رأي جميل .. لكن كيف يُعرف القول الأوّل من الأخير؟
لاحظ أن الكلام في المُقتبس أعلاه مُتعلّق بآخر قولي الإمام مالك رضي الله عنه، وليس المقصود منه آخر ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لعل قول الحافظ ابن عبد البرّ -رحمه الله تعالى- في ذلك ليس دقيقًا.
وإلا فقد روى ابن أبي شيبة في مُصنّفه والطحاوي في شرح معاني الآثار عن الأسود قال: رأيتُ
عُمر بن الخطاب رضي الله عنهُ، يرفعُ يديهِ في أوّل تكبيرةٍ ثم لا يعودُ.
وروى الطحاوي أيضًا وابن أبي شيبة والبيهقي في الكبرى عن عاصم بن كيب عن أبيه: أن
عليًّا رضي اللهُ عَنْهُ كان يرفعُ يديهِ في أوّلِ تكبيرةٍ من الصلاةِ، ثم لا يرفعُ بعدُ.
وفي مُصنّف ابن أبي شيبة طريق أخرى عن أبي إسحاق رضي اللهُ عَنه قال: كان أصحابُ عبدالله
وأصحاب عليٍّ رضي الله عنهم لا يرفعون أيديهم إلّا في افتتاح الصلاةِ، ثم لا يعودون.
ولذا قال النيموي: "الصحابة ومَنْ بعدهم مختلفون في هذا الباب، وأمّا الخلفاء الأربعة فلم يثبت عنهم رفع الأيدي في غير تكبيرة الإحرام".
وجاء في شرح النقاية:
عن إبراهيم -النخعي-: أنّه ذُكِرَ عنده وائل بن حجر: أنّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفعُ يديهِ عند الركوع والسجود.
فقال: أعرابيٌّ لم يُصلِّ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم أرى صلاة قبلها قط، أَفَهوَ أعلمُ من عبدالله بن مسعود وأصحابه؛ حفظَ ولم يحفظوا؟!
ولا يبعد أيضًا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل الأمرين! .. فمرّة كان يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع منه، ومرة كان لا يرفع يديه -صلى الله عليه وسلم- .. ونقل هذا عدد من صحابته، ونقل ذلك عدد آخر منهم -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
بالنسبة لهذه الرواية، فرُبّما سكوت أبي حنيفة كان من باب ترك المِراء .. وإلا فله حديث جابر بن سَمُرَة رضي اللهُ عَنْهُ -عند مسلم وغيره- قال: خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه و
سلم فقال: "ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنّها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ، اسكنُوا في الصلاة".
يُحتمل أنه فعل هذا مرة مع أبي حنيفة ومرة مع الثوري .. رحمهم الله جميعًا وغفر لهم وألحقنا بهم في الصالحين، آمين.
بالنسبة لهذه المُناظرة فلم أتحقّق من إسنادها، لكنها لا تحمل كذبًا على سيدنا عمر رضي الله عنه، ولا أدري كيف فهمتم هذا من الرواية! ..
فمقصود مؤمن الطاق هي القصّة التي رُوِيَت عن قتل "الجنّ" لسعد بن عُبادة رضي الله عنه -وأسانيدها لا تصحّ- وأنهم وجدوه ميّتًا في مُغتسله وجسده قد اخضرّ، ولم يعرفوا بموته حتى سمعوا قائلًا يقول ولا يرون أحدًا: (( قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * ورميناه بسهم فلم يخط فؤاده )) حتى قيل: إن الجنّ قتلته .. هكذا ذكر الحافظ ابن عبدالبرّ في ترجمة سعد بن عُبادة .. وروى ابن جريج عن عطاء سماعه الجنّ تقول هذه الأبيات، وبمثله رُوي عن ابن الأثير وابن سيرين، ورواه بنحوه الحاكم في المُسترد وضعّفه الذهبي.
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله- في إرواء الغليل عن إسناد قصّة موت سعد بن عبادة:
"لا يصح، على أنه مشهور عند المؤرخين، حتى قال ابن عبدالبر في الاستيعاب: (ولم يختلفوا أنه وجد ميتاً في مغتسله، وقد اخضرّ جسده). ولكني لم أجد له إسنادًا صحيحًا على طريقة المحدثين؛ فقد أخرجه ابن عساكر عن ابن سيرين مرسلًا، ورجاله ثقات، وعن محمد بن عائذ ثنا عبد الأعلى به، وهذا مع إعضاله؛ فعبد الأعلى لم أعرفه".
المناظرة ثابتة بإسناد صحيح إليهم، وليس فيها تجهيل لأحد، ولا يُحيل العقل ما قالوه! ..
فأما الأوزاعي فطريقته في الترجيح طريقة المُحدّثين، وقد رجَّح روايته بعلوّ إسنادها (وهو معنى قوله مُتعجّبًا: "أحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي، وتحدثني عن حماد عن إبراهيم").
وأما أبو حنيفة فرجّح روايته بفقه رواتها، والترجيح بفقه الرواة مشهور في المذهب الحنفيّ، وبإمكانك مُراجعة تفصيل ذلك في الموضوع أدناه:
http://www.feqhweb.com/vb/t18325
هذا، والله أعلم.