العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

نَقد سُلَّم الَأخضَرِي

إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل
سُلَّم الأخضَري مَنظومةٌ في عِلم المنطق تقعُ في أربعةٍ وأربعين ومئة بيت . نَظَمها العلَّامةُ عبد الرحمن بن محمد الأخضري (ت: 983هـ) رحمه الله تعالى ، قبل أربعةِ قرونٍ وَنيِّفٍ .

والمؤلِّف جزائريٌّ من عُلماء القرن العاشرِ ، مالكيُّ المذهبِ ، صوفيُّ أشعريُّ ، تقليداً لمشايخه ، لكنه مُعظِّم للسُّنة في غالب مؤلفاته ، وشعره الأدبيُّ تظهر فيه علامات الإستقامة ونبذ البدع والخرافات .

وقد كانت بِيئةُ المؤلِّف ( الجزائر ) – وما زالت – مرتعاً للجهلِ والفتنِ ، وقد أشار في منظومته ( السُّلم المنورق في علم المنطق ) إلى فساد أهلِ زمانه وتسلُّطهم على أهل الصلاح والتقوى :
وقل لمن لم ينتصف لمقصدي .. العذرٌ حقٌّ واجبٌ للمبتدي
لا سِّيما في عاشرِ القُرونِ .. ذِّي الجهلِ والفسادِ والفتونِ
وقد صدق حَدسهُ ويقينهُ رحمه الله تعالى ، فقد رأيتُ قبره بعيني وقد أقيم عليه ضريحٌ في غُرفةٍ مُزخرفةٍ مُنمقةٌ ، مُلحقةٌ بمسجدِه وزاويتهِ ، ومظاهر الشرك عنده بادية ، وأصوات الجهل حوله حادية ، فيا لله العجب ، ما أسرع عُقوق الرؤساء لعُلمائِهم ، وما أعظم ضياع رسوم الدِّين من جهالهم! .

وهذه حاشيةٌ مفيدةٌ أمليتها على بعضِ الطلبة حين تدريسي لهذا السُّلم ، وقد راجعتُها وهذَّبتُها لينتفع بها من يقف عليها من المتعطِّشين لهذا العلم .

وقد امتثلتُ لِنصحِ الأخضري – رحمه الله تعالى – الذي طلب في سُلَّمهِ أن يأتي بعده من يُصلحهُ وأن يُسامحه على زلَّاته وسهوه ، فقد قال :
وكن أخي للمُبتدي مُسامحاً.. وكن لإصلاح الفسادِ ناصحاً
وأصلح الفسادَ بالتأمُّل .. وإن بديهة فلا تبُدِّلِ .

وهذا أوان الشروع في المقصود ، والله وليُّ التوفيق:

(أ)سببُ تأليفِ الأخضريِّ للسُّلم :
أشار الأخضريُّ في مقدمة السُّلم في البيت الحادي عشر وما بعده ، إلى أنه أراد نظم مَدخلٍ للفوائدِ والقواعدِ المنطقيةِ التي يَحتاجها المتعلِّم عند شُروعه في مُطالعة المُطوَّلات من الكتب المختلفة ، حيث قال :
فهاك من أُصوله قواعداً.. تجمعُ من فُنونه فوائداً
وأن يكون نافعاً للمبتدي .. به إلى المُطوَّلات يهتدي

والمُطوَّلات التي قصدها الأخضريُّ هي مُصنَّفات المنطق لبعض أهل العلم والمتكلمين والفلاسفة أمثال :ابن سينا (ت: 428ه) وابن حزم (ت: 456هـ) والقزويني (ت:463ه) وأبي حامد الغزالي (ت: 505هـ ) والآمدي (ت: 631هـ) والرازي (ت: 766هـ) وزكريا الأنصاري (ت:926)هـ .

والمعروف أن بِلاد المغرب العربي أُشتهرت بالتدقيقِ والتنقيرِ عن المسائِل العقليةِ والكلاميةِ مُنذُ عُقودٍ طويلةٍ ، فبعد ظُهور ” محمد بن عبد الله ابن تومرت(ت: 524هـ) الذي بدأ دعوته الإصلاحيةِ المُريبة على ركُام المذاهب
السياسية والكلامية التي عاثت في المغرب فساداً وضلالاً ، وكانت سبباً لبحث المسائلِ الخلافيةِ العقديةِ ،
ظهر بَعدهُ فكرٌ جديدٌ بنحو ثلاثة قرون للعلامة المؤرِّخ ابن خلدون (ت: 808 هـ)رحمه الله تعالى ،الذي أخرج لبلاد المغرب والمشرق ما عرف بمنطق ابن خلدون وفلسفته التأريخية والإجتماعية ، وكانت آراوؤه مَحلَّ جَدلٍ طويلٍ
بين أهل المشرق والمغربِ إلى اليوم ثم ظهر في مدينة ” تِلمسان ” الجزائرية المصلح الزاهد ” محمد بن يوسف السنوسي(ت: 895هـ) رحمه الله تعالى ، وهو مُصنِّف الكتب المشهورة عند المالكية والأشاعرة مثل : ” العقيدة الكبرى ” و ” العقيدة الوسطى ” و” العقيدة الصغرى ” وتُسمَّى أم البراهين ، و” شرح إيساغوجي ” في المنطق “! .

فيَسَتفادُ مما سبق أن الحركات الكلامية والفلسفية والإجتماعية والدينية التي سبقت الأخضري كانت سبباً مباشراً – فيما يبدو-لإقناع الأخضري بتصنيف سُلَّم المنطق، لضبط العلوم والمدركات المختلفة .

فإذا كان بين ابن تُومرت والأخضريِّ نحو أربعة قرون ونيِّف،وبين ابن خلدون والأخضريِّ نحو خمس وسبعون ومائة سنة ، وبين السنوسي والأخضريِّ نحو ثمانٍ وثمانين سنة ، فَيُستخلصُ أن هذه أسباب زمانية لها جذور تراثية ، أثَّرت في تكوين الجانب العلميِّ والدينيِّ للأخضري ، وكانت مُحفِّزاً للبيئة الجزائرية لتجديد الجوانب الإيمانية والعلمية في بلاد المغرب .

(ب): موضوعات سُّلم الأخضريِّ :
سُّلم الأخضري اشتمل على موضوعات رئيسة وموضوعات تابعة .
• الموضوعات الرئيسة هي :

حُكم تعلم المنطق ، أنواع العلم الحادث ، أنواع الدلالات الوضعية ، مباحث الألفاظ ، نسبة الألفاظ للمعاني ، بيان الكل والكلية والجزء والجزئية ، المعرفات ، القضايا وأحكامها ، التناقض ، العكس المستوي ، القياس ، الإشكال ، القياس الإستثنائي ، لواحق القياس ، أقسام الحجة ، طريقة معرفة خطأ البرهان .
• أما الموضوعات التابعة فهي :

القضايا اللازمة ، نتائج العقل ، التصوُّر ، التصديق ، حدُّ العلم والجهل ، النظري والضروري ، الدلالات ، العقل وهو القوة المدركة ، الجزئي والكلي ، الكليات الخمس ، اتحاد اللفظ والمعنى ، تعدُّد اللفظ والمعنى ،الحد التام والناقص ، والرسم التام ، والرسم الناقص ، والتعريف باللفظ ، الإطراد والعكس ، الفرق بين الحد والرسم ، القضية الشرطية والحملية ، القضية الشخصية ، القضية المهملة ، القضية الكلية ، القضية الجزئية ، الموضوع والمحمول ، الشرطية المتصلة ، الشرطية المنفصلة ، المانع والخلو ، التناقض الموجبة والسالبة ، المقدمة الصغرى والكبرى ، إجتماع الخستين ، متصل النتائج ومنفصل النتائج ، الجدل ، القضايا المشهورة ، الخطابة ، السفسطة ، الشعر ، اليقينيات النظر الصحيح.

(ج) : طريقة الإفادة من سُلَّم الأخضري :
بالإطلاع والتبصُّر والتأمُّل في سُّلم الأخضري وتكراره ، يُمكن معرفة طريقة الإستدلال المنطقي ووضع الفرضيات والمُقدِّمات والتقريب بينها وإستنباط نتيجة صالحة أو طالحة .

وكذلك يُمكن التعرُّف على أنواع البراهين والمقارنة بينها ، وإكتشاف العِلل في مآخذ الادلة ونقدِها والحُكم عليها بحسب الأقيسة وأقسامها .

وهناك طريقةٌ مُجربةٌ استفدتُ منها أثناء دراستي لهذا السُّلم وتدريسه وهي : حصر جميع الأمثلة في شرح السُّلم سواء الشروح المكتوبة أو المسموعة ، والتعرُّف على أدلتها وقواعدها ، ثم بناءُ أمثلةٍ جديدةٍ لترسيخ النتيجة المرجوةِ من القاعدة أو الدليل ، وهكذا حتى تُصبح المادةٌ سهلةٌ وميسرةٌ .
ويُشترط لذلك ثلاثة شروط : الفهم التام ، الربط بين الكلام ، التطبيق .

وفي نظري أن الذي صعَّب عِلم المنطقِ، سواء سُّلم الأخضريِّ أو غيره ، هو التشبُّث بالأمثلة والأقيسة القديمة التي طفحت بها مُصنفات القدماء ، وعدم إيراد أدلة جديدة تُناسب بيئة الناس وحاضرهم ، مما سبب نفوراً عند قراء هذا العلم وشعوراً بوعورة مسالكه وقضاياه .

وكذلك الإغراقُ في غوامض المسائلِ التي لا تترتبُ عليها كبيرٌ فائدةٍ في هذا العلم ، فالصحيحُ التركيزُ على الأمثلة ، ثم تناول المصطلحات والمسائل ِبقدر السعة والطاعة حتى تتفتح للطالب فِجاج هذا العلمِ ومسالكه الضيِّقة .

(د) : محاسن سُّلَّم الأخضريِّ وعيوبه :
يتميَّزُ هذا السُّلم بتذليله طُّرق الإستدلال والقياس ومعرفة البراهين وأنماط الأدلة وأنواع الدلالات . والسُّلم ألفاظهُ سهلةٌ ومُستملحةٌ ، وعباراته عذبةٌ مُنيرةٌ ، وليس فيه تعقيدٌ لفظيُّ أو تركيبيُّ .
أما عُيوبهُ فهي عيُوب المنطق الصُّوري بشكلٍ عام ، كما ستأتي أدناه .
ويُمكنُ الرجوعُ إلى مقال ” نقد المُقِّدمة المنطقيةِ في مُدونتي للوقوفِ على بعضِ ما أشرتُ إليه هُنا .
وابتداءاً فإنَّ الإدراك والتدبُّر بحواس الإنسان المذكورة في القرآن تُغني عن كثيرٍ من قضايا المنطق التي أشغل بها أهلُ اليونان أهلَ الإسلام .
ويمكن الإستغناءُ عن أدلة المنطق بمعرفة الأشباه والنظائر والقياسِ الشرعيِّ الموزونِ بالوحيين وبكلام العلماء المُخلصين .
وليس ببعيدٍ أن هذا العلم دسيسةٌ كان القصد منها نقضُ العقيدة الصحيحة في قلوب المسلمين ، وقد نجحوا في بعضِ ذلك ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

فقد نفوا عن الله بعض أسمائه الحسنى وصفاته العُلى ، بالكليات الخمسة عند المناطقة وهي : الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام ، وهي لا تزيد عِلماً للجاهل ولا نوراً للضائع التائِه ، بل هي تعمُّق وتكلُّف بلا معنى صحيح .
ثم إن هذه القواعد مبنيةٌ على فكرٍ يُونانيِّ وثنيِّ عاش في ظُلماتٍ وغيِّ وإلحادٍ ، نسأل الله العافية .

والتعاريف والإصطلاحات التي يُردِّدونها ليست مُنضبطة لأنها تستلزم الدور في العِللِ والأسبابِ ، فلا يُمكنُ الإعتمادُ عليها في فَهمِ العِلم فهماً مُطلقاً .
والمناطقةٌ يقولون بالقياس الشموليِّ ولا يقولون بالقياس التمثيليِّ ، بل يعيبونه لأنه القياس الشرعي الإسلامي ، ويزعمون أنه لا يقومُ على إستقراءٍ تامِّ بل على إستقراء ناقصٍ ، فينتج من هذا عندهم أنه لا يُفيدُ عِلةً للحكم فيجب ردُّه ونبذه ! .

وكثيرٌ من البراهين والأقيسة عند المناطقة تفتقرُ إلى دليلٍ قويِّ لإثباتها ، لأنها غير مُنضبطة بل سالبة عامة أو كلية .
وهذا ملُاحظٌ في كثيرٍ من مُصطلحات المناطقةِ ، فليحرر.
ثم إن القياس الشُّمولي الذي يُوجب المناطقة تعلُّمه ، لا يمكن ضَبطُ جزئياته ومُفرداتهِ ، لأنها غيرُ مُسلَّمة وغير مستقرة ٍفي النفوس عامة ، بل إن الفطر والقلوب تستغني عنه بما جبلها الله عليه من الفهم والإدراك والملاحظة والإستقراء البدهيِّ الذي تُدركه حتى العجائز ! .

ولو عرَّجنا على مُصطلح الحدِّ الذي عظَّمه المناطقةُ لألفيناهُ من أعجب الُأمور ، فهو مُصطلحٌ لا يُمكنُ تَعميمهُ، لأن جميع أرباب الحِرفِ والصناعاتِ وحتى الأطفال يستغنون عنه ، فهو تكلُّفٌ يُؤدِّي إلى الحيرة والغفلة ، ولا حاجة للعاقل للإشتغال به لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ .

وفي كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي لُّغة العرب ما يُغني عن هذه الحدود المنطقية التي يُلزم المناطقةُ بها الناس حتى يحصلوا على التصورات والتصديقات التي يزعمونها ! .
ومما يجبُ التنبيهُ عليه هنا : أن هذه الأدلة والأقيسة التي يتكلَّفُ لها المناطقةُ ومن فَرِح بها من أبناء العصور القديمة والحديثة لم تَفتح لهم باب خيرٍ ولا هُدى ، لا في توحيد الألوهية ولا في توحيد الربوبية ولا في توحيد الأسماء والصفات ، ولا في الملائكة ولا في الجن ولا في النبوات ، ولا في باب القدر والبعث ولا في باب الخلق والكون ، بل زادتهم ضِّيقاً وضَنَكاً وحَيرةً ، حتى عند المُسلمين المُعجَبين بهم .

وقد أعجبتني عبارةٌ قرأتُها قديماً أن الإمام ابن تيمية(ت: 728هـ) رحمه الله تعالى قال في مجموع الفتاوى – نسيتُ موضعها الآن– إنَّ حُذَّاق الفلاسفة لا يَلتزمون بقوانين المنطق في عُلومهم ، إما لِطولها وإما لعدم فائدتها .

وإذا كان هذا السُّلم مُستفادٌ أساساً من منطق أرسطو ، فيَحسنُ التنبيهُ على بعضِ المعالمِ المهمة للوقوف على الإستدراكات التي نبَّه عليها المُشتغلون بهذا العلم ، من المسلمين وغير المسلمين :

1- أشار أرسطو الى أنواع القياس الاستقرائي والجدلي والخطابي، لكنه اعتنى بالقياس الكُّلي الشُّمولي الصُّوري ، وقد سمَّاه القياس البرهاني .
طريقة ارسطو في استخدام هذا القياس تتمثل في : الاستقراء من الجُزء إلى الكل ، ثم جمع الجزئيات للظاهرة الواحدة وتحليلها وتمحيصها ومقارنتها ، ثم الاستنتاج منها وبذلك يخرج لنا النتيجة أو القياس الكلي البرهاني.
وقد أشار أرسطو إلى قاعدة مهمة في كثير من كتبه وهي : ضرورة ممارسة القياس الإستقرائي مع الصغار وأحياناً مع العوام ، أما القياس الصُّوري الإستنباطي فيكون مع المختصين فقط .
وهذه مغالطة وقع فيها أرسطو ونقلها عنه المُتفلسفة من المسلمين والمستعربين ، وهي أن جميع أنواع الأقيسة فطرية في البشر لا تحتاج إلى قانون لتنظيمها بين أصناف الناس في العادة لسببين ، الأول : أن أنواع القياس مُرتبطة ببعضها ، لأن العلاقة بين القياس الصُّوري والإستقرائي علَاقة فرعٍ بأصلٍ ونتيجةٍ بمقدمةٍ ، فالصُّوري فرعٌ من الإستقرائي ونتيجة لمقدمته .
الثاني : أن موضوع الفِكرة أو البحث هي التي تُحدِّد نوع القياس ، فالعمرُ أو المهنةُ أو جِنسُ الإنسانِ أو صِّفتهُ لا عَلاقة لها بتحديد الأقيسة .
2- أرسطو يُدلِّسُ ويَخلطُ لأسبابٍ مذهبيةٍ وعلمية بين القياس الإستقرائي والصُّوري ، فالأول هو من الأقيسة الجزئية التي تقومُ عليها كُّل العلوم ، والثاني نتيجةٌ من نتائج القياس الجزئي .
وقد زعم أرسطو أن القياس الصُّوري هو من المُقدِّمات الكلية ، لأنه يعتقد أن الكليات نتيجة للقياس الجُزئي ، وهذا خطأٌ أقرَّ به حتى عُلماء الغربِ اليوم في جامعاتهم وبحوثهم .
والصحيح أن القياسَ يجبُ أن يكون بمعرفة الكُليِّ والجزئيِّ معاً ، لا تقديم أحدهما على الآخر في الذِّهن كما يُقرِّره أرسطو في مصنفاته
والقاعدة المشهورة التي يُردِّدُها المناطقة : ” لا عِلم إلَّا بالكليات ” قاعدة مَغلوطة تلقَّفها المناطقةُ من التأسيس السابق دون تمحيص وتهذيب لمعناها ومغزاها ، فَضَّل بسببها فِئامٌ كثيرةٌ من أهل المذاهب .

فالصحيح العلِمُ بالجزء ثم العلم بالكُّل . ولهذا نجد في القرآن أدلةً كثيرةً على تقديم الجُزء على الكُّل ، كقول الله تعالى : ” عالِمُ الغيب لا يعزب عنهُ مِثقالُ ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبر” ( سبأ : 3 ) ، وقوله سبحانه : ” وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منهُ مِن قُرآن ٍولا تعملون من عملٍ إلا كُنَّا عليكم شهوداً ” ( يونس:61) .

فربُّنا سبحانه يخاطب الخلق أنه يعلم ما يعملونه وما يُشاهدونه ، سواءٌ كان محتقراً عندهم أو عظيماً في عُيونهم وقلوبهم .
ومما يؤكد ما سبق أن صناعة المهن مثلا تبدأ بجزء صغير ثم تكبرُ رويداً رويداً حتى تكتملَ ، كالبِناء والخِياطة وحفرِ البئر وسقي الزرع وكَنس القُمامة ، ونحوها من المِهن والمشغولات .
3- أرسطو لا يجيز الإستقراء إلا إذا كان بحس وحواس لأنه يعتقد أنه من الكليات ، وأنه أبين وأكثر إقناعاً . وهذا الحكم إفتئاتٌ على أنواع القياس الأخرى وتحجيم وإستصغار لها . والصحيح أن الإستقراء وغيره من أنواع الأقيسة تصح إذا كانت بتأمُّل ورويَّة ونظرٍ ثاقب .
4- أرسطو جعل المِعيار بين الحق والباطل هو إتقان علم الجدل دراسةً وفهماً ، بغضِّ النظر عن الحقيقة من وراء ذلك ، وسببُ ذلك أنه يعتقدُ أنَّ الجدل علِمٌ ظنِّي لا يُوصلُ إلى النتيجة الصحيحة ، وكان يُسمِّيه مَنطقُ الإحتمال.
وهذا التقعيد من أرسطو مُخالفةٌ لشيخة أفلاطون الذي كان يعتني بالجدل وينظرُ له نظرةً يقينية عالية، وهو عنده من الضروريات للوصول إلى الحقيقة ، وكان يصفهُ بأنه الرافع للعقلِ من المحسوس إلى المعقول .
5- أرسطو خالفَ تأسيسَ قواعد القياسِ التي قعَّدها أفلاطون لتلاميذه وطُّلابه التي رويت عنه واشتهرت ، والتي كانت تُسَّمى القِسمة الثُّنائية الأفلاطونية وهي :أن الجدل نوعان صاعدٌ ونازلٌ.
فالصاعد يبدأٌ من الإحساسِ إلى الظنِّ، إلى العلم الاستدلالي ، الى المعقول ، الى أن يصل إلى العِلم بالكُليِّ ، والنازلُ ينزل من أرفعِ الكليات الى أدناها ، بتحليلها وترتيبها الى أجناس وأنواع.
6- أرسطو في مُقدِّماتِه للقياس الصُّوري أو البرهاني كما يُسمِّيه ، استفاد من فلسفة السُّوفسطائيين الذين سبقوهُ في تعليم الناس التلاعب بالألفاظ ، واستخدام المغالطات لإفحام الخصوم ، ولهذا سَمَّى المُحقِّقون هذا القياس بالقياس الصُّوري ، فهو شكلي لا مضمون حقيقي له ولا لقيمتهِ في الميزان العلمي .
وسبب ذلك أنه اعتنى بمعرفة العِلةٍ أولاً وآخراً ، ووصفها بالأمر الكُليِّ، وأغفل ما عداها من قضايا حالية أو كيفية ووصفها بالأمر الجزئي ، ففي ميزانه يكون البرهانُ الأقوى هو الكُلي .
وهذا التدليس المُتعمَّد – الذي أبان عنه باحثون غربيُّون اليوم – من أرسطو القصد منه جعل الجزئيات من نتائج أقيسة الكليات ، والصحيح العكس كما تشهد به العقولُ الصحيحةُ والفِطرُ المستقيمة.

ومثال ذلك الزرعُ اليابسُ الذي يُضربُ به المثل في القرآن في هَوان الدُّنيا وسُرعة إنقضائها ، أوَّله حبةٌ فماءٌ يسقيها ، ثم خُضرةٌ وبهجةٌ ، ثم يبُسٌ وتكسُّر وتفتُّت وزوال .
فهذا المثَلُ الكُّلي جاء من القِياس الجُزئيُّ الذي يعرفه أهلُ الألباب المدركة الواعية .
7- الأقيسة التي يتشدَّق بها المناطقة ويتكلَّفون لها من عهد أرسطو الوثني ، ثم أبي نصر الفارابي (ت: 339هـ) المُتفلسِف ، مروراً بابن سينا(ت: 428هـ) الباطني المتمنطق ، ثم ابن رشد (ت: 595هـ ) المُقلِّد، ثم أبي جعفر الطُّوسي (ت: 672هـ) الرافضي ، هي في الأصلِ لا وجود لها في الأذهان إنَّما وجودها في الأعيان ، فلا يمكن ضَبطُها ولا حَصرُها ولا تحديدُ معالمها ، وهذا يؤُكد زيفها وكونها مُهلهلَة لا ثباتَ لها في القلب ولا في العقل ، فكيف إذن يتم تعميمُها وجعلها أصلاً للنظر والتفكير .

ولو فتشَ عَاقلٌ فَطنٌ عن أسانيد هذه الأقيسة – إن وجدت – لوجدها منقولةً عن المتُفلسفة عن الصابئة عن الوثنييِّن عن المشركين ، الذين فاق شِّركهم شِّرك العرب ، عياذاً بالله تعالى .
8- الله تبارك وتعالى وهبَ البشر الحواس الثلاثة الرئيسة للمعرفة والعلم والإدراك واليقين ، ويستوي في هذا الكبيرُ والصغير والذكيُّ والأحمق والقادرُ والأخرق ، لكن تَلك الحواس تَضعفُ أو تتوسطُ أو تَقوى من فئةٍ دون أخرى . ويُشترطُ للإفادة من الحواس الثلاثة الرئيسة فهم اللُّغة ومُخالطة الناس ، والتروِّي والتعقُّل في الأقوال والأفعال . وقد ثبتَ أن رجلاً كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يُخدع في البيوع ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إذا بايعتَ فَقل لا خِلابة “. متفق عليه.
ولما جاءه رجلٌ أقرَّ على نفسه بالزنِّى ، قال له : ” أبِك جُنونٌ ؟ ، فقال : لا ، فأمرَ بِرجمهِ “. متفق عليه .
9- اشتراط مُقدِّمتينِ للبُرهانِ بصورةٍ مطلقةٍ غيرُ صحيح ، فقد ثبتَ بالمعقولِ والمنقولِ وجود براهينَ بخمسِ مقُدِّمات مَنطقية وربما أكثر ، مثل حديث جبريل عليه السلام المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان وأشراط الساعة ، ومثل حديث النجاشي مَلِك الحبشة رضي الله عنه ، مع رجال قريش ، ونحوها من الأحاديث الطويلة ، وهي صحيحة ومشهورة .
10- لو أن الطالبَ أطال النَّظرَ في تفسير القرآن المجيد وعلوم العقائد وعلوم العربية عامة ، لكفاهُ ذلك عن كثيرٍ من كُتب المنطق والجدل . والأولى والأسلم للمُطالعِ والطالبِ والباحثِ ، أن تكون مُذاكرتُه لهذا العلمِ بقدر الحاجة ، فما أسكر كثيرهُ فَقليلهُ حرام .
11- الإفتقارُ إلى الله تعالى واللهجُ بأسماء الله وصفاته ودوام التضرع إليه ، يُغني عن كثيرٍ من موادِّ المنطقِ البشريِّ اليوناني.
وقد قال الله تعالى : ” يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فُرقاناً “( الأنفال:29) والفُرقان هو النور والطريق الصحيح الهادي إلى الحق والصواب ، في الأمور العلمية والعملية .
12- أُوصي نفسي ومن يقرأُ هذه الكلمات ، بمطالعة كتب أصول الفقه خاصةً المبنيِة على الدليل الصحيح ، وكُتب فِقهُ الُّلغة عامةً ،كمباحث الدلالات والأضداد والحقيقة والمجاز والوجوه والنظائر ، ففي مباحثها غُنية عن كثيرٍ من كتب المنطق وأدلته.

ختاماً فإنَّ البديل الصحيحِ لعلمِ المنطقِ هو تعلُّم العربية تعلُّماً مُتقناً، وتأمُّل أحكام الشرعِ ، وتدبُّر الوحييَن ، ومجالسة العقلاءِ الحكماء ، ومدارسة أخبار الصالحين ، فهذه كُّلها تُغني عن مَنطق اليونان .

ولا بُدَّ من الإشارةِ إلى أنَّ أعظم حسنةٍ في سُلَّم الأخضري هي الدعوةُ لتعلُّم التفكيرِ وأساليبهِ وطُرقه الصحيحة والمغلوطة ، وضرورةِ العنايةِ بعلمِ أُصولِ الفقهِ تصحيحاً وتنقيحاً لأدلته ومسائلهِ ومفرداتهِ ، ليستعينَ الطالبُ بذلك كُّله على فهمِ كلام اللهِ وكلامِ رسوله صلى الله عليه وسلم . والله الهادي .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
 
إنضم
10 مايو 2017
المشاركات
20
الكنية
أبو الحُسَين
التخصص
الفقه وأصول الفقه
المدينة
تيسمسيلت
المذهب الفقهي
مالكي
رد: نَقد سُلَّم الَأخضَرِي

بارك الله فيكم
 
أعلى