رد: حكم الصلاة في مسجد به ضريح و الرد على شبهات الصوفية ومن نحى نحوهم
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه:
اسمح لي أخي أن أذكر لك رأي الشافعية في المسألة، ثم أناقشك في استدلالاتك:
اعلم أن الشافعية اتفقت نصوصهم على كراهة بناء المسجد على القبور.
قال الإمام النووي في المجموع: وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى كَرَاهَةِ بِنَاءِ مَسْجِدٍ عَلَى الْقَبْرِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ أَوْ غَيْرِهِ , لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ , قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ : وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ إلَى الْقُبُورِ , سَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ صَالِحًا أَوْ غَيْرَهُ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى : قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيُّ رحمه الله : وَلَا يُصَلَّى إلَى قَبْرِهِ , وَلَا عِنْدَهُ تَبَرُّكًا بِهِ وَإِعْظَامًا لَهُ لِلْأَحَادِيثِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
واعلم أنه لو أوصى أن يُبْنَى على قبره مسجد، فوصيته لاغية.
واعلم أن الصلاة صحيحة في مسجد بني على قبر، أو حفر فيه قبر، ما لم تنله نجاسة.
أو نوى بصلاته أنه يصلى من أجل صاحب القبر، أو صلى إليه قاصدا تعظيمه، فهذا يكفر.
واعلم أن المسجد لا يجوز دفن أحد فيه أيا كان، ويجب أن ينبش؛ والعلة: أن المسجد وقف، ملك لله، فلا يدفن فيه أحد.
واعلم أن المقبرة الموقوفة لا يجوز أن يبنى فيها مسجد؛ لأنها وقفت للدفن، ولوجود نجاسة الصديد الخارج من الأموات، لا سيما في المقابر المنبوشة، فلو بني فيها مسجد يهدم.
وهو قريب مما نقلتَه عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
وبقي صنف ثالث، وهو: إذا احتيج إلى توسيع المسجد، فأُدْخِل ما حول قبرٍ قريبٍ منه فيه، بحسب ما يتيسر لهم، فلا يجوز انتهاك حرمة الميت فلا ينبش قبره، والأرض التي حوله لا تسمى مقبرة ولا قبرا، كمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنت تفهم من عبارتي أن القبر لا زال قبرا، لم يتحول إلى مسجد، بل تحول ما حوله مسجدًا، فلو تحول القبر مسجدا عدنا إلى الصورة الثانية، أعني أن يبنى مسجد في المقبرة.
ومعنى الصلاة إلى القبر: جعله قبلةً.
وعليه: جعله مصلى، أي السجود عليه.
واتخاذه مسجدا: جعل القبر موضعا للسجود، أي السجود على القبر، وقيل: معناه معنى الصلاة إلى القبر، أي جعله قبلة.
ويشبهه جعل القبر: وثنا.
إذا علمت ذلك: وَجَبَ على القاضي أن يصدر حكما لكل مسجد به ضريح، فإن بني المسجد بمقبرة هدم، وإن حُفِر القبر بمسجد نبش، وإن وُسِّع المسجد حتى دخل ما حول القبر المسجد فلا ينبش القبر، ولا يهدم المسجد.
والصلاة في الكل صحيحة، ما لم يمس نجاسة أو نوى بالصلاة غير الله.
وبعد أن بينت لي ما أعتقده، أجعل نقاشي معك في شيء محدد هو هل تصح الصلاة في المساجد التي بها أضرحة أم لا؟، وأدع ما سواه.
والجواب كما سبق: تصح الصلاة، والدليل على ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجدا، وقوله فيما رواه عبدالرزاق: الأرض كلها مسجد إلا القبر والحمام، وغيرها من الأدلة.
هذا خلاصة ما أعتقده.
وإليك بعض المآخذ على استدلالاتك:
وجوابه الحديث ليس علته عيسى بن شاذان فقط حتى يقوى بالمتابعة .
أخي دعني أعيد صياغة بعض الأسئلة التي ذكرتها ولم تجب عنها، أو حِدْت عن الجواب:
أنت قلت:
و لأن الحديث في إسناده من يروي الغرائب وهما إِبْرَاهِيم بن طهْمَان و عيسى بن شاذان فقد يكون الحديث من غرائب ابن شاذان أو من غرائب ابن طهمان .
لذا سألتُك إذا روى مَن يروي الغرائب حديثًا ما، ثم تابعه عليه شخصان أو ثلاثة فما الحكم؟
وأنا لم أسألك عن إبراهيم بن طهمان فهذا كلام آخر، فما أطلت به الجواب ليس جوابا على تساؤلي؟
بحسب الأسانيد التي ذكرتَها لا يمكن أن يُتَّهم في هذا الحديث عيسى بن شاذان؛ لأنه تابعه في الرواية جمع من الرواة ذكرت منهم 4، وهم:
مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ
أحمد بن منصور بن سيار الرمادي وهو الرَّمَادِيُّ أَبُو بَكْرٍ
الْإِيَادِيُّ أَبُو بَكْرٍ، ولعله الرمادي
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ الْعُرُوقِيُّ
كلهم تابعوا عيسى بن شاذان في هذه الرواية، فكيف يتهم عيسى في هذا الحديث؟!!
وكلامك في ابن شاذان يناقضه نقلك عن ابن حجر رحمه الله تعالى:
قال ابن حجر – رحمه الله - : (ما انفرد المستور أو الموصوف بسوء الحفظ أو المضعف في بعض مشايخه دون بعض بشيء لا متابع له ولا شاهد فهذا أحد قسمي المنكر، وهو الذي يوجد في إطلاق كثير من أهل الحديث )[16].
فالحديث لم ينفرد به ابن شاذان، بل له متابع، فليس منكرا من جهة ابن شاذان!.
وكذلك قولك:
و مدار هذه الأحاديث هو أبو همام الدَّلال
فإذا كان مدار الحديث أبا همام، فكيف يتهم التلميذ –ابن شاذان- فيه؟!
والظاهر أن سبب وقوعك في هذا الخطأ أنك تبعت الشيخ الألباني في قوله:
وقال الألباني – رحمه الله - : ( أخشى أن يكون الحديث تحرف على أحدهما – أي ابن طهمان أو ابن شاذان - فقال: " قبر " بدل " صلى " لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث ) [21].
ولعل عذر الشيخ أنه لم يقف على باقي الروايات التي ذكرتها أنت، أما وإذ ذكرتها فلا عذر لك في اتهامك ابن شاذان في هذا الحديث إلا أن تقف على علة أخرى غير ما ذكر، فبيِّنها لنا.
من تمام الأمانة أن تنقل من طعن في الرجل وتنقل من أثنى عليه، ولن أنقل لك ما قاله علماء الحديث في هذا الباب فأنت تعرفه إن شاء الله.
وكذلك تعرف أن الرجل إذا كثر معدوله على مجرحيه، أو بانت علة تجريحهم وأنها لا تقدح فيه: لا ينظر لجرحهم.
وليتك إذ هيَّئتَ نفسَك للاجتهاد واتباع الدليل أن تنصف البحث، وتعطيه حقه، لا أن تصدر الحكم ثم تجمع النصوص التي تؤيدك، وتبعد أو تستر ما لا يؤيدك.
ولو قلت هذا مذهب الإمام أحمد أو مالك أو ... لعلمنا أنك تبحث في أدلتهم، ولا عيب في ذلك.
وسأنقل لك فصلا كتبه بعضهم في اتهام إبراهيم بن طهمان بالإغراب، ولك أن تستزيد من مصادر ترجمته حتى تقف على حال الرجل.
المقترب في بيان المضطرب (ص: 192)
فائدة إفراد الرواة الموصوفين بالاضطراب في حديثهم:
إفراد الرواة المضطربين له فوائد عديدة:
منها: نفي وصف الاضطراب، وذلك أن الراوي، يوصف بالاضطراب في حديثه، ويكون الاضطراب من غيره، كإبراهيم بن طهمان قال عنه الحافظ ابن عمّار: "ضعيف مضطرب الحديث" اهـ، فبيَّنت من خلال الدراسة، أن إبراهيم لم يضطرب، وأنّ الاضطراب من الراوي عنه لا منه.
ثم قال (ص: 203)
الباب الأول: الرواة الموصوفون بالاضطراب مطلقاً
(1) إبراهيم بن طهمان الخُراساني أبوسعيد. سكن نيسابور ثمّ مكة. ثقة يغرب، تُكُلِّمَ فيه للإرجاء، ويقال رجع عنه. من السابعة. مات سنة ثمان وستين1.
قال محمد بن عبد الله بن عمّار الموصلي: ضعيف؛ مضطرب الحديث2.
وقال ابن حزم: " ضعيف " 3 اهـ.
ذكر من وثقه:
قال عبد الله بن المبارك: صحيح الكتاب4. وقال مرة: صحيح الحديث5.
وقال ابن معين: ثقة6.
وقال مرة: صالح الحديث7.
وقال أحمد بن حنبل: ثقة في الحديث ... 8.
وقال أبو حاتم: صدوق، حسن الرواية9. وقال مرة: ثقة10.
وقال أبوداود: ثقة11.
وقال صالح جزرة: ثقة، حسن الحديث، يميل شيئاً إلى الإرجاء في الإيمان12.
تعقيب:
أمّا قول ابن عمّار رحمه الله: " ضعيف، مضطرب الحديث". فهو قول [شاذ، لا عبرة به]13. وقد ردّ عليه صالح جزرة، حيث قال الحسين بن إدريس: "سمعت محمد بن عبد الله بن عمّار الموصلي يقول فيه: " ضعيف مضطرب الحديث".
قال: فذكرته لصالح يعني جزرة.
فقال: ابن عمّار، من أين يعرف حديث إبراهيم، إنما وقع إليه حديث إبراهيم في الجمعة يعني الحديث الذي رواه ابن عمّار عن المعافى بن عمران عن إبراهيم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة: "أول جمعة جمعت بجواثا"14.
قال صالح والغلط فيه من غير إبراهيم؛ لأن جماعة رووه (عنه عن أبي جمرة عن ابن عباسٍ) . وكذا هو في تصنيفه، وهو الصواب. وتفرد المعافي بذكر: محمد بن زياد، فعلم أن الغلط منه، لا من إبراهيم " 15اه.
وأمّا قول الحافظ: "يُغْرِبُ"، ومن قبله الذهبي: "له ما ينفرد به. ولا ينحط حديثه عن درجة الحسن"16.
فلعل التفرد والإغراب من الرواة عنه، لا منه.
وقد قال الحافظ: "الحقُّ فيه أنه ثقة صحيح الحديث، إذا روى عنه ثقة ... " 17اه.
وأمّا "الإرجاء" الذي نُسِبَ إليه، فقد قال أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي: " سمعت سفيان بن عيينه يقول: ما قدم علينا خراساني، أفضل من أبي رجاء عبد الله بن واقد الهروي.
قلت له: فإبراهيم بن طهمان؟
قال كان ذاك مرجئاً!
قال أبو الصلت: لم يكن إرجاؤهم، هذا المذهب الخبيث: أنّ الإيمان قول بلا عمل، وأنّ ترك العمل لا يضر، بل كان إرجاؤهم: أنهم يرجون لأهل الكبائر الغفران؛ رداً على الخوارج وغيرهم، الذين يكفرون الناس بالذنوب، وكانوا يرجئون ولا يكفرون بالذنوب، ونحن كذلك ... " اه18.
وقال الحافظ: " لم يثبت غلوه في الإرجاء، ولا كان داعيةً إليه، بل ذكر الحاكم أنه رجع عنه. والله أعلم " 19 اهـ.
وقال العراقي: " العمل على أنه حجة، وإنّما نسب للإرجاء" 20اه.
__________
1 (تق 109رقم191) .
2 الميزان (1/38) والتهذيب (1/113) .
3 هدي الساري (388) وعلق عليه بقوله: وأفرط ابن حزم فأطلق أنه ضعيف وهو مردود عليه. وانظر التلخيص الحبير (3/238) .
4 الجرح (2/108) .
5 ت. الكمال (2/111) .
6 التاريخ (2/10 - الدوري) .
(رقم 91 - الدقاق) .
8 العلل (2/538 - عبد الله) .
9 الجرح (2/107) .
10 ت. الكمال (2/111) .
11 ت. الكمال (2/111) .
12 ت. الكمال (2/111) .
13 قاله الذهبي في النبلاء (7/382) والميزان (1/38) .
14 أخرجه النسائي في الكبرى (1/515 رقم 1655) .
15 التهذيب (1/113) .
16 النبلاء (7/383) .
17 التهذيب (1/113- 114) .
18 ت. الكمال (2/111- 112) .
19 التهذيب (1/114) .
20 البيان والتوضيح (31) .
انتهى ما أردت نقله.
فأقل ما يقال في حديثه أنه حسن لذاته كما حكم بذلك الذهبي، وأعلاه أن يقال فيه ما قال ابن حجر: حديث صحيح، وقد وثقه كما رأيت، وهو يَرُدُّ ما نقلتَه عنه أنه يُغرب، ولو كان مغربا، فإن ابن حجر ارتضى هذا الحديث منه، ولم يجعله من غرائبه.
ولا أعلم لم تركت النظر في حال الرجل، وملت إلى تقليد غيرك، حتى أوقعك فيما وقعت فيه!.
ولذلك لَمّا لم يقف الشيخ الألباني على نقدٍ لهذا الحديث قال كما نقلته أنت وسكت عنه:
قال الألباني – رحمه الله - : ( لا نسلم صحة الحديث المشار إليه ؛ لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح و لا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه، فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به )[15].
ولا أعلم أنقلت هذا الكلام مستئنسًا به أم مستدلاً؟، وهل لمثل هذا ضابطٌ لديك أو منهج تعرف كيفية أخذه؟ أم هو ترك للدليل؟
الحديث الآخر أعني ((صلى فيه سبعون نبيا)): لم يروه أحدٌ ممن عني بتدوين الحديث الصحيح ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين، ومع ذلك تراك حملت ذلك الحديث الأول عليه، مع أن الحديث الأول أصح منه، وقد: صححه ابن حجر العسقلاني!.
ومما يحتاج إليه في هذا الحديث أيضا ما جاء في:
مختصر زوائد مسند البزار (1/ 416): قال البزار: تفرد به إبراهيم عن منصور , ولا نعلمه عن ابن عمر بأحسن من هذا الإسناد. قلت –القائل ابن حجر-: هو إسناد صحيح.
ولم تجب عن تصحيح ابن حجر له!.
فهل لديك منهجية واضحة في عدم احتجاجك بهذا الحديث، أم هو أمر عاطفي تَحُسُّه، ولا يمكن وصفه؟
و هذا الحديث المحفوظ منه (( صلى فيه سبعون نبياً )) و ليس (( قبر سبعين نبياً )) فعن مُحَمَّد بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : « صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ عباءتانِ قَطْوانِيَّتانِ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ شَنُوءةَ مَخْطُومٍ بِخِطَامِ لِيفٍ لَهُ ضَفْرَانِ»[21] .
و عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ، أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ سَلَكَ فَجَّ الرَّوْحَاءَ سَبْعُونَ نَبِيًّا حُجَّاجًا عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ، وَلَقَدْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا» [22]
وعن عبد الملك، حدثني عطاء، عن أبي هريرة قال: "صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا، وبين حراء و ثبير سبعون نبيا"[23].
قدَّمْتَ مقدمة تُبَيِّنُ فيها انفراد إبراهيم بن طهمان، وتحدثت عن سنده وانفراده، وهنا تساؤلات:
لِمَ لَمْ تتحدث عن رجال هذه الأحاديث التي زعمت أنها المحفوظة، فربما كانت أضعف من حديث ابن طهمان؟
حديث ابن عباس تارة موقوف وتارة مرفوع!
حديث أبي هريرة موقوف!
ثم ألا يمكن الجمع بينهما، حتى تطرح الاحتجاج بأحدهما؟!
و على التسليم الجدلي بصحة الحديث فليس في الحديث أن قبور السبعين نبيا ظاهرة بارزة ،ولا يوجد أثر لهذه القبور فهي قد خفيت و اندرست في الأرض ولم يقصد الناس الذهاب لمسجد الخيف للتبرك والدعاء عندها و بها ،ولولا هذه الأخبار الضعيفة لما عرف أحد أن في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا ،و الأحكام تبنى على الظاهر ،وعليه فلا يقاس على وجود هذه القبور في مسجد الخيف وجود القبور في المساجد التي بها أضرحة للفروق الكثيرة بين القبور التي في مسجد الخيف - على فرض وجودها - والقبور التي في المساجد التي بها أضرحة .
هل في الأحاديث النهي عن بناء مسجد على ضريح أم النهي بناء مسجد على قبر على إطلاقه؟
فإن قلت: النهي عن ضريح فأتِ بدليل.
وإن قلت: على قبر، فالمسجد مبني على قبر كما دل عليه حديث ابن طهمان.
ولفظ القبر: مطلق، عُلِمَ أو لم يُعْلَم، فالصلاة عليه بحسب قاعدتك باطلة.
وبحسب قاعدتي إن نوي بصلاته غير الله فقد كفر، وإلا فصلاته صحيحة.
أو فأت بدليل يخصص النهي.
وكيف لم يعلموا بقبور الأنبياء وقد أخبر به الحبيب صلى الله عليه وسلم؟!.
وقولكم : ( المساجد التي بقربها قبور، وأُرِيدَ توسعتُها: ماذا يعمل لها؟ ) وجوابه أرض الله واسعة ،ولا نتقرب إلى الله بما نهى عنه ، ومادامت هذه التوسعة سوف تدخل القبور في المسجد فلا تجوز .
سأجيب بأمرين:
الأمر الأول: أقول لك لِمَ لا تقول هذه الكلمة لمن أدخل قبر النبي صلى الله عليه وسلم المسجدَ، فإن التوسعة أدخلت قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما في مسجده.
الأمر الآخر: هذه المساجد التي وسعت فدخل القبر بها: هل تعلم حالها.
اليوم لديك سيارة تجوب بها الجيزة في دقائق، لو رجعتُ بك إلى قبل 300 سنة، كيف ترى المسجد والقبر قبل توسعة المسجد، والبيوت حوله، فهل تجيز أن ينتزع بيتك الملاصق للمسجد، ويدخل في المسجد، أم ترى الأنسب أن يضم ما حول المسجد من رحبته وما حول القبر مما ليس ملك لأحد ليكفي المصلين، أم يبنوا مسجدا خارج البلد فلا يصلي فيه أحد؟!
وعلى كلٍّ: فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص المعنى:
كل عاقل يقول: بُنِي على قبور الأنبياء في الخيف مسجدًا، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة؟
اتخذ قَبرُ الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدًا في الظاهر.
فهو داخل في عموم النهي عن بناء المساجد على القبور.
ثم إنك قد نقلت نصوصا في حكاية توسعة المسجد النبوي، ألم تنقل أنهم هدموا حجر زوجات الحبيب صلى الله عليه وسلم؟!، فكيف تدعي بعدها أنه أدخلوا بيتا لا قبرا؟!، إذا كانت الحجر قد هدمت وأدخلت في المسجد فأين البيت الذي تزعمه:
وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري في كتاب أخبار مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إشاخة وعمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد ... وهدم حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه )[21]
و قال ابن الجوزي – رحمه الله - : ( وفيها – أي في سنة 88 هـ ) أمر الوليد عبد الملك بهدم مسجد رسول الله - صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ - وهدم بيوت أزواج رسول الله - صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ - وإدخالها في المسجد )[22].
...
هذه هي نقولاتك، فأين البيت الذي أدخل في المسجد، بل هدمت كل الأسوار والجدران، وأدخلت في المسجد، ثم حوط القبر بعدها، وهذا ما حدث للأضرحة والقبور!
وأما التفرقة التي ذكرتها فلا دليل لك عليها، فأنت المدع وعليك البينة.
وإلا لأتى كل شخص لنا بفرق من خياله لا يعضده دليل، مثال ذلك:
أما المسجد النبوي فجدار البيت الذي فيه القبر منفصل عن المسجد النبوي بأكثر من جدار بحيث لو أردت أن تفصل المسجد النبوي عن البيت الذي فيه القبر لأمكن دون التعرض للجدار الأول للبيت النبوي .
ثم قلت:
لوجود ثلاثة جدران محاطة به :
الجدار الأول : جدار حجرة عائشة
الجدار الثاني : عمله عمر بن عبد العزيز في خلافة الوليد بن عبد الملك
الجدار الثالث : بني بعد ذلك ثم بعد ذلك وضع السور الحديدي بينه وبين الجدار الثالث
ثم نقلت عن ابن شبة قوله:
وهدم حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه
فإذا هُدِمت حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرت ونقلت أنت،
فمن أين لك أن هناك جدارين يفصلان قبر الحبيب عن المسجد، ودعنا عن السور الحديدي فهو محدث، وإنما أتكلم عن عصر الاحتجاج، عصر الصحابة والتابعين الذين ارتضوا الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فعل سيدنا عمر بن عبدالعزيز في خلافة الوليد، فظاهر ما نقلته أنت أنه لا يوجد إلا جدار واحد يفصل قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم عن المسجد.
فإنني لم أجد إلا سورا واحدا نقلته أيضا فقلت:
ما ذكره السمهودي من معارضة عروة بن الزبير لعمر بن عبد العزيز وإنكاره لإدخال حجرة عائشة في المسجد فذكر عن عروة قال : " نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يجعل في المسجد أشد المنازلة فأبى"، وقال: " كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه "، قلت: "فإن كان ولا بد فاجعلوا له جؤجؤا " أي و هو الموضع المزور تشبه المثلث خلف الحجرة
فهذا نص واضح صريح في أنه جدار واحد بين القبر وبين المصلين، ويشرحه أيضا ما نقلته عن الإمام النووي وهو ناقل له عن الإكمال، وسكتَّ عنه، فهو صريح أيضا أنه لا يوجد حاجز إلا جدار واحد، ولو سلمنا لك بأنه جداران فهذا لا يجعله بيتا كما تدعي!.
وفعلهم يشبه إدخال الأضرحة المساجد إلا أنها مربعة أو مستطيلة، وما اتخذوه أشبه بالمثلث.
وفي تلك النصوص التي أوردتها أن حجر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم صارت مسجدًا، وأنّ ما هو موجود اليوم بخلاف ذلك، إذ أعيد تسويرها وتحويطها، فلا يصلى اليوم في حجرات زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فاليوم صارت بيتا، لا ذلك العصر.
ومع هذا صلى الناس في المسجد النبوي في تلك العصور قبل عزل حجر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بجدارين أو ثلاثة، ولم يقل أحد: إن صلاتهم باطلة!.
فسعيد بن المسيب رضي الله عنه لم يترك الصلاة في مسجد الحبيب صلى الله عليه وسلم حتى توفي، ولو كانت الصلاة باطلة لترك الصلاة فيه!.
وقد ذكرتَ أن صنع سيدنا عمر بن عبدالعزيز أو الوليد خطأ
ولاشك أن الوليد بن عبد الملك أخطأ في ذلك ،وكان بالإمكان أن يوسع المسجد من الجهات التي ليس بها حجرات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم- أو على الأقل الجهات التي ليس فيها حجرة عائشة فيترك الجهة الشمالية الشرقية و يوسع من الجهة الشمالية الغربية و الجنوبية الشرقية و الجنوبية الغربية و لم يوافق أهل العلم في هذا العصر على أمر الوليد .
مَن مِن أهل العلم في ذلك العصر الذي لم يوافق على هذه العمل؟!
أتعني إنكار سعيد المسيب:
قَالَ عَطَاءٌ: فَسَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهُمْ تَرَكُوهَا عَلَى حَالِهَا. يَنْشَأُ نَاشِئٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَقْدَمُ الْقَادِمُ مِنَ الأُفُقِ فَيَرَى مَا اكْتَفَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ فِي حَيَاتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُزَهِّدُ النَّاسَ فِي التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ فِيهَا. يَعْنِي الدُّنْيَا
أم إنكار أهل البيوت المنتزعة؟!
فهذا ليس إنكارا على إدخال القبر في المسجد، كما أوهمته بقول:
وفي هذا الأثر إنكار سعيد بن المسيب – رحمه الله - لأمر الوليد
وإنما كان بكاء الناس وإنكار سعيد وغيره: بسبب رغبتهم في إبقاء الآثار التاريخية التي بقيت آثارها من الحبيب صلى الله عليه وسلم، حتى يعلمَ الجيل المتأخر كيفية حياة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى أي افتراضٍ: مَن مِن الصحابة أو التابعية أو تابعيهم ممن أنكر إدخال القبر في المسجد من أجل النهي عنه، لا إنكار إزالة آثار الحبيب صلى الله عليه وسلم؟!، عدد أسماءهم، ودلنا على نصوصهم، ولا تغشنا في ذلك.
وإن كنت تقصد ما نقلته عن الطبري
وَ يُحْكَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَنْكَرَ إِدْخَالَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فِي الْمَسْجِدِ - كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقَبْرُ مَسْجِدًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ
فهذا مروي بصيغة التضعيف (يُحْكَى) وليس له سند، ثم إن العلة المذكورة لم يذكرها سعيد، وإنما توهمها الراوي (كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقَبْرُ مَسْجِدًا) فلا حجة فيها، بل إنكاره لذلك سببه ما رواه عنه عطاء: (وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهُمْ تَرَكُوهَا عَلَى حَالِهَا. يَنْشَأُ نَاشِئٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَقْدَمُ الْقَادِمُ مِنَ الأُفُقِ فَيَرَى مَا اكْتَفَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ فِي حَيَاتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُزَهِّدُ النَّاسَ فِي التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ فِيهَا. يَعْنِي الدُّنْيَا).
ثم جعلت تأول وتذهب وتجيء مع أن العلة مذكورة لك في النصوص التي نقلتها، فأردت أن تحملها على ما يوافق مذهبك، وأنى لك.
وصيرت عدم إعجابهم بذلك من قبيل اتخاذ المسجد على القبر!.
أقول: على افتراض أنه خطأ من الوليد، وأن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أكره على ذلك، فلِمَ لَمْ يُعدْه كما كان في خلافته؟!، أو غيره من خلفاء الأمة؟!
والقول بعدم إنكارهم مع أنه معصية ويؤدي إلى بطلان صلاة الأمة: قول يحتاج إلى دليل؛ لأن الأمة تأثم بتركها إنكار المنكر، ولم يصل لعلمنا أن الوليد ظالم طاغية يخشى من الإنكار عليه كالحجاج مثلا، ولم يصل لعلمنا أن عمر بن عبدالعزيز يَرضَى بمثل هذا المنكر في خلافته مما يؤدي إلى بطلان صلاة الناس، أو يخشى أن يقول له عالم: إنه منكر، مع علم الناس بعدله وورعه.
ويقال لك أيضا: خل الأضرحة اليوم كما هي خشية الفتنة كما ترك قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا الكلام: تنزلا، لا اعتقادا
وفيما كتبتَ ملاحظات كثيرة:
لا تفيد أصل البحث، فأَتْرُكها، كنقلك بعض ما في الزواجر لابن حجر الهيتمي وتركك آخره، وتركك ما في تحفته.
وربما تفيد أصل البحث، كالكلام على الاستدلال بحديث عدم أمر عمر أنسا رضي الله عنهما بإعادة الصلاة.
لكن تركتُها للإطالة، ولوضوح الأدلة التي قدمتُها، فاكتفيت بها.