العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الطريري وشعاع الشمس !

إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل
الحمد لله .. وقفتُ على سطورٍ متينة رقمها يراعُ أخي الشيخ عبد الوهاب الطريري وفقه الله تعالى ، وهي حول مُناقشة أمَارة شُعاع الشمس صبيحة ليلة القدر ، وقد وُفِّق – في بَعضِها ولم يُوفَّق في البعضِ الآخر ، فيما أحسبهُ ، وقد تقرر عند الأصولييِّن أن الرأي يسقط اعتباره إذا جاء الدليل بِخلافه ، كما سيتبيَّن من الاستدراكات الآتية :


أولاً : أشار في مُقدِّمة المقال إلى أن المراصد الفلكية لم ترصد تغيُّراً في شُعاع الشمس في ليالي رمضان، ولم يَتعقب هذا القول ، ويُفهم من كلامه أنه يحتج بالمراصد الفلكية لإثبات أو نفي الظواهر الكونية ، حتى ولو كان في ظاهر الشرع ما يُضعِّفُها ! ، وهذا القصد إن صح عنه ففيه نظر ، لأن المراصد علم بشريُّ وما يخلقه الله في الكون خارقٌ للعادة ، فلا يمكن إلتماسهُ أو الوقوف على تصوره أو معرفته إلا بتوفيق الله تعالى ، ثم بما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه في سنته من القرائن المعينة على الفهم .


وهناك دراسة قيِّمة كتبها الباحث ( د/ بخيت المالكي )، وهو حاصلٌ على الدكتوراه في الفلك من جامعة جلاسكو ، شرحَ فيها أن المراصد الفلكية لا تُحيط بكل تفاصيل الأشياء الدقيقة في الشمس والقمر . ويمكن مراجعة خُلاصة بحثه على شبكة الإنترنت العالمية ، فإنه مفيد جداً . وللتنبيه فإن المجامع الفقهيةَ اليوم لا تُعوِّل كثيراً على نتائج المراصد الفلكية إلا بعد معرفة قرائن الأحوال الشرعية والحسية .


ثانياً : قوله عن شعاع الشمس : ” هذه علامة على ليلةٍ بعينها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليست علامة مُطِّردة تتكرر في كل سنة كل ليلة قدر، وأنها مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (وقد رَأَيتُنِي أَسْجدُ مِن صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ). فهذا مختص بليلة القدر تلك السنة التي وقعت فيها الرؤيا، وليس علامة أن ليلة القدر في كل سنة تكون ليلة ممطرة، وهو ما قرَّره القاضي عِياض رحمه الله في إكمال المعلم ” .


قلت هذا الرأي ضعيفٌ ومرجوح من ثلاثة وجوه :
أ – أنه قال بتخصيص العلامة بليلة بعينها في وقته صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر نصاً أو إجماعا يُثبتُ ما قرَّره ، ولا لعصمة لقول أحدٍ ، إلا لكتاب الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيكون تخصيصه مغلوطا ً ، وقد قال الإمام ابن تيمية(ت: 728هـ) رحمه الله تعالى : ” لا يصح التخصيص إلا بدليل صحيح ” . ( مجموع الفتاوى 6/ 442) .


ب- نقل الشيخ عن القاضي عياض (ت: 544هـ) رحمه الله تعالى أنه يُقرِّر أن الشمس صبيحتها لا شعاع لها ، والصحيح أن نقله ناقص ومبتور ، فلعله نسيه أو لم يتنبَّه له ، وهذا نص قول القاضي عياض : ” وقوله إن الشمس في صبيحتها لا شعاع لها ، قيل علامة جعلها الله لها ، وقيل بل لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ، ونزولها إلى الارض وصعودها .. وبالثواب والأجور سترت أجسامها اللطيفة وأجنحتها شعاعها وحجبت نورها ” . ( اكمال المعلم4/ 148).
فالقاضي عياض يحكي بصيغة الرواية والنقل لا بصيغة الجزم كما هو ظاهر كلامه ، فلا يصح نقل بعض كلامه وترك البعض الآخر إلا بِمُرجِّح قوي ، ولم يذكر القاضي مُرجِّحاً في نقله ، فلا يجوز تحميل كلامه أكثر مما يحتمل .


ج- علَّق القاضي عياض على حديث عبد الله ابن أُنيس رضي الله عنه : “وأُراني صُّبحها أسجدُ في ماءٍ وطينٍ ” بقوله : ” علامة جُعلت له تلك السنة والله أعلم ، ليستدل بها عليها ، كما استدل بالشمس وغيرها ” . ( اكمال المعلم 4/ 148) .فَيُستفاد من كلامه أنه لا يرُجِّح ولا يجزم ، لأنه لا نصَّ يفصل القضية ، فقد قال ( والله أعلم ).


وقد تعقَّب العلامة علي بن سلطان القاري (ت: 1014هـ )رحمه الله تعالى كلام من توهَّم أنها علامة مَضت وانتهت فقال : ” والأظهر أن فائدة العلامة- شعاع الشمس – أن يشكر على حصول تلك النِّعمة إن قام بخدمة الليلة ، وإلا فيتأسف على ما قاله من الكرامة ، ويتدارك في السنة الآتية ، وإنما لم يجعل علامة في أول ليلها إبقاء لها على إبهامها “. ( مرقاة المفاتيح 4/1441) .
فَيُستفاد من كلامه : ” ويتدارك ” أنها علامة باقية وليست علامة ماضية مَخصوصة بليلة سَلفت في العهد النبوي .


ثالثاً : قوله : ” الذي يظهر والله أعلم أن ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أُبيّ ، أمر يتعلق برؤية الشمس لا بحال الشمس، فلم يكن حدثاً فلكياً كونياً تغيَّرت فيه حال الشمس في ذلك اليوم عن حالها في كل يوم، ولكنها في ذلك اليوم كانت ترى على هذا النحو بسبب الحالة الجوية إما لوجود سحاب رقيق يحجب أشعة الشمس بعد ارتفاعها بحيث ترى كما يرى القمر ليلة البدر، أو نحو ذلك، ومثل هذا يتكرَّر في أيام كثيرة في السنة، ولكنه توافق مع ليلة القدر تلك السنة، كما توافق معها في إحدى السنوات المطر في ليلتها” .
قلت : هذا ضعيف من وجهين :

أ‌- أنه نقل للنصِّ عن ظاهره من غير قرينةٍ قوية ترُجِّحه ، وقد قال الإمام الشافعي (ت: 204هـ )رحمه الله تعالى في كتابه (الرسالة /ص 580 ) بوجوب حمل الكلام على ظاهره إلا بدليلٍ قوي يصرفه عنه ، وما ذكره الشيخ هنا ظُّنون وميول لا تَثبت بالميزان الشرعي .


ب‌- عبَّر النصُّ النبويُّ بالطلوع ولم يُعبِّر بالظهور ، وفيه تنبيه من النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه العلامة خفية ودقيقة وخاطفة ، لا يمكن تَمييزها من كُّل أحد ، وقد تُلاحظ في بلادٍ دون بلاد ، ومن أُناسٍ دون غيرهم ، وقد أشار إلى هذا المعنى المحدث الألباني(ت: 1420هـ) رحمه الله تعالى . ( انظر: مُحدِّث العصر كما عرفته / ص 118) .
رابعاً : قوله : ” والذي يُؤكِّد أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حالة كونية استثنائية تتعلق بحال الشمس تلك الليلة ، وإنما بحال الرائيين، أن كثيراً من الصحابة لم يَفطِن لهذ العلامة ”
قلت : هذا مرجوح من وجهين :

أ‌- الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتماسها ، والالتماس يكون بالتحرِّي والبحث ، ومن علاماتها الصفة الظاهرة في النصِّ النبوي : ” أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها ” ، فكيف يأمر بالتماسها ويذكر صفة صبيحتها ،ولا يتنافس المسلمون في معرفة مآلها ؟! ، وهذا ليس من التكلُّف بل من الحث على التنافس في الخيرات ، لتكون بشارة لمن أدركها وحافزاً لمن فَوَّتها .


ب‌- قوله : إن الصحابة لم يتفطَّنوا لتلك العلامة فيه نظر ، فقد ثبت أن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه كان يجلس فوق بيته في ليالي العشر ، فجلس يوماً وقال صدق الله وبلَّغ رسولهٌ ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إن ليلة القدر في النصف من السبع الأواخر من رمضان ، إذ تطلع الشمس غداةً صافية ليس لها شعاع ، فنظرت إليها فوجدتُها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ” أهـ . أخرحه أحمد في مسنده وصحَّحه المحدث أحمد شاكر ( 5/328) .
خامساً :قوله : ” العلامات المروية في ليلة القدر تنوَّعت، بل بعضها أوصاف مُتعارضة، كوصف ليلة القدر بأنها ليلة ساكنة صاحية، وورد أيضاً أنها ليلة مطيرة، والسبب في ذلك تنوع الحال في كُّل سنة حسب الحال التي وافقت ليلة القدر، لا أن هذه علامة ليلة القدر في كل سنة، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله ” .


قلت : هذا مُتعقَّب من وجهين :

أ‌- التنوع صحيح ، فقد تكون ليلة القدر في علم الله ساكنة صاحية في بلدٍ ، وقد تكون مطيرةً في بلد آخر ، وأُمة الإسلام ليست محصورة في إقليم واحد ، بل في أرجاء المعمورة كلها ، وأحوالهم تختلف باختلاف بُلدانهم وما يُقدِّره الله فيها من خير ومطر. وقد تيقنَّا هذا الحكم بسؤال أهل العلم عنه في ليالي العشر في البلاد المتعدِّدة ، فأثبتوا صحته ، فصار في حُكم المتواتر.
وقد ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”: ليلة القدر ليلة سمحة طلقة لا حارة ولا باردة، تُصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء” .أخرجه الطيالسي في مُسنده وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع .


ب‌- عزى الشيخ الى ابن حجر رحمه الله تعالى أنه ينفي أن تكون العلامة المذكورة أمارةً على ليلة القدر ، وهذا وهمٌ منه ، وهذا نصُ كلام ابن حجر : ” وقد ورد لليلة القدر علامات أكثرها لا تَظهر إلا بعد أن تمضي ، منها في صحيح مسلم عن أُبيّ بن كعب : ” أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شُعاع لها ” .
سادساً : قوله : ” أُبيّ بن كعب رضي الله عنه لم يطلب من زِّر بن حُبيش مراقبة الشمس ولم يستنفر الناس لرؤيتها، ولم ينقل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستشرفون الشمس ويراقبون شعاعها ، ولا التابعون لهم بإحسان، وأما ما يُذكر في بعض كتب الوعظ المتأخِّرة من حكايات رؤية الشمس تطلع لا شعاع لها، أو رؤية علامات كونية يُستدلُّ بها على ليلة القدر، فهي أخبار من كتب لا تعتني بتوثيق الأخبار وتصحيح النقول”.


قلت : هذا مُتعقَّب من ثلاثة وجوه :


أ‌- عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم، وعدم الوجدان ليس نفياً للوجود، فكما أن الإثبات يحتاج إلى دليل, فكذلك النفي يحتاج إلى دليل، وإلا فما لم يُعلم وجوده بدليل معين، قد يكون معلوماً بأدلة أخرى .
فالدليل يجب فيه الطرد لا العكس، بمعنى أنه يلزم من وجوده الوجود، ولا يلزم من عدمه العدم، أي عدم المدلول عليه .


ب‌- ثبت أن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه كان يجلس فوق بيته في ليالي العشر ، فجلس يوماً وقال صدقَ الله وبلَّغ رسولهٌ ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إن ليلة القدر في النصف من السبع الأواخر من رمضان ، إذ تطلع الشمس غداة صافية ليس لها شعاع ، فنظرت إليها فوجدتُها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أهـ . أخرحه أحمد في مسنده وصحَّحه المحدث أحمد شاكر ( 5/328) .


ج- قد تقرر عند الأصوليين أن البيان لا يُشترط أن يعلمه جميع المكلَّفين في وقته ، بل يجوز أن يجهله بعضهم .انظر : ( شرح الكوكب المنير 3/456).


سابعاً : قوله : ” ذكر الإمام الطبريُّ رحمه الله أنه لا يشترط لموافقتها رؤية شيء ولا سماعه، أي أنه ليس لها علامة مطردة تُعرف بها، وإنما يبقى المسلم على أصل التحرِّي والاجتهاد في إصابتها في الأوقات التي هي أرجى فيها ، كالعشر الأواخر وآكدها أوتارها ” .
قلت : هذا مُتعقَّب من وجهين :


أ‌- الذي عَناهُ الطبريُّ (ت: 310هـ ) رحمه الله تعالى واختاره ليس ما ذكره الشيخ ، فلعله وَهِم أو التبس عليه الكلام ، وهذا نصُّ كلام ابن حجر الذي نقل منه الشيخ : ” قال العلماء : الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها ، بخلاف ما لو عُيِّنت لها ليلة لاقتصر عليها كما تقدم نحوه في ساعة الجمعة ، وهذه الحكمة مطردة عند من يقول : إنها في جميع السنة وفي جميع رمضان ، أو في جميع العشر الأخير ، أو في أوتاره خاصة ، إلا أن الأول ثم الثاني أليق به . واختلفوا هل لها علامة تظهر لمن وفِّقت له أم لا؟ فقيل : يرى كل شيء ساجداً . وقيل : يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة . وقيل : يسمع سلاماً أو خطاباً من الملائكة ، وقيل : علامتها استجابة دعاء من وفِّقت له . واختار الطبريُّ أن جميع ذلك غيرُ لازم ، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه ” .
فلا يوجد في كلام الطبريِّ تخصيصٌ بعينه عن شعاع الشمس صبيحة ليلة القدر ، بل توصيفٌ عامٌّ عن العلامات المشهورة عند الناس ، فيجب التأنِّي في الحكم .


ب‌- الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُسمِّ طلوع الشمس لا شعاع لها شرطاً لليلة القدر ، بل أمارة وعلامة يُستأنسُ بها لتبشير المسلم بإدراك فضيلة قيامه وطاعته ، وقد تظهر له العلامة وقد تخفى عليه بحسب فضل الله وجوده على عباده . وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (مجموع الفتاوى 5/284) .

وأخيرا أقول كما قال الإمام الشاطبي(ت: 790هـ) رحمه الله تعالى : ” العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يُثبت من جهة صيغ العموم فقط ، بل له طريقان : الصِّيغ واستقراء مواقع المعنى ” . (الموافقات 3/264) .
نسأل الله أن يرزقنا البصيرةَ في دِّينه ، وأن يُوفِّقنا للعمل بما يُرضيه ، وأن يصلح أحوال المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
 
أعلى