رابح العربي الونشريسي
:: متابع ::
- إنضم
- 10 مايو 2012
- المشاركات
- 36
- التخصص
- أصول الفقه
- المدينة
- ثنية الحد
- المذهب الفقهي
- أهل الحديث
تم بحمد الله و توفيقه بالأمس مناقشتي لأطروحة الدكتوراه الموسومة بـ" منهج النقد في الفقه الإسلامي ، المذهب المالكي أنموذجا ، دراسة تحليلية" بجامعة وهران - الجزائر بعد سبع سنوات مضنية من البحث و الدراسة وهذه نتائج البحث:
الخاتمة:
و تتضمن ما يلي:
أولا: نتائج البحث.
توصلت من خلال البحث في هذا الموضوع إلى النتائج التالية:
1- النقد منهج من مناهج البحث العلمي المهمة، حيث يعتبر أساسا لبناء المعرفة الصحيحة، و أداة لتقويمها، و أحد أسباب تطور العلوم، ووسيلة لإصلاح الخلل الحاصل في كل جوانب المعرفة.
2- يعرف النقد بأنه:" عملية رصد لمواطن الخطأ و الصواب ، في موضوع علمي معين ، بعد دراسته و فحصه ، يستند فيه الباحث إلى الأصول و الثوابت العلمية المقررة في مجال العلم الذي ينتمي إليه هذا الموضوع، وذلك من أجل تقويم و تصحيح بعض المفاهيم المتعلقة بذلك الموضوع".
3- يتناول النقد كل إنتاج بشري يعتريه النقص و الخطأ، ولا يكون إلا بعد دراسة و تمحيص للموضوع، و لا يمارسه إلا شخص متخصص في ذلك العلم يعرف أصوله و قواعده.
4- ارتبط النقد وجودا و عدما بوجود الإنسان و ظهور فكره ، فالإنسان ناقد بالطبع ، لما أوتي من مؤهلات ذهنية و نفسية خاصة به ، جعلته يرتاح للحسن و ينقبض عن القبيح ، و حيثما كان لحركته في الحياة فكرا و أثرا ثقافيا ، كان النقد يتحرك في روحه و يسير إلى جانب فكره ، إن لم نقل إن فكره بالأساس كان نقدا.
وقد راعت الشريعة الإسلامية هذا الجانب الطبيعي في الإنسان و ذلك من خلال تقرير النقد كأصل شرعي ، فكان النقد تقليدا ممهدا ، ووضعا مألوفا في الثقافة الإسلامية عموما ، وإن لم ترد كلمة النقد بأي من اشتقاقاتها في القرآن الكريم و كذلك في السنة النبوية، لكن ثمة إشارات كثيرة فيهما إلى هذا الأصل.
5- سيرا على هدي القرآن و السنة في تقرير هذا الأصل، اهتم علماء الإسلام بالنقد في مختلف مجالات العلوم الشرعية ، فوجد النقد في علوم الحديث ، و التفسير ، و علم الكلام و العقيدة ... وقد حظي علم الفقه من ذلك بنصيب كبير لما تميز به من كثرة الآراء و تشعب المذاهب وتعدد المدارس الفقهية .
6- اصطلح المعاصرون على تسمية النقد في مجال الفقه و علومه بـ" النقد الفقهي"، وحيث لم يوجد هذا المصطلح في كتب المتقدمين ، اجتهد المعاصرون في وضع تعريف مناسب له، حيث عرفوه بتعريفات كثيرة لم تخل من قصور، اختار الباحث بعد مناقشتها تعريف النقد الفقهي بأنه:" عملية دراسة وتقويم الإنتاج الفقهي لمذهب من المذاهب الفقهية".
7- اختار الباحث هذا التعريف لتناوله لجميع الجوانب في عملية النقد الفقهي، إذ لا يقتصر النقد الفقهي على دراسة المسائل الفرعية في المذهب كما يصوره بعض الباحثين، و إنما يشمل كل ماله علاقة بالنشاط والإنتاج الفقهي ، كدراسة المؤلفات الفقهية و تقويمها من حيث طريقة عرض المادة الفقهية ، كما يتناول بالدراسة و التقويم طرائق تدريس المادة الفقهية.
8- يميز الباحثون بين نوعين من النقد الفقهي، هما:
أ- النقد الفقهي الداخلي: وهو النقد الذي يكون داخل المذهب نفسه ، حيث يهتم علماء المذهب بتصحيح أبنيته الأصولية و المنهجية ، و سبر المعاني الفقهية و تحليلها و تمحيصها ، بدراسة أصول المذهب و فروعه.
ب- النقد الفقهي الخارجي: وهو الذي يعنى بحجاج المذاهب الأخرى و الرد عليها ، ضمن ما يعرف بالردود و علم الخلاف.
9- يرتبط مصطلح"النقد الفقهي" بمصطلحات استعملها الفقهاء قديما وهي:" الجدل، الخلاف، المناظرة"، حيث توجد بين هذه المصطلحات و "النقد الفقهي" قواسم مشتركة، كما توجد بينها و بين هذا المصطلح فروق واضحة.
10- كما يرتبط هذا المصطلح بمصطلح آخر معاصر وهو " التجديد الفقهي"، إذ يشكل النقد الفقهي محورا أساسيا في عملية التجديد الفقهي ، ولهذا نجد أن كل من تكلم عن قضية التجديد الفقهي و مجالاته إلا و يشير إلى ضرورة مراجعة التراث الفقهي مراجعة نقد وتمحيص، بل و يعتبر ذلك من الأولويات في عملية التجديد الفقهي ، لأنه لا يمكن أن تقوم حركة تجديدية في الفقه إلا على إثر حركة نقدية تحدد مواضع الخلل و جوانب الإصلاح.
11- إن محاولة نقل التجربة الغربية في النقد إلى الفكر الإسلامي وتنزيل مفهوم النقد في الفكر الغربي أو استعمال أدواته المنهجية في النقد الفقهي هي محاولة استنبات في أرض غير صالحة لذلك ، لأن الفقه الإسلامي له خصائصه و مميزاته ، و كل محاولة لنقده و تجديده لا بد أن تكون من داخله ، و بأساليبه و أدواته.
12- النقد الفقهي عملية مهمة في منظومة البحث الفقهي، و تبرز أهميته في كونه يعطينا نظرة كاملة عن الفقه الإسلامي ، و يشخص لنا بصورة واضحة حالته ، ويحدد لنا مواضع الخلل التي ينبغي معالجتها ، من خلال دراسة الإنتاج الفقهي و الوقوف على مواضع الخلل و النقص الموجودة فيه ، و تحديد الأسباب الرئيسية و الجوانب السلبية التي أدت إلى الركود و الجمود في البحث الفقهي و تجاوزها ، سواء في جانب التأليف الفقهي أو تدريس المادة الفقهية ، أو تكوين الشخصية و الملكة الفقهية، لتتضح لنا بعد ذلك معالم التجديد و النهضة الفقهية المرجوة.
13- أن النقد الفقهي عملية اجتهادية، وعليه فإن الناقد الفقهي لابد أن يتوفر على آلة الاجتهاد التي تؤهله لممارسة النقد الفقهي ، ولا يشترط بلوغه رتبة الاجتهاد المطلق ، بل يكفي تحصيل آلة الاجتهاد و ملكته ، و لابد أن يغلق الباب أمام عامة الناس ممن لم يحصل هذه الآلة ، فلا يجوز أن يتصدى للنقد الفقهي عوام الناس و أشباههم من الجهال و المتجرئين و المتقحمين لأسوار الشريعة بلا فقه و لا دراية ، و ربما مع قلة ورع و ديانة.
14- يقف أمام أداء النقد الفقهي دوره الكامل في إصلاح المنظومة الفقهية و النهوض بها ، و تحقيق الغايات و الأهداف التي يرمي إليها ، عوائق كثيرة لعل من أهمها :ضعف الملكة الفقهية للناقد ، و التقليد ، و التعصب المذهبي.
ولذلك فإن ترقية العقل الفقهي للباحث إلى مرتبة النقد يتطلب تنمية الملكة الفقهية لديه من خلال منهج علمي يحرك فكر الطالب، و التحرر التام من قيود التقليد المذهبي، و التجرد لمعرفة الحق و الصواب بعيدا عن التعصب المذهبي.
15- تتنوع مجالات النقد الفقهي بتنوع المادة الفقهية، ويمكن حصرها في ثلاث مجالات أساسية ، هي: نقد الأحكام و الفتاوى، نقد الأصول و الأدلة، نقد المصنفات و طرائق تدريس المادة الفقهية.
16- أولى المالكية عناية كبيرة للنقد الفقهي في منهجهم الفقهي ، وهذا يؤكد بطلان الدعوى التي ترمي المذهب المالكي بالجمود و التحجر، و أن فقهاء المالكية مقلدون مطلقا لإمامهم، و لا يخرجون عن مذهبه و رأيه، و أن الحس النقدي غائب لديهم في دراستهم للمذهب، ومرد هذه الدعوى جهل أصحابها بتراث المذهب المالكي، أو أنهم لم يطلعوا عليه بالقدر الذي يؤهلهم لأن يصدروا في حقه الرأي الصائب.
17- لقد تبلورت الروح النقدية في المذهب المالكي في شخصية مؤسس المذهب نفسه –الإمام مالك- ، فقد تحلي مالك-رحمه الله- بالنزعة النقدية منذ بداية طلبه و تلقيه العلم على يد شيوخه ، فلم يكن يقبل و يسلم بكل ما يتلقاه من شيوخه ، بل يفحصه و يمحصه.
وقد كان مالك –رحمه الله- حريصا على غرس هذه الروح النقدية في نفوس تلاميذه و أتباعه ، فكان يحثهم على النظر و الاجتهاد ، وينهاهم عن التعصب لرأيه ، ويدعوهم إلى تمحيص ما يتلقونه عنه من العلم ، و عرضه على الأصول ، و أن لا يقبلوا من العلم إلا ما كان موافقا لهذه الأصول ، مهما عظمت منزلة قائله ، ولذلك فقد سرت الروح النقدية في نفوس تلاميذه، و استمرت في تلاميذهم ما انقطعت في فترة من فترات تاريخ المذهب المالكي.
18- أن ظهور النقد الفقهي في المذهب المالكي كان منذ بداية تأسيس المذهب ، لكن تميزه و بروزه كاتجاه و حركة منظمة في المذهب لها منهجها و أعلامها لم يكن إلا بعد القرن الخامس الهجري، وقد أسهمت عوامل كثيرة في ظهور وتطور هذا الاتجاه النقدي في المذهب.
19- كانت عناية المالكية بالنقد الفقهي بنوعيه الخارجي و الداخلي، لكن اهتمامهم بالنقد الداخلي كان أكثر من عنايتهم بالنقد الفقهي الخارجي، متأثرين في ذلك بالمنهج الفقهي للإمام مالك-رحمه الله-،حيث لم يؤسس مذهبه على الانتصار و الرد على الخصوم و المخالفين ونقد آرائهم، ولم ينح مسالك الجدل و الحجاج و المناظرة لإثبات مذهبه، ولذلك كان النقد الفقهي الخارجي في المذهب استثناء يمثل ردة فعل على انتقادات المخالفين و ردودهم على مالك و أصحابه، ويخالف المالكية بمنهجهم هذا منهج الحنفية و الشافعية اللذين جعلا من النقد و الرد على المخالفين أساسا لمذهبيهما ، وركنا ركينا في الدرس الفقهي.
20- عني المالكية بنقد مخالفيهم و الرد عليهم من خلال المناظرات، و المصنفات في الردود و الخلاف العالي ، و سلكوا في ذلك مسلكين، مسلك جدلي:يعتمد على طرق الجدل وقواعده، و مسلك أثري:يعتمد على قواعد الصناعة الحديثية ، وقد برز في مجال النقد الفقهي الخارجي فقهاء المدرسة العراقية و من تأثر بمنهجهم من المغاربة.
21- احتل النقد الفقهي الداخلي مكانة عظيمة عند فقهاء المالكية، وكان شاملا للمادة الفقهية من جميع جوانبها، فعالج كل أشكال الخلل المنهجي ، و القصور العلمي من خلال نقد أقوال المذهب و رواياته ، ونقد أصوله و أدلته ، ونقد المصنفات و مناهج التدوين ، و نقد طرائق التدريس و التعليم .
22- أخذ النقد الفقهي المتعلق بفروع المذهب و مسائله حيزا كبيرا من جهود المالكية في الدراسة النقدية للمذهب، وقد ورد في أنماط مختلفة من التأليف الفقهي الذي عرف في المذهب المالكي.
23- اعتمد فقهاء المالكية في منهجهم النقدي لدراسة المذهب و تمحيص رواياته و أقواله ، ومناقشتها ، على أسس و مقررات علمية يعتمد عليها أهل الاجتهاد في استنطاق النصوص و تقويم ما يستنبط منها ، ولم تكن تلك الانتقادات قائمة على مجرد التشهي أو الاحتكام إلى دواعي العاطفة.
24- لقد كان اهتمام المالكية بتصحيح أبنية المذهب الأصولية واضحا مثل اهتمامهم بتصحيح فروع المذهب و مسائله ، ولذلك وجه المالكية سهام النقد إلى بعض أصول المذهب ، خاصة تلك التي توجهت إليها انتقادات من المذاهب المخالفة ، كما انتقدوا كل أشكال الانحراف عن المنهجية الصحيحة للاستنباط و الاستدلال، و بخاصة التقليد و التعصب للمذهب و الجمود على كل ما ورد فيه حتى لو ثبت ضعف الدليل ، و القول في الدين بالرأي دون الاستناد إلى أصل أو دليل صحيح ، الذي فتح باب البدع في المذهب.
25- انصبت انتقادات المالكية للمصنفات الفقهية في المذهب على جانبين ، الأول: نقد المصنفات الفقهية من حيث مضمونها ، الثاني: نقد المصنفات الفقهية من حيث شكلها ، وقد تنوعت الجهود النقدية لفقهاء المالكية في هذا المجال لتشمل كل أشكال المؤلفات و المصنفات الفقهية في المذهب المالكي من مطولات و مختصرات و شروح و حواشي و غيرها.
26- لم تقتصر الرقابة العلمية في المذهب المالكي على المؤلفات و المصنفات الفقهية فقط ، بل كان فقهاء المالكية حراسا للدرس الفقهي أيضا، ولذلك اهتموا بتقويم مسار التحصيل العلمي للمتفقه ، و دعوا إلى ضرورة تحسين أساليب التعليم.
27- هذه الجهود التي بذلها فقهاء المالكية في خدمة المذهب و تنقيته من شوائب الفهم و أخطاء التنزيل أو الإفتاء أو التأليف ، و معالجة كل أشكال الخلل المنهجي ، و القصور العلمي ، و محاربة الانغلاق الفكري ، تعبّر عن رؤية فقهية إصلاحية شاملة ، و نزعة تجديدية تميز بها فقهاء المالكية ، هذه الرؤية الإصلاحية يمكننا اعتمادها كأساس لنهضتنا الفقهية الحديثة.
27- أن هذا الموضوع مازال مادة خصبة و ثرية للبحث ، ويحتاج إلى دراسات أخرى تعالج جوانب مهمة فيه.
ثانيا: الاقتراحات.
يقترح الباحث ما يلي:
1- أن تجعل هذه الدراسة نقطة انطلاق لدراسات أخرى مرتبطة بهذا الموضوع، تقترح على الطلبة في الدراسات العليا، و يمكن أن تجعل عناصر هذه الدراسة مواضيع لرسائل البحث في مرحلة الماستر و الدكتوراه.
2- أن تنجز دراسات أخرى على شاكلة هذه الدراسة في المذاهب الأخرى نحو: المذهب الحنفي ،و الشافعي، و الحنبلي، حتى تتشكل لدينا رؤية متكاملة عن منهج النقد في الفقه الإسلامي، يمكن من خلالها التأسيس "لنظرية النقد في الفقه الإسلامي".
3- نظرا لاتساع نطاق البحث في موضوع النقد الفقهي ينبغي تقييده بمجال محدد نحو: شخصية فقهية معينة في المذهب مثل: النقد الفقهي عند النووي، ابن عابدين، ابن تيمية......، أو كتاب محدد في المذهب ، أو مدرسة فقهية في المذهب، أو فترة زمنية، أو مجال محدد من مجالات النقد الفقهي، وهذا حتى يتمكن الباحث من معالجة الموضوع بدقة.
الخاتمة:
و تتضمن ما يلي:
أولا: نتائج البحث.
توصلت من خلال البحث في هذا الموضوع إلى النتائج التالية:
1- النقد منهج من مناهج البحث العلمي المهمة، حيث يعتبر أساسا لبناء المعرفة الصحيحة، و أداة لتقويمها، و أحد أسباب تطور العلوم، ووسيلة لإصلاح الخلل الحاصل في كل جوانب المعرفة.
2- يعرف النقد بأنه:" عملية رصد لمواطن الخطأ و الصواب ، في موضوع علمي معين ، بعد دراسته و فحصه ، يستند فيه الباحث إلى الأصول و الثوابت العلمية المقررة في مجال العلم الذي ينتمي إليه هذا الموضوع، وذلك من أجل تقويم و تصحيح بعض المفاهيم المتعلقة بذلك الموضوع".
3- يتناول النقد كل إنتاج بشري يعتريه النقص و الخطأ، ولا يكون إلا بعد دراسة و تمحيص للموضوع، و لا يمارسه إلا شخص متخصص في ذلك العلم يعرف أصوله و قواعده.
4- ارتبط النقد وجودا و عدما بوجود الإنسان و ظهور فكره ، فالإنسان ناقد بالطبع ، لما أوتي من مؤهلات ذهنية و نفسية خاصة به ، جعلته يرتاح للحسن و ينقبض عن القبيح ، و حيثما كان لحركته في الحياة فكرا و أثرا ثقافيا ، كان النقد يتحرك في روحه و يسير إلى جانب فكره ، إن لم نقل إن فكره بالأساس كان نقدا.
وقد راعت الشريعة الإسلامية هذا الجانب الطبيعي في الإنسان و ذلك من خلال تقرير النقد كأصل شرعي ، فكان النقد تقليدا ممهدا ، ووضعا مألوفا في الثقافة الإسلامية عموما ، وإن لم ترد كلمة النقد بأي من اشتقاقاتها في القرآن الكريم و كذلك في السنة النبوية، لكن ثمة إشارات كثيرة فيهما إلى هذا الأصل.
5- سيرا على هدي القرآن و السنة في تقرير هذا الأصل، اهتم علماء الإسلام بالنقد في مختلف مجالات العلوم الشرعية ، فوجد النقد في علوم الحديث ، و التفسير ، و علم الكلام و العقيدة ... وقد حظي علم الفقه من ذلك بنصيب كبير لما تميز به من كثرة الآراء و تشعب المذاهب وتعدد المدارس الفقهية .
6- اصطلح المعاصرون على تسمية النقد في مجال الفقه و علومه بـ" النقد الفقهي"، وحيث لم يوجد هذا المصطلح في كتب المتقدمين ، اجتهد المعاصرون في وضع تعريف مناسب له، حيث عرفوه بتعريفات كثيرة لم تخل من قصور، اختار الباحث بعد مناقشتها تعريف النقد الفقهي بأنه:" عملية دراسة وتقويم الإنتاج الفقهي لمذهب من المذاهب الفقهية".
7- اختار الباحث هذا التعريف لتناوله لجميع الجوانب في عملية النقد الفقهي، إذ لا يقتصر النقد الفقهي على دراسة المسائل الفرعية في المذهب كما يصوره بعض الباحثين، و إنما يشمل كل ماله علاقة بالنشاط والإنتاج الفقهي ، كدراسة المؤلفات الفقهية و تقويمها من حيث طريقة عرض المادة الفقهية ، كما يتناول بالدراسة و التقويم طرائق تدريس المادة الفقهية.
8- يميز الباحثون بين نوعين من النقد الفقهي، هما:
أ- النقد الفقهي الداخلي: وهو النقد الذي يكون داخل المذهب نفسه ، حيث يهتم علماء المذهب بتصحيح أبنيته الأصولية و المنهجية ، و سبر المعاني الفقهية و تحليلها و تمحيصها ، بدراسة أصول المذهب و فروعه.
ب- النقد الفقهي الخارجي: وهو الذي يعنى بحجاج المذاهب الأخرى و الرد عليها ، ضمن ما يعرف بالردود و علم الخلاف.
9- يرتبط مصطلح"النقد الفقهي" بمصطلحات استعملها الفقهاء قديما وهي:" الجدل، الخلاف، المناظرة"، حيث توجد بين هذه المصطلحات و "النقد الفقهي" قواسم مشتركة، كما توجد بينها و بين هذا المصطلح فروق واضحة.
10- كما يرتبط هذا المصطلح بمصطلح آخر معاصر وهو " التجديد الفقهي"، إذ يشكل النقد الفقهي محورا أساسيا في عملية التجديد الفقهي ، ولهذا نجد أن كل من تكلم عن قضية التجديد الفقهي و مجالاته إلا و يشير إلى ضرورة مراجعة التراث الفقهي مراجعة نقد وتمحيص، بل و يعتبر ذلك من الأولويات في عملية التجديد الفقهي ، لأنه لا يمكن أن تقوم حركة تجديدية في الفقه إلا على إثر حركة نقدية تحدد مواضع الخلل و جوانب الإصلاح.
11- إن محاولة نقل التجربة الغربية في النقد إلى الفكر الإسلامي وتنزيل مفهوم النقد في الفكر الغربي أو استعمال أدواته المنهجية في النقد الفقهي هي محاولة استنبات في أرض غير صالحة لذلك ، لأن الفقه الإسلامي له خصائصه و مميزاته ، و كل محاولة لنقده و تجديده لا بد أن تكون من داخله ، و بأساليبه و أدواته.
12- النقد الفقهي عملية مهمة في منظومة البحث الفقهي، و تبرز أهميته في كونه يعطينا نظرة كاملة عن الفقه الإسلامي ، و يشخص لنا بصورة واضحة حالته ، ويحدد لنا مواضع الخلل التي ينبغي معالجتها ، من خلال دراسة الإنتاج الفقهي و الوقوف على مواضع الخلل و النقص الموجودة فيه ، و تحديد الأسباب الرئيسية و الجوانب السلبية التي أدت إلى الركود و الجمود في البحث الفقهي و تجاوزها ، سواء في جانب التأليف الفقهي أو تدريس المادة الفقهية ، أو تكوين الشخصية و الملكة الفقهية، لتتضح لنا بعد ذلك معالم التجديد و النهضة الفقهية المرجوة.
13- أن النقد الفقهي عملية اجتهادية، وعليه فإن الناقد الفقهي لابد أن يتوفر على آلة الاجتهاد التي تؤهله لممارسة النقد الفقهي ، ولا يشترط بلوغه رتبة الاجتهاد المطلق ، بل يكفي تحصيل آلة الاجتهاد و ملكته ، و لابد أن يغلق الباب أمام عامة الناس ممن لم يحصل هذه الآلة ، فلا يجوز أن يتصدى للنقد الفقهي عوام الناس و أشباههم من الجهال و المتجرئين و المتقحمين لأسوار الشريعة بلا فقه و لا دراية ، و ربما مع قلة ورع و ديانة.
14- يقف أمام أداء النقد الفقهي دوره الكامل في إصلاح المنظومة الفقهية و النهوض بها ، و تحقيق الغايات و الأهداف التي يرمي إليها ، عوائق كثيرة لعل من أهمها :ضعف الملكة الفقهية للناقد ، و التقليد ، و التعصب المذهبي.
ولذلك فإن ترقية العقل الفقهي للباحث إلى مرتبة النقد يتطلب تنمية الملكة الفقهية لديه من خلال منهج علمي يحرك فكر الطالب، و التحرر التام من قيود التقليد المذهبي، و التجرد لمعرفة الحق و الصواب بعيدا عن التعصب المذهبي.
15- تتنوع مجالات النقد الفقهي بتنوع المادة الفقهية، ويمكن حصرها في ثلاث مجالات أساسية ، هي: نقد الأحكام و الفتاوى، نقد الأصول و الأدلة، نقد المصنفات و طرائق تدريس المادة الفقهية.
16- أولى المالكية عناية كبيرة للنقد الفقهي في منهجهم الفقهي ، وهذا يؤكد بطلان الدعوى التي ترمي المذهب المالكي بالجمود و التحجر، و أن فقهاء المالكية مقلدون مطلقا لإمامهم، و لا يخرجون عن مذهبه و رأيه، و أن الحس النقدي غائب لديهم في دراستهم للمذهب، ومرد هذه الدعوى جهل أصحابها بتراث المذهب المالكي، أو أنهم لم يطلعوا عليه بالقدر الذي يؤهلهم لأن يصدروا في حقه الرأي الصائب.
17- لقد تبلورت الروح النقدية في المذهب المالكي في شخصية مؤسس المذهب نفسه –الإمام مالك- ، فقد تحلي مالك-رحمه الله- بالنزعة النقدية منذ بداية طلبه و تلقيه العلم على يد شيوخه ، فلم يكن يقبل و يسلم بكل ما يتلقاه من شيوخه ، بل يفحصه و يمحصه.
وقد كان مالك –رحمه الله- حريصا على غرس هذه الروح النقدية في نفوس تلاميذه و أتباعه ، فكان يحثهم على النظر و الاجتهاد ، وينهاهم عن التعصب لرأيه ، ويدعوهم إلى تمحيص ما يتلقونه عنه من العلم ، و عرضه على الأصول ، و أن لا يقبلوا من العلم إلا ما كان موافقا لهذه الأصول ، مهما عظمت منزلة قائله ، ولذلك فقد سرت الروح النقدية في نفوس تلاميذه، و استمرت في تلاميذهم ما انقطعت في فترة من فترات تاريخ المذهب المالكي.
18- أن ظهور النقد الفقهي في المذهب المالكي كان منذ بداية تأسيس المذهب ، لكن تميزه و بروزه كاتجاه و حركة منظمة في المذهب لها منهجها و أعلامها لم يكن إلا بعد القرن الخامس الهجري، وقد أسهمت عوامل كثيرة في ظهور وتطور هذا الاتجاه النقدي في المذهب.
19- كانت عناية المالكية بالنقد الفقهي بنوعيه الخارجي و الداخلي، لكن اهتمامهم بالنقد الداخلي كان أكثر من عنايتهم بالنقد الفقهي الخارجي، متأثرين في ذلك بالمنهج الفقهي للإمام مالك-رحمه الله-،حيث لم يؤسس مذهبه على الانتصار و الرد على الخصوم و المخالفين ونقد آرائهم، ولم ينح مسالك الجدل و الحجاج و المناظرة لإثبات مذهبه، ولذلك كان النقد الفقهي الخارجي في المذهب استثناء يمثل ردة فعل على انتقادات المخالفين و ردودهم على مالك و أصحابه، ويخالف المالكية بمنهجهم هذا منهج الحنفية و الشافعية اللذين جعلا من النقد و الرد على المخالفين أساسا لمذهبيهما ، وركنا ركينا في الدرس الفقهي.
20- عني المالكية بنقد مخالفيهم و الرد عليهم من خلال المناظرات، و المصنفات في الردود و الخلاف العالي ، و سلكوا في ذلك مسلكين، مسلك جدلي:يعتمد على طرق الجدل وقواعده، و مسلك أثري:يعتمد على قواعد الصناعة الحديثية ، وقد برز في مجال النقد الفقهي الخارجي فقهاء المدرسة العراقية و من تأثر بمنهجهم من المغاربة.
21- احتل النقد الفقهي الداخلي مكانة عظيمة عند فقهاء المالكية، وكان شاملا للمادة الفقهية من جميع جوانبها، فعالج كل أشكال الخلل المنهجي ، و القصور العلمي من خلال نقد أقوال المذهب و رواياته ، ونقد أصوله و أدلته ، ونقد المصنفات و مناهج التدوين ، و نقد طرائق التدريس و التعليم .
22- أخذ النقد الفقهي المتعلق بفروع المذهب و مسائله حيزا كبيرا من جهود المالكية في الدراسة النقدية للمذهب، وقد ورد في أنماط مختلفة من التأليف الفقهي الذي عرف في المذهب المالكي.
23- اعتمد فقهاء المالكية في منهجهم النقدي لدراسة المذهب و تمحيص رواياته و أقواله ، ومناقشتها ، على أسس و مقررات علمية يعتمد عليها أهل الاجتهاد في استنطاق النصوص و تقويم ما يستنبط منها ، ولم تكن تلك الانتقادات قائمة على مجرد التشهي أو الاحتكام إلى دواعي العاطفة.
24- لقد كان اهتمام المالكية بتصحيح أبنية المذهب الأصولية واضحا مثل اهتمامهم بتصحيح فروع المذهب و مسائله ، ولذلك وجه المالكية سهام النقد إلى بعض أصول المذهب ، خاصة تلك التي توجهت إليها انتقادات من المذاهب المخالفة ، كما انتقدوا كل أشكال الانحراف عن المنهجية الصحيحة للاستنباط و الاستدلال، و بخاصة التقليد و التعصب للمذهب و الجمود على كل ما ورد فيه حتى لو ثبت ضعف الدليل ، و القول في الدين بالرأي دون الاستناد إلى أصل أو دليل صحيح ، الذي فتح باب البدع في المذهب.
25- انصبت انتقادات المالكية للمصنفات الفقهية في المذهب على جانبين ، الأول: نقد المصنفات الفقهية من حيث مضمونها ، الثاني: نقد المصنفات الفقهية من حيث شكلها ، وقد تنوعت الجهود النقدية لفقهاء المالكية في هذا المجال لتشمل كل أشكال المؤلفات و المصنفات الفقهية في المذهب المالكي من مطولات و مختصرات و شروح و حواشي و غيرها.
26- لم تقتصر الرقابة العلمية في المذهب المالكي على المؤلفات و المصنفات الفقهية فقط ، بل كان فقهاء المالكية حراسا للدرس الفقهي أيضا، ولذلك اهتموا بتقويم مسار التحصيل العلمي للمتفقه ، و دعوا إلى ضرورة تحسين أساليب التعليم.
27- هذه الجهود التي بذلها فقهاء المالكية في خدمة المذهب و تنقيته من شوائب الفهم و أخطاء التنزيل أو الإفتاء أو التأليف ، و معالجة كل أشكال الخلل المنهجي ، و القصور العلمي ، و محاربة الانغلاق الفكري ، تعبّر عن رؤية فقهية إصلاحية شاملة ، و نزعة تجديدية تميز بها فقهاء المالكية ، هذه الرؤية الإصلاحية يمكننا اعتمادها كأساس لنهضتنا الفقهية الحديثة.
27- أن هذا الموضوع مازال مادة خصبة و ثرية للبحث ، ويحتاج إلى دراسات أخرى تعالج جوانب مهمة فيه.
ثانيا: الاقتراحات.
يقترح الباحث ما يلي:
1- أن تجعل هذه الدراسة نقطة انطلاق لدراسات أخرى مرتبطة بهذا الموضوع، تقترح على الطلبة في الدراسات العليا، و يمكن أن تجعل عناصر هذه الدراسة مواضيع لرسائل البحث في مرحلة الماستر و الدكتوراه.
2- أن تنجز دراسات أخرى على شاكلة هذه الدراسة في المذاهب الأخرى نحو: المذهب الحنفي ،و الشافعي، و الحنبلي، حتى تتشكل لدينا رؤية متكاملة عن منهج النقد في الفقه الإسلامي، يمكن من خلالها التأسيس "لنظرية النقد في الفقه الإسلامي".
3- نظرا لاتساع نطاق البحث في موضوع النقد الفقهي ينبغي تقييده بمجال محدد نحو: شخصية فقهية معينة في المذهب مثل: النقد الفقهي عند النووي، ابن عابدين، ابن تيمية......، أو كتاب محدد في المذهب ، أو مدرسة فقهية في المذهب، أو فترة زمنية، أو مجال محدد من مجالات النقد الفقهي، وهذا حتى يتمكن الباحث من معالجة الموضوع بدقة.