العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مُذاكرةٌ مع القَريوتي

إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل
هذه مسألةٌ لطيفةٌ وفيها مسائل علميةٌ مَنيفةٌ ، أثمرت فرائدها وأشرقت شواهدها ، مذاكرةً بيني وبين شيخي وأستاذي الدكتور عاصم القريوتي حفظه الله تعالى ، وهي مسألة فقهية تتعلَّق بردِّ السلام في الدردشة ، في مواقع التواصل الإجتماعي .


ولا غَرابة في إنزال الأحكام الشرعية على مواقع التواصل الإجتماعيِّ ، فهي من الأُمور الحادثة التي أفرزتَها الحضارة المعاصرة ، وتعلَّقت بها أحكامُ الحلالِ والحرام ، لعموم البلوى بها ، فيلزمُ النظرُ في نوازلها كغيرها من النظائر .


المسألة : هل يجبُ ردُّ السلام كتابةً في مواقع التواصل الإجتماعي ، عند المُحادثة أو الدردشة كما يُسمِّيها بعضُ الناس ، أو يُكتفى بوجوب ردِّ السلام بين الإنسان ونفسهِ ، ثم يَردُّ المُرسَلُ إليه على فحوى الرسالة ، بدون كتابة جملة (وعليكم السلام …) ؟! .


وهنا أصلٌ مُهمُّ قبل الولوج في المسألة ، وهو أن الُأمور بمقاصدها ، وأن القيامَ بشعائر الإسلامِ الأصلُ فيه الإظهار والإعلان ، وأن الأعمال بالنِّيات . وأن الفتوى واختلافها ، تتغيَّرُ بحسب تغيُّر الأزمنة والأمكنة والأحوالِ والنِّيات والعوائد . والعوائد : جمع عادة.
وهذه قاعدةٌ مهمةٌ أصَّل لها ابن قيِّم الجوزية (ت: 751هـ) رحمه الله تعالى في ” إعلام الموقعين ” ، فَلتُراجع.


الأصل في مسألتنا أنَّ ردَّ السلام فرضٌ أو واجبٌ لا شك في ذلك ، كما أفادهُ الحافظ النوويُّ رحمه الله تعالى في “المجموعِ شرح المُهذَّب ” .
والوجوب عامُّ ، سواء كان في الهاتفِ أو في الطريقِ أو في المجلسِ ، أو في مواقع التواصلِ ، لقول الله تعالى :

“وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً”( النِّساء:86 ) .

وليس هذا موضعُ إيراد النُّصوص في مشروعية السلام ، فهي مشهورةٌ ومعلومةٌ ولله الحمد .
والتخريج الفقهيُّ للمسألة يظهرُ من التأصيل الأُصولي ، وهي أنها تدورُ بين الحُكم التكليفيِّ بأقسامه الخمسة ، وشروط التكليفِ وهما : القدرة والإستطاعة ، ولوازمه ، ودلالات الألفاظ على الحُكم ، ويمكن تخريجها أيضا ً على قوة السبب كما في القاعدة الأصولية : الأصل الترجيح بقوة السبب ، وقد أوردها السرخسي في المبسوط ( 7/ 77) .


فلنشرع إذن في تخريجِها على االأوجه المختلفةِ ، لاختلاف أحوال الناس ما بين قادرٍ وعاجزٍ وغافلٍ
فالقادرُ يجبُ عليه كِتابة ردِّ السلام ، لأنه واجبٌ في حقِّه ، ولتحصيل الفضل والثواب من ذلك ، لأن لفظَ الآيةٍ يتوجَّه إلى القادرِ على وجه الخصوص في قوله تعالى : ” فحيُّوا بأحسنَ منها أو رُدُّوها ” ( النِّساء: 86) .وهذا أمر مجرد يفيد الوجوب ، والوجوب يقتضي القيام بالفعل والإمتثال للطلبِ الذي جاء به النصُّ ، وهذا اختيار جماهير الأصوليِّين .


والمقصود بالقدرة أن يكون الإنسان صحيحاً لا يشتكي من علةٍ أو آفةٍ أو مرضٍ، أو نحوها من العوائق .
والذي لا يقوم بالأمر الشرعيِّ وهو قادرٌ عليه فهو مذموم بنصِّ القرآن العظيم ، كما في قول الله تعالى : ” ما مَنعكَ ألَّا تَسجُد إذ أمرتُك ” ( الأعراف : 12) .

ثم إنه لا يجوزُ للمؤمن أن يختارَ بعد قضاءِ الله له شيئاً من تلقاء نفسه ، وقد سمَّى الله من يفعل ذلك عِصياناً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم : ” ومن يعصِ الله ورسولَه فقد ضلَّ ضلالًا مُبيناً ” ( الأحزاب: 36) ، وفي قوله : ” فإن تَولَّوا فإنما عليهِ ما حُمِّل وعليكم ما حُمِّلتم ” ( النور : 54) .

وهذا المعنى ينسحبُ على جميع الواجبات التي أمر الله تعالى بها ، ولا عُذر للمأمورِ في عدم القيام بها .

ويلحق بما تقدَّم أن مشروعية ردِّ السلام كتابةً عَملٌ حسن، لأن فيه طمأنينةٌ ومودةٌ للمرسِل والمرسَل إليه ، وهو من الشعائر التي جاء الشرع بوجوب إظهارها ، بل إن لفظ الآية أشار إليها في قوله تعالى : ” بأحسنَ منها ” ( النِّساء : 86) وهو يُفيد الأعمَّ والأكملَ والأبلغَ في الحُسن .


وهنا مسألةٌ أصوليةٌ مهمة أشار إليها صفيُّ الدِّين الهِندي في كتابه نهاية الوصول ( 3/ 904) ، وهي أن الأمر إذا تردَّد بين الوجوب والندب ، فإنه يُحملُ على الوجوب ، لأنه إن كان للوجوبِ حَصل المقصودُ ، وأمن من الإثم بتركه ، وإن كان للنَّدب فإن الإمتثال لا يضرُّه بل ينفعه . وهذا الحُكم مطابق لمسألتنا في أغلب الجزئيات ، و لله الحمد .


أما العاجزُ عن كتابة ردِّ السلام كالمريضِ والمعلولِ ومن به آفة ، فهو ممَّن رفع الله عنهُ الأهلية فلا يلَحقه إثم ، فيُخفَّف عنه فعل الواجبات التي لا يمكنه القيام بها ، وهذا ليس في ردِّ السلام فحسب ، بل في جميع الواجبات .

والدليل على ذلك قول أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، لما كان به بواسير وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة أداء الفريضة فقال له : ” صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تَستطع فعلى جَنبك ” متفق عليه .

هذا في الصلاة ، فكيف بما دونها من الحسنات ! .

فقد خيَّرهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلى ما يُمكنه من القيام بالواجب في أقلِّ أحواله بما لا يَضرُّه ولا يجلب المشقة إليه .
ونحوه حديث عائشة رضي الله عنها قالت : استأذنت سودةُ رضي الله عنها النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليلة جَمعٍ – ليلة مزدلفة – وكانت ثقيلة ثَبطة ، فأذِن لها ” متفق عليه.
فَيُفهم من هذا الحديث أن المعذور يسقط عنه الواجب لِعذره .


أما الغافل أو الجاهل – لأن الغافل يخالطه جهل في الغالب – كما هو ظاهر الحديث : ” رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أستكرهوا عليه ” أخرجه ابن ماجة بإسنادٍ حسن . فهو معذور بحسب غفلته ، لكنه يأثم إذا زال عنه سبب الجهل والغفلة فلم يفعل الواجب ، وحينئذٍ يلزمه ردُّ السلام كتابة ، لينال الأجر ولتبرأ ذِّمتُه من النُّقصان والخَلل .

ولا يُمكن تصوُّر الجهل والغفلة في ردِّ السلام ، إلا إذا كان المسلم معذوراً أو مشغولاً ، فيمكن قُبول عُذره .


والخُلاصة أن ردَّ السلام واجبٌ، سواء ردَّ بشفتيه ولم يَسمعهُ الآخرُ ، أو ردَّ بالكتابة ، لأنه امتثل الواجب إما بأعلى مراتبه أو بأقلِّها ، ومن عجز أو غفل لعذر فلا إثم عليه كما تقدَّم .


وهنا فائدة أصولية مهمة أشار إليها الإمام الشاطبيُّ رحمه الله تعالى في الموافقات ( 4/214) وهي أن بعض الخِلاف لا يُعتدُّ به ، ومنه الخِلاف في تفسير بعض السُّنن مع الإقرار بوجوبها في الجملة ، فلا يجوز لأهل الفتوى الإنكارُ في بعض الفروع إذا كان الخلاف يسيراً .

وقد وقفتُ على بعض الفتاوى الصوتية لبعض المشايخ الكرِام ، وفي بعضها القولُ بوجوب كتابة ردِّ السلام في مواقع التواصل الإجتماعي ، وهذا من المبالغة في تعميم الواجب بدون النظر في مُحترزاته ومُفرداته ، فيجب التصحيح ، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الله لم يَبعثني مُعنِّتا ولا مُتعنِّتا ، ولكن بعثني مُعلِّما مُيسِّراً ” أخرجه مسلم .


قد يَستدلُّ بعض المشايخ على كلامهم بأن دلالة العام على بعض أفراده قطعية ، فيلزم أخذُ العموم كُّله ، ويُرَدُّ عليهم بأنَّ هذه المسألة خِلافية بين الأصولييِّن ، أشار إليها ابن الَّلحام في مُختصره ( ص/ 106) ، ثم إن تقديم الخاص عملٌ بالدليلين ، كما أفاده ابن قيِّم الجوزية رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين .


والصحيح كما رجَّحه العلامة الشنقيطي (ت: 1393هـ) رحمه الله تعالى في المُذكِّرة ( ص/ 217) أنه يُعملُ بالعموم مع البحث عن مُخصِّصٍ للمسألة . وهذا ما حَرَّرتهُ هُنا .


ثم إنه وردَ في آية مشروعية السلام لفظة ” أو رُدُّوها ” ( النِّساء : 86) وهي للتخييِّر ، ويُفهم منها العموم ، ولا يقع التخييِّر في حُكمٍ إلا كان ما بعده رحمةً وتيسيراً على المكلَّف ، لاسِّيما لمن يَلحقه عُذرٌ ، لأن ردَّ السلام لا يُمكنُ الإتيانُ به في أعلى مراتبه في كُّل موضع وفي كل زمان كما هو معلوم لكل عاقل .


ثم إن قائلَ وجوب كتابة ردِّ السلام مُطلقاً ، إما أن يقول إن تارك الكتابة آثم أو غيرُ آثم ، فإن قال إنه آثمٌ لزمه الدليل ، وكيف يأثم وقد نطق بردِّه ! ، وإن قال إنه لا يأثم بَطلت حُجتهُ وانتقض قوله .
ثم إن عُموم آية ردِّ السلام يُمكن تخصيصها بمفهوم الموافقة ، وهذا القول قال به بعضُ الأصولييِّن كالفتوحي في الكوكب المنير ( 3/486) ، فيجوز إختصار السلام للحاجة أو الضرورة ، كما في فعله صلى الله عليه وسلم عند لُزوم ذلك . وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يردَّ على رجل عندما سلَّم عليه وهو في الخلاء ، كما في الحديث المتفق عليه . فيُقاسُ على هذه العِلة للمعنى المقصود وهو الضرورة أو الحاجة .


وفيما يتعلَّقُ بلفظ الآية ” رُدُّوها ” ( النساء : 86) فإن فيه إشارة إلى ما ما تقدَّم ، وقد تقرَّر عند الأصولييِّن أن اللفظ إذا دَلَّ على معنى ليس مقصوداً في الأصل ، فإنه صحيح ويعمل به ، وهو ما يُسمِّيه الأُصوليون دلالة الإشارة .
وعدم السماع لا يضرُّ ، مع الإقرار أن الإسماع أبلغ وأحسن ، ولأنه أدبٌ من جُملة الآداب ومحاسن الأخلاق ، فإن أسمع المُرسَل إليه فهو أكمل ، وإلا فإنه لا يأثم ، والذِّمة في هذا الموضع مُتعلِّقة بحق الله تعالى لا بحق المخلوق ، لظاهر النصِّ في قوله ” إنَّ الله على كل شي حسيباً ” (النساء : 86)، أي أعمالكم ونياتكم .


وليس معنى ما تقدَّم أننا نقول للناسِ لا تكتبوا لفظ السلام ، إنما القول بالتفصيل هو الصحيح في حُكم المسألة .


وختاماً أقول كما قال ابن القيِّم رحمه الله تعالى : ” ومَن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم ، فقد ضلَّ وأضل ، وكانت جنايته على الدِّين أعظم من جناية مَن طبَّب الناس كُّلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم ، بما في كتابٍ من كتب الطب على أبدانهم ، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل : أضرُّ ما يكونان على أديان الناس وأبدانهم ” .


هذه خُلاصةُ المذاكرة ، ونأملُ من القراء البرَرة نشرها في مواقع التواصل ، لإثراء الموضوع وتلقيح الأفهام من أُولي العلم المَهرة .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
 
أعلى