العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

تَنبيهان على تَعليل الألبانيِّ وابن غديان

إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل
هذه مدارسةٌ لطيفةٌ لرأي العالمين الجليلين عبد الله ابن غديان (ت: 1431هـ) ، ومحمد ناصر الدين الألباني (ت: 1420هـ)رحمهما الله تعالى ، في موضوع قيادة المرأة للسيارة ، إذ لكلِّ منهما رأي مخالف للآخر .


فالعلامة عبد الله ابن غديان ، له تعليل قيِّم على عدم جواز قيادة المرأة للسيارة حيث قال : ” سبحان الله.. يُسقط الله عنها وجوب الخروج لصلاة الجماعة، وأنتم تُخرجونها لتقود السيارة ! ” .

وهو مأجور على اجتهاده وقياسه واستنباطه ، وقد خالفه في اجتهاده المحدِّث الألباني ، فأفتى بجواز قيادة المرأة للسيارة كما هو معروف عنه .


وابن غديان حنبليٌّ ، والألباني مجتهد مطلق، وبينهما بونٌ شاسع في الاحتجاج بسدِّ الذرائع كما سيأتي توضيحه إن شاء الله .
لكن العالمان يُعظِّمان النصَّ الشرعي ، وبينهما تفاوتٌ يسير في الترجيح الأصولي ، وهو مطلب ضروري لاستنباط الحكم الشرعي .

والألباني لا يُلزم المستفتي أو الطالب بمذهبٍ معين ، بل يُقرِّر ما نصَّ عليه الدليل أو ما ظهر للمجتهد الموافق لهدي السلف . وابن غديان مجتهدٌ في مذهب الحنابلة ، وهو يدورُ مع مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى ، في أغلب استنباطاته وفتاويه ، ومذهب أحمدَ شديدٌ في مسألة المباحات والتوسُّع فيها.
وهذا الفرق بين العالمين الجليلين مهم جداً وتجب معرفته لطالب العلم ، لبيان طريقة الاستدلال والفهم عند الشيخين رحمهما الله تعالى، ولترسخ قدمهُ في مسألة الترجيجات .


والآن وبعد اختيار ولي الأمر لاجتهاد جماعة من العلماء أجازوا قيادة المرأة للسيارة لما تقتضيه المصلحة العامة ، ولحاجة بعض المجتمع لها ، فلا بأس من التنبيه على تعليل ابن غديان المتقدِّم وتوضيحه ، وكشف ما يُناقضه من رأي كلٌّ بدليله وتعليله وتنبيهه.


فتعليلُ العلَّامة ابن غديان رحمه الله تعالى بالمنع قياساً على عدم وجوب صلاة الجماعة على المرأة فيه نظر ، لأنه قياسٌ خفيٌ لم يُقطع فيه بنفي الفارق ، وليسته عِلته منصوصاً أو مجمعاً عليهاً ، ولأن خروج المرأة مباح للأسواق وللعمل وللعلاج وللضرورة المطلقة ، فلا وجه للمنع قياساً على منع صلاتها مع الجماعة !.
وحصول الفتنة والفساد بخروجها بسيارتها أمرظني وليس يقينياً ، والأحكام لا تُبن على الظنيات ، إنما تُبن على اليقينيات .
والشيخ ابن غديان رحمه الله تعالى أسَّس الحكم على الورع كما هي عادة الحنابلة في الأمور المتشابهة ، للحديث المرفوع : ” دع ما يَريبك إلى ما لا يريبك ” أخرجه الترمذي بإسناد صحيح ، ولحديث : ” فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه ” متفق عليه .
والأمر الآخر أن العلامة ابن غديان قعَّد ما سبق تأسِّيساً على دليل سدِّ الذرائع ، وهو من الأدلة المختلف فيها ، فليس كل العلماء يُصحِّحون الاستدلال والأخذ به .
فالذرائع هي الوسائل المباحة في ذاتها لكنها تؤدِّي إلى محرم ، والوسائل قد تكون ممنوعة وقد تكون مباحة . والمفاسد الناتجة عنها قد تكون مُتحقِّقة وقد تكون نادرة وقد تكون غالبة .
وبسبب هذه الأمور التبس على العلماء الكثير من نوازل العلم ، ومنها هذه المسألة ، فمنهم من حرم ومنهم من أباح ، وإلى الله المصير .
ولهذا ردَّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الأخذ بسد الذرائع في كثير من مسائل الفقه في مذهبه الجديد ، وغلَّط أصحاب الإمام مالك رحمه الله تعالى في تمسُّكهم بهذا الأصل والاستدلال له في مصنفاتهم.
والقاعدة عند الُأصوليين أنه لا تَعارض بين القياس والمصالح المرسلة ، إنما التعارض في نظر المجتهد .
فشرط الحكم هنا أن يكون القياس صحيحاً لا باطلاً . ولهذا تختلف أنظار أهل العلم في هذه المسألة بناءاً على تحقيق هذه القاعدة من عَدمها .
فمن أهل العلم من يستدلُّ بالقياس الخفيِّ لتقوية فتواه ، ومنهم من يستحسن بالنص ، لكن لا يقوى على هذا إلا نوادر الرجال .
فلهذا السبب صعب جدا ً الترجيح في المسألة لصعوبة مسالكها وقوة أدلة الطرفين . والعلم عند الله تعالى .
وابن غديان رحمه الله تعالى يُشير في عبارته السابقة إلى أن المرأة في بلاد الحرمين ليست مثل حال بعض نساء مِصر والشام والعراق والمغرب العربي وبلاد آسيا ؟ ، مع دعائنا للجميع بالمغفرة والعفاف وحسن العاقبة .
فإذا كان الجواب بالنفي ، فالمساواة ممنوعة في هذا المطلب ، لأن العرف يجب اعتباره هنا .وهذه البلاد قامت على شرع الله .
وقد قال الأصوليون : ” كل عُرف مُعتبر إلا إذا تعارض مع الشرع ، فيكون عُرفاً فاسدا ” .
والعرف يُخصِّص النص الظني دون القطعي ، لأن التخصيص فرع التعارض ، والتعارض لا يكون إلا مع النص المساوي .
وهذه البلاد المباركة لها أعراف وخصائص امتنَّ الله بها على أهلها ، فمن الغلط أن تُكيَّف فتوى معينة – بغض النظر عن صحتها – وتُعمَّم على سائر البلاد في الأرض ، ويُستخرج منها حكم ثابت يجب العمل به .
وقد زارني عام ( 1435هـ ) صديق من طلبة المحدث الألباني رحمه الله تعالى ، يروي باسناده إلى الألباني أن الشيخ يُجيز قيادة المرأة للسياره قياساً على ركوبها للناقة والفرس ونحوها ، مما تعارف عليه الناس قديماً ، وأن قيادة المرأه للسيارة أكرم وأستر لها من ركوبها للناقة والفرس ، حيث تتعرَّض في ذلك للتكشف ! .
وفتوى الشيخ معتبرة وقيمة جداً ، لكن قياس الألباني قياس أدنى . لأن الفرع فيه أضعف من الأصل.
ودليل المحدِّث الألباني رحمه الله تعالى على جواز قيادة المرأة للسيارة هو الاستصحاب ، وهو اعتماد الأصل عند انعدام الدليل الشرعي المثبت للحكم أو النافي عنه . والاستصحاب أضعفُ الأدلة عند الأصوليين .
وقد قصد أن القيادة أمر مباح وله نفع ، وقد تكون ضرورة إن فقدت ، وترتب عليها تعطُّلٌ للمصالح وحصول الضرر المعنوي والحسي .
فدليل الألباني النصي العام هو قول الله تعالى : ” قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيباتِ من الرزق” ( الأعراف : 32) .
فنفع السيارات من النِّعم الطيبة التي خَففت المشاق على الناس ، وحصل بها خير عظيم للناس لا ينكره أحد من العقلاء .
ولا يخفى أن المرأة في بلاد الحرمين تقود السيارة في البادية منذ ثلاثين سنة إذا اضطرت لذلك ، لرعاية مصالح أهلها عند حصول عجزٍ أو مرضٍ أو ضعف حالٍ عند الوليِّ ، لكن بقدر معين وبدون اظهار للمحاسن والزينة ! .
والمرأة البدوية لو طَلب منها وليُّها السفر بالسيارة بمفردها إلى مكان بعيد ، لأبت وغضبت حفاظاً على نفسها وحيائِها .
فكثير من النساء مثلاً لا تُريد خدمة الرجل الأجنبيِّ لها ، سواء في مسألة التوصيل أو في مسألة المساعدة في خدمتها لإدارة شؤون أهلها ونفسها .
وبين رأي ابن غديان ورأي الألباني مسافة من الترجيح لا تتضح إلا لِقلة من أهل العلم والبصيرة والسداد والثبات ، والتوفيق من الله تعالى يهبه لمن يشاء .
والواجب في المسائل العلمية المتشابهة أن يُردَّ العلمُ فيها إلى أصول الأدلة لا إلى عموماتها ، ولا إلى القياس ولا إلى الإستحسان ولا إلى المصالح الملغاة ولا إلى ذوق الناس وكثرتهم وحاجتهم ، فهذه كلها غير معتبرة عند الموازنة ، فافهم هذا فإنه نفيس جداً .
ومن تأمل أصول الأدلة في المصنفات الحديثية والفقهية يلحظ ورود عبارة متينة تتعلق بحكم خروج المرأة من بيتها ، وهي قول الماتن أو المحشِّي أو الشارح : “لا بأس بخروجها لحوائجها إن أمنت الطريق “. وقولهم :” تخرجُ لحاجتها نهاراً لا ليلاً ” .
ويرد هذا التعبير كثيراً في كتب المالكية والحنابلة وغيرهم من فقهاء الإسلام .
وهذا التقعيد مبنيٌّ على أدلة راجحة من الكتاب والسنة ، فمناط الحكم ليس الحاجة ، إنما الضرورة بشرط تحقُّق الأمن . والعربيُّ يغار على محارمه أشدُّ من غيره ، كما لا يخفى .
فالمسلم والعربيُّ الحر الشهم لا يختار على عفاف المرأة بدلاً ، ولهذا قال الإمام السمعاني(ت:489) رحمه الله تعالى :
جئتماني لتعلما سِرَّ سُعدى
تجداني بِسر سُعدى شحيحا
إن سُعدى لمنية المُتمنِّي
جمعت عِفةً ووجهاً صبيحا
وقد روي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهاأنها كانت تقول :
“كنتُ أنقل النَّوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي ، وهي على ثلثي فرسخ فجئتُ يوماً والنوى على رأسي ، فلقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر،فدعاني فقال إخ إخ ، ليحملني خَلفه فاستحييتُ وذكرتُ الزبير وغيرته ، قالت : فمضى فلما أتيتُ أ خبرتُ الزبير فقال : والله لحملكِ النوى كان أشدُّ عليَّ من ركوبك معه ” أخرجه البخاري.
وكل العقلاء يعلمون أن المرأة لن تموتَ جوعاً لو حُرمت من القيادة وقرَّت في بيتها وتفرَّغت لشؤونها .
والرسول صلى الله عليه وسلم بكى على أحوال أُمته منذ بدء الوحي عليه ، أفليس من حقِّه علينا أن نوقِّره بعد وفاته بحفظ وصيته في أمته عندما قال : ” اتقوا الله في النساء ” أخرجه مسلم في صحيحه . فلا تُستشار المرأة في بعض أمر عفافها وعِرضها ومصالحها، التي يَعرفها العلماء وأهل الولاية أكثر من معرفة الوليِّ والمحرم والقريب والبعيد .
وخلاصة ما تقدَّم أن الألباني رحمه الله تعالى استدل على جواز قيادة المرأة للسيارة بالقياس والاستصحاب ، وأن ابن غديان استدلَّ على تحريم قيادة المرأة للسيارة بالقياس وسدِّ الذرائع ، وكلاهما مأجورٌ إن شاء الله تعالى .
وأخيراً فإن الواجب على أهل العلم في بلدٍ أمر فيه الإمام أو ولي الأمر بفتوى جديدة – لا معصية لله فيها- تخالف ما تعارفوا عليه ، أن ينقادوا إلى رأي إمامهم حفظاً للمصالح وللقلوب ، مع الإجتهاد في إصلاح ما قد يظهر من عثرات ، فالأمور بيد الله ، والله خير الحاكمين .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
 
أعلى