العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

نَقد النُّبَذ في أُصول الفقه

إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل
كِتابُ النُّبذةِ الكافيةِ في أحكام أصول الدِّين ، أو النُّبذ في أُصول الفِقه الظاهريِّ ، للإمام علي بن أحمد ابن حزم الأندلسيِّ (ت: 456هـ) رحمه الله تعالى ، من نفائسِ مُتون الُأصول التي ترُبِّي المَلَكة الأُصولية لمن رَام فهمَ عِلم الأُصول والحُكمَ على المعقولِ والمنقولِ . والكتابُ وإن كان لا يخلو من مُلاحظاتٍ ، فإن فيه منهجاً فريداً لَأساليبِ تعظيم النُّصوص والإستنباط منها ، وتربية المَلكة الأُصولية . وإنَّني بهذه المناسبة أنصحُ نفسي ومن يقرأُ هذا المقال من المُعتنين الكِرام الخِيرَة ، أن يتأملوا هذا السِّفر الموجز البليغ في عباراته وأحكامه وقواعده المُختصرة ، فإنه يُمهِّدُ على المطالعِ كثيراً من عَناء الأُصول الذي لا يعرفهُ إلا من صَعُب عليه مُراده وعَزَّ مَرامه في مسائلهِ الوعرة ، التي لا يُطيقها إلا الرجال المهرة . وهذه نقداتٌ وتعقُّباتٌ واستدراكاتٌ موجزةٌ أمليتُها على بعض طُّلابي في الحَرم المكيِّ ، أثناء شرحي لِنُّبذ ابن حزم ، والنُّسخة التي إعتمدتُها في القرآءة هي نسخة الخانجي بمصر، طبعة سنة( 1431هجرية ) ، أسأل الله أن ينتفع بها من وقف عليها من صالح عباده ، إنه أكرمُ مسؤول وخيرُ مأمول ، وبالله تعالى التوفيق : ( أ ) : سبب تصنيف ابن حزم للنُّبذة الكافية : صنَّف ابن حزم النُّبذة الكافية لسببين ، الأول : لشرحِ أُصول الإستدلال التي إعتقد صحتها ، على مذهب أهل الظاهرِ، ومن رغب في الوقوفِ على معرفة جزئيات الُأصول بنوعيه : أصول الدِّين وأُصول الفقه . الثاني : للردِّ على المُغالطات المنهجية والفقهية في تسفيهِ آراء الناقدين والناقمين لمذهب أهل الظاهر . وقد حرص ابنُ حزمٍ رحمه الله تعالى أن يخلط فيها بين التقعيد الحديثيِّ والأُصوليِّ . فَيشترطُ لمن طالع هذه النُّبذة أن يُطالع طريقة ابن حزم في الإستدلال الحديثيِّ ،قبل أن يَدلف إلى مُطالعة ترجيحاته الأصولية . وهذه النُّبذة الكافية لا تُغني عن الكتاب الأُم ، ولا يُنصحُ من أراد نقد المذهب أو التوسُّع فيه أن يكتفي بمُطالعتها فحسب ، لكنها زبُّدة ميسرة لكتابه ” الإحكام في أصول الأحكام ” ، فقد قال : ” فإننا لما كتبنا كتابنا الكبير في الُأصول وتقصَّينا أقوال المُخالفين وشُّبههم وأوضحنا بعون الله تعالى ومنَّه البراهين في كُّل ذلك ، رأينا بعد إستخارة الله تعالى والضراعة إليه في عونه على بيان الحق ، أن نجمع تلك الجُمل في كتابٍ لطيفٍ فَيسهلَ تناوله ويقرُبُ حِفظهُ ويكون إن شاء الله عز وجل درجةًإلى الإشراف على ما في كتابنا الكبير في ذلك ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ” ( النُّبذة الكافية : 9 ) . وإنني أُرشدُ من فَهم هذه النُّبذة الكافية أن يُبادر لمطالعة كتاب ” الإحكام في أصول الإحكام ” ، ففيه من الفوائد والفرائدِ ما يعزُّ نظيره ، ولا يكاد يُوجد في سِّواه ، وليس الخبرُ كالمعاينة . (ب) : المسائل الأُصولية التي ناقشها ابنُ حزم في النُّبذة : المسائل التي ناقشها ابنُ حزم في كتابه أربعون مسألةً تقريباً، وهذا مَسردٌ لها على حسب ورودها في الكتاب : التكليف ، الطاعة والمعصية ، الإجماع ، إجماع الصحابة ، إجماع العصر المتأخِّر ، إجماع أهل المدينة ، دعوى تخصيص الإجماع ، الراجح والمرجوح في الإختلاف ، النقل المتواتر ، خبر الواحد ، التدليس ، العدالة في الرواية ، المقطوع ، خبر الثقة ، وقوع اللفظة على معنيين ، دعوى النسخ ، حكم إنفاذ الأوامر ، تأخير البيان ، مواطن النَّسخ ، الأوامر والنواهي ، أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ، حُكم الخطأ والنسيان والإكراه ، حكم النِّية في الأعمال ، واليقين والشك في العبادات ، الواجب المُضَّيق والواجب الموسَّع ، حكم الإستثناء ، حكم مُدَّعي الصُّحبة ، حكم مخالفة الراوي لما رواه ، المتشابه من القرآن ، حكم حقوق الله ، حكم الأفعال بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيابه ، هل الحقُّ في قولٍ واحدٍ أم في الأقوال كُّلها ؟ ، حكم شريعة من قبلنا ، الحكم بالرأي ، الحكم بالقياس ، الأدلة العقلية والنقلية على بُطلان القياس ، حكم التعليل ، حُكم العملِ بدليل الخطاب ، حُكم التقليد ، حكم من لم تقم عليه الحُجَّة . (ج) : المسائل الأُصوليةِ التي لم ينُاقشها في النُّبذة : هناك مسائل أُصولية كثيرةٌ لم يُناقشها ابن حزمٍ في النُّبذة الكافية ، لكن أشهرها سِّت عشرة مسألة ، وهي إما مسائل تُفهمُ من سِّياق المسائل الأخرى ، أو مسائل أعرض عنها ابن حزمٍ خشية التطويل والإملال . وهذه المسائل جليلة عند الأصولييِّن عامة ، وهي : الحكم الشرعي ، الرُّخصة والعزيمة وأثرها ، دلالات الألفاظ ، هل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدخل في الخطاب العام ؟ ، حكم الأمر بعد الحظر ، أحوال المطلق والمقيَّد ، العام وتخصيصه ، حكم تخصيص عامِّ القرآن بخبر الآحاد ، حكم المشترك والمترادف والأضداد ، هل الواو لمطلق الجمع أم تقتضي الترتيب ، حكم تقليدُ العالِم ِللعالِمِ ، المقاصد الشرعية وأحكامها ،المصالح المرسلة ، سدُّ الذرائع . فإن قال قائل : ما فائدةُ هذه المسائلِ مع ورود أضعافها في النُّبذة الكافية ؟ قيل : التنبيهُ على ضوابط خطاب الله للمكلَّفين ، وتحريرُ محلِّ الخِلافِ في المسائل المتشابهة التي فيها أقوال ، ومعرفةُ حُدود الأوامر والنواهي ، ومتى يرتفع الإثمُ عن المكلَّف عند عدم قِيامه بالفعل ؟ ، وهل المكلَّفون يستوون في الخطاب الشرعي أم لا ؟ . (د) منهجُ ابن حزم في النُّبذة الكافية : سلك ابنُ حزمٍ رحمه الله تعالى في النُّبذة الكافية ثلاثة مسالك مهمة ، لإقناع القارىءِ بفقه الشريعة الإسلامية عامة وفقه الظاهرية خاصة . المسلك الأول : المسلك البرهانيُّ : ويقصدُ به الدليل العقليِّ الموافق للفطرة ، وقد ساعدهُ تضلُّعه في المنطق من إستعمالِ هذا المسلك ، وتوظيفه لتضعيفِ وتصحيحِ الأدلة التي يستدلُّ لها أصحابُ المذاهبِ الُأخرى ، سواء كانت فقهية أو عقدية . وقد أحصيتُ عددَ المرَّات التي قال فيها ابن حزم رحمه الله تعالى ” وبُرهانُ ذلك ” فبلغت عشرين لفظةً ، وهذا يدلُّ على توظيفه للبرهان العقليِّ، وسأضرب مثالينِ على هذا ، فقد قال : ” إذا اجتمعت الأمةٌ على إباحة شيٍ أو تحريمه أو إيجابه ثم ادَّعى بعضهم أن ذلك الحُكم قد انتقل ، لم يُلتفت إلى قوله إلا بنصٍّ ، وإلا فقولهُ باطلٌ ، لأنه دعوى لا إجماع معها ولا نص من كتاب ولا سنة ، فهي ساقطة ، لقوله تعالى : ” قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ” ( البقرة : 111) فصحَّ أن من لا برُهان له فليس صادقا أعني في ذلك ، وأما إذا جاء نصٌّ بحكم ما ، ثم خُصَّ الإجماع بعضهُ فواجب الإنقياد للإجماع . فإن إدَّعى مُدعٍ أن ذلك التخصيصُ متمادٍ ،وخالفه غيره فالواجب قطع ذلك التخصيص والرجوع الى النصِّ إذ هو البرهان ” ( النُّبذة الكافية /26) . وقال أيضا : ” ولا يحلُّ أن يُقالَ في آيةٍ أو خبرٍ صحيحٍ : هذا منسوخ ، لما ذكرناه من أن قائل ذلك مُسقطٌ لطاعة ذلك النصِّ ، إلا بنصِّ آخر يُبيِّن أن هذا منسوخ أو إجماع مُتيقنٌ على نَسخهِ ، وإلا فلا يقدر أحدٌ على إستعمال النصِّ ، وأما ما دام يُمكننا جمع النُّصوص من القرآن والسنة فلا يجوز تركهما ولا ترك أحدهما ، لأن كليهما سواء في وجوب الطاعة ، وليس بعضها في وجوب الطاعة أولى من بعض ، قال تعالى : ” من يُطع الرسولَ فقد أطاع الله ( النساء : 80) فالواجب حينئذٍ أن يُستثنى الأقل من الأكثر إذ لا يوصل إلى إستعمالهما جميعا إلا بذلك، فإن عجزنا عن ذلك فلا يجوز التحكُّم في جمعهما بغير ما ذكرنا ، لأنه تحكُّم بلا برهانٍ ، مثل : أن يقول قائل : استعمل هذا النصَّ في وجه كذا وهذا النص في وجه كذا ، فهذا لا يحلُّ له ، لأنه شرعٌ في الدِّين لم يأذن الله تعالى به ” ( النُّبذة الكافية / 41) . المسلك الثاني : الأدلة من الكتاب والسنة ، وقد ساق ثمانيةً وستين ومئة دليلٍ لتقعيد المسائل في النُّبذة الكافية . وطريقته في إيراد الأدلة أنه يذكرُ المعنى أو الفائدة التي يُريد التدليل عليهما فَيعقِّبُ عليه بالنصِّ من الكتاب أو السنة الصحيحة ، مثال ذلك قوله : ” فالواجب أن لا يُحال نصٌّ عن ظاهره إلا بنصِّ آخر صحيح ،مخبرٌ أنه على غير ظاهره ، فنتبع في ذلك بيانَ الله تعالى وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم كما بين عليه السلام قوله تعالى : ” ولم يَلبسوا إيمانهم بِظُلم ” ( الأنعام : 82) أن مراده تعالى به الكفرَ، كما قال عز وجل : ” إن الشرك لظلم عظيم ” ( لقمان : 13) ، أو إجماعٌ مُتيقَّن كإجماع الأمة على أن قوله تعالى : ” يُوصيكم الله في أولادكم للذَّكر مثلُ حظِّ الأُنثيين ” ( النِّساء : 11) أنه لم يُرِد بذلك العبيد ولا بني البنات مع وجود عاصبٍ ، ونحو ذا كثير ، أو ضرورةٌ مانعةٌ من حَمل ذلك على ظاهره ، كقوله تعالى : ” الذين قال لهم الناسُ إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم ” ( آل عمران : 173) فبيقين الضرورة والمشاهدةِ ندري أن جميع الناسِ لم يقولوا : إن الناس قد جمعوا لكم ” ( النُّبذة الكافية :39 ). المسلك الثالث : التقعيدُ والتأسِّيس : وهذا كثيرٌ مُستغرقٌ لثلاثة أرباع الكتاب ، وطريقتُه في التقعيد مختصرةٌ ، ثم يُردفها بدليلٍ أو تعليقٍ مُفيدٍ أو نقضٍ لأدلة المخالف . • وهذه أمثلةٌ على ذلك : 1- ” لا يَحلُّ لأحدٍ أن يُفتي ولا أن يَقضي ولا أن يعمل في الدِّين إلا بنصِّ قرآنٍ أو نصِّ حُكمٍ صحيحٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماعٍ مُتيقَّنٍ من أُولي أمرٍ منا لا خِلاف فيه من أحدٍ منهم ” ( النُّبذة الكافية / 11) . 2- “من نفى شيئاً أو أوجبهُ، فإنه لا يُقبلُ منه إلا ببرهانٍ لأنه لا مُوجبَ ولا نافي إلا لله تعالى ، فلا يجوز الخبرُ عن الله تعالى إلا بخبرٍ واردٍ من قبله تعالى ، من القرآن أو السُّنة ” ( النُّبذة الكافية / 11) . 3- ” الإباحة تقتضي مُبيحاً ، والتحريم يقتضي مُحرِّماً والفرض يقتضي فارضاً ، ولا مبيحَ ولا مُحرِّمٍ ولا مُفترضٍ إلا الله تعالى خالق الكُّل ومالِكهُ ” ( النُّبذة الكافية :11) . 4- ” فضل المدينة باقٍ بحَسبِه ، والغالبُ على أهلها اليوم الفِسقُ بل الكفرُ من غالية الروافض ” ( النُّبذة الكافية : 24) . 5- ” إذا اختلف الناسُ على قولينِ فصاعداً فصح النصُّ شاهداً لأحدهما ، فهو الحق ، وإجماعهم في تلك المسألة هو الحجة اللازمة ، لأنه إجماعٌ أهل الحق ، وإجماع أهل الحق حقٌّ ” ( النُّبذة الكافية :25). وهناك قواعد أخرى تركتها إختصاراً ، ولا تخلو صفحة من صفحات الكتابِ من إيراد قاعدةٍ أو اثنتين ، فلا نُطيل بتعدَادها ، ويلزمُ مراجعة الكتاب . (ه) : تنبيهات على مواضع في النُّبذة الكافية : رغم أهمية هذه النُّبذة ونفاستها إلا أن فيها مواضع مُنتقدةٌ ينبغي معرفتُها والوقوفُ عليها ، وهناك إستدراكاتٌ على مذهبِ أهلِ الظاهرٍ عموماً يجب التنبُّه لها . وأُشيرُ هُنا إلى أنه يلزم الرجوعُ إلى نصِّ كلام ابن حزم رحمه الله تعالى في النُّبذة الكافية ليُعلمَ وجه السِّياق كاملاً ، وليستقيمَ فهمُ المعنى على وجهه الصحيحِ : 1- ابنُ حزمٍ لا يجمعُ بين النُّصوص عند الترجيج – وهذا في غالب الأحوال – بل يتعسَّفُ للبحث عن معنىً يُوافق أُصول الظاهرية ، وهو مُتأوِّلٌ في ذلك. انظر : ( النُّبذة الكافية : جميع فصول الكتاب تقريباً ) ، وفي إنكاره للقياس قال في الرسالة التي كتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إلى أبي موسى الاشعريِّ رضي الله عنه : ” رواها رجلان متروكان “( النُّبذة الكافية : 82) . وسببُ ذلك عنده ، أن الرِّجال على درجتين فحسب ، إما على الثقةٍ وإما على الضعفٍ . وحديثُ الثِّقة عنده في غاية الصِّحَّة وحديثُ الضَّعيف عنده في غاية السُّقوط ، وكان من مآلات هذا المنهج هو أنَّ الرَّاوي الثِّقة لا يُخطئُ أبدًا ، كما أنَّ الراوي الضَّعيف لا يَحفظُ أبدًا . وكان من لوازمه : تركُ النَّظر في دقائق العِللِ والتَّرجيح بينَ روايات الحفَّاظ والثِّقات . وبناءاً على ما تقدَّم فإنه لا وجود للحَديث الشَّاذِّ عند ابن حزم أو المُعلِّ وَفق جادة المحدِّثين . وقد أسَّس أن دعوى الخطأ في خبر الثِّقة لا يجوز إلاَّ بإحدى ثلاث قواعد : أ-إعتراف الراوي بخطئه . ب- شهادةُ عدلٍ على أنَّه سمع الخَبر مع روايه ، فوهم فيه فلان . ج -أن تُوجب المشاهدة بأنَّه أخطأ . قال ابن حزم: ” ولكنَّا لا نلتفتُ إلى دعوى الخَطأ في رواية الثِّقة إلاَّ ببيان لا يُشكُّ فيه” ( المُحَّلى : 3/242) . ومن إختياراته وتقعيداته : أنه ترك الاعتبار بالحَديث الضعيفٍ مطلقاً ، حتى ولو كان مُختلفاً فيه ، حيث أن ابنَ حزم يعتَبر حديث الضَعيف لا يُقبل حديثه أبدًا ، فيكون باطلاً غير صحيحٍ ، ولا يرتقي إلى الحسن إبدًا ولو جاء من ألف طريق ، ولا يُقيمُ وزنًا لمُتابعٍ ولا شاهدٍ ، حتى إنَّ بعض الأحاديث التي ضعَّفها أُصولها في الصَّحيحين وغيرهما ، فهو بمنهجه هذا لم يقبل كثيرًا من الأحاديث الَّتي هي مِن هذه الصفة . فخلاصةُ منهج ابن حزم في الرَّاوي الضعيف عنده : هو تركُ حديثه مطلقاً وعدمُ الاعتدادِ به ، ولو كانَ ضعفُه يسيراً من جهة حفظِه ، وأنَّه لا وجودَ للمتابعات والشَّواهد عنده التي تبيِّن أنَّ هذَا الحديثَ له أصلٌ معين . وخُلاصةُ منهجه في التَّدليس وزيادة الثِّقة : أنها مبنيةٌ على قاعدته ” أنَّ الراويِّ الثِّقة لا يُخطئ أبدًا ، وأنَّ الضَّعيف متروكٌ حديثه مطلقًا ، فهو عنده تدليسُ الثِّقة وتدليس الضَّعيف ، فتدليس الثِّقة عندَه مقبولٌ ولو عنعن ولم يصرِّح بالسَّماع ، جَرياً على أن خَبر الثِّقة مقبولٌ مطلقًا ولو خالفَ أو دلَّس . وتدليس الرُّواة الضُّعفاء مردودٌ عنده مطلقًا ، بل ذلك جرحٌ فيهم ، وعليه تُردُّ جميعُ رواياتِهم ولا يقبَلُهم صرَّحوا بالسَّماع أو لم يُصرِّحوا ، فما دام أنَّهم ضعفاء فهُم في حيِّز المردودين ، ولم يَسِر على سَنن المُحدِّثين في هذه المسألة إلاَّ مع راوٍ واحدٍ ، وهو أبو الزُّبير المكِّي ، لأنَّه صرَّح هو بذلك ، بل ولاضطرابه في هذه المسألة نُسبَ إلى التَّناقض. وخُلاصةُ منهجه في قول الصحابي : أنه لا يَعتبرُ قول الصحابي : ” أُمرنا أو نُهينا من قَبيل المرفوع ، فهُو لا يعدُّ القَول منسوبًا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، إلاَّ إذا قال الصحابي : قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو نحو ذلك ، فلابدَّ من التَّصريح ، لأنَّه يَرى أنَّ قول الصَّحابي هذَا قَد يكونُ اجتهادًا منه هُو ، وهذا احتمالٌ وإذا دخَل الاحتمال بَطل أن يكونَ هذا مسندًا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم . 2- ردَّ ابنُ حزمٍ الإحتجاجَ بمفهوم الموافقة الذي هو دلالة الَّلفظ على ثبُوت حكم المنطوق به للمسكوتِ عنه ، لإشتراكهما في معنىً قصدهُ المتكلِّمُ في الخِطاب يُفهم من سِّياق الكلام ويُدركه كُّل عارفٍ بالُّلغة ، انظر : ( النبذة الكافية : 42- وما بعدها ) ومُستندهُ في ذلك هو رفضهُ لتعليل الأحكام . لأن مفهوم الموافقة شبيهٌ بالقياسِ الجليِّ، ولا قياسَ بدون تعليلٍ للأحكام ، بل مَدارُ القياس على التعليل. 3- ردَّ ابنُ حزمٍ تعليل الأحكامِ واعتبره باطلاً وكذبا ً، انظر : ( النُّبذة الكافية : 76و79 ) ،وكان مُستندهُ أنهُ فهم أن بعض الآيات تُحرِّم على العبادِ عِلل وحُكم فعل الله وشرعه ، كاستدلاله بقول الله تعالى : ” لا يُسئلُ عمَّا يَفعلُ وهم يُسئلون ” ( الأنبياء : 23 ) . لكن يجب التنبيهُ إلى أن ابن حزم يثُبتُ الأسبابَ الشرعية ولوازمها الحُكمية ، أما العللُ التي لم ينصَّ عليها الشارعُ فيعدُّها نزعةً فلسفية لا قِيمة لها . 4- ردَّ ابنُ حزمٍ الإحتجاجَ بمفهوم المخالفةِ ، انظر : ( النُّبذة الكافية : 84) ، وهي إثباتُ نقيض حُكمِ المنطوق للمسكوتِ عنه ، إذا قُيِّد الكلامُ بقيدٍ يجعلُ الحُكمَ مقصوراً على حالِ هذا القَيد ، وسببُ ذلك عندهُ ظُّهور التعليلِ فيه ، وهو مردودٌ عنده . 5- ردَّ ابنُ حزمٍ الإحتجاجَ بالقياسِ بجميع أنواعه وأقسامه ، ونفى أن يكون مصدراً من مصادر التشريع المعتمدة ، لأنَّ النصوص عندهُ شاملةٌ لجميع الوقائع في جميع الأزمان ، انظر : ( النُّبذة الكافية : 72- وما بعدها ) ، وقد إستدلَّ على مذهبه بآية إكمال الدِّين ( المائدة : 3) وآيةِ النهي عن التقدُّم بين يدي الله ورسوله ( الحجرات : 1) وآيةِ النهي عن الخوضِ فيما لا يَعلمُ الإنسان ( الإسراء : 36) وإستدلَّ بغيرها من الأحاديث والآثار . ويُردُّ عليه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إنها ليست بنجس ، إنها من الطوَّافين عليكم والطوافات ” أخرجه أصحاب السُّنن الأربعة بإسناد صحيح ، وبحديث: ” كنتُ نهيتكم عن إدِّخار لحوم الأضاحي من أجل الدافَّة التي دفَّت ” متفق عليه ، واللَّفظ لمسلم ، وبحديث: ” إنها لا تحلُّ لي ، إنها ابنة أخي من الرضاعة ” متفق عليه . 6- ابنُ حزمٍ رحمه الله تعالى يستعملُ المنهج المنطقيَّ في تقرير أفكاره ومسائله ، انظر : ( النُّبذة الكافية : 11) فقد إستدلَّ بطريقةٍ خفيةٍ وذكيةٍ ، إلى وجوب إتباع مذهب أهل الظاهرٍ ونبذ ما سِواهُ من المذاهب ، وقد تفوَّق في تقرير هذا المنهج في سائر مصنفاته . لكن يؤخذُ عليه أن هذا المنهج لا يصلحُ في كل زمان ومكان ، وبعض إستنباطاته العقدية والأصولية وقع فيها الخطأُ بسبب هذه الطريقة في التقريرِ والتأكيدِ للنتائج ، مثل نفيه لبعضِ صفاتِ الله تعالى عندما خلطَ أفكار الفلاسفةِ بأفكار المعتزلة ، وردِّه لإجماع أهل المدينة وللإستحسان بدون تفصيل منه وتوضيح ، فيجب التفطُّن لهذه المسألة المهِمَّة . 7- ردَّ ابنُ حزمٍ إجماعَ أهل المدينة بإطلاق ولم يستثن ، انظر النُّبذة الكافية : 24 ) ، وهذه عادتُه سامحهُ الله بسبب حِدَّته وعُنفه عند تقرير المسائل . وعملُ أهل المدينة أقسام : العمل في العصر النبوي ،والعمل في عصر السلف ، والعمل المتأخر، ولكلٍّ حُكم خاصٌ به ،كما هو مُقرَّر عند الأصولييِّن. 8- ردَّ ابنُ حزمٍ الإجماع الذي نصَّ عليه أهلُ العلم ولا دليل عليه ، انظر : ( النُّبذة الكافية : 26 ) وقد تعقَّبهُ الإمام ابن تيمية (ت: 728هـ)رحمه الله تعالى في مسائل الإجماع ، انظر : ” مجموع الفتاوى : ( 19/194) . 9- الخُطوط العريضة لتأصيلات ابن حزم رحمه الله تعالى أنه لا يأخذٌ بقول الصحابيِّ إلا إذا كان هناك إجماعٌ يعضدهُ من صحابة آخرين ، وقد اشترط اليقينية في الدليل وعدم إعتبار الظنِّ الراجح ، والقول بإبطال الرأي المجرد ، ولم يقل بالمصالح المرسلة لأنها إستحسانٌ مذموم ، ولا بسدِّ الذرائع ، وهو لا يَردُّ المجاز ولا يعتبره تأويلا، بل يعدُّه من ظواهر الألفاظ ،فتأمل ! . 10- توسعَ ابن حزمٍ رحمه الله تعالى في الإستصحاب وهو البراءة الأصلية ، أو البقاء على الأصل فيما لم يُعلم ثُبوتُه وانتفاؤه بالشرع ، وهو عُمدتهُ في الإستدلال غالباً . ومع أن الإستصحاب أضعفُ الأدلة ، لكن ابن حزم نَزعَ إليه لأن منهجه إبطال القياس والتعليل . والإستصحابٌ أنواع ليس هذا محلُّ بسطها ، لكن طريقة ابن حزم فيه أنه يستصحبُ البراءة الأصلية وهي العدم الأصليِّ حتى يَرِدَ دليلٌ يرفعُ الأصل ، ويستصحبُ العموم حتى يَرِدَ التخصيصَ ، ويستصحبُ النصَّ حتى يَرِدَ النَّسخُ . هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات .
 
أعلى