د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
مقدِّمات في فقه ابن رجب الحنبلي
المبحث الأول: الفرق بين التأويلات الضعيفة وما يحتمل منها.
النقولات:
النقل الأول:
عقد البخاري رحمه الله في صحيحه باباً بعنوان:
"إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه"، صدَّره بحديث أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : (يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ، وإن أخطئوا فلكم وعليهم)"
يقول ابن رجب رحمه الله:
"قد استدل البخاري بهذا الحديث:
على أن مَنْ صلَّى خلفَ مَنْ لا يتم صلاته فأتم صلاته، فإن صلاته صحيحة.
ودخل في هذا:
1- من صلى خلف محدث ، يعلم حدث نفسه أو لا يعمله.
2- ومن صلى خلف إمام يؤخر الصلاة عن مواقيتها.
3- ومن صلى خلف من ترك ركنا أو شرطا في صلاته متأولاً، والمأموم يخالف تأويله.
وفي صحة صلاته وراءه قولان ، هما روايتان عن أحمد.
4- كمن صلى خلف من مس ذكره أو احتجم ولم يتوضأ.
5- ومن صلى خلف من لا يتم ركوعه وسجوده ، وأتمه المأموم أجزأته صلاته ، كذا قال علقمة ، والأوزاعي .
وسئل أحمد عمن قام إمامه قبل أن يتم تشهده الأول:
فذكر قول علقمة – يعني: أنه يتمه ثم يقوم .
وسئل سفيان الثوري عمن صلى خلف من يسرع الركوع والسجود؟
قال: تمم أنت والحق به.
وقال يحيى بن آدم : صليت خلف رجل فأعدت صلاتي من سوء صلاته .
وقال أحمد في إمام لا يتم ركوعه ولا سجوده: لا صلاة له ، ولا لمن خلفه .
ونقل عنه ابن القاسم: ما يدل على أن من خلفه إذا أتم فلا إعادة عليه.
ثم قال ابن رجب:
وهذا يرجع إلى ما ذكرنا؛ فإن من صور هذا الاختلاف:
· من ترك الطمأنينة متأولاً، وصلى خلفه من يرى وجوب ذلك واطمأن.
وأكثر كلام أحمد يدل على أَنَّهُ يفرق:
بَيْن التأويلات الضعيفة المخالفة للسنن الصحيحة:
o فيمنع([1]) من الصلاة خلف متأولها.
o كما نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لا يصلى:
1- خلف من يَقُول: الماء من الماء.
2- ولا من ترك قراءة الفاتحة فِي بعض الركعات عَلَى التأويل.
o وأنه يصلى خلف:
1- من لا يتوضأ من خروج الدم.
2- ولا من أكل لحم الإبل.
3- ولا من مس الذكر.
4- أو يصلي فِي جلود الثعالب على التأويل .
وسوى أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر وأكثر أصحابنا: بَيْن الجميع.
والصحيح: التفرقة .
ولهذا نَصَّ الشَّافِعِيّ وأحمد عَلَى أَنَّهُ:
1- لا يحد الناكح بلا ولي.
2- ويحد من شرب النبيد متأولاً.
ونص أحمد عَلَى أن الفرق هُو: ضعف التأويل فِي شرب النبيد خاصة.
وَقَالَ سُفْيَان الثوري: لا يصلى خلف من مسح على رجليه، ومن صلى خلفه أعاد الصلاة.
وَقَالَ شريك: لا يصلى خلفه، ولا تعاد الصلاة. ([2])
فائدة المسألة.
تفريق الإمام أحمد بين:
التأويلات الضعيفة المخالفة للسنن الصحيحة فإنها تمنع من الصلاة خلف متأوِّلها مثل القول بأن غسل الجنابة لا يكون إلا من الإنزال أو القول بترك قراءة الفاتحة في بعض الركعات على التأويل.
وبين:
التأويلات غير الضعيفة أو التي لا تخالف السنن الصحيحة فلا تمنع من الصلاة خلف متأولها.
إذن ضابط الإمام أحمد في عدم جواز الصلاة خلف المتأول هو في أمرين اثنين:
1- أن يكون تأويلاً ضعيفاً.
2- أن يكون مخالفاً للسن الصحيحة.
==================================
0النقل الثاني:
يقول ابن رجب في مسألة تحريم قليل المسكر:
"وإلى هذا القول:
ذهب جمهورُ علماء المسلمين مِن الصَّحابة والتابعين ومن بعدهم من عُلماء الأمصار ، وهو مذهبُ مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم ، وهو ممَّا اجتمع على القول به أهلُ المدينة كلهم.
وخالف فيه طوائفُ مِنْ عُلماء أهل الكوفة، وقالوا:
إنَّ الخمرَ إنَّما هو خمرُ العنب خاصّةً، وما عداها ، فإنَّما يحرم منه القدرُ الذي يُسكر، ولا يحرم ما دونه ، وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفوراً لهم، وفيهم خَلقٌ مِنْ أئمَّة العلمِ والدين.
قال ابنُ المبارك:
ما وجدتُ في النبيذ رخصةً عن أحد صحيح إلاّ عن إبراهيم يعني : النَّخعي.
وكذلك أنكر الإمامُ أحمد:
أنْ يكونَ فيه شيءٌ يصحُّ ، وقد صنف كتاب "الأشربة" ولم يذكر فيه شيئاً من الرخصة ، وصنَّف كتاباً في المسح على الخفين ، وذكر فيه عن بعض السَّلف إنكاره.
فقيل له : كيف لم تجعل في كتاب " الأشربة " الرخصة كما جعلت في المسح ؟
فقال: ليس في الرخصة في المسكر حديثٌ صحيح.
وأكثرُ العلماء:
الذين يرونَ تحريمَ قليلِ ما أسكر كثيرُه يرونَ حدَّ مَنْ شربَ ما يُسكر كثيره ، وإنِ اعتقد حِلَّه متأولاً ، وهو قولُ الشافعي وأحمد
خلافاً لأبي ثور:
فإنَّه قال: لا يحدُّ لتأوُّله ، فهو كالنَّاكح بلا وليٍّ. وفي حدِّ الناكح بلا وليٍّ خلاف أيضاً ، ولكنَّ الصحيح أنَّه لا يُحَدُّ.
وقد فرَّق من فرَّق بينه وبين شرب النبيذ متأوِّلاً:
بأنَّ شرب النبيذ: المختلف فيه داعٍ إلى شرب الخمر المجمع على تحريمه.
بخلاف الناكح بغير وليٍّ: فإنَّه مغنٍ عن الزنى المجمع على تحريمه ، وموجب للاستعفاف عنه .
والمنصوصُ عن أحمد:
أنَّه إنَّما حدَّ شارب النبيذ متأوِّلاً :
لأنَّ تأويلَه ضعيف لا يُدرأُ عنه الحدُّ به ، فإنَّه قال في رواية الأثرم : يُحدُّ من شرب النبيذ متأوِّلاً .
ولو رُفِعَ إلى الإمام من طَلَّق البتة: ثم راجعها متأوِّلاً أنَّ طلاق البتة واحدة ، والإمام يرى أنَّها ثلاث لا يُفرق بينهما.
وقال: هذا غيرُ ذاك:
- أمره بيِّنٌ:في كتاب الله، وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونزل تحريم الخمر وشرابهم الفضيخ، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (كلُّ مسكرٍ خمر)، فهذا بيِّن.
- وطلاق البتة: إنَّما هو شيءٌ اختلفَ النَّاسُ فيه."
فائدة المسألة:
موقف أهل العلم في إقامة الحد على من شرب النبيذ متأولاً:
1- لا يحد كالناكح بلا ولي [أبو ثور].
2- يحد.
وفرَّق مَنْ قال يحد بينه وبين النكاح بلا ولي بأحد أمرين:
1- بأنَّ شرب النبيذ: المختلف فيه داعٍ إلى شرب الخمر المجمع على تحريمه، بخلاف الناكح بغير وليّ: فإنَّه مغنٍ عن الزنى المجمع على تحريمه ، وموجب للاستعفاف عنه.
2- أن تأويل شرب النبيذ تأويل ضعيف.
كما فرَّق الإمام أحمد بينه وبين طلاق البتة ثم راجعها متأولا:
1- بأن شرب النبيذ أمره بين في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
2- أما طلاق البتة فهو شيء اختلف الناس فيه.
=========================================
النقل الثالث:
الفرق بين المتأوِّل وغير المتأول، والفرق بين مأخذ أهل الحديث ومأخذ أهل الأهواء في المسألة الواحدة:
"َقَالَ الزُّهْرِيّ: من سُنَّة الصلاة أن يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ثُمَّ فاتحة الكتاب، ثُمَّ يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثُمَّ يقرأ بسورة .
وكان يَقُول: أول من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم سراً بالمدينة عَمْرِو بْن سَعِيد بْن العاص.
خرجه البيهقي .
ومراسيل الزُّهْرِيّ من أردئ المراسيل .
وإنما عنى:
أول من أسر بِهَا ممن أدركه ، فَقَدْ ثبت عَن أَبِي بَكْر وعمر وعثمان الإسرار بِهَا ، فلا عبرة بمن حدث بعدهم وبعد انتقال عَلِيّ بْن أَبِي طالب من المدينة ؛ فإن هؤلاء هم الخُلَفَاء الراشدون الذين أمرنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم ، وهم كانوا لا يجهرون بِهَا.
قَالَ البيهقي:
وروينا الجهر بِها عن فقهاء مكة: عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بْن جبير .
وَقَالَ الإمام أحمد -فِي رِوَايَة مهنا - :
عامة أهل المدينة يجهر بِهَا : الزُّهْرِيّ، وربيعة، وذكر ابن عَبَّاس وابن الزُّبَيْر .
وأما مَا ذكره الخَطِيْب فِي كتابه فِي الجهر بالبسملة:
من الآثار الكثيرة فِي المسألة حَتَّى اعتقد بعض من وقف عَلِيه أَنَّهُ قوْل الجمهور ، فغالب آثاره أو كثير مِنْهَا معلول لا يصح عِنْدَ التحقيق.
وكثير منهم:
يروي الجهر والإسرار...
ولقلة من كان يجهر بِها:
اعتقد بعضهم أن الجهر بِها بدعة، وأنه من شعار أهل الأهواء كالشيعة، حَتَّى تركه بعض أئمة الشافعية، منهم : ابن أَبِي هُرَيْرَةَ لهذا المعنى .
وكان سُفْيَان الثوري وغيره من أئمة الأمصار:
يعدون الإسرار بالبسملة من جملة مسائل أصول الدين الَّتِيْ يتميز بِهَا أهل السنة عن غيرهم، كالمسح على الخفين ونحوه، حَتَّى قَالَ سُفْيَان لشعيب بْن حرب: لا ينفعك ما كتبت حَتَّى ترى أن إخفاء: بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر بِها.
وقال وكيع: لا يصلى خلف من يجهر بِها.
وقال أحمد فِي الصلاة خلف من يجهر بِها:
إن كَانَ يتأول فلا بأس بِهِ ، وإن كَانَ غير ذَلِكَ فلا يصلى خلفه .
يشير إلى أَنَّهُ:
يصلي خلف من جهر بِهَا من أهل العلم والحديث ، دون من يجهر بِهَا من أهل الأهواء، فإنهم المعروفون بالجهر بِهَا .
ونقل أبو طالب ، عَن أحمد ، وسأله:
يجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم؟
قال:
بالمدينة نَعَمْ ، وهاهنا من كَانَ يرى أنها آية من كِتَاب الله مثلما قَالَ ابن عَبَّاس وأبو هُرَيْرَةَ وابن الزُّبَيْر كانوا يجهرون بِها، ويتأولونها من كِتَاب الله."([3])
فوائد المسألة:
1- تخريج القول الشاذ بوجه صحيح.
2- التفريق في المسائل بين مأخذ أهل البدع وبين مأخذ أهل العلم وملاحظة المكان الذي يفعل فيه: هل هو محل أهل البدع أو محل أهل السنة.
3- من عدَّ الجهر بالبسملة من مسائل أصول الدين وبنى عليها التمييز بين أهل السنة وأهل الأهواء فإنما نظر إلى مصره وجهته فحسب، وإلا فمن أعيان أهل السنة وعلمائهم من لا يجهر بها وفي أمصار المسلمين من يصنع ذلك من قديم.
([1]) في مطبوعة دار الحرمين وتحقيق طارق عوض الله "فلا يمنع" ويبدو أن "لا" زائدة لأنها تفسد الكلام بعدها.
([2])فتح الباري (6/178- 183).
([3])فتح الباري (6/ 422).
الفرق بين التأويلات الضعيفة وبين ما يحتمل منها
[تقريرات ابن رجب الحنبلي]
[تقريرات ابن رجب الحنبلي]
المبحث الأول: الفرق بين التأويلات الضعيفة وما يحتمل منها.
النقولات:
النقل الأول:
عقد البخاري رحمه الله في صحيحه باباً بعنوان:
"إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه"، صدَّره بحديث أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : (يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ، وإن أخطئوا فلكم وعليهم)"
يقول ابن رجب رحمه الله:
"قد استدل البخاري بهذا الحديث:
على أن مَنْ صلَّى خلفَ مَنْ لا يتم صلاته فأتم صلاته، فإن صلاته صحيحة.
ودخل في هذا:
1- من صلى خلف محدث ، يعلم حدث نفسه أو لا يعمله.
2- ومن صلى خلف إمام يؤخر الصلاة عن مواقيتها.
3- ومن صلى خلف من ترك ركنا أو شرطا في صلاته متأولاً، والمأموم يخالف تأويله.
وفي صحة صلاته وراءه قولان ، هما روايتان عن أحمد.
4- كمن صلى خلف من مس ذكره أو احتجم ولم يتوضأ.
5- ومن صلى خلف من لا يتم ركوعه وسجوده ، وأتمه المأموم أجزأته صلاته ، كذا قال علقمة ، والأوزاعي .
وسئل أحمد عمن قام إمامه قبل أن يتم تشهده الأول:
فذكر قول علقمة – يعني: أنه يتمه ثم يقوم .
وسئل سفيان الثوري عمن صلى خلف من يسرع الركوع والسجود؟
قال: تمم أنت والحق به.
وقال يحيى بن آدم : صليت خلف رجل فأعدت صلاتي من سوء صلاته .
وقال أحمد في إمام لا يتم ركوعه ولا سجوده: لا صلاة له ، ولا لمن خلفه .
ونقل عنه ابن القاسم: ما يدل على أن من خلفه إذا أتم فلا إعادة عليه.
ثم قال ابن رجب:
وهذا يرجع إلى ما ذكرنا؛ فإن من صور هذا الاختلاف:
· من ترك الطمأنينة متأولاً، وصلى خلفه من يرى وجوب ذلك واطمأن.
وأكثر كلام أحمد يدل على أَنَّهُ يفرق:
بَيْن التأويلات الضعيفة المخالفة للسنن الصحيحة:
o فيمنع([1]) من الصلاة خلف متأولها.
o كما نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لا يصلى:
1- خلف من يَقُول: الماء من الماء.
2- ولا من ترك قراءة الفاتحة فِي بعض الركعات عَلَى التأويل.
o وأنه يصلى خلف:
1- من لا يتوضأ من خروج الدم.
2- ولا من أكل لحم الإبل.
3- ولا من مس الذكر.
4- أو يصلي فِي جلود الثعالب على التأويل .
وسوى أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر وأكثر أصحابنا: بَيْن الجميع.
والصحيح: التفرقة .
ولهذا نَصَّ الشَّافِعِيّ وأحمد عَلَى أَنَّهُ:
1- لا يحد الناكح بلا ولي.
2- ويحد من شرب النبيد متأولاً.
ونص أحمد عَلَى أن الفرق هُو: ضعف التأويل فِي شرب النبيد خاصة.
وَقَالَ سُفْيَان الثوري: لا يصلى خلف من مسح على رجليه، ومن صلى خلفه أعاد الصلاة.
وَقَالَ شريك: لا يصلى خلفه، ولا تعاد الصلاة. ([2])
فائدة المسألة.
تفريق الإمام أحمد بين:
التأويلات الضعيفة المخالفة للسنن الصحيحة فإنها تمنع من الصلاة خلف متأوِّلها مثل القول بأن غسل الجنابة لا يكون إلا من الإنزال أو القول بترك قراءة الفاتحة في بعض الركعات على التأويل.
وبين:
التأويلات غير الضعيفة أو التي لا تخالف السنن الصحيحة فلا تمنع من الصلاة خلف متأولها.
إذن ضابط الإمام أحمد في عدم جواز الصلاة خلف المتأول هو في أمرين اثنين:
1- أن يكون تأويلاً ضعيفاً.
2- أن يكون مخالفاً للسن الصحيحة.
==================================
0النقل الثاني:
يقول ابن رجب في مسألة تحريم قليل المسكر:
"وإلى هذا القول:
ذهب جمهورُ علماء المسلمين مِن الصَّحابة والتابعين ومن بعدهم من عُلماء الأمصار ، وهو مذهبُ مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم ، وهو ممَّا اجتمع على القول به أهلُ المدينة كلهم.
وخالف فيه طوائفُ مِنْ عُلماء أهل الكوفة، وقالوا:
إنَّ الخمرَ إنَّما هو خمرُ العنب خاصّةً، وما عداها ، فإنَّما يحرم منه القدرُ الذي يُسكر، ولا يحرم ما دونه ، وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفوراً لهم، وفيهم خَلقٌ مِنْ أئمَّة العلمِ والدين.
قال ابنُ المبارك:
ما وجدتُ في النبيذ رخصةً عن أحد صحيح إلاّ عن إبراهيم يعني : النَّخعي.
وكذلك أنكر الإمامُ أحمد:
أنْ يكونَ فيه شيءٌ يصحُّ ، وقد صنف كتاب "الأشربة" ولم يذكر فيه شيئاً من الرخصة ، وصنَّف كتاباً في المسح على الخفين ، وذكر فيه عن بعض السَّلف إنكاره.
فقيل له : كيف لم تجعل في كتاب " الأشربة " الرخصة كما جعلت في المسح ؟
فقال: ليس في الرخصة في المسكر حديثٌ صحيح.
وأكثرُ العلماء:
الذين يرونَ تحريمَ قليلِ ما أسكر كثيرُه يرونَ حدَّ مَنْ شربَ ما يُسكر كثيره ، وإنِ اعتقد حِلَّه متأولاً ، وهو قولُ الشافعي وأحمد
خلافاً لأبي ثور:
فإنَّه قال: لا يحدُّ لتأوُّله ، فهو كالنَّاكح بلا وليٍّ. وفي حدِّ الناكح بلا وليٍّ خلاف أيضاً ، ولكنَّ الصحيح أنَّه لا يُحَدُّ.
وقد فرَّق من فرَّق بينه وبين شرب النبيذ متأوِّلاً:
بأنَّ شرب النبيذ: المختلف فيه داعٍ إلى شرب الخمر المجمع على تحريمه.
بخلاف الناكح بغير وليٍّ: فإنَّه مغنٍ عن الزنى المجمع على تحريمه ، وموجب للاستعفاف عنه .
والمنصوصُ عن أحمد:
أنَّه إنَّما حدَّ شارب النبيذ متأوِّلاً :
لأنَّ تأويلَه ضعيف لا يُدرأُ عنه الحدُّ به ، فإنَّه قال في رواية الأثرم : يُحدُّ من شرب النبيذ متأوِّلاً .
ولو رُفِعَ إلى الإمام من طَلَّق البتة: ثم راجعها متأوِّلاً أنَّ طلاق البتة واحدة ، والإمام يرى أنَّها ثلاث لا يُفرق بينهما.
وقال: هذا غيرُ ذاك:
- أمره بيِّنٌ:في كتاب الله، وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونزل تحريم الخمر وشرابهم الفضيخ، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (كلُّ مسكرٍ خمر)، فهذا بيِّن.
- وطلاق البتة: إنَّما هو شيءٌ اختلفَ النَّاسُ فيه."
فائدة المسألة:
موقف أهل العلم في إقامة الحد على من شرب النبيذ متأولاً:
1- لا يحد كالناكح بلا ولي [أبو ثور].
2- يحد.
وفرَّق مَنْ قال يحد بينه وبين النكاح بلا ولي بأحد أمرين:
1- بأنَّ شرب النبيذ: المختلف فيه داعٍ إلى شرب الخمر المجمع على تحريمه، بخلاف الناكح بغير وليّ: فإنَّه مغنٍ عن الزنى المجمع على تحريمه ، وموجب للاستعفاف عنه.
2- أن تأويل شرب النبيذ تأويل ضعيف.
كما فرَّق الإمام أحمد بينه وبين طلاق البتة ثم راجعها متأولا:
1- بأن شرب النبيذ أمره بين في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
2- أما طلاق البتة فهو شيء اختلف الناس فيه.
=========================================
النقل الثالث:
الفرق بين المتأوِّل وغير المتأول، والفرق بين مأخذ أهل الحديث ومأخذ أهل الأهواء في المسألة الواحدة:
"َقَالَ الزُّهْرِيّ: من سُنَّة الصلاة أن يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ثُمَّ فاتحة الكتاب، ثُمَّ يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثُمَّ يقرأ بسورة .
وكان يَقُول: أول من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم سراً بالمدينة عَمْرِو بْن سَعِيد بْن العاص.
خرجه البيهقي .
ومراسيل الزُّهْرِيّ من أردئ المراسيل .
وإنما عنى:
أول من أسر بِهَا ممن أدركه ، فَقَدْ ثبت عَن أَبِي بَكْر وعمر وعثمان الإسرار بِهَا ، فلا عبرة بمن حدث بعدهم وبعد انتقال عَلِيّ بْن أَبِي طالب من المدينة ؛ فإن هؤلاء هم الخُلَفَاء الراشدون الذين أمرنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم ، وهم كانوا لا يجهرون بِهَا.
قَالَ البيهقي:
وروينا الجهر بِها عن فقهاء مكة: عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بْن جبير .
وَقَالَ الإمام أحمد -فِي رِوَايَة مهنا - :
عامة أهل المدينة يجهر بِهَا : الزُّهْرِيّ، وربيعة، وذكر ابن عَبَّاس وابن الزُّبَيْر .
وأما مَا ذكره الخَطِيْب فِي كتابه فِي الجهر بالبسملة:
من الآثار الكثيرة فِي المسألة حَتَّى اعتقد بعض من وقف عَلِيه أَنَّهُ قوْل الجمهور ، فغالب آثاره أو كثير مِنْهَا معلول لا يصح عِنْدَ التحقيق.
وكثير منهم:
يروي الجهر والإسرار...
ولقلة من كان يجهر بِها:
اعتقد بعضهم أن الجهر بِها بدعة، وأنه من شعار أهل الأهواء كالشيعة، حَتَّى تركه بعض أئمة الشافعية، منهم : ابن أَبِي هُرَيْرَةَ لهذا المعنى .
وكان سُفْيَان الثوري وغيره من أئمة الأمصار:
يعدون الإسرار بالبسملة من جملة مسائل أصول الدين الَّتِيْ يتميز بِهَا أهل السنة عن غيرهم، كالمسح على الخفين ونحوه، حَتَّى قَالَ سُفْيَان لشعيب بْن حرب: لا ينفعك ما كتبت حَتَّى ترى أن إخفاء: بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر بِها.
وقال وكيع: لا يصلى خلف من يجهر بِها.
وقال أحمد فِي الصلاة خلف من يجهر بِها:
إن كَانَ يتأول فلا بأس بِهِ ، وإن كَانَ غير ذَلِكَ فلا يصلى خلفه .
يشير إلى أَنَّهُ:
يصلي خلف من جهر بِهَا من أهل العلم والحديث ، دون من يجهر بِهَا من أهل الأهواء، فإنهم المعروفون بالجهر بِهَا .
ونقل أبو طالب ، عَن أحمد ، وسأله:
يجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم؟
قال:
بالمدينة نَعَمْ ، وهاهنا من كَانَ يرى أنها آية من كِتَاب الله مثلما قَالَ ابن عَبَّاس وأبو هُرَيْرَةَ وابن الزُّبَيْر كانوا يجهرون بِها، ويتأولونها من كِتَاب الله."([3])
فوائد المسألة:
1- تخريج القول الشاذ بوجه صحيح.
2- التفريق في المسائل بين مأخذ أهل البدع وبين مأخذ أهل العلم وملاحظة المكان الذي يفعل فيه: هل هو محل أهل البدع أو محل أهل السنة.
3- من عدَّ الجهر بالبسملة من مسائل أصول الدين وبنى عليها التمييز بين أهل السنة وأهل الأهواء فإنما نظر إلى مصره وجهته فحسب، وإلا فمن أعيان أهل السنة وعلمائهم من لا يجهر بها وفي أمصار المسلمين من يصنع ذلك من قديم.
([1]) في مطبوعة دار الحرمين وتحقيق طارق عوض الله "فلا يمنع" ويبدو أن "لا" زائدة لأنها تفسد الكلام بعدها.
([2])فتح الباري (6/178- 183).
([3])فتح الباري (6/ 422).
التعديل الأخير: