الباب الثاني: في آداب الجدل
وهو ما ينبغي للخصمين أن يستعملاه في مناظراتهما ومنه ما يشتركان فيه جميعا ومنه ما يختص بكل واحد منهما.
أما الأول: وهو ما يشتركان فيه فيلزم كل واحد منهما قصد إظهار الحق في مناظرته لا قصد إظهار فضيلته.
وأن لا يبالي قامت الحجة له أو عليه كما قال الشافعي رضي الله عنه أنه قال: ما ناظرت أحدا فباليت مع من كانت الحجة إن كانت معه اتبعته.
وليلن كل منهما لخصمه الكلام ولا يغلط عليه وليتق ما يصدر عنه بقبول ولطف وتحسين
مثل أن يقول: ما ذكرته حسن متجه لكن يرد عليه كذا أو يعارضه كذا.
وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة بحيث ينصت المعترض للمستدل حتى يفرغ وتقريره للدليل ثم المستدل للمعترض حتى يقرر اعتراضه ولا يقطع أحد منهما على الآخر كلامه في إثباته وإن فهم مقصوده من بعضه وبعض الناس يفعل هذا تنبيها للحاضرين على فطنته وذكائه وليس في ذلك فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض وبعضها دليل على بعض...
وفي مثل هذا يقول الفقهاء:
الكلام بآخره
لكنهم في وقتنا هذا لا يلتفتون إليه بل هم فيه كما قيل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله....عار عليك إذا فعلت عظيم
فإن أحدهم يقطع كلام صاحبه فإذا قطع صاحبه كلامه قال له:
الكلام بآخره
فيبقى كما قيل في المثل: لمَ باؤك تجر وباؤنا لا تجر.
وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة فإنه أنبل لقدره وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق.
قال الشافعي: ما ناظرت أحدا فقبل مني الحجة إلا عظم في عيني ولا ردها علي إلا سقط في عيني.
وليلزم كل واحد منهما مقالته ولا ينكرها خوف الانقطاع فإن الانقطاع خير من المكابرة والكذب.
ولا يناظر أحدهما الآخر في علم لا يفهمه أو هو فيه ضعيف إذ المتعرض لذلك مهين لنفسه والداعي إليه مع علمه بقصور خصمه جائر عليه وقد اجتمع موسى بالخضر فسلم كل واحد منهما للآخر حاله واعترف له بما خصه الله عز وجل به من العلم.
وإن أفحم أحدهما فليسكت الآخر ولا يضحك منه فيزيده خجلا إذ في انقطاعه غنية عن تخجيله كما قال القائل:
ونحن سكوت والهوى يتكلمُ
لا يورد أحدهما على الآخر شبهة يعلم أنها لا ترد عليه أو لا تلزمه لأن الزمان أقصر من أن يضيع في الأغلوطات والتغليطات وفي تحقيق الحق ما يستغرق الوقت.
وليجتنبا في مناظراتهما الألفاظ العامية السخيفة:
كقوله في المنع "لا" ويطولها
أو في قلب الدليل أو فساد الوضع "ذا عليك" كما يستعمله بعض أخشان الزمان....
واعلم أن كثير من الأغمار ينقبض من "لا نسلم" ويزعم أنها رد وتكذيب يضع من الرتبة ويغض من المنصب وذلك غفلة عن معاني الألفاظ وموضوعاتها
وذلك لأن موضوع "لا نسلم" لغة واصطلاحا: إني لا أنقاد لما تقول لأنه لم تثبت عندي صحته.
ولا يلزم من عدم ثبوت صحته عند الخصم أن لا يكون ثابتا في نفس الأمر لجواز أن يكون القائل "لا نسلم" مخطئا في المنع وعدم التسليم في نفس الأمر"
ثم قال الطوفي:
نعم، أحسب أن نفور النافر من "لا نسلم" إنما هو استعظاما لمحل نفسه عن أن يرد عليه لكن ذلك مشير إلى الكبر ورؤية النفس وقصد إظهار المكانة لا إظهار الحق والإبانة وفي ذلك من الذم ما يكفي وللقلم عن استيعابه تجفّي.
وإن عرض أحدهما بصاحبه من جهة البلادة أو قلة العلم ونحوه مما يصعب على العلماء كقوله في أثناء المناظرة: هذا شيء إنما يفهمه الفضلاء ويدرك معناه الأذكياء
أو هذا نقل يعرفه من وقف على على المقالات واطلع على الكتب المطولات وأشباه ذلك
فليرض نفسه على مسامحته والإغضاء عنه حتى إن أمكنه أن يوهمه أنه لم يفهم ذلك عنه أو لم يلق له بالا فليفعل فهو أصون لهما جميعا وأحرى أن لا يكون بينهما شر كما قال القائل:
ليس الغبي بسيد في قومه..........لكن سيد قومه المتغابي
وقال المتنبي:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله........ويجهل علمي أنه بي جاهل
وقال الآخر:
إذا لم تستطع للضيم حملا...........حملت الضيم حتى تستطيعا
ولا شك أنه بإغضائه عن صاحبه يحمل عنه خطر شر عساه يقع بينهما
فإن لم تجبه نفسه على التغاضي بالكلية فليتسامح له المرتين والثلاث ثم ليعاتبه عتابا وليعظه وعظا مثل أن يقول: اتق الله ولا تعرض بي وصن نفسك عن سماع الجواب.
وليجتنبا الكلام في المناظرة في كل وقت يمنع فيه الحاكم من الحكم لمظنة المخاطرة.
هذا ما حضر من الآداب المشتركة
أما المختصة:
فينبغي للمستدل أن يشرع في تقرير الحجة عقيب الدعوى من غير فصل
مثلا أن يقول: بيع الفضولي موقوفا على الإجازة صحيح لأنه تصرف خال عن مفسدة وكل تصرف خلا عن مفسدة فهو صحيح، ويقرر مقدمات الدليل بما ينبغي.
وإن ذكر الدعوى ثم أنظر السائل أن يقول له: لمَ قلت، فلا بأس والخطب في هذا يسير فليتبع فيه اصطلاح البلد أو قرائن الأحوال إذ قد تدل قرينة حال السائل على استدعائه الدليل بغير سؤال عنه إذ تصدّيه للاعتراض استدعاء للدليل
فإن أخر المستدل الدليل عن ذكر الدعوى أو عن قول السائل "لم قلت"
فإن كان التأخير يسير لم يؤثر...وإن طال الفصل طولا خارجا عن العادة بحيث يشعر بتعذر الدليل عليه فهل يكون منقطعا؟
هو محل تردد ونظر فيحتمل أن يعد منقطعا لتقصيره عن نصرة ما تصدى لنصرته كالمحارب يقف في ناحية الميدان كافا عن الضرب والطعان مع استدعاء الأقران
ويحتمل أن لا يعد منقطعا كالساكت عن جواب الدعوى في مجلس الحكم ولا يجعل ناكلا حتى يقول له الحاكم: إن أجبت وإلا جعلتك ناكلا وقضيت عليك فيقال لهذا كذلك: إن ذكرت دليل دعواك وإلا جعلتك منقطعا,
ويحتمل أن يفصل فيقال: إن تقدم المناظرة تروّ وإرهاص بها وتأهب لها بزمن يتسع لتقرير الدليل عد منقطعا بالسكوت عنه، وإن وقعت بغتة لم يعد منقطعا إذ ليس في قوة كل واحد المبادهة بالحجة كما ليس في قوة كل شاعر ارتجال الشعر بديهة ولا يعد بالتروي في نظمه عيبا، وقد سبق أن نسبة الجدل إلى مطلق الأصول نسبة النظر إلى النثر.
وأما المعترض فينبغي أن يشرع في الاعتراض على الدليل عقيب فراغ المستدل من تقريره فإن أخره عن ذلك فحكمه نحو من حكم تأخير المستدل ذكر الدليل عن الدعوى.
وفي آدابه كثرة لمن تتبعها وفكر فيها لكن الذي اتفق منها هاهنا على سبيل العجالة هذا.
قال أبو فراس: الحمد لله على توفيقه انتهى الباب الثاني.