العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مذكرة في مبحث الإجتهاد: ( تعريفه، الفرق بينه وبين القياس، أقسامه وأنواعه، مجاله، شروطه )..

إنضم
15 أغسطس 2016
المشاركات
120
الإقامة
مكناس - المغرب
الجنس
ذكر
الكنية
امصنصف
التخصص
الدراسات الإسلامية
الدولة
المغرب
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
بسم الله الرحمن الرحيم

مذكرة في مبحث الاجتهاد:
( تعريفه، الفرق بينه وبين القياس، أقسامه وأنواعه، مجاله، شروطه )..


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد أشرف المرسلين، أما بعد فهذه مذكرة جامعية لمبحث([1]) الاجتهاد في علم أصول الفقه، تعنى بتعريف الاجتهاد، والفرق بينه وبين القياس، وأقسام الاجتهاد وأنواعه، ومجاله، وشروطه.

والكلام عن هذا الموضوع في غاية الأهمية؛ إذ به نستطيع أن نميز بين المجتهد المفتي في دين الله، والمتكلم المفتري على شرع الله؛ الذي يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله.

كما أننا سنرى المسائل التي يجوز فيها الاجتهاد والمسائل التي لا اجتهاد فيها، لنضع حدًا للفوضى التي أثارها كثير من المحْدَثين المعاصرين الذين نسبوا أنفسهم إلى الاجتهاد والتجديد، ومن ثَم هجموا على الإسلام في مسائل يكاد يكون القول بها كفرًا. كما جاءت ردا على من يدعي أن الاجتهاد لا شروط له، وجوابا لمن يسأل عن شروط الاجتهاد.

المطلب الأول: تعريف الاجتهاد

1 - الاجتهاد لغة:​

أ - الاجتهاد في اللغة: معناه بذل غاية الجهد واستفراغ الوسع في الوصول لتحقيق أمر من الأمور أو فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلا فيما يكون فيه حرج ومشقة ويستلزم كلفة وجهدا، فيقال: اجتهد فلان في حمل حجر الرحى ولا يقال: اجتهد في حمل خردلة([2]). ثم صار هذا اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل الفقيه المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة([3]).​

ب - الاجتهاد في القرآن:الجَهْدُ والجُهْد: الطاقة والمشقة، وقيل: الجَهْد بالفتح: المشقة، والجُهْد: الوسع. وقيل: الجهد للإنسان، وقال I:﴿ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ﴾[سورة التوبة، الآية: 79]، وقال I:﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ﴾[سورة النور، الآية: 53]، أي: حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمّل المشقة، يقال: جَهَدْتُ رأيي وأَجْهَدْتُهُ: أتعبته بالفكر“([4]).​

ج - الاجتهاد في الحديث: قال ابن الأثير:وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ t «أَجْتَهِد رَأيي» الاجْتِهَاد: بَذْل الوُسْع فِي طَلَب الْأَمْرِ، وَهُوَ افْتِعَال مِنَ الجُهْد (الطَّاقة). والمرادُ بِهِ: رَدّ القَضِيَّة الَّتي تَعْرض لِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيق القِياس إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّة. وَلَمْ يُرِدِ الرَّأي الَّذِي يَراه مِنْ قِبَل نَفْسِه مِنْ غَيْر حَمْل عَلَى كِتَاب أَوْ سُنَّة“([5]).​

2 - الاجتهاد اصطلاحا:​

للاجتهاد تعريفات كثيرة تؤول بمجموعها إلى أنه استفراغ الجهد في استنباط القضايا الدينية([6])، شرعية [كانت] أو عقدية، [و] عقلية أو نقلية، [و] قطعية أو ظنية، من أدلتها التفصيلية. والمدلول اللغوي في هذا التعريف منسجم كل الانسجام مع الاصطلاح الديني الخالص“([7]).

ورغم كثرة تعاريف الاجتهاد اصطلاحا إلا أنه بعد السبر والتقسيم يمكن إرجاعها إلى اثنين بعد مراعاة اختلاف اللفظ واتفاق القصد.

أ - التعريف الأول لعلماء الأصول المتقدمين مخصوص باستفراغ الفقيه وسعه في تحصيل/إدراك العلم([8]) أو الظن([9]) بشيء من الأحكام الشرعية([10]) [زاد بعضهم] على وجه يحس المجتهد من نفسه بالعجز عن طلب المزيد فيه([11]).

ب - التعريف الثاني عند الأصوليين المعاصرين عبارة عن عملية بذل الجهد العقلي لاستخراج/لاستنباط أحكام الفروع العملية من أدلتها التفصيلية في الشريعة ([12]).

ج - شرح وتخريج التعريف الأول للاجتهاد في اصطلاح الأصوليين المتقدمين:

قولهم:استفراغ الفقيه وسعه كالجنس للمعنى اللغوي والأصولي، وما بعده خواص مميزة للاجتهاد بالمعنى الأصولي([13]). إن إضافة بذل الجهد إلى الفقيه قيد، يخرج بذل غير الفقيه كالنحوي أو المتكلم الذي لا فقه لـه فإنه لا يسمى اجتهادًا في الاصطلاح.

وقول بعضهم:في تحصيل الظن احتراز عن الأحكام القطعية([14]).

وقولهم:بشيء من الأحكام الشرعية أخرج الاجتهاد في المعقولات والمحسوسات وغيرها([15]).

وقول بعضهم:على وجه يحس المجتهد من نفسه بالعجز عن طلب المزيد فيه هو شرط للاجتهاد التام عند القائلين به([16])، ليخرج به اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه، فإنه لا يعد في اصطلاح الأصوليين اجتهادا معتبَرا([17]).

د - شرح التعريف الثاني للاجتهاد في اصطلاح الأصوليين المحْدَثين:​

قولهم:بذل الجهد العقلي أي بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال([18]). بالنظر في علل النصوص ومقاصدها، ودراسة توفر الشروط والعلل في محل تنزيل الحكم الشرعي؛ الذي هو محاولة عقلية فكرية لتنزيل النص على واقع الناس، وهو جهد بشري قد يخطئ وقد يصيب([19]).

وقولهم:لاستنباط أحكام الفروع العملية أي لاستخراج الحكم الشرعي([20]).

وقولهم:من أدلتها التفصيلية أي مما اعتبره الشارع دليلا وهو الكتاب وسنة نبيه ﷺ([21]).

وهذا التعريف باعتبار الاجتهاد بالرأي، هو بذل الفقيه جهده العقلي للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نص فيها، وذلك بالتفكر السليم واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط فيما لا نص فيه.

المطلب الثاني: الفرق بين الاجتهاد والقياس

بعد أن خلصنا إلى أن تعريف الاجتهاد اصطلاحا لا يعدو كونه تنوعا في العبارة ولا مُشَاحَّة في الاصطلاح، نبين الفرق بين الاجتهاد والقياس.

بادئ ذي بدء نعرف القياس اصطلاحا فنقول: هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة الحكم.

1 - أوجه الشبه والاتفاق بين الاجتهاد والقياس [منها]:​

- أن كل واحد منهما يُتوصل به إلى حكم شرعي.

- أنهما يشتركان في أن كلًا منهما لا بد له من أصل.

- أنهما يشتركان في التسمية (الاجتهاد)؛ إذ يطلق على القياس اجتهاد.

2 - الخلاف في الفرق بين القياس والاجتهاد:​

اختلف العلماء في القياس والاجتهاد هل هما بمعنى واحد أم هما مختلفان؟ وللعلماء في ذلك قولان:

أ - القول الأول: إن الاجتهاد يفترق عن القياس، وهذا ما ذهب إليه الغزالي في المستصفى، قال:وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْقِيَاسُ هُوَ الِاجْتِهَادُ. وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالنَّظَرِ فِي الْعُمُومَاتِ، وَدَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ، وَسَائِرِ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ سِوَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ إنَّهُ لَا يُنْبِئُ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ إلَّا عَنْ بَذْلِ الْمُجْتَهِدِ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ، وَلَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى مَنْ يُجْهِدُ نَفْسَهُ، وَيَسْتَفْرِغُ الْوُسْعَ، فَمَنْ حَمَلَ خَرْدَلَةً لَا يُقَالُ اجْتَهَدَ، وَلَا يُنْبِئُ هَذَا عَنْ خُصُوصِ مَعْنَى الْقِيَاسِ، بَلْ عَنْ الْجَهْدِ الَّذِي هُوَ حَالُ الْقِيَاسِ [وفي نسخة القائس] فَقَطْ.​

إن جمهور الأصوليين يذهبون إلى أن الاجتهاد أعم والقياس أخص فيكون الاجتهاد بذلك شاملا لكل الطرق التي يسلكها المجتهدون في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، من قياس ومصالح مرسلة واستحسان...إلخ. في حين يكون القياس طريقا من طرق الاجتهاد.

ومما يعضد القول بالفرق بينهما تبويب الأصوليين في كتبهم لكل واحد منهما بباب خاص يتعلق به وبأحكامه، وهذا فيه دلالة على الفرق، وإلا لما كان لصنيعهم معنى وفائدة.

ب - القول الثاني: إن القياس هو الاجتهاد، وهذا الرأي منقول عن ابن أبي هريرة([22])، وقد حكاه عنه بعض العلماء، منهم الماوردي في أدب القاضي، قال: وزعم ابن أبي هريرة أن الاجتهاد هو القياس. ونسبه إلى الإمام الشافعي من كلام اشتبه عليه في كتابه الرسالة([23]):

- سأله سائل - قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان؟

قلت: هما اسمان لمعنىً واحد.

قال: فما جِماعهما؟

قلت: كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم، أو على سبيل الحقِّ فيه دلالةٌ موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكمٌ: اتباعُه، وإذا لم يكن فيه بعينه طُلِب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهادُ القياسُ“([24](.

إن اصطلاح الشافعي في الاجتهاد قصره على غير المنصوص عليه، ولذلك سوّى بين القياس والاجتهاد.

لقد قصر الإمام الشافعي الاجتهاد على مفهوم خاص له، ولم يأخذ بالرأي المبني على الاستحسان أو المصلحة المرسلة([25]). وذكر للقياس وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه، وأن يكون الشيء له في الأصول أشباهٌ، فذلك يُلحق بأولاها به وأكثرِها شَبَهًا فيه. وقد يختلف القايسون في هذا“([26]).

وقد فُسر كلام الشافعي المتقدم بما يأتي:

- إن لهما معنى واحدًا، من حيث إن نتيجتهما واحدة، وهي أن كل واحد منهما يتوصل به إلى حكم غير منصوص.

- إن الشافعي أراد المبالغة لأن القياس أهم مباحث الاجتهاد.

- إن الإمام الشافعي لم يقل في تعريفه للاجتهاد بأنه قياس، بل إنه استدل في مواطن الاستشهاد على أنواع الاجتهاد بغير القياس.

- إن الإمام الشافعي قد بوَّب رسالته بباب للاجتهاد، وآخر للقياس، فلو كان يرى أنها بمعنى واحد، لما كان لصنيعه معنى وفائدة.

- الترجيح:

بناء على ما تقدم تظهر صحة القول بالتفريق بين الاجتهاد والقياس، وذلك لأن القول بالتسوية لم يعز لقائل بعينه، وقد نسبه البعض إلى ابن أبي هريرة، الذي استند إلى كلام الشافعي في رسالته، وتقدم بيان مقصده.

- ثمرة الخلاف:

من سوّى بين الاجتهاد والقياس من مثبتي القياس جَوَّز أن يكون القياس بغير أصل، والصحيح أنه لابد له من أصل؛ لأن الفروع لا تتفرع إلا عن الأصول.

المطلب الثالث: أقسام الاجتهاد وأنواعه([27])

بناء على تعريف الاجتهاد بأنه: عبارة عن عملية بذل الجهد العقلي إما لاستخراج /استنباط أحكام الفروع العملية من أدلتها التفصيلية في الشريعة وإما في تطبيقها. فإن الاجتهاد على هذا التعريف قسم إلى قسمين وثلاثة أنواع:

- قسم محمد أبو زهرة الاجتهاد في أصوله إلى قسمين وهما:

1 - القسم الأول: [اجتهاد] خاص باستنباط الأحكام وبيانها...، وهو [الاجتهاد] الكامل، وهو خاص بطائفة من العلماء الذين اتجهوا إلى تعرف أحكام الفروع العملية من أدلتها التفصيلية...؛ [و] هذا النوع من الاجتهاد الخاص، قد ينقطع في زمان من الأزمنة وهو قول الجمهور أو على الأقل طائفة كبيرة من العلماء، وقال الحنابلة: إن هذا النوع من الاجتهاد لا يخلو عصر منه فلا بد [فيه] من مجتهد يبلغ هذه المرتبة([28]).​

- وهذا القسم من الاجتهاد جعله محمد الخضري بك نوعين:

أ - النوع الأول: هو أخذ الحكم من ظواهر النصوص؛ إذا كان محل الحكم مما تتناوله تلك النصوص.

ب - والنوع الثاني: أخذ الحكم من معقول النص، بأن كان للنص علة مصرح بها أو مستنبطة، ومحل الحادثة مما يوجد فيه تلك العلة والنص لا يشمله، وهذا هو المعروف بالقياس أو الرأي([29]).

2 - القسم الثاني: [اجتهاد] خاص بتطبيقها (أي الأحكام)، [و] اتفق العلماء على أنه لا يخلو منه عصر من العصور، وهؤلاء هم علماء التخريج([30]) وتطبيق العلل المستنبطة على الأفعال الجزئية... [وهو] تحقيق المناط([31]).​

ج - وهذا القسم جعله محمد الخضري بك نوعا ثالثا إذ قال: وهناك نوع ثالث من الاجتهاد، وهو تحقيق المناط([32])، وهو أن يعرف الحكم وعلته ثم يراد تحقيق استيفاء الأشخاص لذلك المناط([33]) حتى تعطى الحكم المنوط بها شرعا([34]).

ومن أهم المظاهر في هذا العمل الاجتهادي في التنزيل الذي سماه "الشاطبي" في "الموافقات" الاجتهاد لتحقيق المناط ما يأتي بيانه:

- الاجتهاد في تحقيق النوع: إن الحكم الذي ينطوي عليه يتجه إلى أجناس الأفعال... ولذلك فإن التحقيق في هذه الأنواع اجتهاد مستمر باستمرار الحياة.

- الاجتهاد في تحقيق الأفعال المشخصة: وذلك لأن الفعل يقوم على جهة فاعله، وسبب دافع، وظرف مكاني، وظرف زماني، وهذه المعطيات لا يمكن أن تجتمع في أكثر من حادثة واحدة؛ لأنها ستفترق على الأقل في عنصر الزمان.

- تنزيل الأحكام: وهو حكم العقل بعد التحقيق بتعيين الحكم الشرعي الذي ينبغي أن يطبق على كل نوع من الأفعال، وكل فرد منها بعينه([35]).

المطلب الرابع: مجال الاجتهاد([36] (

1 - ما لا يجوز الاجتهاد فيه:​

كل حكم شرعي فيه دليل قطعي الثبوت والدلالة بالنصوص وإجماع الأمة فصار من الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة والبداهة فلا سبيل إلى الاجتهاد فيه. وينحصر اجتهاد العقل في فهمه في إدراك المعاني الدالة عليه واستيعابه وتمثله. كالعبادات، وأصول فضائل الأخلاق وأمهات القيم، والمحرمات اليقينية، والجرائم وعقوباتها، والمقدرات الشرعية، والكفارات، والمعاملات وغيرها، فهذه منصوص صراحة على أحكامها والقصد منها التعبد؛ إذ تمثل قسم الثبات والخلود في أحكام الشريعة على مر الأزمان لا تتغير ولا تُعَدل بموجب المصالح الإنسانية المتغيرة والمتطورة، لأنه ثبتت وتأكدت مصالحها المعتبرة بإجرائها على دوامها واستقرارها وثباتها.

2 - ما يجوز الاجتهاد فيه:​

- المجتَهَد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي“([37]).

- وقيل مجال الاجتهاد هو كل حكم شرعي دليله ظن“([38]).

والأول أجود؛ لأنه أعم يشمل ما فيه نص ظني وما لا نص فيه. بينما التعريف الثاني أخص؛ لأنه يقتصر فقط على ما فيه نص ظني ولا يشمل ما لا نص فيه.

- محترزات التعريف الأول([39]):

- (كل حكم شرعي) تمييز له عن القضايا اللغوية وغيرها، وأخرجنا بشرعي كل القضايا العقلية والمسائل الكلامية، فإن الحق فيها واحد والمصيب واحد والمخطئ آثم.​

- (ليس فيه دليل قطعي) تمييز له عما كان دليله فيها قطعيا، كالعبادات من وجوب الصلوات الخمس والزكاة ونحوها مما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع فيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف، فليس ذلك من محل الاجتهاد. وإنما نعني بالمجتَهَد فيه ما لا يكون المخطئ فيه آثما، لأن المسائل الاجتهادية لا يُعد المخطئ فيها آثما.

مجال الاجتهاد الجائز هو:

أ - ما فيه نص ظني الثبوت أو ظني الدلالة أو هما معا: فوجود النص لا يمنع الاجتهاد كما يتوهم البعض؛ لأن معظم نصوص القرآن ظنية الدلالة.​

- فمجال الاجتهاد في النص الظني الثبوت هو اجتهاد العقل في التحقيق في نسبة النص إلى قائله بطريق من طرق النقد المعروفة في علم الحديث، كالبحث في سنده وطريق وصوله إلينا ودرجة رواته من العدالة والضبط.

- ومجال الاجتهاد في النص الظني الدلالة: هو إعمال العقل في تفهمه، إذ أنه يجتهد في البحث في معرفة المعنى المراد من النص وقوة دلالته على المعنى، فربما يكون النص عاما وقد يكون مطلقا وربما يرد بصيغة الأمر أو النهي، وقد يُرشد الدليل على المعنى بطريق العبارة أو الإشارة أو غيرها. وقواعد اللغة ومقاصد الشريعة هي التي يُلجأ إليها لترجيح وجهة عما عداها، أو قد يرجح نص على آخر عند تعارض النصوص في الظاهر.

ب - ما لا نص فيه أصلا [ولا إجماع]( ([40]:​

I - يحتمل أن يكون معناه ما ليس فيه دليل شرعي نقلي من كتاب أو سنة صحيحة قط، وهو متروك لعقول المسلمين يشرعون له ما يناسب زمانهم ومكانهم في ضوء النصوص ومقاصد الشريعة العامة بالبحث عن حكمها بأدلة عقلية، كالقياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة أو العرف أو الاستصحاب أو غيرها من الأدلة المختلف فيها.

II - أو قد يراد به ما فيه دليل على وجه كلي عام؛ لأنه يتغير بعض التغير لمرونته وتطوره فنص عليه بإجمال دون تفصيل بما يضع المبادئ ويؤسس القواعد ويترك التفاصيل لاجتهاد عقول المسلمين. وهو ما يتعلق بجزئيات الأحكام وفروعها العملية وخصوصا في مجال السياسة الشرعية.

المطلب الخامس: شروط الاجتهاد

1 - شروط صحة الاجتهاد([41]) وهي:​

أولا: العلم بمقاصد أحكام الشريعة على كمالها جملة وتفصيلا؛ لأن الاجتهاد في الحالات والنوازل التي ليس فيها نص خاص يعتمد أو يقاس عليه يكون المعوَّل فيها على المصلحة التي تنبني عليها المقاصد.

ثانيا: التمكن من الاستنباط من النصوص بناء على فهمه فيها، بمعرفة أدوات الاستنباط الآتية:​

أ - العلم بالعربية والنحو على وجه يتيسر له به فهم خطاب العرب، لأن الاستنباط من النصوص يحتاج إلى فهم أقوالها ونصوصها بمقتضى اللغة والاصطلاح الشرعي.

ب - العلم بالقرآن والسنة([42])، ومعرفة ما قد يعرض النص فيهما من نسخ([43]) أو تقييد أو تخصيص أو نص راجح...، وتختص السنة بمعرفة الرواية وتمييز الصحيح فيها من الضعيف والمقبول من المردود.

ج - العلم بمواضع الإجماع ومواضع الخلاف؛ لئلا يُعمل ويُفتى بخلاف ما وقع الإِجماع عليه.

د - العلم بالقياس: بمعرفة حقيقة القياس وقوانينه وشروطه، ومعرفة المناهج التي سلكها السلف الصالح من الأئمة في تعريف علل الأحكام، وتَعرُّف علل الأحكام ثم القياس عليها، ومعرفة الأصول من النصوص التي يمكن أن تبنى عليها الأحكام.

هـ - العلم بأصول الفقه.

2 - شروط قبول الاجتهاد:​

أولا: الإسلام (لا تشترط الذكورة فيه).

ثانيا: التكليف (البلوغ والعقل).

ثالثا: العدالة والتقوى: أي صحة النية وسلامة الاعتقاد، واجتناب المعاصي القادحة في العدالة عند البعض([44])، والحق أن العدالة شرط لقبول الفتوى لا شرط لصحة الاجتهاد.

رابعا: الأهلية والملكة: والأهلية هي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية، بأن تتوفر فيه الشروط اللازمة للاجتهاد. مع صحة الفهم وحسن التقدير، ويعبر عنه بالملكة، وهي ليست من شروط أدوات الاستنباط كما قال شيخنا "عبد السلام الحصين". هذا الحصر لشروط الاجتهاد ليس حقيقيا وإنما يخص المجتهد [المستنبط] المطلق([45]) الذي يفتي في جميع الشرع، باعتبار أن الاجتهاد يتجزأ فلا يلزم المجتهد في بعض الأحكام دون بعض معرفة كل هذه العلوم([46])، كالمجتهد في المصالح يلزمه العلم بالمقاصد لا العلم بالعربية، والمجتهد المستنبط من النصوص يلزمه العلم بالعربية فقط، والمجتهد في تحقيق المناط لا يلزمه العلم بالمقاصد ولا العلم بالعربية، وإنما يلزمه العلم بموضوع الحكم على ما هو عليه، كعلم النفس والاجتماع والإحصاء والاقتصاد وغيرها، مما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قصد المعرفة به ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى، والقاعدة هنا أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.


[1]) مبحث: المراد به المسائل التي يذكرها الأصوليون في هذا الموضع، فإن كان المبحث (مَفْعَل) في أصل الاستعمال اللغوي هو اسم لمكان البحث، فإنه اسْتُعمل عرفًا في بيان الشيء والكشف عنه كقولهم: مبحث كذا، بمعنى مكان بيانه والكشف عنه.
[2]) انظر: التعريفات للجرجاني، ص :10، والمستصفى للغزالي، ص :342، والإحكام للآمدي، ج/4، ص :169، وأصول الفقه لأبي زهرة، ص :379، وأصول الفقه لمحمد الخضري بك، ص :367، ومعالم الشريعة الإسلامية لصبحي الصالح، ص :32.
[3]) انظر: المستصفى للغزالي، ص :342، وأصول الفقه لمحمد الخضري بك، ص :367.
[4]) انظر: مفردات ألفاظ غريب القرآن للراغب الأصفهاني، ص :99.
[5]) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، ج-1/ ص :319 - 320.
[6]) علق عليه شيخنا عبد السلام الحصين قائلا :”لعل الصواب: في استنباط أحكام القضايا الدينية“.
[7]) انظر: معالم الشريعة الإسلامية لصبحي الصالح، ص :32.
[8]) انظر: الموافقات للشاطبي، ج/4 – ص:59، والمستصفى للغزالي، ص:342، وأصول الفقه لمحمد الخضري بك، ص :367.
[9]) انظر: الموافقات للشاطبي، ج/4، ص:59. والإحكام للآمدي، ج/4 – ص :169.
([10] انظر: الإحكام للآمدي، ج/4، ص :169. والتعريفات للجرجاني، ص:10.
[11]) انظر: المستصفى للغزالي، ص:342، والإحكام للآمدي، ج/4، ص :169. وأصول الفقه لمحمد الخضري بك، ص :367.
[12]) انظر: أصول الفقه لمحمد أبي زهرة، ص:379، وأصول الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي، ج/2 – ص :1039. وتاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري بك، ص :107، ومعالم الشريعة الإسلامية لصبحي الصالح، ص :32، والاجتهاد المقاصدي لنور الدين بن مختار، ج/1، ص: 14.
([13] انظر: الإحكام للآمدي، ج/4 - ص :169.
[14]) المرجع السابق.
[15]) نفسه.
[16]) انظر: المستصفى للغزالي، ص :342.
[17]) انظر: الإحكام للآمدي، ج/4 - ص :169.
[18]) انظر: التعريفات للجرجاني، ص :10.
[19]) انظر: الاجتهاد المقاصدي لنور الدين بن مختار، ج/1 - ص :14.
[20]) نفسه.
([21] انظر: تاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري بك، ص :107.
[22]) وهو غير الصحابي المشهور أبي هريرة t.
[23]) من الإشكالات الفقهية: تفسير الشافعي الاجتهاد بأنه القياس وعبارة الشافعي مشهورة وقد تناولها أصحابه الشافعية، والأصوليون، بالتخريج تارة، وبالنقد تارات. وموضع إشكال المتأخرين أن القياس إنما هو نوع واحد من أنواع الاجتهاد المتعددة، فبينه وبين الاجتهاد عموم وخصوص مطلق، فكل قياس اجتهاد، وليس كل اجتهاد قياسا. ولا يجوز أن يحاكَم الشافعي في تسويته بين الاجتهاد والقياس إلى اصطلاح مَن بعده في تعريف الاجتهاد والقياس؛ لأن تفسير الشافعي سابق لاستقرار الاصطلاح في التفريق بين القياس والاجتهاد. فيجب – لذلك - مراعاة التطور الدلالي للمصطلحات الأصولية (منقول من موقع الملتقى الفقهي بتصرف).
[24]) انظر: الرسالة للشافعي، ص476 :.
[25]) انظر: أصول الفقه الإسلامي لأبي وهبة الزحيلي، ج/2 - ص :104.
[26]) انظر: الرسالة للشافعي، ص479 :.
([27] القسم أعم فيشمل النوع وهناك من سوى بينهما عند إطلاق اللفظ لغة.
[28]) انظر: أصول الفقه لمحمد أبي زهرة، ص :379 بتصرف.
[29]) انظر: تاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري بك، ص107 :.
[30]) تخريج المناط هو: تعرف الوصف الذي يصلح علة إذا لم يكن بيان للعلة من النصوص بالعبارة أو الإشارة أو الإيماء، ولم يكن إجماع على علة، وذلك أساس من أسس الاجتهاد بالقياس (انظر: أصول الفقه لمحمد أبي زهرة، ص :245).
[31]) تحقيق المناط هو: النظر في معرفة وجوده في آحاد الصور التي ينطبق عليها، وتدخل في عمومها بعد أن تكون العلة بنفسها قد عُرفت بطرق المعرفة المختلفة (انظر: أصول الفقه لأبي زهرة، ص :246).
[32]) الاجتهاد لتحقيق المناط عند الأصوليين يراد به الاجتهاد لتنزيل علة الحكم.
[33]) علة الحكم تسمى عند الأصوليين مناط.
([34] انظر: أصول الفقه لمحمد الخضري بك، ص333 :.
[35]) انظر: خلافة الإنسان لعبد المجيد النجار، ص :123/125.
[36]) انظر: أصول الفقه الإسلامي لأبي وهبة الزحيلي، ج/2. والقرآن الكريم بنيته التشريعية وخصائصه الحضارية لنفس المؤلف، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ليوسف القرضاوي، ص: 140، السياسة الشرعية لنفس المؤلف، ص: 65 وما بعدها، الاجتهاد المقاصدي حجيته ضوابطه مجالاته لنور الدين بن مختار الخادمي، ج/2، وخلافة الإنسان بين الوحي والعقل لعبد المجيد النجار، ص :89 وما بعدها.
[37]) انظر: المستصفى للغزالي، ص345 :.
([38] انظر: الإحكام للآمدي، ج/4 - ص :171.
[39]) قارن بين: المستصفى للغزالي، ص345 :. والإحكام للآمدي، ج/4 - ص :171.
[40]) الشيخ الفقيه المجتهد يوسف القرضاوي بارك الله فيه يسميه بأسماء تركناها؛ لأن في النفس منها شيء، فيدعوها منطقة العفو، والمعفو عنه في الشريعة مباح لا يُبحث عن حكم الشرع فيه، وما لا نص فيه يُبحث عن حكمه، ويؤكد ما قلنا تسميته لها "المنطقة الحرة"، ويسميها أيضا "منطقة الفراغ" مما يشعر بالنقص في الشريعة والله ﷻ يقول:﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾. لهذا عدلنا عن إطلاقات القرضاوي على ما لا نص فيه، بل حتى هذا الإطلاق في نظري يجب أن يقيد بقولهم: ما لا نص صريح فيه، إذ يجتهد فيه باستنباط الحكم من مجموع نصوص مؤسسة لمقاصد الشريعة. (قارن بكتابي: السياسة الشرعية، ص :65، والمدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، ص: 140، ليوسف القرضاوي).
[41]) انظر: الموافقات للشاطبي، ج/4 - ص :56، والمستصفى للغزالي، ص :342/344، وأصول الفقه للخضري بك، ص :368/370، وأصول الفقه لأبي زهرة، ص :380/388، وأصول الفقه الإسلامي للزحيلي، ج/1 - ص :496-497، ومقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور، ص: 119، ومعالم الشريعة الإسلامية لصبحي الصالح، ص :32-33.
[42]) أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة التي لها تعلق بما يجتهد فيه من الأحكام وإن لم يكن حافظاً لها.
([43] لئلا يعمل ويفتى بالمنسوخ.
[44]) انظر: المستصفى للغزالي، ص :342. وقارن بأصول الفقه للخضري بك، ص :368.
[45]) المجتهدون على أقسام منها:
- المجتهد المطلق: هو الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد المتقدمة فيتمسك بالدليل حيث كان، فهذا القسم من المجتهدين هم الذين يسوغ لهم الإفتاء، ويسوغ استفتاؤهم، ويتأدى بهم فرض الاجتهاد.
- ومجتهد المذهب: هو العالم المتبحر بمذهب من ائتم به، المتمكن من تخريج ما لم ينص عليه إمامه على منصوصه، فإذا نزلت به مثلا نازلة ولم يعرف لإِمامه فيها نصا أمكنه الاجتهاد فيها على مقتضى المذهب وتخريجها على أصوله.
-ومجتهد الفتوى والترجيح: هو أقل درجة من سابقه لأنه قصر اجتهاده على ما صح عن إمامه، ولم يتمكن من تخريج غير المنصوص، وإذا كان لإِمامه في مسألة قولان فأكثر اجتهد في ترجيح أحدها.
[46]) انظر: الموافقات للشاطبي، ج/4 - ص :56-90-92. وقارن بالمستصفى للغزالي، ص:344.
 
التعديل الأخير:
أعلى