن أبيه عن جَدّه عن عُمَر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوِي هذا الحديثُ عن عمرو بن شعيب مُرسلاً، وهذا حديثٌ فيه اضطراب، والعمَلُ على هذا عند أهلِ العلم: أنَّ الأب إذا قتل ابنَه لا يُقاد، وإذا قذَفهُ لا يُحَدّ.
4- وحديثُ (القاتل لا يَرِث). أخرجه الترمذي أيضًا في باب إبطالِ ميراث القاتل (8/ 259) من حديث إسحاق بن عبدالله ابن أبي فَرْوَة، عن الزهري، عن حُمَيد بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القاتلُ لا يرِثُ).
قال الترمذي: "هذا حديثٌ لا يَصحُّ، ولا يُعرَفُ هذا إلا من هذا الوجه، وإسحاقُ بن عبدالله ابن أبي فروة قد تركهُ بعضُ أهل العلم، منهم أحمد بن حنبل، والعملُ على هذا عند أهلِ العلم: أنَّ القاتلَ لا يرِثُ، سواءٌ أكان القتل خطأ أو عمدًا، وقال بعضُهم إذا كان القتلُ خطأ فإنه يَرِث، وهو قول مالك".
وبهذا يتضح لك أنَّ تصحيحَ بعضِ المحدِّثين للحديث إذا صرَّح أكثرهم بضعفه كحديث (لا وصيَّة لوارث) أو غيره مثلاً لا يَثْدَح في تضعيف من ضعَّفه، لأنَّ تضعيفَ من ضعَّفه باعتبار أنَّ كلَّ طريق من طُرقِه لا يخلو إسنادها عن مقال، وتصحيحَ بعضِهم باعتبار التلقي وبالنظرِ إلى مجموعِ طُرُقِه، والله أعلم.
وقال إمامُ العصر الشيخُ محمد أنور شاه الكشميري نوَّر اللهُ مرقدَه في ((فيض الباري على صحيح البخاري))عند قولِ البخاري: بابُ لا وَصيَّة لوارث (3/ 409): "وهذا الحديثُ ضعيفٌ بالاتفاق، مع ثبوت حكمه بالإجماع، ولذا أخرجه المصنِّفُ في ترجمته، وإلا فإنه لا يأتي بالأحاديثِ الضعافِ مثلِه.
وبحَثَ فيه ابنُ القطان أنَّ الحديثَ الضعيفَ إذا انتقَدَ عليه الإجماعُ هل يَنْقلِبُ صحيحًا أو لا؟
والمشهورُ الآن عند المحدِّثين أنه يبقى على حاله، والعمدةُ عندهم في هذا الباب هو حالُ الإسناد فقط، فلا يحكمون بالصحَّةِ على حديثٍ في إسناده راوٍ ضعيف.
وذهب بعضهم إلى أن الحديث إِذا تأيَّد بالعمل ارتقى من حال الضعف إلى مرتبة القبول، وهو الأوجه عندي، وإنْ كَبُرَ على المشغوفين بالإسناد! فإني قد بَلوْتُ حالَهم في تجازُفِهم، وتَسامُحِهم، وتمَاكسِهم بهذا الباب أيضًا. واعتبارُ الواقع عندي أولى من المشي على القواعد، وإنما القواعدُ للفَصْلِ فيما لم ينكشف أمرُه مِن الخارجِ على وجهه. فاتباعُ الواقعُ أولى، والتمسّكُ به أحرى".
قال تلميذُهُ الأرشد أستاذنا العلامة الشيخ محمد بَدْر عالَم حفظه الله في التعليق على كلام إمام العصر: "قلتُ: ولا تكن كما قيل: حَفِظْتَ شيئًا وغابتْ عنك أشياءُ. فإنَّ الشيخ قرَّرَ مُرادَه من تلك الكلمات فيما مرَّ، فلا يُريدُ به هَدْرَ بابِ الإسناد، كيفَ ولولاه لقالَ مَن شاء: ما شاء؟! ولكنهُ يُريدُ أنَّ الحديثَ إذا صحَّ مِن القرائن، وظهرَ به العملُ، فترْكُهُ وقَطْعُ النظرِ عنه بمجرَّدِ راوٍ ضعيفٍ: ليس بسديد، كيفَ وتسلْسُلُ العملِ به أقوى شاهد على ثبوتِهِ عندهم!! وقد قرَّرناهُ وحقَّقناه وشيَّدناهُ في مواضع، فلا نُطيلُ الكلامَ بذكره وإنما أردنا التنبيه فقط".
وسمعتُ من أستاذنا العلامة مجمع العلوم والفضائل الشيخ محمد يوسف البنوري أنهض تلامذة إمام العصر بتبسيط كلامه وفهم مرامه حفظه الله تعالى: أن الشيخ الأنوار كان يقول: "كان الأستاذُ لئلا يُدخَلَ في الدين ما ليس منه، لا ليُخرج من الدين ما ثبَتَ منه مِن عمَلِ أهلِ الإسناد".
انتهى مُلَخَّصًا من كلام العلامة حُسين بن محسن الأنصاري في رسالته ((التحفة المرْضية في حلّ بعضِ المُشكلات الحديثية)) الطبوعةِ في آخِر ((المعجم الصغير)) للطبراني (ص 263-158)، ومُضافًا إليه من تعليقات الصديق الأخ العلامة محمد عبدالرشيد النعماني الهندي حفظه الله تعالى في ((دراسات اللبيب)) (ص 268)، ومَزيدًا عليهما مِنّي أيضًا طائفةٌ من النقول، مع التصحيحِ لما وقع في كلامهما من تحريف. والحمدُ لله رب العالمين.)) انتهى النقل.
ويُضاف لذلك -إتمامًا للفائدة-..
http://feqhweb.com/vb/showthread.php?t=14892&p=121452&viewfull=1#post121452
(تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد):
لمعرفة حُكم تقييد مُطلق الكتاب بخبر الواحد لا بُدَّ أولًا من التمهيد بذكر تعريف الخاص وحكمه، ومعنى المطلق والمقيد وحكم كل منهما.
تعريف الخاص: هو اللفظ الموضوع للدلالة على معنى واحد على سبيل الانفراد.
أي أنه اللفظ الذي يدل على معنى واحد لا يقبل الشركة في ذات المعنى المقصود، سواء أكان ذلك المعنى جنسًا كحيوان، أم نوعًا كإنسان وكرجل، أم شخصًا كزيد، فما دام المُسمى المراد واحدًا غير متعدد مقطوع الشركة فهو الخاص.
حكم الخاص: يدل الخاص على معناه الذي وضع له على سبيل القطع واليقين، ولا يحتاج إلى بيان، فخاص القرآن قطعي في دِلالته لا يحتاج إلى بيان، وكل تغيير في حكمه بنصٍّ آخر هو نسخٌ له، فلا بد أن يكون الناسخ في قوَّة المنسوخ من حيث قوة الثبوت، فإذا لم يكن كذلك لم يُقبل على وجه يُنسخ القرآن - راجع كشف الأسرار (1/ 30)، والتوضيح على التلويح (1/ 33)، وأصول السرخسي (1/ 24)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 205)، أبو حنيفة لأبي زهرة ص(217).
معنى المطلق: هو اللفظ الخاص الذي يدل على فرد شائع أو أفراد على سبيل الشيوع ولم يتقيّد بصفة من الصفات.
حكم المطلق: والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل يدلّ على التقييد، وذلك إذا ورد مطلقًا في موضع، دون أن يتقيَّد في موضع آخر؛ مثل قوله تعالى في كفارة اليمين: (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [المائدة: 89] فإن الرقبة بإطلاقها تدلُّ على إجزاء المؤمنة والكافرة.
فإن دلَّ الدليل على تقييد المطلق عُمِلَ بالقيد كما في قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 21] فإن الوصية وردت مطلقة عن التقييد بمقدار معين، ولكن قام الدليل على تقييدها بالثُلث في الحديث المشهور: أن سعد بن أبي وقاص سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصية فقال: (الثُلث والثلث كثير) -أخرجه البخاري (2744)، ومُسلم (4296)-.
معنى المقيد: لفظ خاص يدل على فرد شائع مقيد بصفة من الصفات؛ فالخاص قُيِّدَ بما قلَّلَ شيوعه، والواقع أن المقيد هو مطلق لحقه قيد أخرجه من الإطلاق إلى التقييد.
حكم المقيد: المقيد يُعمل به على تقييده ما لم يدل دليل على إلغاء القيد، فيُلغى حينئذٍ القيد اللاحق به، مثاله في كفارة الظهار: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [المجادلة: 4] ورد الصيام مقيدًا بتتابع الشهرين، وبكونه قبل العودة إلى التَّماس والاستمتاع بالزوجة التي ظاهر منها، فلا يُجزئ في كفارة الظهار تفريق الصيام، كما لا يجزئ كونه بعد الاستمتاع بالزوجة وإن كان متتابعًا - أصول الفقه الإسلامي (1/ 208)، وراجع: مسلم الثبوت (1/ 360)، والبحر المحيط (3/ 413).
وقداختلف الأصوليّون في تقييد مُطلق الكتاب بخبر الواحد، فذهب الجمهور إلى جوازه، وذهب الحنفية إلى المنع من ذلك، وهذا الخلاف مبنيٌّ على مسألة أخرى؛ وهي: هل الزيادة الطارئة على النص نسخ له أولا؟ فقال الجمهور: الزيادة تقييد أو تخصيص لا نسخ. وقال الحنفية: هي نسخ. ومحلُّ الخلاف فيما إذا تعلّقت الزيادة غير المُستقلة بحُكم المزيد عليه ووردت متأخرة عن المزيد عليه بحيث يُمكن النسخ.
وتظهر ثمرة هذا الخلاف في إثبات تلك الزيادة بما لا يجوز النسخ به كخبر الواحد، فعند الحنفية الذي يَرَون أن تلك الزيادة نسخ لا تثبت الزيادة بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد لا ينسخ المتواتر وهو القرآن، وعند الجمهور الذين لا يرون أن تلك الزيادة نسخ يقولون: تثبت الزيادة بخبر الواحد - ويُراجع: أصول الفقه الإسلامي (2/ 1009)، والبحر المحيط (4/ 143)، وأصول السرخسي (2/ 82)، وكشف الأسرار (3/ 192)، والتقرير والتحبير (3/ 75).
وهذه الزيادة قد تكون بزيادة جزء في الواجب، كزيادة النفي في حدّ الزنا، عملًا بحديث: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة) -أخرجه مسلم (4509)- زيادة على قوله تعالى في حدّ الزنا: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2] فعند الحنفية النفي ليس من الحدّ، بل عقوبة تعزيرية موكولة للإمام، وجعله الجمهور جُزءًا من الحدّ - وفي تلك المسألة تفصيل يطول.
وقد تكون بزيادة شرط في الواجب كاشتراط النيَّة في الوضوء عملًا بحديث: (إنما الأعمال بالنيَّات) -أخرجه البخاري في فاتحة الجامع الصحيح، ومسلم (5036)- زيادة على مضمون قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة: 6]؛ فعند الحنفية النية ليست شرطًا في الوضوء ولكنها مستحبة، وجعلها الجمهور شرطًا - وفي تلك المسألة تفصيل يطول أيضًا.
يقول صاحب فواتح الرحموت (2/ 91): وأما زيادة جزء في الواجب كالتغريب في حد الزنا أو زيادة شرط بعد إطلاق الواجب عنه، كاشتراط الإيمان في رقبة اليمين فهل هو نسخ لحكم المزيد عليه؟ فالحنفية قالوا: نعم نسخ. وهو المسمى عندهم بالنسخ بالزيادة، والشافعية والحنابلة وأكثر المعتزلة قالوا: لا نسخ.
ثم قال: لنا أن المطلق عن تلك الزيادة دلَّ على الإجزاء مطلقًا، سواء مع الزيادة أو مجردًا عنها بدلًا وليس هناك صارف عنه؛ لأن الكلام فيما لا صارف غير هذه الزيادة، وهي مفروضة الانتقاء زمان وجود المطلق فيحمل على الإطلاق ويدل عليه، والتقييد بجزء أو شرط يُنافيه فإنه يقتضي عدم الإجزاء بدونه، فيرفع هذا التقييد حكمًا شرعيًّا، وهو إجزاء الأفراد التي هي مجردة عن هذا التقييد، وهذا ظاهر جدًّا، ولأجل أن زيادة جزء أو شرط نسخ امتنع عندنا الزيادة بخبر الواحد على القاطع كالكتاب، وإلا لزم انتساخ القاطع بالمظنون. اهـ.
وقال صدر الشريعة -كما في شرح التلويح على التوضيح (2/ 75)-: أما زيادة الجزء فإنما تكون بثلاثة أمور: الأول: بالتخيير في اثنين بعدما كان الواجب واحدًا؛ فالزيادة هُنا ترفع حرمة ترك ذلك الواجب الواحد. والثاني: بالتخيير في الثلاثة بعدما كان الواجب أحد اثنين؛ فالزيادة هنا ترفع حرمة ترك أحد هذين الاثنين. والثالث: بإيجاب شئ زائد فالزيادة هنا ترفع إجزاء الأصل. وأما زيادة الشرط فإنها ترفع إجزاء الأصل. وحُرمة ترك الواجب الواحد وحرمة ترك أحد اثنين وإجزاء الأصل أحكام شرعية فرفعها عند الحنفية يُعَدُّ نسخًا. اهـ.
وأخبار الآحاد الواردة بزيادة على ما في القرآن تُعتبر كلها مردودة أو مُهملة عند الحنفية؛ لأنهم يمنعون أن تفيد هذه الأحاديث الإلزام بالفعل أو الترك على وجه الفرضية؛ لأن القول بالفرضية يقتضي نسخ إطلاق القرآن وهو لا يجوز عندهم، وهذا لا يمنع أن يُعمل بها في بعض الأحيان على جهة أخرى غير الفرضية، أي على وجه لا ينسخ القرآن، فإذا لم يكن هناك وجه لذلك لم يعملوا بها - راجع: التقرير والتحبير (2/ 218)، وفواتح الرحموت (2/ 92)، والتلويح على التوضيح (2/ 77).
فمثلًا جاء النص القرآني بالأمر بالطواف مطلقًا عن أي في قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] وجاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم مشترطًا الطهارة لصحة الطواف وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الطواف حول البيت مثل الصلاة) -أخرجه الترمذي (975)-. وهذا الشرط زيادة على ما ورد في النص القرآني، فلم يقولوا بفرضيّة الطهارة للطواف؛ لأن ذلك يُعتبر نسخًا لإطلاق القرآن، وقالوا بوجوبه بحيث لو أخلَّ به جبر بدم.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20] أفاد بإطلاقه فرضية قراءة أي جزء من القرآن في الصلاة فاتحة أو غيرها، وجاء حديث: (لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب) -أخرجه البخاري (756)، ومسلم (900)-، فأفاد أن الصلاة لا تصح بدون قراءة الفاتحة؛ وهذا نسخٌ لإطلاق الآية، فأثبتوا بالقرآن فرض قراءة ما تيسر، وبالخبر وجوب قراءة الفاتحة؛ لأن الزيادة بطريق الوجوب لا ترفع إجزاء الأصل فلا تكون نسخًا فلا تمتنع، بخلاف الزيادة بطريق الفرضية بمعنى عدم الصحة بدونها فإنها ترفع حكم الكتاب.
قال ابن أمير الحاج في التقرير والتحرير (2/ 219): (وعن لزوم الزيادة بالآحاد منعوا إلحاق الفاتحة والتعديل والطهارة بنصوص القراءة والأركان والطواف فرائض، بل ألحقوها وجابات للمذكورات) فلو قالوا: لا تجوز الصلاة بدون الفاتحة والتعديل والطواف بلا طهارة بهذه الأخبار الآحاد كان نسخًا لهذه الإطلاقات بها، وهو لا يجوز فرتبوا عليها موجبها من وجوبها فيأثم بالترك ويلزم الجابر فيما شرع فيه ولا تفسد. اهـ. وراجع: كشف الأسرار (3/ 196).
وقال الزركشي في البحر المحيط (4/ 147): واعلم أن فائدة هذه المسألة: أن ما ثبت أنه من باب النسخ وكان مقطوعًا به فلا يُنسخ إلا بقاطع كالتغريب، فإن أبا حنيفة لما كان عنده نسخًا نفاه؛ لأنه نسخٌ للقرآن بخبر الواحد، ولما لم يكن عند الجمهور نسخًا قبلوه؛ إذ لا معارضة، وقد ردوا بذلك أخبارًا صحيحةً لما اقتضت زيادة على القرآن، والزيادة نسخ ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الآحاد، فردوا أحاديث تعيين الفاتحة في الصلاة ، والشاهد واليمين، وإيمان الرقبة، واشتراط النية في الوضوء. اهـ.
وقال عبدالعزيز البخاري في كشف الأسرار (3/ 192- 193): اتَّفق العلماء على أن الزيادة على النص إن كانت عبادة مستقلّة بنفسها كزيادة وجوب الصوم أو الزكاة بعد وجوب الصلوات لا يكون نسخًا لحكم المزيد عليه؛ لأنها زيادة حكم في الشرع من غير تغيير للأول.
واختلفوا في غير هذه الزيادة إذا ورد متأخرًا عن المزيد عليه تأخرًا يجوز القول بالنسخ في ذلك القدر من الزمان؛ كزيادة شرط الإيمان في رقبة الكفارة، وزيادة التغريب على الجلد في جلد الزاني، بعد اتِّفاقهم على أن مثل هذه الزيادة لو وردت مقارنة للمزيد عليه لا تكون نسخًا؛ كورود رد الشهادة في حدِّ القذف مقارنًا للجَلد فإنه لا يكون نسخًا له للقرآن -يُشير إلى قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 4]-، فقال عامة العراقيين من مشايخنا وأكثر المتأخرين من مشايخ ديارنا: إنها تكون نسخًا معنًى وإن كان بيانًا صورةً، وقال أكثر أصحاب الشافعي: إنها لا تكون نسخًا.
ثم قال: تمسك من قال بأن الزيادة ليست بنسخ أصلًا بوجوهٍ من الكلام:
أحدها/ أنهم بنوا على أصلهم أن المطلق من أنواع العام عندهم وأن العام لا يوجب العلم قطعًا؛ بل يجوز أن يُراد به البعض وبالمطلق المقيد، وإذا كان كذلك ظهر بورود الزيادة المقيدة للمطلق أن المراد من العام البعض ومن المطلق المقيد، فيكون تخصيصًا وبيانًا لا نسخًا؛ وذلك مثل الرقبة المذكورة في كفارة اليمين والظِهار، فإنها اسمٌ عام يتناول المؤمنة والكافرة والزمنة وغيرها، فإخراج الكافرة منها بزيادة قيد الإيمان يكون تخصيصًا لا نسخًا، كإخراج الزمنة والعمياء منها وكإخراج أصل الذمة من لفظ المشركين.
والثاني/ أن حقيقة النسخ لم توجد في الزيادة؛ لأن حقيقة تبديل ورفع للحكم المشروع والزيادة تقرير للحكم المشروع وضم حكم آخر إليه، والتقرير ضد الرفع فلا يكون نسخًا، ألا ترى أن إلحاق صفة الإيمان بالرقبة لا يُخرجها من أن تكون مستحقة للإعتاق في الكفارة وإلحاق النفي بالجلد لا يخرج الجلد من أن يكون واجبًا؛ بل هو واجب بعده كما كان قبله فيكون وجوب التغريب ضم حكم إلى حكم وذلك ليس بنسخ كوجوب عبادة بعد عبادة.
والثالث/ أن الزيادة على النص لو كان نسخًا لكان القياس باطلًا؛ لأن القياس إلحاق غير امنصوص وزيادة حكم لم يوجبه بصيغته وحين كان القياس جائزًا ودليلًا شرعيًّا علم أن الزيادة ليست بنسخ.
والرابع/ أن النسخ أمر ضروري؛ لأن الأصل في أحكام الشرع هو البقاء، والقول بالتخصيص والتقييد يوجب تغير الكلام من الحقيقة إلى المجاز ومن الظاهر إلى خلافه، لكنه متعارف في اللغة فكان الحمل عليه أَوْلَى من الحمل على النسخ.
واحتجَّ من قال بأن الزيادة نسخ معنًى بأن النسخ بيان انتهاء حكم بابتداء حكم آخر. وهذا عند من شرط البدل في النسخ، فأما عند من لم يشترط ذلك فلا حاجة إلى قوله بابتداء حكم آخر، وهذا المعنى موجود في الزيادة على النص فيكون نسخًا، وبيانه أن الإطلاق معنى مقصود من الكلام وله حكم معلوم، وهو الخروج عن العُهدة بالإتيان بما يُطلق عليه الاسم من غير نظر إلى قيد، والتقييد معنى آخر مقصود على مضادة المعنى الأول؛ لأن التقييد إثبات القيد والإطلاق رفعه وله حكم معلوم، وهو الخروج عن العهدة بمباشرة ما وجد فيه القيد دون ما لم يوجد فيه ذلك، فإذا صار المطلق مُقيَّدًا لا بد من انتهاء حكم الإطلاق بثبوت حكم التقييد، لعدم إمكان الجمع بينهما للتنافي؛ فإن الأول يستلزم الجواز بدون القيد، والثاني يستلزم عدم الجواز بدونه. وإذا انتهى الحكم الأول بالثاني كان الثاني ناسخًا له ضرورة. اهـ.
وقد استدل الحنفية لصحة عرض الحديث على القرآن بأدلة نقلية، وسوف أعرض لتلك الأدلة مع ذكر ما اعتُرض به عليها:
الدليل الأول: حديث: (تكثر لكم الأحاديث من بعدي، فإذا رُوي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالفه فردوه). راجع: أصول البزدوي (3/ 10)، وأصول السرخسي (1/ 364)، وفواتح الرحموت (1/ 350).
وهذا الحديث رُوي بألفاظ مختلفة من طرق لا تخلو من مقال، وسوف أذكر بعض طرقه مع بيان عللها، وذكر ما قاله أهل العلم فيه:
1- روى أبو يوسف عن خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر الباقر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا اليهود فسألهم فحدَّثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب الناس فقال: (إن الحديث سيفشو عني، فما آتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما آتاكم عني يُخالف القرآن فليس عني). الرد على سير الأوزاعي ص(25).
قال الإمام الشافعي في الرسالة ص(225) فقرة (618، 619): ما رَوَى هذا أحدٌ يَثْبُتُ حديثُه صَغُرَ ولا كَبُرَ، وإنما هي روايةٌ منقطعةٌ عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شئ. اهـ.
قال البيهقي في المدخل إلى السنن: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابيٍّ فالحديث منقطع، وقد رُوي الحديث من أوجهٍ أُخر كلها ضعيفة. اهـ. مفتاح الجنة ص(21) نقلًا عن المدخل إلى السنن، ولم أجده في القطعة المطبوعة منه.
فقد بيَّن البيهقي أن الشافعيَّ يُضَعِّفُ هذه الرواية بأمرين: جهالة خالد، وإرسال أبي جعفر. فأما جهالة خالد فلا يُوافَق عليها، فقد رَوَى عنه جماعة من الرواة، وتكلَّم عنه الأئمة جرحًا وتعديلًا -خالد بن أبي كريمة روى عنه إسرائيل والسفيانان وشريك وشُعبة ووكيع وغيرهم، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو داود، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال النسائي: ليس به بأس. راجع: تهذيب الكمال (8/ 156)، والجرح والتعديل (3/ 349)-، فانتفت عنه جهالة العين والحال، وثبتت عدالته بتوثيق أحمد وابن معين وأبي داود، وأما الإرسال فإن المُرسل مما يحتج به عند الحنفية كما هو معلوم.
2- رَوَى الطبراني في المعجم الكبير من طريق يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أن رحا الإسلام دائة). قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله، قال: (اعرضوا حديثي على الكتاب، فما وافقه فهو منه وأنا قلته) -المعجم الكبير (2/ 97)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 170): رواه الطبراني في الكبير، وفيه يزيد بن ربيعة وهو متروك منكر الحديث. انتهى-.
وهذا الإسناد له علِّتَان: يزيد بن ربيعة ضعيف -يزيد بن ربيعة قال عنه البخاري: أحاديثه مناكير. وقال أبو حاتم وغيره: ضعيف. وقال النسائي: متروك. وقال الجوزجاني: أخاف أن تكون أحاديث موضوعة. وقال ابن عدي: أرجوا أنه لا بأس به. راجع ترجمته في ميزان الاعتدال (4/ 422) والكامل (7/ 259)-، ولا يُعرف له سماع من أبي الأشعث، وشرحبيل بن آدَهْ أبو الأشعث الصنعاني عامة أحاديثه عن ثوبان بواسطه أبي أسماء الرحبي؛ ولذلك قال ابن الجوزي: روايته عن ثوبان منقطعة. راجع: معالم السنن (4/ 276)، وتهذيب التهذيب (4/ 280)، وتهذيب الكمال (12/ 408).
3- وروى الطبراني أيضًا -في معجمه الكبير (12/ 316)- من طريق أبي حاضر عن الوضين عن سالم بن عبدالله عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سُئِلتْ اليهود عن موسى فأكثروا وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وسُئلتْ النصارى عن عيسى فأكثروا وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وإنه سيفشو عني أحاديث فما آتاكم من حديثي فاقرؤوا كتاب الله واعتبروه، فما وافق كتاب الله فأنا قلته، وما لم يوافق كتاب الله فلم أقله) -قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 170): رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو حاضر عبدالملك بن عبدربه منكر الحديث. وراجع : الجرح والتعديل (5/ 359)، والتاريخ الكبير (5/ 424)-.
4- وَرَوَى الدارقطني من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر بن حُبيش عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون بعدي روة يروون عني الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن. فما وافق القرآن فخذوا به، وما لم يوافق القرآن فلا تأخذوا به).
قال الدارقطني في سننه (4/ 208): هذا وهمٌ والصواب عن عاصم عن زيد ن علي بن الحسين مُرسلًا. اهـ.
5- وروى الدارقطني أيضًا من طريق صالح بن موسى عن عبدالعزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيأتيكم عني أحاديث مختلفة فما جاءكم موافقًا لكتاب الله ولسنتي فهو مني، وما جاءكم مخالفًا لكتاب الله ولسنتي فليس مني).
قال الدارقطني في سننه (4/ 208): صالح بن موسى ضعيف لا يُحتجُّ به. اهـ. وصالح بن موسى قال عنه ابن معين: ليس بشئ. وفي رواية: ليس بثقة. وقال ابن أبي حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدًّا. وقال النسائي: لا يُكتب حديثه ضعيف. وفي موضع آخر: متروك الحديث. راجع ترجمته في تهذيب الكمال (13/ 95).
ورواه الدارقطني أيضًا -في سننه (4/ 208)- من طريق يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. قال البخاري في التاريخ الكبير (3/ 474): وهو وهم ليس فيه أبو هريرة. اهـ.
6- وأخرج البيهقي في المدخل إلى السنن -كما في مفتاح الجنة ص(25)- من طريق أبي الحويرث عن محمد ابن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حدثتم عني مما تعرفون فصدقوا، وما حدثتم عني مما تنكرون فلا تصدقوا، فإني لا أقول المنكر).
قال عبدالعزيز البخاري في كشف الأسرار (3/ 10): وإنما يُعرف ذلك بالعرض على الكتاب. اهـ.
وأبو الحويرث هو عبدالرحمن بن معاوية مُتكلَّمٌ فيه -أبو الحويرث قال عنه مالك: ليس بثقة. وقال أحمد: رَوى عنه سفيان وشعبة وأنكر قول مالك. وقال ابن معين: ليس يُحتجّ بحديثه. وقال النسائي: ليس بذاك. راجع: تهذيب الكمال (17/ 414)-، والحديث مرسل أيضًا.
هذه بعض طرق الحديث، وقد جمع طرقه البيهقي في كتابه المدخل إلى السنن، ولخّصها عنه السيوطي في مفتاح الجنة ص(21- 27)، كما استوعب طرقه شيخنا المحدث عبدالله ابن الصديق الغمّاري في كتابه الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي.
وَسُئِلَ الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث فقال: جاء من طرق لا تخلو من مقال. اهـ. المقاصد الحسنة ص(37).
وقال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة ص(224): هذا المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ولا حسن؛ بل وردت فيه ألفاظ كثيرة كلها موضوع أو بالغ الغاية في الضعف حتى لا يصلح شئ منها للاحتجاج أو الاستشهاد. اهـ.
وقد عارض الإمام الشافعي في رسالته ص(225، 226) فقرة (622) هذا الحديث بما رُوي عن المقدام ابن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسمل أنه قال: (ألا إني أُوتِيتُ الكتابَ ومثلَه معه، ألا يُوشِكُ رجلٌ شبعانُ على أريكتِهِ يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فَأَحِلُّوهُ، وما وجدتم فيه من حرا فَحَرِّمُوُه) -سُنن أبي داود (4604)-.
وقال الخطابي في شرحه -معالم السنن (4/ 276)-: وفي هذا الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يُعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ كان حجة بنفسه، وأما ما رواه بعضهم أنه قال: (إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه، وإن خالفه فدعوه). فإنه حديث باطل لا أصل له، وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعه الزنادقة. اهـ.
وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/ 569): وباب (إذا سمعتم عني حديثصا فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه) لم يثبت فيه شئ، وهذا الحديث من أوضع الموضوعات؛ بل صحّ خلافه: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه). اهـ.
وقال ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 233): وقد أمر الله عز وجل بطاعته وأتباعه أمرًا مطلقًا مجملًا لم يقيد بشئ كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ. قال عبدالرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث. يعني ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله، وإنما أن موافق كتاب الله وبه هداني الله).
وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شئ ونعتمد على ذلك. قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفًا لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما وافقه؛ بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويُحِّر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال. اهـ.
وقال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام (2/ 474): وما ذكروه من الخبر فإنما يمنع من تخصيص عموم القرآن بالخبر أن لو كان الخبر المخصص مخالفًا للقرآن وهو غير مُسلَّم؛ بل هو مبين للمراد منه فكان مقررًا لا مخالفًا، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يُفضي إلى تخصيص ما ذكروه من الخبر بالخبر المتواتر من السنة، فإنه مخصص للقرآن من غير خلاف. اهـ.
وقد وَهِمَ عبدالعزيز البخاري في عزوه هذا الحديث للإمام البخاري وهو في معرض الرد على من ضَعَّفَ الحديث فقال -كما في كشف الأسرار (3/ 10)-: والجواب أن الإمام أبا عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري أورد هذا الحديث في كتابه، وهو الطود المنيع في هذا الفن، وإمام أهل هذه الصنعة، فكفى بإيراده دليلًا على صحّته، ولم يُلتفت إلى طعن غيره بعد. اهـ.
الدليل الثاني: ما رواه البخاري (2563)، ومسلم (3852) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيُّما شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل).
قال السرخسي في أصوله (1/ 364): والمراد كل شرط هو مُخالف لكتاب الله تعالى، لا أن يكون المراد ما لا يوجد عينه في كتاب الله تعالى، فإن عين هذا الحديث لا يوجد في كتاب الله تعالى، وبالإجماع من الأحكام ما هو ثابت بخبر الواحد والقياس وإن كان لا يوجد ذلك في كتاب الله تعالى، فعرفنا أن المراد ما يكون مخالفًا لكتاب الله تعالى، وذلك تنصيص على أن كل حديث هو مُخالف لكتاب الله تعالى فهو مردود. اهـ.
الدليل الثالث: ما رواه مسلم في صحيحه (37833) من طريق أبي إسحاق السبيعي قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الاعظم ومعنا الشعبي، فحدَّث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سُكنى ولا نفقة. ثم أخذ الأَسود كفًّا من حصى فحصبه به فقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أم نسيت، لها السُّكنى والنفقة، قال الله عز وجل: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الطلاق: 1].
وَرَوَى مسلم أيضًا (3790) عن عروة: أنه أخبر عائشة بحديث فاطمة فقالت: ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث.
وفي البخاري (5323، 5324): ما لفاطمة ألا تتقي الله يعني في قولها لا سُكنى ولا نفقة.
وأخرج الطحاوي -في شرح معاني الآثار (3/ 68) عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: كانت فاطمة بنت قيس تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم). وكان محمد بن أسامة بن زيد يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئًا رماها بما كان في يده.
وَرَوَى أبو داود في سننه (2296) عن ميمون بن مهران قال: قدمت المدينة فدُفعت إلى سعيد بن المسيب فقلت: فاطمة بين قيس طلقت فخرجت من بيتها. فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس إنها كانت لَسِنَةً فوُضعت على يدي بن أم مكتوم.
وقد أيَّد الحنفية مذهبهم بهذا الحديث فقالوا: إن عمر وعائشة وأسامة وسعيد ابن المسيب لم يخصّوا قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) [الطلاق: 6] بحديث فاطمة؛ لأنهم كانوا يَرَوْنَ عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.
وقد أجاب صاحب فواتح الرحموت على ذلك فقال -(1/ 350)-: وهذا الخبر كان مشكوك الصحة عند أمير المؤمنين، والخبر المشكوك الصحة للريبة في صدق الراوي غير حجة فضلًا عن التخصيص به، ولا يلزم منه انتفاء التخصيص بالخبر الصحيح. اهـ.
يقول الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام: وأما ما ذكروه من تكذيب عمر لفاطمة بنت قيس فلم يكن ذلك؛ لأن خبر الواحد في تخصيص العموم مردود عنده؛ بل لتردده في صدقها؛ ولهذا قال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت -أخرجه بهذا اللفظ محمد بن الحسن في كتاب الآثار (1/ 132)-. ولو كان خبر الواحد في ذلك مردودًا مطلقًا لما احتاج إلى هذا التعليل. اهـ.
وقد تقرر بما سبق أن الحنفية لا يقبلون الأخبار المخالفة للكتاب، وقد ذكروا أمثلة عملية لذلك، وسأسرد بعض الأمثلة سردًا من غير الوقوف عليها من ناحية التفصيل فيها بذكر الخلاف الفقهي في كل مسألة منها مع الأدلة خشية الإطالة، وإنما نعرج على بعض الأمثلة سريعًا لإظاهر كيفية التطبيق العملي لهذه القواعد عند الحنفية بشئ من الوضوح.
-المثال الأول: متروك التسمية عمدًا.
-المثال الثاني: النفقة والسُكنى للمطلقة ثلاثًا.
-المثال الثالث: القضاء باليمين مع الشاهد.
-المثال الرابع: الطهارة للطواف بالبيت. (مَسْأَلَةُ الطَّهَارَةِ لِلطّوَافِ بِالْبَيتِ)
-المثال الخامس: اشتراط النية في الوضوء. (اشْتِرَاطُ النِيَّةِ فِي الوُضُوءِ)
ويُراجع: كتاب منهج الحنفية في نقد الحديث ص(164- 175 [الأمثلة175- 192]).
والله أعلم.