رد: دلالة حديث عتبان في فضل مصلى النبي صلى الله عليه وسلم
ألفاظ الحديث: صريحة في أن عتبان رضي الله عنه كان يود أن يأتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فيصلي في موضع من بيته ليتخذه مصلى، لأنه لا يقدر على حضور المسجد لكونه رجلا ضريرا، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: سأفعل إن شاء الله، فبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حين ارتفع النهار وبادر أيضا بالصلاة أول ما دخل المنزل قبل الجلوس، وقال له: أين تحب أن أصلي من بيتك، فأشار عتبان إلى ناحية من بيته فصلى عليه الصلاة والسلام ركعتين، وصلوا وراءه.
وقد أطبق الشراح في كلمة واحدة: أن عتبان قصد أن يتبرك بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مصلاه، وعليه تدل أطراف الحديث ورواياته ومعانيه.
ولم أقف في كتب شروح الحديث: من ناقش هذا الاستدلال فضلا أن يكون قال بخلافه.
وممن قرر هذا المعنى: المهلب، وابن بطال، وابن عبد البر، وابن العربي، والنووي، وابن رجب، وابن حجر، والشوكاني.
وسأسرد نصوصهم بإذن الله في نهاية البحث.
ومنهم من بالغ في الاستدلال به إلى ما لا يدل عليه: حتى أدرج فيه الصلاة في موضع صلاة الصالحين، والتبرك بآثارهم.
وكان ابن تيمية: من جملة الذين سلموا بدلالة حديث عتبان رضي الله عنه على حصول الفضيلة في مصلى عتبان رضي الله عنه بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
غير أنه: تصرف في دلالة الحديث، وذكر أن عتبان إنما قصد أن يبني مسجدا، وأحب أن يكون أول من يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يبنيه في الموضع الذي صلى فيه.
ولعله استدل برواية البخاري: (كان يؤم قومه وهو أعمى)، ورواية مسلم: (تعال فخط لي مسجدا)
[1]، وهذه الروايات لا تنافي ما أطبق عليه الشراح، وتواردت عليه الروايات، فهو مسجد في البيت، وقد كان من عادة السلف اتخاذ المساجد في البيوت كما يقول ابن رجب، والنصوص فيه كثيرة، وقد ترجم البخاري لحديث عتبان: "باب المساجد في البيوت".
على أن ما صار إليه ابن تيمية: أدل في المراد، فإنه إذا كان عتبان أحب أن يبني مسجدا في الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف لا تكون ثمة فضيلة في موضع مصلاه؟ والحال أنه يشرع له بناء المسجد فيه.
وقد تنبه ابن تيمية لهذا الإيراد: فاحترس منه بأن المقصود كان بناء المسجد، وكانت الصلاة مقصودة لأجل المسجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد الصلاة فيه ليكون مسجدا
[2].
والسؤال: إن لم تكن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الموضع موجبة للفضل؛ فما هي الخصيصة التي تجعل الفضل منوطا بقصده الصلاة؟
وقد تابع رأيَ ابن تيمية جماعة من المعاصرين: بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك وأنه لا دلالة فيه أصلا على فضيلة مصلى عتبان بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما أراد الاقتداء به! أو أن عتبان كان ضريرا، فأراد تحديد القبلة بيقين!
والذي دعا المتأخرين إلى نفي دلالة الحديث: إضافة إلى عادة كثير منهم في متابعة ابن تيمية، هو المبالغة في تحجيم التبرك، فهي لديهم من متعلقات مسائل الاعتقاد، وليست من جمل المسائل الفقهية، ولذا فهم يعتبرون في المنع منه سدا لذرائع الشرك، ودرءا للغلو.
والذي دعا ابن تيمية رحمه الله إلى تأويل الحديث: حمايته لجناب القاعدة التي قررها: "لم يشرع الله تعالى للمسلمين مكانا يقصد للصلاة إلا المسجد، ولا مكانا يقصد للعبادة إلا المشاعر".
واستدل على ذلك بأمرين:
الأمر الأول:
"لو كان هذا مستحبا لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حجر أزواجه وفي كل مكان نزل فيه في غزواته أو أسفاره، ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد ولم يفعل السلف شيئا من ذلك"[3].
والجواب عن هذا الاستشكال فيما يلي:
- أن حصول الإشكال يوجب حله، وليس بالضرورة أن يحل عبر نفي دلالة عتبان على حصول الفضيلة، والجمع واجب بين الدلالات ما أمكن؛ فكيف يصح إلغاء الدلالة الإيجابية للحديث، بناء على الدلالة السلبية القائمة على عدم العلم؟
- هذا عتبان رضي الله عنه قد اتخذ من مصلى النبي صلى الله عليه وسلم مصلى في بيته، سواء كان ذلك على طريقة الشراح أو على طريقة ابن تيمية ومن تبعه.
وقد ذكر ابن سعد، عن الواقدي: أن بيت عتبان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه الناس بالمدينة إلى يومه ذاك
[4]، ورغم ما قيل في الواقدي من جرح فإنه في السير والمغازي أحد أوعية العلم، وما في هذا الأثر فإنه من كلامه هو، وهو مولود سنة 130 هـ وتوفي سنة 207 هـ.
قال أبو غسان محمد بن يحيى الكتاني: (قال لي غير واحد من أهل العلم من أهل البلد: إن كل مسجد من مساجد المدينة ونواحيها مبني بالحجارة المنقوشة المطابقة، فقد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل، والناس يومئذ متوافرون، عن المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بناها بالحجارة المنقوشة المطابقة)
[5].
ونقل ابن شبة (ت262) في كتابه "تاريخ المدينة": جملة من المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قول يحيى بن سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إلى مسجد أبي فيصلي فيه غير مرة ولا مرتين، وقال: «لولا أن يميل الناس إليه لأكثرت الصلاة فيه»
[6].
وروى أبو داود في "مراسيله": من حديث ابن لهيعة عن بكير بن عبد الله الأشج قال: (كان بالمدنية تسعة مساجد مع مسجده صلى الله عليه وسلم يسمع أهلها تأذين بلال فيصلون في مساجدهم فعددها).
وذكر أبو زيد عمر بن شبة النحوي: في كتابه "أخبار المدينة" عدة مساجد فيها أيضًا.
وكذا الأزرقي في كتابه: "تاريخ المدينة
[7].
- جاء عن ابن عمر وابنه تتبعهم لمواضع صلاته صلى الله عليه وسلم، قال البخاري في صحيحه: (باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم)، وذكر فيه عددا ليس بالقليل من المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وتابعه عليه ابن عمر رضي الله عنه.
- ثبت في الصحيح عن سلمة بن الأكوع أنه كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى الصلاة عندها، وهذا قد يناقش بأن التحري يدل على القصد، فخرج عن كونه صلى فيه اتفاقا، وقد يجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن يصلي في مصلى عتبان فلا فرق، على أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عند الأسطوانة هل هو لفضل خاص لذلك الموضع؟ أو أن ذلك لعادته ربما لقربه من مصلى الإمام؟
- استحب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد[8]: الصلاة في المعرس إذا فقل إلى المدينة، قال مالك في الموطأ: (لا ينبغي لأحد أن يتجاوز المعرس إذا قفل حتى يصلي فيه، وأنه من مر به في غير وقت صلاة فليقم حتى تحل الصلاة ثم يصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس به، وأن ابن عمر أناخ به)[9].
- فضل الصلاة في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يعني اتخاذها عيدا، فمن علم منهم موضع صلاته صلى إذا تيسر له ذلك.
- أن الشارع لم يحث على ذلك، وعمد إلى حضهم على العمل
، مع ما قد يقع في ذلك من الإفراط واتخاذ الموضع عيدا، وإن كان قد ثبت أن في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم فضلا، ولعل هذا هو السبب في عدم مبالغة السلف في الاعتناء بها.
ولذا قال ابن رجب: (الإفراط في تتبع مثل هذه الآثار يخشى منه الفتنة، كما كره اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وقد زاد الأمر في ذلك عند الناس حتى وقفوا عنده، واعتقدوا أنه كاف لهم، واطرحوا ما لا ينجيهم غيره، وهو طاعة الله ورسوله)
[10].
ولذا لما رخص الإمام أحمد في اتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في مواضع صلاته على ما فعله ابن عمر: كره ما أحدثه الناس بعد ذلك من الغلو والإفراط، والأشياء المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة
[11].
- قد يقال: إن ثمة فرقا بين ما قصد الصلاة فيه وبين ما وقعت فيه صلاته اتفاقا، وقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في مصلى عتبان كما قرر ذلك ابن تيمية[12].
وقد نقل أحمد بن القاسم وسندي الخواتيمي، عن الإمام أحمد: أنه سئل عن إتيان هذه المساجد؟ فقال : أما على حديث ابن أم مكتوم : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته فيتخذه مصلى، وعلى ما كان يفعل ابن عمر يتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره، فلا بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا، وأكثروا فيه
[13].
- من أبصر تبرك الصحابة رضي الله عنهم بذاته الشريفة وفضل طعامه وشرابه، وكذا شعره وعرقه، لم يتعجب من طلب عتبان منه عليه الصلاة والسلام الصلاة في موضع من بيته ليتخذه مصلى، فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم فكيف بموضع سجوده أقرب ما يكون فيه العبد إلى ربه؟
وأيضا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حث في أحاديث كثيرة على صلاة النافلة في البيوت، وفضلها على صلاتها في المسجد، وكذا شرعت الصلاة في العيد في المصلى، فلم تسلم قاعدة ابن تيمية بأنه لا مكان يقصد للصلاة إلا في المسجد.
الأمر الثاني: ما جاء عن عمر رضي الله عنه:
عن المعرور بن سويد، قال: (خرجنا حجاجا مع عمر بن الخطاب، فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: «أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا، حتى أحدثوها بيعا، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض»
[14].
قال ابن تيمية: وهذا قاله عمر بمحضر من الصحابة
[15].
وعن عمر أيضا:
- نحوه من حديث مروان بن سويد الأسدي[16].
- وعن نافع قال: (كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها: شجرة الرضوان، فيصلون عندها، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت)[17][18].
وفي فقه النصوص الواردة عن عمر رضي الله عنه مسالك للعلماء:
المسلك الأول: أنه يدل على عدم فضل الصلاة في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مسلك ابن تيمية.
المسلك الثاني: أن ذلك مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى في تعظيم آثار الأنبياء، وهذا أشار إليه ابن عبد البر
[19].
المسلك الثالث: أن عمر رضي الله عنه خشي أن يلتزم الناس الصلاة في تلك المواضع حتى يشكل ذلك على من يأتي بعدهم، ويرى ذلك واجبًا، وهذا مسلك ابن بطال
[20].
المسلك الرابع: أن ذلك من عمر محمول على أنه كره زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة، وهذا مسلك ابن حجر
[21].
ا
لتعليق:
أما إنكار عمر رضي الله عنه صلاتهم عند شجرة الرضوان: فبينٌ حيث لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عندها أو يذكر فيها فضلا، وابن عمر وهو المبالغ في تتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي في المواضع التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها.
أما إنكار عمر رضي الله عنه على الناس الذين كانوا يبتدرون المسجد الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم والحرص على الصلاة فيه: فهو صريح في أن عمر رضي الله عنه لا يرى فضلا للصلاة في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يؤكد أنه لم يكن من عادة الصحابة المبالغة في تتبع مواضع صلاته صلى الله عليه وسلم، ويبقى أن ذلك لا ينفي حصول الفضل في ذلك كما جاء صريحا في حديث عتبان، وعمل به بعض الصحابة كعتبان نفسه بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ابن عمر وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهم أجمعين.
فقد أثبت الشارع الفضل، وعمل به بعض الصحابة، ولم يبالغ في الحض عليه، فلم ينتشر عمل ذلك بينهم، خشية اتخاذه عيدا كما فعل اليهود والنصارى في قبور الأنبياء.
[1] أخرجه مسلم (رقم 55).
[2]) مجموع الفتاوى (17/ 468).
[3]) مجموع الفتاوى (27/ 503، 504).
[4]) فتح الباري لابن رجب (2/ 384- 386).
[5]) تاريخ المدينة لابن شبة (1/ 74).
[6]) تاريخ المدينة لابن شبة (1/ 64).
[7]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 29).
[8]) فتح الباري لابن رجب (2/ 597، 598).
[9]) فتح الباري لابن رجب (2/ 597، 598).
[10]) فتح الباري لابن رجب (2/ 384- 386).
[11]) فتح الباري لابن رجب (2/ 591).
[12]) مجموع الفتاوى (27/ 503، 504).
[13]) فتح الباري لابن رجب (2/ 384- 386).
[14]) أخرجه عبد الرزاق الصنعاني (رقم 2734)، وابن وضاح في "البدع" (2/ 88)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 544)
وصححه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 281)، وابن كثير في مسند عمر رضي الله عنه وأقواله على أبواب العلم (1/ 143)، وصححه الألباني على شرط الشيخين في تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد.
[15]) مجموع الفتاوى (27/ 134).
[16]) أخرجه ابن وضاح في "البدع" (2/ 87).
[17]) البدع لابن وضاح (2/ 87)
[18]) أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 100)، وصححه ابن حجر في فتح الباري (7/448).
[19]) قال ابن عبد البر: (قد كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بويع تحتها بيعة الرضوان وذلك والله أعلم مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى في مثل ذلك) الاستذكار (2/ 360).
[20]) ثم قال ابن بطال: كذلك ينبغي للعالم إذا رأى الناس يلتزمون النوافل والرغائب التزامًا شديدًا، أن يترخص فيها في بعض المرات ويتركها ليعلم بفعله ذلك أنها غير واجبة، كما فعل ابن عباس وغيره في ترك الأضحية.
شرح البخاري لابن بطال (2/ 126)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 24).
[21]) فتح الباري لابن حجر (1/ 569).