العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه

إنضم
10 مايو 2015
المشاركات
219
الجنس
ذكر
الكنية
د. كامل محمد
التخصص
دراسات طبية "علاج الاضطرابات السلوكية"
الدولة
مصر
المدينة
الالف مسكن عين شمس
المذهب الفقهي
ظاهري
من وحى أهل الحديث
الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه
إعداد
دكتور كامل محمد عامر
مختصر
بتصرف من كتاب
الإحكام في أصول الأحكام
للإمام المحدث الحافظ أبي محمدعلي بن أحمدبن سعيدالأندلسي القرطبي
1435هـ ــــ 2014م
(الطبعة الأولي)
ذهب قوم إلى تحريم أشياء من طريق الاحتياط وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت.
واحتجوا بقوله عليه السلام
:«إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعُرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ،كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ » [SUB][مسلم: كِتَاب الْمُسَاقَاةِ؛ بَاب أَخْذِ الْحَلَالِ وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ][/SUB]
عنزَكَرِيَّاءعَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُالنُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍيَقُولُ: سَمِعْتُرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"[SUB][البخاري: كِتَاب الْإِيمَانِ[/SUB][SUB]بَاب فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ][/SUB]
[SUB]قَوْلُهُ [/SUB][SUB](لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)[/SUB][SUB] أَيْ لَا يَعْلَمُ حُكْمَهَا وَجَاءَ وَاضِحًا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ لَا يَدْرِي كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمِنَ الْحَلَالِ هِيَ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ
وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ:
[/SUB]
[SUB](كَثِيرٌ)[/SUB][SUB] أَنَّ مَعْرِفَةَ حُكْمِهَا مُمْكِنٌ لَكِنْ لِلْقَلِيلِ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ
[/SUB]
[SUB]فَالشُّبُهَاتُ عَلَى هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ وَقَدْ تَقَعُ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ. [/SUB][SUB][[/SUB][SUB]فتح الباري لابن حجر][/SUB] [SUB]
قَوْلُهُ
[/SUB]
[SUB](فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ)[/SUB][SUB] أَيْ حَذِرَ مِنْهَا[/SUB][SUB][فتح الباري لابن حجر][/SUB] [SUB]
قَوْلُهُ
[/SUB]
[SUB](اسْتَبْرَأَ)[/SUB][SUB] بِالْهَمْزِ بِوَزْنِ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْبَرَاءَةِ أَيْ بَرَّأَ دِينَهُ مِنَ النَّقْصِ وَعِرْضَهُ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِاجْتِنَابِ الشُّبُهَاتِ لَمْ يَسْلَمْ لِقَوْلِ مَنْ يَطْعَنُ فِيهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَوَقَّ الشُّبْهَةَ فِي كَسْبِهِ وَمَعَاشِهِ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلطَّعْنِ فِيهِ وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ وَمُرَاعَاةِ الْمُرُوءَةِ[/SUB][SUB][فتح الباري لابن حجر][/SUB]
[SUB]قَوْلُهُ [/SUB][SUB](كَرَاعٍ يَرْعَى)[/SUB][SUB] هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ [/SUB][SUB]مَحْذُوفُ جَوَابِ الشَّرْطِ إِنْ أُعْرِبَتْ مَنْ شَرْطِيَّةً[/SUB][SUB] وَقَدْ ثَبَتَ الْمَحْذُوفُ فِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى [/SUB][SUB]وَيُمْكِنُ إِعْرَابُ مَنْ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ مَوْصُولَةً فَلَا يَكُونُ فِيهِ حَذْفٌ إِذِ التَّقْدِيرُ وَالَّذِي وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ مِثْلُ رَاعٍ يَرْعَى[/SUB][SUB] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِثُبُوتِ الْمَحْذُوفِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا الَّتِي أَخْرَجَهُ مِنْهَا الْمُؤَلِّفُ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ كَرَاعٍ يَرْعَى جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَرَدَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلتَّنْبِيهِ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ [فتح الباري لابن حجر][/SUB]
عَنْأَبِي فَرْوَةَعَنْ الشَّعْبِيِّ عن النعمان بن بشير قال النبي عليه السلام: «الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبَهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شبه عَلَيْهِ في الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبانَ أَتْرَكُ، وَمَن اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَالمَعَاصِي حِمَى الله مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ»[SUB][البخاري:كِتَاب الْإِيمَانِ بَاب فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ]
[/SUB] وفى رواية : «إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَإِنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أُمُوراً مُشْتَبِهَاتٍ، وَسَأَضْرُبُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلاً، إِنَّ لله عَزَّ وَجَلَّ حمَى، وَإِنَّ حِمَى الله مَا حَرَّمَ، وَإِنَّهُ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكْ أَنْ يَرْعَ فِيهِ وَإِنَّهُ مَنْ يُخَالِطِ الريبَةَ يُوْشِكْ أَنْ يَجْسُرَ»
عن
ابن عونعن الشعبي قالسمعتالنعمان بن بشيرقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لا أسمع بعده أحدا يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بين وإن الحرام بين وإن بين ذلك أمورا مشتبهات وربما قال وإن بين ذلك أمورا مشتبهة قال وسأضرب لكم في ذلك مثلا إن الله عز وجل حمى حمى وإن حمى الله عز وجل ما حرم وإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى وربما قال إنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه وإن من يخالط الريبة يوشك أن يجسر" [SUB][صحيح وضعيف سنن النسائي تحقيق الألباني :صحيح][/SUB].
فهذا حض منه عليه السلام على الورع، ونص جلي على أن ما حول الحِمى ليست من الحِمى، وأن تلك المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فُصِّلَ من الحرام فهي على حكم الحلال:
بقول تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } [SUB][الأنعام: 119][/SUB]
فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [SUB][البقرة: 29][/SUB]
وبقوله عليه السلام : «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ » [SUB][البخاري:كِتَاب الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ[/SUB][SUB]بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِيهِ].[/SUB]
قد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي فروة عن الشعبي(فَمَنْ تَرَكَ مَا شبه عَلَيْهِ في الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبانَ أَتْرَكُ)أن هذا إنما هو مستحب للمرء خاصة فيما أشكل عليه وأن حكم من استبان له الأمر بخلاف ذلك. وكذلك بين رسول الله في حديث ابن عون عن الشعبي بياناً جليّاً أن المخوف على من واقع الشبهات إنما هو أن يجسر بعدها على الحرام (من يخالط الريبة يوشك أن يجسر) فصح بهذا البيان صحة ظاهره، أن معنى رواية زكريا عن الشعبي التي يقول فيها: «وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ،» أنه إنما هو على معنى آخر وهو كل فعل أدى إلى أن يكون فاعله متيقناً أنه راكب حرام في حالته تلك، وذلك نحو ماءين كل واحد منها مشكوك في طهارته، متيقن نجاسةِ أحدِهما ، فإذا توضأ بهما جميعاً كنا موقنين بأنه إن صلى صلى وهو حامل نجاسة، وهذا ما لا يحل، وكذلك القول في ثوبين أحدهما نجس بيقين لا يعرف بعينه.
إن ما يوقن تحليله فلا يزيله الشك عن ذلك، ومن روى في حديث النعمان الذي ذكرنا لفظه «أوشك»فهو زائد على ما رواه زكريا فزيادة العدل مقبولة، فكيف وقد زاد هذه اللفظة ومعناها مَنْ هو أَجَلَّ مِنْ زكريا ومثله، وهما ابن عون وأبو فروة، وبهذا تتألف الأحاديث وطرقها، ويصح استعمال جيمع أقوال الرواة، وبالله تعالى التوفيق.
فإن تعلقوا بقول رسول الله عليه السلام: «لاَ يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ حَذَراً لِمَا بِهِ بَأْسٌ»[SUB][[/SUB][SUB]سنن الترمذي قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه][/SUB][SUB] [قال ابن حزم وفيه أبو عقيل وليس بالمحتج به].[/SUB]
فالقول في هذا الحديث كالقول في حديث النعمان سواء بسواء، وإنما هو حَضٌّ لا إيجاب. وقد علمنا أن من لم يجتنب المتشابه وهو الذي لا بأس به، فليس من أهل الورع، وأهل الورع هم المتقون، لأن المتقين جمع متق، والمتقي الخائف، ومن خاف مواقعه الحرام فهو الخائف حقّاً. إن معنى هذا الحديث لو صح إنما هو على الحض لا على الإيحاب. فلو كان المشتبه حراماً، وفرضاً تركه، لكان النبي قد نهى عنه، ولكنه لم يفعل ذلك، لكنه حض على تركه وخاف على مُوَاقِعِه أن يقدم على الحرام، ونَظَّرَ ذلك بالراتع حول الحمى، فالحمى هو الحرام، وما حول الحمى ليس من الحمى، والمشتبهات ليست من الحرام، وما لم يكن حراماً فهو حلال وهذا في غاية البيان ؛ وهذا هو الورع الذي يحمد فاعله ويؤجر، ولا يذم تاركه ولا يأثم، ما لم يواقع الحرام البين.
وأيضاً فإن حديث «لاَ يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ حَذَراً لِمَا بِهِ بَأْسٌ»ليس فيه حجة لمن قال بالاحتياط وقطع الذرائع، لأن النبي لم يبين فيه الشيء الذي ليس به بأس، الذي لا يكون العبد من المتقين إلا بأن يدعه، فلو كان هذا الحديث صحيحاً وعلى ظاهره لوجب به أن يجتنب كل حلال في الأرض، لأن كل حلال فلا بأس به. ولم يوضح الحديث أي الأشياء التي لا بأس بها.
وتعلقوا: بما روى عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ"
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْبِرّ حُسْن الْخُلُق ، وَالْإِثْم مَا حَاكَ فِي صَدْرك ، وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِع عَلَيْهِ النَّاس ) قَالَ الْعُلَمَاء : الْبِرّ يَكُون بِمَعْنَى الصِّلَة ، وَبِمَعْنَى اللُّطْف وَالْمَبَرَّة وَحُسْن الصُّحْبَة وَالْعِشْرَة ، وَبِمَعْنَى الطَّاعَة ، وَهَذِهِ الْأُمُور هِيَ مَجَامِع الْخُلُق .
وَمَعْنَى ( حَاكَ فِي صَدْرك ) أَيْ تَحَرَّكَ فِيهِ ، وَتَرَدَّدَ ، وَلَمْ يَنْشَرِح لَهُ الصَّدْر ، وَحَصَلَ فِي الْقَلْب مِنْهُ الشَّكّ ، وَخَوْف كَوْنه ذَنْبًا. وبما روى عن شريح بن عبيد قال: زعم أيوب بن مكرز أن غلاماً من الأزد قال له رسول الله وقد أتاه يسأله عن الحرام والحلال، فقال له رسول الله : «إِنَّ الحَلاَلَ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَإِنَّ الإِثْمَ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَهُ أَفْتَاكَ النَّاسُ مَا أَفْتَوْكَ» .
قال ابن حزم رحمه الله فالأول فيه معاوية بن صالح ليس بالقوي، وفي الثاني مجهولون وهو منقطع أيضاً، ومعاذ الله أن يكون الحرام والحلال على ما وقع في النفس، والنفوس تختلف أهواؤها، والدين واحد لا اختلاف فيه، قال الله تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [SUB][النساء: 82].[/SUB] ومن حرم المشتبه وأفتى بذلك وحكم به على الناس فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وخالف النبي واستدرك على ربه تعالى بعقله أشياء من الشريعة.
ويكفي من هذا كله إجماع الأمة كلها نقلاً عصراً عن عصر أن من كان في عصره وبحضرته في المدينة إذا أراد شراء شيء مما يؤكل، أو مما يلبس، أو يوطأ، أو يركب، أو يستخدم، أو يتملك أي شيء كان، أنه كان يدخل سوق المسلمين أو يلقى مسلماً يبيع شيئاً ويبتاعه منه، فله ابتياعه ما لم يعلمه حراماً بعينه، أو ما لم يغلب الحرام عليه غلبة يخفي معها الحلال ولا شك أن في السوق مغصوباً ومسروقاً ومأخوذاً بغير حق، وكل ذلك قد كان في زمن النبي إلى هلم جراً، فما منع النبي من شيء من ذلك، وهذا هو المشتبه نفسه،
فعَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا فَقَالَ "سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ" قَالَتْ وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ [SUB][البخاري: كِتَاب الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ بَاب ذَبِيحَةِ الْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ]
[/SUB]وهذا يرفع الإشكال جملة في هذا الباب.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا فَقَالَ "سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ" قَالَتْ وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ [SUB][البخاري: كِتَاب الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ بَاب ذَبِيحَةِ الْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ][/SUB] وقد روي أنه أمر في من أطعمه أخوه شيئاً أن يأكل، ولا يسأل، فنحن نحض الناس على الورع كما حضهم النبي ونندبهم إليه، ونشير عليه باجتناب ما حاك في النفس، ولا نقضي بذلك على أحد ولا نفتيه به فتيا إلزام، كما لم يقض بذلك رسول الله على أحد.
احتجوا بقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [SUB][البقرة: 104][/SUB]
قالوا: فنهوا عن لفظة { رَاعِنَا } لتذرعهم بها إلى سب النبي .
قيل: هذا لا حجة فيه؛ لأن الحديث الصحيح قد جاء بأنهم كانوا يقولون: راعنا من الرعونة، وليس هذا مسنداً، وإنما هو قول لصاحب ولم يقل الله تعالى ولا رسوله : إنكم إنما نهيتم عن قول راعنا لتذرعكم بذلك إلى قول راعنا، وإذا لم يأت بذلك نص عن الله تعالى، ولا عن رسوله في قول أحد دونه.
وقد قال بعض الصحابة في الحُمُر، إنما حرمت لأنها كانت حمولة الناس، وقال بعضهم: إنما حرمت لأنها كانت تأكل القذر، وكلا القولين غير صواب، لأن الدجاج تأكل من القذر ما لا تأكل الحمير، ولم يحرم قط الدجاج والناس كانوا أفقر إلى الخيل للجهاد منهم إلى الحمير، وقد أباح أكل الخيل في حين تحريمه الحمير، فبطل كلا القولين.
وهكذا من قال: إن الله تعالى إنما نهى عن قول: {رَاعِنَا} لئلا يتذرعوا بها إلى قول راعنا، فلا حجة في قوله، لأنه أخبر عما عنده، ولم يسند ذلك إلى النبي وهذه الآية حجة عليهم، لأنهم إذ نهوا عن راعنا، وأمروا بأن يقولوا { انْظُرْنَا } ، ومعنى اللفظين واحد، فقد صح بلا شك أنه لا يحل تعدي ظواهر الأوامر بوجه من الوجوه، وهذه حجة قوية في إبطال القول بالقياس وبالعلل، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً فإنما أمر الله تعالى (بأن لا يقولوا: {رَاعِنَا} وأن يقولوا {انْظُرْنَا}) المؤمنين الفضلاء أصحاب رسول الله المعظمين له، الذي لم يعنوا بقول: {رَاعِنَا} قط الرعونة، وأما المنافقون الذين كانوا يقولون: {رَاعِنَا} يعنون من الرعونة، فما كانوا يلتفتون إلى أمر الله تعالى، ولا يؤمنون به، فظهر يقين فساد قولهم وتمويههم بهذه الآية.
من استعجل شيئاً قبل أوانه حرم عليه في الأبد
قالوا: إنما منعنا من نكح في العدة ودخل بها أن ينكحها في الأبد، لأنه استعجل نكاحها قبل أوانه، قالوا: وكذلك حرمنا القاتلَ الميراثَ لأنه استعجله قبل أوانه.
وهذه علة مفتقرة إلى ما يصححها، لأنها دعوى فاسدة فمن أين لكم أن من استعجل شيئاً قبل أوانه حرم عليه في الأبد؟ ويلزم من ذلك أن من سرق مالاً لغيره أن يحرم عليه في ملكه في الأبد، لأنه استعجله قبل وقته، وهذا كثير جدّاً. ويقال لمن جعل الاحتياط أصلاً يحرم به ما لم يصح بالنص تحريمه أنه يلزمك أن يحرم كل مشتبه يباع في السوق مما يمكن أن يكون حراماً أو حلالاً، ولا توقن بأنه حلال ولا بأنه حرام، ويلزمك أن تحرم معاملة من في ماله حرام وحلال، وأحدٌ لا يقول بشيء من ذلك،
وهذا نقض لذلك الأصل في الحكم بالاحتياط، ورفع الذريعة والتهمة.
الحرام يدخل بأرق سبب والتحليل لا يدخل إلا بأقوى الأسباب
قالوا:إن الحرام يدخل بأرق سبب كتحريم الله تعالى نكاح ما نكح الآباء، فحرم ذلك بالعقد، وإن لم يكن وطىء وأما التحليل فلا يدخل إلا بأقوى الأسباب، كتحليل المطلقة لزوجها ثلاثاً لا تحل له بعقد زوج آخر حتى يطأ.
وهذا قول فاسد لا دليل عليه، لأنه لم يأت به نص ونحن نوجدهم تحريماً لا يدخل بأغلظ سبب، وهو أن الله تعالى حرم الربيبة التي دخل المرء بأمها، وهى لا تحرم بالعقد على أمها فقط. ووجدنا التحليل في الأيمان المغلظة المعظمة باسم الله تعالى يدخل بإطعام عشرة مساكين، أو بالاستثناء الذي هو كلمات يسيرة لا مؤونة فيها وفى هذا هدم لما أصلوه من أن التحريم يدخل بأرق الأسباب، ولا يدخل التحليل إلا بأغلظ الأسباب.
ومما يبطل قولهم: قول الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ }[SUB][النحل: 116].[/SUB] وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ }[SUB][يونس: 59][/SUB] . فصح بهاتين الآيتين أن كل من حلل أو حرم ما لم يأت بإذن من الله تعالى في تحريمه أو تحليله فقد افترى على الله كذباً، ونحن على يقين من أن الله تعالى قد أحل لنا كل ما خلق في الأرض، إلا ما فصل لنا تحريمه بالنص لقوله تعالى: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ }[SUB][الأنعام: 119][/SUB] فبطل بهذين النصين الجليين أن يحرم أحد شيئاً باحتياط أو خوف تذرع. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من توهم أنه أحدث ألا يلتفت إلى ذلك، وأن يتمادى في صلاته، ، هذا في الصلاة التي هي أوكد الشرائع، حتى يسمع صوتاً أو يشم رائحة "فعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ح وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ لَا يَنْفَتِلْ أَوْ لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا" [SUB][البخاري:كِتَاب الْوُضُوءِ[/SUB][SUB]بَاب مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ]
[/SUB]
فلو كان الحكم بالاحتياط حقاً لكانت الصلاة أولى ما احتيط لها، ولكن الله تعالى لم يجعل لغير اليقين حكماً. فوجب أن كل ما تيقن تحريمه فلا ينتقل إلى التحليل إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وكل ما تيقن تحليله فلا سبيل أن ينتقل إلى التحريم إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وبطل الحكم بالإحتياط. وصح أن لا حكم إلا لليقين وحده
والاحتياط كله هو ألا يحرم المرء شيئاً إلا ما حرم الله تعالى، ولا يحل شيئاً إلا ما أحل الله تعالى.
الحكم بالتهمة
لقد أدى هذا الأصل الفاسد إلا الحكم في أشياء كثيرة بالتهمة التي لا تحل، كمن أبطل شهادة العدول لآبائهم وأبنائهم ونسائهم وأصدقائهم تهمة لهم بشهادة الزور والحيف.
والحكم بالتهمة حرام لا يحل، لأنه حكم بالظن، وقد قال تعالى عائباً لقوم قطعوا بظنونهم:
قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا } [SUB][الفتح: 12][/SUB]
وقال تعالى عائباً قوماً قالوا: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [SUB][الجاثية: 32][/SUB]
وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[SUB][النجم: 28][/SUB]
وقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [SUB][النجم: 23].
[/SUB]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا" [SUB][البخاري: كِتَاب الْأَدَبِ بَاب مَا يُنْهَى عَنْ التَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ][/SUB]
فكل من حكم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره أو بشيء خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل.
مع أن هذا المذهب في ذاته متناقض، لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد، وإذا حرم شيئاً حلالاً خوف تذرع إلى حرام فليقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر. قالوا: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قالَ:"تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ أَرْضَعْتُكُمَا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ لِي إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ فَأَعْرَضَ عَنِّي فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ قُلْتُ إِنَّهَا كَاذِبَةٌ قَالَ"كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا دَعْهَا عَنْكَ" وَأَشَارَ إِسْمَاعِيلُ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى يَحْكِي أَيُّوبَ"[SUB][البخاري: كِتَاب النِّكَاحِ بَاب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ ].[/SUB]
فهذا لا يقوله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إلا وقد صح عنده وجوب الحكم بقول تلك الأمة السوداء، والخبر إذا صح عند الحاكم، والشهادة إذا ثبتت عنده لزمه أن يحكم بهما. فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل لعقبة بن الحارث: «دَعْهَا عَنْكَ» فهو أمرٌ بفراقها بشهادة السوداء، فالمرأة الواحدة مقبولة في هذا المكان بهذا الحديث، وأما فيما سواه فامرأتان مقام رجل ولا يحل ترك حديث لحديث آخر. فإن احتجوابما رُوِىَ عن تميم الداري أن رسول الله قال: «كُلُّ مُشْكِلٍ حَرَامٌ وَلَيْسَ فِي الدِّينِ إِشْكَالٌ» فهذا حديث لا تقوم به حجة لضعف سنده
وأما كل أشياء أو شيئين أيقنَّا أن فيهما حراماً لا نعلمه بعينه
فحكمهما التوقف حتى يتبين الحرام من الحلال، لأن هذا المكان فيه يقين حرام يلزم اجتنابه فرضاً، وهذا بخلاف المشكوك فيه الذي لا يقين فيه أصلاً.
عن ابن عمرة قال:
«إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى مَيَاسِرُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»وعن ابن عباس: «إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتِى حَدُّهُ»وعن ابن مسعود: «إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَيَاسِرُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» .
وهذا يبين أنه لا يجوز التحري في اجتناب ما جاء عن الله تعالى على لسان نبيه وإن كانت رخصة، وأن كل ذلك حق وسنة ودين،
فبطل ما تعلقوا به من الاحتياط الذي لم يأت به نص ولا إجماع. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
 
أعلى