د.محمود محمود النجيري
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 19 مارس 2008
- المشاركات
- 1,171
- الكنية
- أبو مازن
- التخصص
- الفقه الإسلامي
- المدينة
- مصر
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
هل يقاتل اليهود
كما يقاتل الرجال؟
كما يقاتل الرجال؟
إسرائيل هي معزل ديني أصولي متطرف، يقوم على عقيدة توراتية محرَّفة. وهي عسكريتاريًا ضخمة، تستخدم العقيدة اليهودية للأغراض السياسية، وتضع قوانين تمييز عنصري خارج القانون الدولي والأعراف والتقاليد جميعها، ولم تضع دستورًا يحكمها؛ لأنها ليست متجانسة الفكر ولا محددة الأهداف والمطامع.
وعدم التجانس يجعلها ضعيفة في نسيجها الداخلي. ويزيدها ضعفًا اعتمادها على غيرها في قيامها واستمرارها. وهي تعد بلا ماء تقريبًا، ولا بترول، ولا غاز، ولا عمق استراتيجي، ومعظم الأرض التي نهبتها غير خصبة.
وإسرائيل ليست دولة تمامًا، ولا تحمل مكونات وخصائص الدولة بوجه ما، فهي مجتمع حرب، تتفشى فيه أوجاع الحضارة الغربية وأمراضها. ومع ذلك، هي ذات طموح إمبراطوري، ولكن طموحها يعد خرافة، أو حلمًا ووَهمًا عريضًا. ولا يشفع لها أن جيشها يعد الخامس في العالم؛ إذ يخاف جندها الموت، ويفرون من المواجهة، ولا يصمدون في ميدان الحروب الشعبية، كما حدث في لبنان عام 1982 وعام 2000 وعام 2006م، حين انسحبت مضطرة تحت ضربات المقاومة الشعبية اللبنانية التي قادها حزب الله.
ولأنها مجتمع حرب، فلا هي من الناحية السياسية، ولا الاجتماعية، ولا الاقتصادية، تأهلت لسلام ما. وهي تعلم أن دورها هو الحرب، وأنها عبارة عن محارب يلبس لأمته باستمرار، ولا يضع سلاحه أبدًا، فالحرب هي هدف استراتيجي قائم ومستمر لإسرائيل، وبدونه تتعرض للتفكك والتحلل والانهيار، ولذلك هي حريصة على بقاء هذا الهدف مطروحًا بقوة.
وهي بعد ذلك، قزم اقتصادي يريد أن يلعب دور عملاق عسكري وقوة عظمى في منطقتنا. وأي حرب برغم ذلك ضدها، سوف تؤدي نفقاتها الباهظة إلى انهيار اقتصادها تمامًا، والى سلسلة من الاحتجاجات والاضطرابات والمظاهرات والانهيارات والتراجعات السياسية. ويكفي أن تحجب أمريكا دعمها المالي لإسرائيل حتى تنهار اقتصاديًا، وتفقد كل ثقة في عملائها. وهي تعاني تضخمًا ماليًا مزمنًا، وتعجز أن تعيش على مواردها الخاصة، وتتصاعد ديونها الخارجية، حتى ليعد كل إسرائيلي مدينًا للخارج بأكثر من خمسة آلاف دولار.
ووظيفة السلام المرجوَّة، هي جعل إسرائيل قادرة على الاستغناء عن المساعدات الغربية بالاعتماد على نفسها، والتعاون والاعتماد المشترك مع دول المنطقة. فالغرب لا يستطيع أن يعطي المساعدات للأبد، ولا أن يضمن سلامة إسرائيل للأبد؛ لذا هو يعتمد استراتيجية السلام ليتحقق تقبل إسرائيل في المنطقة، وتعمقها فيها، وسيطرتها عليها اقتصاديًا وعسكريًا.
ومن الناحية المعنوية، يعاني اليهود من الجبن المزمن والهلع المرعب كلما واجهوا العدو، وكأن الجبن مرض وراثي أخذوه كابرًا عن كابر، فحين دعاهم موسى u لدخول الأرض المقدسة رفضوا، برغم أن الله كتب لهم النصر، وضمن لهم التمكين فيها في ذلك الوقت إن دخلوها. ويبين القرآن الكريم هذه القصة بقوله تعالى: ]يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[ (المائدة: 21-24).
ويتضح لنا في هذه الآيات من أحوال اليهود التالي:
1. خوفهم من القوم الجبارين. فهم أذلاء يرهبون أعداءهم.
2. لا يريدون قتالا على الإطلاق، ويخشون المواجهة.
3. لا تؤثر فيهم الموعظة البليغة، فقلوبهم قاسية.
4. يجمعون إلى الجبن الوقاحة حين يجترئون ويقولون لموسى في عبارة عجيبة:]فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[ (المائدة: 24).
5. تصريحهم بجبنهم وذلتهم وقعودهم عن القتال، برغم أن الله وعدهم النصر هناك.
وفي كل زمان ومكان، كان اليهودي يجعل من بيته حصنًا، ويتجمع اليهود في حصون وقلاع، كما كانوا في المدينة النبوية وخيبر وفدك وتيماء. وفي أوروبا عاشوا في الجيتو اليهودي المغلق. وفي فلسطين يعيشون في مستوطنات ومستعمرات (كيبوتز). وهم يحصنون بيوتهم منذ القدم بالحديد المصفح، والكتل الخرسانية، والأخشاب القوية. ويُبيِّن الله تعالى دأبهم هذا، وجانبًا من أحوالهم مع النبي r في سورة الحشر في قوله تعالى: ]هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ {2} وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ {3} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {4} مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ {5} وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {6} مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7} لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {10} أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {11} لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ {12} لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ {13} لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ {14}[ (الحشر).
وهذه الآيات تنعتهم بنعوت، وتفضحهم بأحوال تلزمهم أبد الدهر. وتؤكدها آيات أخرى منها قوله تعالى: ]وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ[ (البقرة: 96)، ومنها قوله سبحانه:]قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[ (الجمعة: 7).
ومن أجل هذا، يفضل اليهود أن يقاتل غيرهم بالنيابة عنهم لو أمكن، أو يوقِعون بين أعدائهم، ويتركونهم يُفني بعضهم بعضًا، ويلجئون إلى المراوغة والتآمر للوصول لأهدافهم، فهم يخافون رفع السلاح والتعرض للموت الذي يكرهون، ولا يثبتون في مواجهة، بل يتخذون جُدُرًا وحصونًا يستترون بها، فاليهودي الحقيقي لا يقاتل إلا مضطرًا. وقد قالها لهم زعيمهم في حصار خيبر "كعب بن أسد القرظي": "ما بات رجلٌ منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا"[1].
ولذلك كانت كل مواقفهم مع النبيr يستسلمون فيها، ويقعون سريعًا:
أ- يهود بني قينقاع يخورون بعد الحصار، ويخرجون من حصونهم.
ب- يهود بني النضير يستسلمون بعد الحصار، ويسلمون حصونهم.
ت- يهود بني قريظة يذعنون بعد الحصار، ويُخربون حصونهم بأيديهم.
ث- يهود خيبر ينهارون بعد مناوشات قليلة، فيطلبون الصلح برغم تحصنهم المنيع.
وفي كل جولة حاولوا أن يستعينوا بأعداء النبي r من القرشيين وأهل نجد والأعراب والمنافقين. ولكن حكمة النبي الكريم، وتأييد الله سبحانه، جعلتهم يتلقون الهزائم المتكررة؛ ولأن المسلمين كانوا أولياء الله المدافعين عن دينه المستمسكين به، رفعهم الله على عدوهم، فأصبحوا ظاهرين.
فإذا رأيت بعد اليوم خنفساء تفر منك سريعًا إلى جحر خرب، أو تستتر بجيفة منتنة، فذاك هو اليهودي حين يواجَه بالقتال.
لقد كانت ابنة "موشي ديان" في رعب مع قومها كما عبرت في كتابها: "جندي من إسرائيل" عند بداية حرب 1967، كتبت: "إن فرائصنا كانت ترتجف بسبب أنباء تجمع جيوش العدو على جبهتها الجنوبية مع مصر، فجاء إلينا الحاخام وصلى، وقرأ نصوصًا من التوراة، فانقلب خوفنا أمنًا".
وقد يبدو هذا متناقضًا مع نتائج هذه الحرب، ولكننا نريد أن نؤكد أنه في يونيو 1967 لم تجر حرب حقيقية، والحرب الحقيقية التي جرى فيها قتال ومواجهة بين العرب واليهود هي حرب رمضان 1393هـ، وغير ذلك لم يجرِ قتال، ولا كانت حروب. بالإضافة إلى أن الأمة في ذلك التاريخ كانت بعيدة بعدًا كبيرًا عن الدين وتعاليمه.
وعن ملابسات هزيمة 1967، يقول اللواء حسن البدري- مدير أكاديمية ناصر العسكرية العليا في مؤتمر رسمي: أؤكد لحضراتكم أن هزيمة التاسع من يونيو ليس مرجعها إلى قدرات خارقة للعدو، وليس مرجعها قط إلى قصور مادي في القوات المسلحة العربية، أبدًا- لم تكن الهزيمة نتيجة قصور وعجز في الماديات، أبدًا- لم يكن النصر الإسرائيلي نتيجة قدرات غير طبيعية لجيش الدفاع الإسرائيلي، ولكن كانت الهزيمة من انصراف المسلمين من المعنويات، وتحولهم إلى الماديات تحولا كاملا، وكان النصر الإسرائيلي مرتكزًا على بغضاء وحقد وتفرقة عنصرية وأباطيل وأكاذيب.. [2].
ثم يُبيِّن حسن البدري ذلك. ومنه:
"لم يكن سبيل القيادة الإسرائيلية السياسية أو العسكرية أو المعنوية هو شحذ العقائد والإيمان في صدور المقاتلين الإسرائيليين، ولكنهم كانوا يخاطبون أخس المشاعر الإنسانية، ويبثونها في صدورهم، ومن هنا كان المقاتل الإسرائيلي يقاتل وهو ممتلئ بالخوف الذي يدفعه إلى القتال: (إما أن تقاتل، وإما أن تُذبح أنت وأهلك، ويلقى بكم في البحر)!.. هذه الركيزة المعنوية التي ترتبط إليها أجهزة المعنويات الإسرائيلية، ركيزة خسيسة لا تستند على حقيقة، وتبعد تمامًا عن أي شيء صحيح. أما نحن العرب، فقد ذهبنا إلى الميدان، ونحن لا نعلم لماذا نذهب! ومكثنا في الميدان، ونحن لا نعلم لماذا نرابط في ساحة الشرف! وأمرنا أن نعود من الميدان، ونحن لا نعلم لماذا عدنا! فكان أن وقعت الهزيمة، وكانت ساحقة دُمر فيها 80% من أسلحتنا ومعداتنا، واستشهد فيها آلاف من جند العرب. وفوق كل ذلك، وأهم من كل ذلك، تعثرت المعنويات تعثرًا بالغًا، كاد يأتي بها إلى حافة اليأس، وهنا كانت الطامة الكبرى، والخطورة الشديدة".
"لقد كان لنا في الميدان 800 دبابة من أحدث أنواع الدبابات، وكان لنا في الميدان نيف وألف وستمئة مدفع، وكان لنا في الميدان 30 ألف مقاتل، وكان لنا في أجواء المسرح[3] المختلفة ما يزيد على 150 طائرة قتال ومقاتلة قاذفة، وكان لنا أسطول بحري له شأن في شرق البحر المتوسط، من مدمرات وغواصات، وزوارق طوربيد، وزوارق صواريخ، وأسلحة أخرى. وقامت الحرب في الخامس من يونيو، في الساعة الثامنة والنصف، وانتهى القتال في ظهر اليوم التاسع من يونيو، وحاقت هزيمة كبرى بالقوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة- هزيمة لا تتعادل مع ما كان للقوات المسلحة من عتاد وأسلحة، وذخائر وأفراد، وأمل في النصر- لم يكن ينقص القوات المسلحة في هذا اليوم العتاد، ولا ينقص القوات المسلحة في هذا اليوم الذخائر، ولم يكن ينقصهم الأفراد ولا القادة ولا الخطط، ولكن كانت تنقصهم الروح المعنوية".
"وكانت العقيدة، عقيدة الجهاد، لاشك أنها كانت مهزوزة ومختفية، وكانت الماديات قد تسلطت على الفكر والعقل بما حجب السلاح الحقيقي، السلاح الأول، وهو سلاح الإيمان والإصرار والعقيدة، هذا هو الدرس الأول والحقيقة الناصعة"[4] أهـ.
كان عدد الإسرائيليين إبان حرب 1967 مليونين ومئتين وخمسة وستين ألفًا، استطاعت حشد 11% من هذا العدد في ميدان القتال أي مئتين وثمانين ألفًا، على حين حشد العرب (592) ألف جندي عربي، وكان هناك سبعمئة دبابة إسرائيلية لمواجهة (2730) دبابة عربية، و (450) طائرة إسرائيلية مقابل (580) طائرة عربية. ويتضح من قراءة هذه الأرقام أن إسرائيل كان مقضيًا عليها بالتدمير قبل أن تتعرض للهجوم لو كانت قامت حرب حقيقية، لجنودنا فيها استعداد نفسي. ولكن الذين حاربوا العقيدة، وحاولوا وأدها في القلوب، حاقت بهم هزيمة 1967 المنكرة؛ جزاءً وفاقًا لصدهم عن سبيل الله. وهنا تلفتوا حولهم، فلم يجدوا إلا سلاح الإيمان والعقيدة؛ لإعادة الروح المعنوية المنهارة إلى الجيوش والشعوب، ولتبديل السلبية واللامبالاة إلى شجاعة وإقدام.
وبعد هزيمة يونيو 1967م، كان "ديان" يختال عجبًا ويُردد: "إنني في انتظار تليفون من القاهرة؛ لنجلس سويًا؛ ونوقع معاهدة سلام".
ويعني طبعًا معاهدة استسلام.
وكان خيرًا للأمة أن عادت إلى الدين بعد الهزيمة، وقد وضح ذلك في حرب رمضان1393هـ، حيث أبرزت الدراسات التي أجريت على حرب رمضان أن مبادئ الحرب أعيد ترتيبها على ضوء نتائج هذه المعركة، وأصبحت "الروح المعنوية" تأتي في مقدمة المبادئ الحربية، وبعدها عنصر المفاجأة، ثم القدرة القتالية، وقوة النيران. وهذه إحدى التطورات الجديدة التي أدخلتها معركة رمضان على الحرب الحديثة.
لقد زاد معدل إطلاق النيران مع صيحة الله أكبر، وكان جميع الجنود المصريين- مشاة ومدرعات وجوية- يطلقونها عالية فتهتز المشاعر، وتهمل العيون، وثمانون ألفًا يرددون صيحة واحدة تشق عنان السماء. ويروي أحد المهندسين العسكريين قصته يومها: أنه كان يشعر بأن رمال الساتر الترابي تنصهر مع صيحة الرجال، أكثر مما تنصهر بخراطيم المياه.
وعَبَرْنا إلى الضفة الشرقية للقناة في ساعات معدودة، عبر ثمانون ألف جندي مصري، وحطموا خط بارليف، أعظم خط دفاعي صناعي في التاريخ، واجتازوا الساتر الترابي تحت ضرم النار وقذائف العدو، وكانت صيحة الله أكبر أعظم سلاح ومعين لجندنا، وإرهاب لأعدائنا، برغم أنه قيل: إن خط بارليف يستحيل تخطيه، ولا يمكن نسفه إلا بقنبلة ذرية، فأراد الله أن ننسفه بالماء. وقيل: إن أية محاولة لعبور القناة ستحولها إلى مقبرة، فعبرناها على رءوس جسور.
وبهذا العدد من الجنود، وما استطعنا نقله من معدات إلى الضفة الشرقية، هُزم الجيش الذي زعم أنه لا يُقهر، وتحطم معظم ما يملكه الإسرائيليون من مدرعات ودبابات، وهلك معظم سلاحهم الجوي.
وكانت القيادة العسكرية المصرية في حرب رمضان تقدر أن عملية العبور لقناة السويس ستكلفنا خسائر في الأرواح قد تصل إلى (35) ألف جندي. أما في الواقع، فقد ثبَّت الله الجنود، وصرَفَ كيد الأعداء، فلم يستشهد سوى (64) رجلا، وجرح (420) رجلا، وأصيب في العبور 17 دبابة، وتعطل 26 عربة مدرعة، وهذه الخسائر رمزية جدًا بفضل الله. على حين فقدت إسرائيل أكثر من ألفي مقاتل. وفي الأيام الأربعة الأولى للمعركة، فقد الجيش الإسرائيلي خُمس طائراته، أي 49 طائرة، وربع دباباته، أي 500 دبابة. وبعد أسبوعين، ارتفعت هذه الخسائر إلى 800 دبابة، وأكثر من 200 طائرة على جبهتي مصر وسوريا.
وكان الجيش الإسرائيلي متفوقًا في الطيران عمومًا والمدرعات والتعبئة العامة، ولكن التخطيط المصري للحرب واجه هذا التفوق باستعمال الصواريخ المضادة للطائرات والصواريخ المضادة للدروع، وبعنصر المفاجأة على جبهتين معًا في وقت واحد.
وقد كان من الممكن تطوير عمليات حرب أكتوبر، وتحقيق انتصار كاسح، كما يعرف جميع العسكريين المطلعين، لو توافرت الإرادة السياسية. ولكن يبدو أن الهدف كان قاصرًا على مجرد العبور للضفة الشرقية للقناة، ثم التوصل إلى هدنة مع العدو! وكل هذا برغم الانهيار التام الذي أصاب الجيش والقيادة في إسرائيل: "الجيش الذي لا يُقهر"!
وكانت هذه الحرب مظهرًا لتكتل الدول العربية على مشروع قومي واحد، عندما استخدمت سلاح البترول، وأثبتت بتحديها أنها قوة مؤثرة، بل ثالث قوة في العالم، وصار هناك فرصة لأن يؤدي الوطن العربي الكبير دورًا على ساحة السياسة الدولية، فضلا عن الزحف الإسلامي الأوسع الذي يمكن أن يمدنا بقوته. ولكن نحن بأيدينا حوَّلنا القوة ضعفًا، والوحدة فرقة وانقسامًا.
إن عدم إدراكنا لأطراف المعادلة بيننا وبين العدو، يجعلنا على خطأ في التقدير، وضعف التصور لإمكانات وقدرات الفريقين، وهذا يؤدي إلى الاستخذاء حين نظن بأنفسنا الضعف والهوان، لأننا لا ندرك حقيقة نقاط القوة فينا والضعف في خصومنا. وهذا ما نعانيه الآن، إذ نضخم كثيرًا قوة العدو، ونغمط قوتنا، وبذلك يُقلب الميزان، وتضطرب المعادلة. ومن الضروري أن نعيد دراسة ما حدث من نصر مؤزر في حرب رمضان، ووحدة العرب بسبب هذه الحرب، ثم تمزقهم بسبب السلام، ودراسة انتصار حزب الله اللبناني على الجيش الإسرائيلي، حيث انكشف هشاشة القوة الإسرائيلية، وانكسرت كبرياؤها، وتبين أنها تقف خائفة على ساقين من قصب، أو تختبئ في دبابة الميركافا. ولا يمكن زراعة شيء في دبابة، ولا حتى زهرة رقيقة.
[1] تاريخ الطبري 2/99. البداية والنهاية: ابن كثير 4/120.
[2] رسالة الإمام (5)، وزارة الأوقاف، مصر، جمادى الأولى 1389هـ، يوليو 1969، ص11-13.
[3] مسرح العمليات العسكرية.
[4] رسالة الإمام (5)، وزارة الأوقاف، مصر، جمادى الأولى 1389هـ، يوليو 1969، ص11-13.