رد: هل يجوز تقديم الخمر لمدمنٍ خوفاً عليه من الهلاك؟
السلام عليكم
تركتُ الجدال والمراء.
وبقيَ أن أشير لعدة نقاط مُختَصِرًا للإخوة المتابعين القراء الأفاضل،،
1- هناك فرقٌ بين الحاجة والضرورة، وقاعدة (الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة) لا تُعارض هذا بل تؤيّده! ..
إذ معناها "أن الحاجة: ما دون الضرورة، والضرورة: هي الحالة الملجئة إلى ما لا بد منه، والفرق بين الحاجة والضرورة أن حكم الأولى مستمر، وحكم الثانية مؤقت بمدة قيام الضرورة، إذ أن الضرورة تقدر بقدرها" -
القواعد الفقهية للزرقا (ص 209) .
وجاء في
القواعد الفقهية للدكتور عزّام (ص 158 - وما بعدها): "مراتب التناول: ذكر العلماء أن إباحة الممنوع سواء كانت على وجه التحريم أو على غير وجه التحريم كالكراهة يأتي على خمس مراتب:
الأول/
الضرورات. [والضرورات: جمع ضرورة، مأخوذة من الاضطرار، وهو الحاجة الشديدة، فهو بهذا يختلف عن أصل الحاجة على ظاهر معناها الحقيقي].
وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا للجماعة والأفراد، بحيث لا يستقيم النظام باختلالها.. فإذا وصل الإنسان إلى الحد الذي يجعله إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب ففي هذه الحالة يُباح له تناول الحرام كالخمر والميتة والنطق بكلمة الكفر! .
الثاني/
الحاجة.
وهي كل ما تحتاج إليه الأمة والأفراد من حيث التوسعة ورفع الحرج وانتظام الأمور بحيث إذا لم تراع دخل على المكلفين الحرج والمشقة من غير أن يبلغ مبلغ الفساد المتوقع لكنه على حالة غير منتظمة ومثل ذلك الجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة وهذا لا يبيح الحرام ويبيح له الفطر في الصوم، فالمشقات تبيح الرخص، ولا تبيح المحرمات - القواعد للزركشي (2/ 319).
الثالث/
المنفعة.
... إلى آخر كلامه".
ثم ذكر بعدُ "مراتب دفع الحاجة" فليُراجعها من شاء لمزيد من الإفادة.
أما الإكراه فهو أمرٌ آخر؛ قد يُعدّ ضرورة
إذا كان مُلجئًا في الغالب،
لكنه في الأصل أمر مستقل، ويُعدّ من عوارض الأهلية..
فالإكراه ينقسم إلى قسمين:
إكراه مُلجئ،
وإكراه غير ملجئ.
اتّفق أهل العلم من الفقهاء على هذا التقسيم،
واختلفوا في صور الإكراه غير الملجئ، وهو محلّ النزاع عندهم في ذلك،
ومحلّ الاتّفاق على اعتبار الإكراه الملجئ عمومًا.
وللحنفية تعريفٌ
للإكراه المُلجئ؛ وهو أنه "ما يعدم الرضا ويفسد الاختيار" وهو
الإكراه التام.
وأما
الإكراه غير الملجئ: فهو الذي يعدم الرضا ولا يذهب الاختيار. وهو
الإكراه الناقص.
ويتبين لك من هذا الفرق بين الحاجة والضرورة والإكراه!! ..
ويتبين لك غلط من قال بأن هناك قسم للضرورة الاختيارية! فهذا لا معنى له ولا أصل، ويتبين لك أيها القارئ الكريم أن هذا الكلام لا يتأتى إلا من خلط واضح وعدم التفرقة بين الضرورة والإكراه.
فتنبه لهذه النكتة المفيدة؛ حتى لا تقع في خلط كما حال البعض.
2- الحُكم في مثل هذه المسائل ليس حكمًا مُطردًا عامًّا يُحكم به مُطلقًا في كل الأحوال _كما يستعجله البعض_، وإنما يُحكم بالحُكم المناسب على حسب كل حالة، وحالتنا هذه أبحنا له شرب الخمر تدرجًا في العلاج لفترة قصيرة مؤقتة وبقدر محدود.
الدليل: قاعدة (ما أُبيح للضرورة يقدر بقدرها).. وبيان هذا يأتي (رقم 6).
فهذه القاعدة معناها "أن الشيء الذي يُباح بناء على الضرورة يكون بالقدر الكافي لإزالة الضرورة فقط، ولا يجوز استباحة ما هو أكثر مما تزول به الضرورة" - درر الحكام (34).
قال الدكتور عزّام في القواعد الفقهية (151): "وقد وضعتُ هذه القاعدة للتنبيه على أن المحظورات إنما يرخص منها بالقدر الذي تندفع به الضرورة، فإذا اضطر الإنسان لمحظور فليس له أن يتوسع في المحظور، بل يقتصر منه على قدر ما تندفع به الضرورة فقط". اهـ.
ثم قال: "والضرورة هي العذر الذي يجوز بسببه فعل الشيء الممنوع _درر الحكام (ص 34)، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 93)_، والمحظور هو ارتكاب ما نهى الله عنه في الظروف العادية". [والمعنى العام للمحظورات: هو المنهي عن فعله شرعًا].
والقاعدة لها أدلة منها؛ قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقوله تعالى:
(فَمَنُ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
3- يحسن بنا أن نقف هاهُنا على جُزئية هامة فيما يخص (الضرر).
قال الأستاذ الدكتور جاد الرب في بيان معنى قاعدة (الضرر لا يزال بالضرر): "والضرر من المعاني الوجدانية، فليس لها حد معين، ولا يقوى عليه أفصح البلغاء!". انتهى [من محاضرات في قواعد الفقه (ص 22)].
قلتُ: فالضرر إذن أمرٌ نسبي لا يُحكم فيه بإطراد وإطلاق وإنما يُحكم فيه على حسب كل حالة.
4- فيما يخص قاعدة (الضرر لا يزال بالضرر).
ذكرنا فيما سبق أن معناها "أن الضرر لا يزال بمثله ولا بأكثر منه بالأولى، بل يشترط أن يزال الضرر بلا إضرار بالغير
إن أمكن، وإلا فبالأخف منه" -
الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 95).
ونحن في هذه الحالة لا نقول أننا سنُزيل ضرر إدمانه بتقديم الخمر إليه مثلاً! .. وإنما نقول بإباحة شرب القليل _بالنسبة له ولحاله خاصة_ بشكل مؤقت في بداية فترة علاجه فقط، والفارق واضح، فلا تصدق علينا القاعدة، لأننا لا نُزيل الضرر بالضرر، ولأن الضرر لن يكون موجودًا بعد فترة العلاج! .. وفروع هذه القاعدة تشهد لمعناها ومفهومها الصحيح.
ومما يشهد على صحة ما نقول به؛ قاعدة
(الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) .. وهذا يتماشى مع ما نقوله بالنسبة لهذه الحالة.
5- بخصوص قاعدة (درء المفاسد أولى من جلب المصالح).
أو:
(درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)..
فالتنزيل الصحيح لهذه القاعدة بأن يُقال: أن درء مفسدة "هلاك الشخص وموته" مقدم على جلب مصلحة "إقلاعه عن إدمان الشرب أو التعاطي".
وجه ذلك: أن هذه القاعدة مثل قاعدة
: (إذا تعارض المانع والمقتضى قدم المانع إلا إذا كان المقتضى أعظم) - قواعد
الزركشي المادة (46)، والمدخل الفقهي العام
للزرقا فقرة (595)، وأشباه
السيوطي (ص 74).
قلتُ: فلا شكّ أن هلاك نفس أو موت إنسان مانعٌ أعظم من مقتضى جعله يُقلع عن إدمان شيئًا أيًّا كان! ..
فإن قال قائل: أن دفع المفسدة مقدم في الغالب إلا أن تكون المفسدة مغلوبة، لأن اعتنار الشرع بترك المنهيات أشد من اعتنائه بفعل المأمورات، لما يترتب على المناهي من الضرر المنافي لحكمة الشارع في النهي.
قلنا: أن هذه المفسدة غير مغلوبة، وإنما غالبة، وهي لا تعارض مقصد الشرع من اعتنائه بترك المنهيات؛ لسببين:
الأول/ أن المفسدة مؤقتة غير دائمة.
الثاني/ أن بتقديم هذه المفسدة الصغيرة (الشرب لفترة مؤقتة في بداية فترة العلاج)
تحصل السلامة من المفسدة الكبيرة (الإدمان العام الدائم
!)، ففي ذلك إعمال لقاعدة (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما). وسيأتي الكلام عن هذه القاعدة في النقطة التالية.
6- بالنسبة لقاعدة (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما).
ومعنى القاعدة؛ "أن الأمر المتردد بين ضررين
إذا كان أحدهما أشد من الآخر،
فإنه يتحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد، ومراعاة أعظمهما تكون بإزالته، لأن المفاسد تراعى نفيًا، كما أن المصالح تراعي إثباتًا" -
شرح القواعد الفقهية للزرقا (ص 201).
قلتُ: فمن ابتُلي بذلك _التعارض_
فواجبه أن يختار أهون الشرين، وأخف الضررين [
بالنسبة له].
وهذا ينطبق على تلك الحالة، لأن
هلاك الشخص -المدمن- (المفسدة الأعظم) يتعارض مع: إدمانه الخمر (المفسدة الأخفّ _يعني بالنسبة لموته_) .. فنُراعي الأعظم ضررًا (هلاك الشخص وموته) بارتكاب الأخف ضررًا (كإباحة شرب القليل له في بداية فترة علاجه مثلاً).
ووسيلة العلاج كما أسلفنا حقيقة فعليّة وليست وهمية كما يدعيه البعض.
قال الدكتور عزّام في القواعد الفقهية (ص 160): "وإذا علمنا ذلك؛ فهل قاعدة: الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، هي عين قاعدة: إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما؟
من الممكن أن يقال هذا ولكن الأولى من ذلك تخصيص الأُولى بالضرر الواقع وأمكن إزالته بالأخف (كحالة صاحبنا هذا) .. وتخصيص قاعدتنا هذه بما إذا تعارض الضرران ولم يقع واحدٌ منهما، وهذا أقوى من دعوى التكرار، لأن التأسيس أولى من التأكيد إذا أمكن وإلى هذا التخصيص يُشير إليه التعبير في القاعدة الأولى (الضرر يزال) وفي الثانية بقوله (إذا تعارضت) للتفريق بينهما". انتهى.
قلتُ: والهلاك في حالتنا هذه مُحتمل غير واقع في الحال، فتنطبق عليه القاعدتين! .. أما القاعدة الأولى (الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف) فقد أسلفنا وجه الاستدلال بها في (النقطة 4 ، و5). وأما الثانية فقد أسلفنا وجه انطباقها على هذه الحالة في هذه النقطة (6).
يتبين لك من هذه النقاط الثلاث الأخيرة؛ خطأ فهم قاعدة (الضرر لا يُزال بالضرر) على إطلاقها، وإنما فيها تفصيل ولها ضوابط، وليس كما زعم البعض واهمًا! ..
7، 8- يُضاف لما سبق: قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها)، وقاعدة (المشقة تجلب التيسير)، مع عدّة فوائد.
وهذه القاعدة أصولية فقهية، وهي تؤيد كلامنا، فمعناها أن الممنوع (المحظور) شرعًا يباح عند الضرورة [وقد أسلفنا بيان معنى "الضرورة" في النقطة (رقم 1)، ومعنى "المحظور" في النقطة (رقم 2)]، وهي شدة الجوع _مثلاً_ بحيث إذا لم يتناول الممنوع هلك، ففي هذه الحالة يجوز الأكل من الميتة، وكذلك في حال العطش الشديد بحيث يهلك الشخص إذا لم يتعاطى الممنوع، فيُباح له شرب الخمر، ويكون بقدر سد الرمق؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها _كما أسلفناه في النقطة (رقم 2)_.
دليل هذه القاعدة: قوله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).
ووجه الدِلالة من الآية الكريمة "أنها دلّت على أن الأصل في الأشياء والأطعمة الإباحة، وأنه إذا لم يرد الشرع بتحريم شيء منها فإنه باق على الإباحة [قاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة)] فما سكت عنه فهو حلال، لأن الحرام قد فصله الله، فما لم يفصله الله، فليس بحرام، ومع ذلك فالحرام الذي قد فصله الله وأوضحه، قد أباحه عند الضرورة والمخمصة" - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن ناصر السعدي (2/ 463، 464).
وهذه القاعدة تتعلق بالرخص الشرعية، وهذه الرخص ثلاثة أنواع:
النوع الأول (واقتصر عليه لانطباقه على حالتنا هذه)/ يُفيد إباحة ما حرمه الله حالة الضرورة، كأكل الميتة للمضطر بقدر دفع الهلاك عند المجاعة، وأكل لحم الخنزير، وإساغة اللقمة بالخمر عند الغصة أو عند الإكراه التام بقتل أو قطع عضو، لأن الاضطرار كما يتحقق بالمجاعة، يتحقق بالإكراه التام (المُلجئ).
فهذه المحرمات ونحوها تباح عند الاضطرار لقوله تعالى: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلِيْهِ) أي دعتكم شدة المجاعة لأكلها، والاستثناء من التحريم إباحة، وأيضًا يتحقق الاضطرار بالإكراه التام -كما أسلفنا الإشارة لذلك في النقطة (رقم 1)-، فيُباح التناول ويحرم الامتناع، فلو امتنع من الأكل من هذه المحرمات حتى مات أو قتل كان آثمًا، لأنه بالامتناع صار ملقيًا بنفسه إلى التهلكة، وقد نهى عن ذلك.
وعلى هذا، فالضرورة في النوع الأول ترفع حكم الفعل من المؤاخذة. ويُراجع في ذلك لمزيد من التفصيل والفائدة: الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 84).
*وهذه القاعدة يندرج تحتها فروع عدة، فمن فروع هذه القاعدة:
-إساغة اللقمة بالخمر:
فلو أن رجلاً وقفت لقمة في بلعومه، ولم يجد ماءً ووجد خمرًا فعليه لزامًا أن يسارع بشرب الخمر بقدر إساغة اللقمة دون أن يتجاوز الشرب مختارًا بعد الإساغة، فلو لم نبح له شرب الخمر لهلك، وهذا ضرر، والضرر يزال.
فائدة: هذه القاعدة ليس لها مستثنيات! ..
قال الدكتور عزّام في كتابه: القواعد الفقهية، (ص 147، 148): "فالضرورة هنا وجود الغصة، والمحظور هو إساغة اللقمة بالخمر وهو حرام وإنما أُبيح للضرورة، ولا يلزم أن يُفضي الأمر لهلاكه، بل يكفي أن يغلب على ظنه حدوث ضرر في نفسه أو ماله لا يحتمل".
إذن.. فالأكل من الميتة وشرب الخمر كلاهما محظور في الأصل، ولكن إبقاء مهجة الإنسان عند المخمصة ضرورة أقوى من المحظور فيُباح المحظور لأجل الضرورة، فيجب الأكل أو الشرب لإبقاء روح المضطر، قلتُ: ويُقاس على ذلك حال هذا الشخص، إذ لو لم تبح الضرورات لما تحقق (الضرر يزال)! فبان ارتباط هذه القاعدة بقاعدة: الضرر يزال، وقاعدة: المشقة تجلب التيسير.
وعلى ذكر قاعدة (المشقة تجلب التيسير) يحسن بنا أن نقف على تفصيلها، لكن بعد جُزئية هامة وهي:
القواعد:
(الضرر لا يزال بالضرر)،
و(يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)،
و(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)،
و(ما أبيح للضرورة يقدر بقدره)،
و(إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما)،
و(الحاجة تنزل منزلة الضرورة)،
من القواعد المتفرعة عن قاعدة (الضرر يُزال)،
يُضاف إليها:
|-قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)،
|-وهي من القواعد المندرجة كذلك تحت قاعدة (المشقة تجلب التيسير)،
ويندرج تحت هذه القاعدة عدّة قواعد أُخرى:
قاعدة (إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع الأمر ضاق)،
و(الضرر يزال).
علمًا بأن: قاعدة (المشقة تجلب التيسير) من القواعد الكلية الفقهية الكبرى الخمسة المشهورة، وهي من أمهات القواعد، وفروعها تنتشر في أبواب الفقه،
وجميعها تؤيّد كلامنا هاهُنا كما ترى! فتأمل.
نأتي الآن لتفصيل قاعدة (المشقة تجلب التيسير)..
هذه القاعدة معناها "أن الصعوبة متى وجدت في أمر من الأمور كانت سببًا شرعيًا صحيحًا للتسهيل والتخفيف ورفع المعاناة عن المكلفين عند تنفيذ الأحكام بوجه من الوجوه المقررة شرعًا" - المجلة العدلية، شرح سليم رستم باز (ص 27) بتصرف.
فالمشقة في اللغة معناها: "الجهد والتعب والشدة والعناء" - النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (2/ 491) طبعة عيسى الحلبي بالقاهرة بدون تاريخ.
فالصعوبة والعناء إذا وجدت "كانت سببًا للستهيل" - شرح المجلة، للأتاسي (ص 49).
هذا بالنسبة للمعنى اللغوي، والمعنى الشرعي الذي تفيده قاعدة المشقة "أن الأحكام التي ينشأ عنها حرج ومشقة على المكلف في نفسه أو ماله فالشريعة تخففها بما يقع تحت قدرة المكلف دون عسر أو إحراج".
وهذه القاعدة تصلح أن تكون مقاصدية كذلك.
_أدلة رفع الحرج في الشريعة:
قامت الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة من الكتاب والسنة والإجماع وصار ذلك مقطوعًا به في الدين الإسلامي الحنيف، وعمومات الشريعة النافية للحرج، ومشروعية الرخص كلها تشير إلى أن الله تعالى شرَّع الأحكام ميسرة سهلة مبنية على اليسر والسماحة، وأن هذا أصل من أصول الشريعة، فإذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق - الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 92)، والموافقات للشاطبي (1/ 231). وهذا قول الإمام الشافعي.
وقال الشاطبي: "إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع".
وكل ما تجاوز عن حده انقلب إلى ضده كما قال الإمام الغزالي في الإحياء.
فقاعدة (المشقة تجلب التيسير)، قاعدة أصولية فقهية، صارت أصلاً مقطوعًا به لتوافر الأدلة عليها من الكتاب والسنة والإجماع ومشروعية الرخص.
فقد دلَّ على هذه القاعدة كثير من آيات الله في الكتاب المبين، فقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وقال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، وقال تعالى:
(يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)، وقال تعالى
: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ)، وقال تعالى
: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
فقد دلَّت هذه الآيات على أن الله شرع الأحكام سهلة ميسرة على العباد فما من عمل من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهو في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه، ودلت كذلك على أن الحرج مرفوع عن هذه الأمة، في كل ما يلحق ضيقًا بالمكلف في نفسه أو جسمه أو بهما معًا في الدنيا والآخرة، حتى لا يؤدى التكليف بما هو شاق إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه وعن العبادات الأخرى وعن المصالح الأخرى الدنيوية أو إلى وقوع خلل في عقل الإنسان وجسمه أو الإخلال بالواجبات والالتزامات تجاه أولاده وزوجته ومجتمعه.
وقامت الأدلة من السنة على يسر التكاليف الشرعية وأن الله تعالى رفع الحرج والمشقة عن العباد.
ومن ذلك ما روى عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(بعثت بالحنيفية السمحة) _ فتح الباري على صحيح البخاري (2/ 86) الطبعة الأولى_ وقال صلى الله عليه وسلم
: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه) _جامع الأصول (1/ 214)_ وروى الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
(إنما بعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسّرين) _البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة_ وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا
: (إن الله شرع الدين فجعله سهلاً واسعًا ولم يجعله ضيقًا) _متفق عليه من حديث عائشة_ وقال صلى الله عليه وسلم
: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا) _رواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن عباس وصححه (2/ 198)_.
قال
ابن حجر العسقلاني: "وسمى الدين يُسْرًا مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله، لأن الله وضع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، ومن أوضح الأدلة على أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم" - وانظر:
القواعد الفقهية،
للشيخ علي الندوي (ص 307).
وقام الإجماع على عدم التكليف بالشاق، وذلك أن الإجماع انعقد بين علماء الأمة على عدم وقوع المشقة غير المألوفة في أمور الدين، ولو كان ذلك واقعًا لحصل التناقض والاختلاف في الشريعة وذلك منفي عنها، لأن الأدلة على سماحة الشريعة أكثر من أن تحصر، فأحكام الشريعة كلها مبنية على التيسير.
وثبت ذلك أيضًا من مشروعية الرخص، فهذا أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة بالضرورة كرخص القصر والفطر والجمع
وتناول المحرمات في حالات الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعًا على مطلق رفع الحرج والمشقة أو التيسير والتسهيل على الناس.
_والرخصة: لغة/ السهولة واليسر في الأمر والتسهيل فيه، أو هي
الانتقال من أمرٍ صعب إلى أمر سهل، أو هي:
ما شرعت بسبب قيام مسوغ لتخفيف الحكم الأصلي.
وشرعًا/
ما ثبت على خلاف الأصل بدليل شرعي راجح.
حاشية النجدي على الروض المربع (1/ 213).
فالشريعة وضعت رحمة بالمكلف، تخفف هذه الأحكام وتبدلها بما يقع تحت قدرة المكلف تيسيرًا عليه ودفعًا للإحراج.
وعلى هذا الأساس؛ نجد أن مظاهر التخفيف في الشريعة كثيرة، منها ما هو في العبادات، ومنها ما هو في المعاملات، ومنها ما هو في العقوبات، وما يتصل بها، وقد ذكر السيوطي أن تخفيفات الشرع قد استوعبت ذلك كله.
-ويندرج تحت هذه القاعدة عدة قواعد:
أ- قاعدة (إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع الأمر ضاق)،
ومعناها: أنه
كلما ظهرت مشقة في أمر، فيرخص فيه ويوسع، فإذا زالت المشقة عاد الأمر إلى ما كان.
فإذا حصلت ضرورة عارضة للشخص أو للجماعة، أو طرأ ظرف استثنائي أصبح معه الحكم الأصلي للحالات العادية محرجًا للمكلفين مرهقًا لهم بحيث يجعلهم في ضيق عند التطبيق،
فإنه يخفف عنهم ويوسع عليهم حتى يسهل ما دامت تلك الضرورة قائمة، فإذا انفرجت الضرورة وزالت؛
عاد الحكم إلى أصله، وهذا معنى: إذا اتسع الأمر ضاق.
وهو يُؤيّد كلامنا في هذه الحالة، من أننا نُبيح لهذا الشخص المدمن شرب قليل الخمر في بداية العلاج، حتى إذا تحسّن حاله ولم تكن رغبته ملحّة منعناها عنه ليُكمل فترة علاجه، وعاد الحُكم لأصله.
والأدلة على هذه القاعدة من الكتاب والسنة كثيرة، وأمثلتها عديدة، نعزو القارئ الكريم لمُراجعتها من الكتب التالية:
شرح القواعد الفقهية،
للزرقا (ص 163، 164)،
والمجلة، شرح
الأتاسي (ص 51، 52)،
والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 83)،
والأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 85)،
والقواعد الفقهية للدكتور عبدالعزيز محمد عزّام (ص 121، 122) _وقد ذكر أيضًا فروعًا لتلك القاعدة_.
ب- قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)،
وقد أسلفنا التفصيل فيها أعلاه.
جـ- قاعدة (الضرر يزال)،
وقد أشرنا إليها سابقًا أيضًا، وأوضحنا القواعد المندرجة تحتها.
والمعنى العام لهذه القاعدة أن الضرر تجب إزالته، لأن الضرر ظلم والواجب عدم إيقاعه، لأن الأضرار مرفوعة ومزالة، ولا يحق أن تقع أصلاً.
ولها أدلة كثيرة أيضًا من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، نعزو القارئ الفاضل لمُراجعة التفصيل فيها من الكتب التالية:
المدخل الفقهي للزرقا (ص 978، 979، 980)،
الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 92)،
الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 85)،
والقواعد الفقهية للدكتور عزام (ص 126-138) _وقد ذكر فروعًا لتلك القاعدة كذلك واستفاض في ذلك_.
9- ترجيح:
يتبين لك جليًّا مما سبق أن ما ذهب إليه الأخ عبدالحكيم؛ مذهب راجحٌ لا مرجوح.
http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=18543&p=129569&viewfull=1#post129569
لا قياس على الصلاة في هذا الموضع فهذا قياس مع فارق : القدرة و عدم وجود الضرر.
عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي من رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم: أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم. حسنه الألباني ، سنن أبي داود و مسند الإمام أحمد.
أما قولهم أن الأحاديث تمنع شرب الخمر البتة فهذا غير صحيح إذ الحديث فيه نهي عن صناعة الدواء بها و ليس فيه منع شربها عند الضرورة فالحديث عام تخصصه نصوص كثيرة منها لبس الحرير و اتخاذ الأنف من الذهب.
قال الإمام ابن حزم : بل أصحابنا والمالكيون يبيحون للمختنق شرب الخمر إذا لم يجد ما يسيغ أكله به غيرها ، والحنفيون والشافعيون يبيحونها عند شدة العطش . وأما حديث الدواء الخبيث فنعم وما أباحه الله تعالى عند الضرورة فليس في تلك الحال خبيثا ، بل هو حلال طيب ؛ لأن الحلال ليس خبيثا ، فصح أن الدواء الخبيث هو القتال المخوف ، على أن يونس بن أبي إسحاق الذي انفرد به ليس بالقوي اهــ
أما عن سؤال أختنا الكريمة ( و وددت أن لا أتكلم فيه لولا بعض الأجوبة هنا الذي قد تؤدي بالرجل إلى الهلاك) فالأمر يعود للطبيب فحفظ النفس مقدم على حفظ الدين في هذا الموضع ثم شرب الخمر مباح عند خوف الهلاك فليرجع لهذه المسألة لعدد من الأطبة الثقات و لا يكتفى بواحد وليسأل أكثر من طبيب هل يمكن تعويض الخمر بدواء أخف كي يزال عنه الضرر فإن كان ولابد منها لكي لا يهلك فليسأل عن أقل مقدار وأقل كمية يومية كي لا يهلك و كيفية التدرج كي يقلع هذا الرجل عليها وهل يمكن خلطها بالماء حتى لا تذهب عقله و هلم جرا حتى يكتفى منها بما يحفظ نفس الرجل على أن ينصح و يذكر بعذاب الله و أن يذكر بما هو فيه هداه الله وهدانا أجمعين إلى صراطه المستقيم والله أعلم.
هذا،
والله أعلم وهو المستعان.
والسلام عليكم.