شهاب الدين الإدريسي
:: عضو مؤسس ::
- إنضم
- 20 سبتمبر 2008
- المشاركات
- 376
- التخصص
- التفسير وعلوم القرآن
- المدينة
- مكناس
- المذهب الفقهي
- مالكي
يعج الميدان الدعوي اليوم بحالة من الخلل الناشئ عن التضخم الكمي الذي فرض نفسه على حساب التربية النوعية، الأمر الذي أفرز كثيرًا من الظواهر المرضية من أخطرها تطاول الصغار على الكبار، والجهال على العلماء، وطلبة العلم بعضهم على بعض، حتى إن الواحد منهم ينسى قاموس التآخي، وما أسرع ما يخرج إلى العدوان على إخوانه، ويجردهم من كل فضل، فلا يحلم ولا يعفو ولا يصبر، ولكن يجهل فوق جهل الجاهلينا، بل إن من طلاب آخر الزمان من غاص في أوحال السب والشتم والتجريح، وانتدب نفسه للوقيعة في أئمة كرام اتفقت الأمة على إمامتهم، وهو لا يدري أنما ذلكم الشيطان يستدرجه إلى وحل العدوان، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، ويتوهم أنه يؤدي ما قد وجب عليه شرعًا.
إن الجناية على العلماء خرق في الدين، فمن ثم قال الطحاوي في «عقيدته»: «وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين -أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر- لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء؛ فهو على غير السبيل»([1]).
قال ابن المبارك: «من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته»([2]).
وقال الإمام أحمد بن الأذرعي: «الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب»([3]).
والطاعنون في العلماء لا يضرون إلا أنفسهم:
وهم مفسدون في الأرض، وقد قال -تعالى-: {إن اللَّه لا يصلح عمل المفسدين} [يونس: 81].
وهم عرضة لحرب اللَّه -تعالى-، القائل في الحديث القدسي: «من عادى لي وليًّا؛ فقد آذنته بالحرب»([4]).
وهم متعرضون لاستجابة دعوة العالم المظلوم عليهم، فدعوة المظلوم -ولو كان فاسقًا- ليس بينها وبين اللَّه حجاب، فكيف بدعوة ولي اللَّه الذي قال فيه: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»؟!(2).
قال الإمام الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان لمن أثقل عليه: «ما هذا؟! قد احتملتك وأنا ابن تسعين سنة، فاتق اللَّه في المشايخ، فربما استجيب فيك دعوة»([5]).
ولما أنكر السلطان على الوزير نظام الملك صرف الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم؛ أجابه: «أقمت لك بها جندًا لا ترد سهامهم بالأسحار»؛ فاستصوب فعله، وساعده عليه([6]).
وبما أن الجزاء من جنس العمل؛ فليبشر الطاعن في العلماء المستهزئ بهم؛ بعاقبة من جنس فعله:
فعن إبراهيم -رحمه اللَّه- قال: «إني أجد نفسي تحدثني بالشيء، فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به».
وليعلم أنه يخشى على من تلذذ بغيبة العلماء والقدح فيهم أن يبتلى بسوء الخاتمة -عياذًا باللَّه منها-؛ فهذا القاضي الفقيه الشافعي محمد بن عبداللَّه الزبيدي، قال الجمال المصري: «إنه شاهده عند وفاته وقد اندلع([7]) لسانه واسودَّ، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الشيخ محيي الدين النووي -رحمهم اللَّه جميعًا-»([8]).
وروي عن الإمام أحمد أنه قال: «لحوم العلماء مسمومة، من شمها مرض، ومن أكلها مات»([9]).
قال الحافظ ابن عساكر -رحمه اللَّه تعالى-:
«واعلم يا أخي -وفقنا اللَّه وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته-: أن لحوم العلماء -رحمة اللَّه عليهم- مسمومة،وعادة اللَّه في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه برآء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره اللَّه منهم لنعش العلم خلق ذميم»([10]).
وقال -أيضًا- رحمه اللَّه-: «.. ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب؛ ابتلاه اللَّه -تعالى- قبل موته بموت القلب، {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63].
ومن مخاطر الطعن في العلماء: التسبب إلى تعطيل الانتفاع بعلمهم.
كان الحسن البصري -رحمه اللَّه- يقول:: «الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء»([11]).
وقال السخاوي -رحمه اللَّه-: «إنما الناس بشيوخهم؛ فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش؟!»([12]).
ومن شؤم الطعن في العلماء:
أن القدح بالحامل يفضي إلى القدح بما يحمله من الشرع والدين، ولهذا أطبق العلماء على أن من أسباب الإلحاد: «القدح في العلماء».
لما استهزأ رجل من المنافقين بالصحابة -رضي اللَّه عنهم-، قائلاً: «ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء» أنزل اللَّه -عز وجل-: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أباللَّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} [التوبة: 65-66]([13]).
ويقول بكر بن عبداللَّه أبو زيد: «بادرة ملعونة... وهي تكفير الأئمة: النووي، وابن دقيق العيد، وابن حجر العسقلاني، أو الحط من أقدارهم، أو أنهم مبتدعة ضلال، كل هذا من عمل الشيطان، وباب ضلالة وإضلال، وفساد وإفساد، وإذا جرح شهود الشرع جرح المشهود به، لكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون»([14]).
ومن شؤم تلويث الجو الدعوي بالطعن في العلماء، وتجريح الأخيار:
التسبب في إنزواء بعض هؤلاء الأخيار، وابتعادهم عن ساحة التربية والتعليم والدعوة، صيانة لأعراضهم، وحفظًا لحياة قلوبهم؛ لأن القلوب الحرة يؤذيها التعكير:
فأقبح به من تعويق، وتثبيط، وتزهيد حذرنا منه العلامة الشيخ طاهر الجزائري -وهو على فراش الموت بكلمات حقها أن تكتب بماء العيون لا بماء الذهب-؛ إذ قال -رحمه اللَّه-:
«عدوا رجالكم، واغفروا لهم بعض زلاتهم، وعضوا عليهم بالنواجذ؛ لتستفيد الأمة منهم، ولا تنفروهم؛ لئلا يزهدوا في خدمتكم»([15]).
فإذا خلت الساحة من أهل العلم والتقى؛ اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، يفتونهم بغير علم، وإذا أفتوهم بغير علم؛ فلا تسأل عن الحرمات التي تستباح، والدم المعصوم الذي يهراق،والعرض الذي ينتهك، والمال الذي يهدر، ونظرة واحدة إلى الواقع الأليم في بعض بلاد المسلمين،وما يقع فيها من مجازر ومذابح بأيدي الأدعياء الذين استبدوا برأيهم، وتأولوا بأهوائهم، وركبوا رؤوسهم، ولم يصغوا إلى نصائح العلماء؛ تنبئك عن مخاطر تغييب العلماء، وقطع الصلة بينهم وبين الشباب.
إن العلماء هم «عقول الأمة»، والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرة بالبقاء.
لا ينحصر شؤم الوقيعة في العلماء في ولائم السوء التي تشيع فيها الغيبة والنميمة، لكنه يتعداها إلى آثار خطيرة في واقع الأمة، فالشر مبدؤه شرارة، «ومعظم النار من مستصغر الشرر».
وكثير من الفتن تبذر بذرتها في مجالس الغيبة والوقيعة، ولا يتوقع أصحابها أن تبلغ ما بلغت، ثم تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، وإذا بها تشتعل وتضطرم رويدًا رويدًا حتى يستعصي إطفاؤها حتى على الذين أوقدوا شرارتها، فهؤلاء الغيابون أكلة لحوم البشر هم من الذين وصفهم رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم فقال: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل اللَّه مفاتيح الخير على يديه، وويل من جعل اللَّه مفاتيح الشر على يديه»([16]).
وهاك هذه الشواهد التاريخية التي تدل على أنه «رُبَّ قولٍ يَسيلُ منه دم»([17]).
قال أبو معبد عبداللَّه بن عكيم الجهني -تابعي جليل- في خطبة له: «لا أعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان»، فقال رجل متعجبًا: «يا أبا معبد! أو أعنت على دمه، فقال أبو معبد: «إني لأرى ذكر مساوىء الرجل عونًا على دمه»([18]).
فهؤلاء الساعون بالوشاية والنميمة، أحصوا اجتهادات أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-، وصوروها بحسب ما تتخيل عقولهم الضعيفة، وقلوبهم المريضة، فاتخذوا ذلك سلمًا إلى الفتنة.
حين علم حذيفة -رضي اللَّه عنه- بمقتل عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- قال: «اللَّهم العن قتلته وشتامه، اللَّهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا، فاتخذوا ذلك سلمًا إلى الفتنة، اللَّهم لا تمتهم إلا بالسيوف»([19]).
قال عبدالواحد بن زيد للحسن البصري -وكلاهما من التابعين-: «يا أبا سعيد أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب بن أبي صفرة إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه»، فقال الحسن: «يا ابن أخي كم يد عقرت الناقة؟»، قلت: «يد واحدة»، قال: «أليس قد هلك القوم جميعًا برضاهم وتماليهم»([20]).
ولعل النزعة الخارجية التي تطل برأسها من وقت إلى آخر لتبعث الحياة في فكر الخوارج الأولين وسلوكهم هي المسؤولة عن كثير من التعديات على الحرمات، فقد قال صلى الله عليه و سلم في شأن الخوارج: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان»، وهذه العلامة هي التي جعلت أحد العلماء، وقد وقع مرة في يد بعض الخوارج، فسألوه عن هويته، فقال: «مشرك مستجير، يريد أن يسمع كلام اللَّه»، وهنا قالوا له: «حق علينا أن نجيرك، ونبلغك مأمنك»، وتلوا قول اللَّه -تعالى-: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام اللَّه ثم أبلغه مأمنه} [التوبة: 6] بهذه الكلمات نجا «مشرك مستجير»، ولو قال لهم: «مسلم» لقطعوا رأسه([21]).
وفي عصر آخر اتهم القاضي عياض بأنه «يهودي»؛ لأنه كان يلزم بيته للتأليف نهار السبت، وهذا الشيخ علاء الدين العطار تلميذ الإمام النووي
-رحمهما اللَّه- مع أنه كان شيخ زمانه- كان يمشي متأبطًا وثيقة من أحد القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يكفره مخافة أن يصادفه أفاك في مجلس.
وفي القصة التالية معتبر ومزدجر وتذكرة بأن «من الغيبة ما قتل»:
عن رشيد الخباز قال: «خرجت مع مولاي إلى مكة، فجاورنا، فلما كان ذات يوم، جاء إنسان فقال لسفيان: «يا أبا عبداللَّه! قدم اليوم حسن وعليٌّ ابنا صالح»، قال: «وأين هما؟»، قال: «في الطواف»، قال: «إذا مرَّا، فأرنيهما»، فمر أحدهما، فقلت: «هذا علي»، ومر الآخر، فقلت: «هذا حسن»، فقال: «أما الأول؛ فصاحب آخرة، وأما الآخر؛ فصاحب سيف، لا يملأ جوفه شيء»، قال: فيقوم إليه رجل ممن كان معنا، فأخبر عليًّا، ثم مضى مولاي إلى علي يسلم عليه، وجاء سفيان يسلم عليه، فقال له علي: «يا أبا عبداللَّه! ما حملك على أن ذكرت أخي أمس بما ذكرته؟ ما يؤمنك أن تبلغ هذه الكلمة ابن أبي جعفر، فيبعث إليه، فيقتله؟»، قال: فنظرت إلى سفيان وهو يقول: «أستغفر اللَّه» وجادتا عيناه([22]).
وعن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، قال: «كنا مع رجاء بن حيوة، فتذاكرنا شكر النعم، فقال: «ما أحد يقوم بشكر نعمة»، وخلفنا رجل على رأسه كساء، فقال: «ولا أمير المؤمنين؟»، فقلنا: «وما ذكر أمير المؤمنين هنا! وإنما هو رجل من الناس»، قال: فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: «أتيتم من صاحب الكساء، فإن دعيتم فاستحلفتم فاحلفوا»، قال: فما علمنا إلا بحرسي قد أقبل عليه، قال: «هيه يا رجاء، يذكر أمير المؤمنين، فلا تحتج له؟!»، قال: فقلت: «وما ذاك يا أمير المؤمنين؟»، قال: «ذكرتم شكر النعم، فقلتم: ما أحد يقوم بشكر نعمة، قيل لكم: ولا أمير المؤمنين؟ فقلت: أمير المؤمنين رجل من الناس!»، فقلت: «لم يكن ذلك»، قال: «آللَّه؟»، قلت: «آللَّه»، قال: فأمر بذلك الرجل الساعي، فضرب سبعين سوطًا، فخرجت وهو متلوث بدمه، فقال: «هذا وأنت رجاء بن حيوة؟»، قلت: «سبعين سوطًا في ظهرك خير من دم مؤمن»، قال ابن جابر: فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس يقول ويتلفَّت: «احذروا صاحب الكساء»([23]).
وكتبه الشيخ سليم بن عيد الهلالي
------------------------------------------------------------
([1]) «شرح العقيدة الطحاوية» (2/ 740).
([2]) «سير أعلام النبلاء» (8/ 408).
([3]) «الرد الوافر» (ص 197).
([4]) رواه البخاري في «صحيحه» (7/ 190).
([5]) «سير أعلام النبلاء» (14/ 159).
([6]) «تحفة الطالبين» (ص 115- 117)، و«المنهاج السوي» (ص 74-76).
([7]) خرج من الفم واسترخى، وسقط على العنفقة، وهي الشعيرات بين الشفة السفلى والذقن.
([8]) «الدرر الكامنة» (4/ 106).
([9]) «المعيد في أدب المفيد والمستفيد» (ص 71).
([10]) «تبين كذب المفتري» (ص 28).
([11]) «جامع بيان العلم» (264) (ص 236).
([12]) «فتح المغيث» (2/ 320).
([13]) «تفسير الطبري» (14/ 333-335).
([14]) «تصنيف الناس بين الظن واليقين» (ص 94).
([15]) «التعالم» (ص 91).
([16]) حسن - أخرجه ابن ماجه (237)، وابن أبي عاصم في «السنة» (رقم (297)، وحسنه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- بطرقه في «الصحيحة» (رقم 1332).
([17]) انظر: «المنهج المسلوك في سياسة الملوك» (ص 447).
([18]) «الطبقات الكبرى» لابن سعد (3/ 80).
([19]) «الكامل» لابن الأثير (3/ 51).
([20]) «الزهد» للإمام أحمد (ص 289).
([21]) وانظر صورًا مماثلة من تهور الخوارج وانتهاكهم حرمات الإسلام مع تورعهم مع الكافرين في «تلبيس إبليس» لابن الجوزي (ص 128-129).
([22]) «سير أعلام النبلاء» (7/ 366).
([23]) «سير أعلام النبلاء» (4/ 561).
إن الجناية على العلماء خرق في الدين، فمن ثم قال الطحاوي في «عقيدته»: «وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين -أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر- لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء؛ فهو على غير السبيل»([1]).
قال ابن المبارك: «من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته»([2]).
وقال الإمام أحمد بن الأذرعي: «الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب»([3]).
والطاعنون في العلماء لا يضرون إلا أنفسهم:
وهم مفسدون في الأرض، وقد قال -تعالى-: {إن اللَّه لا يصلح عمل المفسدين} [يونس: 81].
وهم عرضة لحرب اللَّه -تعالى-، القائل في الحديث القدسي: «من عادى لي وليًّا؛ فقد آذنته بالحرب»([4]).
وهم متعرضون لاستجابة دعوة العالم المظلوم عليهم، فدعوة المظلوم -ولو كان فاسقًا- ليس بينها وبين اللَّه حجاب، فكيف بدعوة ولي اللَّه الذي قال فيه: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»؟!(2).
قال الإمام الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان لمن أثقل عليه: «ما هذا؟! قد احتملتك وأنا ابن تسعين سنة، فاتق اللَّه في المشايخ، فربما استجيب فيك دعوة»([5]).
ولما أنكر السلطان على الوزير نظام الملك صرف الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم؛ أجابه: «أقمت لك بها جندًا لا ترد سهامهم بالأسحار»؛ فاستصوب فعله، وساعده عليه([6]).
وبما أن الجزاء من جنس العمل؛ فليبشر الطاعن في العلماء المستهزئ بهم؛ بعاقبة من جنس فعله:
فعن إبراهيم -رحمه اللَّه- قال: «إني أجد نفسي تحدثني بالشيء، فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به».
وليعلم أنه يخشى على من تلذذ بغيبة العلماء والقدح فيهم أن يبتلى بسوء الخاتمة -عياذًا باللَّه منها-؛ فهذا القاضي الفقيه الشافعي محمد بن عبداللَّه الزبيدي، قال الجمال المصري: «إنه شاهده عند وفاته وقد اندلع([7]) لسانه واسودَّ، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الشيخ محيي الدين النووي -رحمهم اللَّه جميعًا-»([8]).
وروي عن الإمام أحمد أنه قال: «لحوم العلماء مسمومة، من شمها مرض، ومن أكلها مات»([9]).
قال الحافظ ابن عساكر -رحمه اللَّه تعالى-:
«واعلم يا أخي -وفقنا اللَّه وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته-: أن لحوم العلماء -رحمة اللَّه عليهم- مسمومة،وعادة اللَّه في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه برآء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره اللَّه منهم لنعش العلم خلق ذميم»([10]).
وقال -أيضًا- رحمه اللَّه-: «.. ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب؛ ابتلاه اللَّه -تعالى- قبل موته بموت القلب، {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63].
ومن مخاطر الطعن في العلماء: التسبب إلى تعطيل الانتفاع بعلمهم.
كان الحسن البصري -رحمه اللَّه- يقول:: «الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء»([11]).
وقال السخاوي -رحمه اللَّه-: «إنما الناس بشيوخهم؛ فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش؟!»([12]).
ومن شؤم الطعن في العلماء:
أن القدح بالحامل يفضي إلى القدح بما يحمله من الشرع والدين، ولهذا أطبق العلماء على أن من أسباب الإلحاد: «القدح في العلماء».
لما استهزأ رجل من المنافقين بالصحابة -رضي اللَّه عنهم-، قائلاً: «ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء» أنزل اللَّه -عز وجل-: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أباللَّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} [التوبة: 65-66]([13]).
ويقول بكر بن عبداللَّه أبو زيد: «بادرة ملعونة... وهي تكفير الأئمة: النووي، وابن دقيق العيد، وابن حجر العسقلاني، أو الحط من أقدارهم، أو أنهم مبتدعة ضلال، كل هذا من عمل الشيطان، وباب ضلالة وإضلال، وفساد وإفساد، وإذا جرح شهود الشرع جرح المشهود به، لكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون»([14]).
ومن شؤم تلويث الجو الدعوي بالطعن في العلماء، وتجريح الأخيار:
التسبب في إنزواء بعض هؤلاء الأخيار، وابتعادهم عن ساحة التربية والتعليم والدعوة، صيانة لأعراضهم، وحفظًا لحياة قلوبهم؛ لأن القلوب الحرة يؤذيها التعكير:
فأقبح به من تعويق، وتثبيط، وتزهيد حذرنا منه العلامة الشيخ طاهر الجزائري -وهو على فراش الموت بكلمات حقها أن تكتب بماء العيون لا بماء الذهب-؛ إذ قال -رحمه اللَّه-:
«عدوا رجالكم، واغفروا لهم بعض زلاتهم، وعضوا عليهم بالنواجذ؛ لتستفيد الأمة منهم، ولا تنفروهم؛ لئلا يزهدوا في خدمتكم»([15]).
فإذا خلت الساحة من أهل العلم والتقى؛ اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، يفتونهم بغير علم، وإذا أفتوهم بغير علم؛ فلا تسأل عن الحرمات التي تستباح، والدم المعصوم الذي يهراق،والعرض الذي ينتهك، والمال الذي يهدر، ونظرة واحدة إلى الواقع الأليم في بعض بلاد المسلمين،وما يقع فيها من مجازر ومذابح بأيدي الأدعياء الذين استبدوا برأيهم، وتأولوا بأهوائهم، وركبوا رؤوسهم، ولم يصغوا إلى نصائح العلماء؛ تنبئك عن مخاطر تغييب العلماء، وقطع الصلة بينهم وبين الشباب.
إن العلماء هم «عقول الأمة»، والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرة بالبقاء.
ومن الوقيعة ما قتل!
لا ينحصر شؤم الوقيعة في العلماء في ولائم السوء التي تشيع فيها الغيبة والنميمة، لكنه يتعداها إلى آثار خطيرة في واقع الأمة، فالشر مبدؤه شرارة، «ومعظم النار من مستصغر الشرر».
وكثير من الفتن تبذر بذرتها في مجالس الغيبة والوقيعة، ولا يتوقع أصحابها أن تبلغ ما بلغت، ثم تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، وإذا بها تشتعل وتضطرم رويدًا رويدًا حتى يستعصي إطفاؤها حتى على الذين أوقدوا شرارتها، فهؤلاء الغيابون أكلة لحوم البشر هم من الذين وصفهم رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم فقال: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل اللَّه مفاتيح الخير على يديه، وويل من جعل اللَّه مفاتيح الشر على يديه»([16]).
وهاك هذه الشواهد التاريخية التي تدل على أنه «رُبَّ قولٍ يَسيلُ منه دم»([17]).
قال أبو معبد عبداللَّه بن عكيم الجهني -تابعي جليل- في خطبة له: «لا أعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان»، فقال رجل متعجبًا: «يا أبا معبد! أو أعنت على دمه، فقال أبو معبد: «إني لأرى ذكر مساوىء الرجل عونًا على دمه»([18]).
فهؤلاء الساعون بالوشاية والنميمة، أحصوا اجتهادات أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-، وصوروها بحسب ما تتخيل عقولهم الضعيفة، وقلوبهم المريضة، فاتخذوا ذلك سلمًا إلى الفتنة.
حين علم حذيفة -رضي اللَّه عنه- بمقتل عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- قال: «اللَّهم العن قتلته وشتامه، اللَّهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا، فاتخذوا ذلك سلمًا إلى الفتنة، اللَّهم لا تمتهم إلا بالسيوف»([19]).
قال عبدالواحد بن زيد للحسن البصري -وكلاهما من التابعين-: «يا أبا سعيد أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب بن أبي صفرة إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه»، فقال الحسن: «يا ابن أخي كم يد عقرت الناقة؟»، قلت: «يد واحدة»، قال: «أليس قد هلك القوم جميعًا برضاهم وتماليهم»([20]).
ولعل النزعة الخارجية التي تطل برأسها من وقت إلى آخر لتبعث الحياة في فكر الخوارج الأولين وسلوكهم هي المسؤولة عن كثير من التعديات على الحرمات، فقد قال صلى الله عليه و سلم في شأن الخوارج: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان»، وهذه العلامة هي التي جعلت أحد العلماء، وقد وقع مرة في يد بعض الخوارج، فسألوه عن هويته، فقال: «مشرك مستجير، يريد أن يسمع كلام اللَّه»، وهنا قالوا له: «حق علينا أن نجيرك، ونبلغك مأمنك»، وتلوا قول اللَّه -تعالى-: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام اللَّه ثم أبلغه مأمنه} [التوبة: 6] بهذه الكلمات نجا «مشرك مستجير»، ولو قال لهم: «مسلم» لقطعوا رأسه([21]).
وفي عصر آخر اتهم القاضي عياض بأنه «يهودي»؛ لأنه كان يلزم بيته للتأليف نهار السبت، وهذا الشيخ علاء الدين العطار تلميذ الإمام النووي
-رحمهما اللَّه- مع أنه كان شيخ زمانه- كان يمشي متأبطًا وثيقة من أحد القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يكفره مخافة أن يصادفه أفاك في مجلس.
وفي القصة التالية معتبر ومزدجر وتذكرة بأن «من الغيبة ما قتل»:
عن رشيد الخباز قال: «خرجت مع مولاي إلى مكة، فجاورنا، فلما كان ذات يوم، جاء إنسان فقال لسفيان: «يا أبا عبداللَّه! قدم اليوم حسن وعليٌّ ابنا صالح»، قال: «وأين هما؟»، قال: «في الطواف»، قال: «إذا مرَّا، فأرنيهما»، فمر أحدهما، فقلت: «هذا علي»، ومر الآخر، فقلت: «هذا حسن»، فقال: «أما الأول؛ فصاحب آخرة، وأما الآخر؛ فصاحب سيف، لا يملأ جوفه شيء»، قال: فيقوم إليه رجل ممن كان معنا، فأخبر عليًّا، ثم مضى مولاي إلى علي يسلم عليه، وجاء سفيان يسلم عليه، فقال له علي: «يا أبا عبداللَّه! ما حملك على أن ذكرت أخي أمس بما ذكرته؟ ما يؤمنك أن تبلغ هذه الكلمة ابن أبي جعفر، فيبعث إليه، فيقتله؟»، قال: فنظرت إلى سفيان وهو يقول: «أستغفر اللَّه» وجادتا عيناه([22]).
وعن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، قال: «كنا مع رجاء بن حيوة، فتذاكرنا شكر النعم، فقال: «ما أحد يقوم بشكر نعمة»، وخلفنا رجل على رأسه كساء، فقال: «ولا أمير المؤمنين؟»، فقلنا: «وما ذكر أمير المؤمنين هنا! وإنما هو رجل من الناس»، قال: فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: «أتيتم من صاحب الكساء، فإن دعيتم فاستحلفتم فاحلفوا»، قال: فما علمنا إلا بحرسي قد أقبل عليه، قال: «هيه يا رجاء، يذكر أمير المؤمنين، فلا تحتج له؟!»، قال: فقلت: «وما ذاك يا أمير المؤمنين؟»، قال: «ذكرتم شكر النعم، فقلتم: ما أحد يقوم بشكر نعمة، قيل لكم: ولا أمير المؤمنين؟ فقلت: أمير المؤمنين رجل من الناس!»، فقلت: «لم يكن ذلك»، قال: «آللَّه؟»، قلت: «آللَّه»، قال: فأمر بذلك الرجل الساعي، فضرب سبعين سوطًا، فخرجت وهو متلوث بدمه، فقال: «هذا وأنت رجاء بن حيوة؟»، قلت: «سبعين سوطًا في ظهرك خير من دم مؤمن»، قال ابن جابر: فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس يقول ويتلفَّت: «احذروا صاحب الكساء»([23]).
وكتبه الشيخ سليم بن عيد الهلالي
------------------------------------------------------------
([1]) «شرح العقيدة الطحاوية» (2/ 740).
([2]) «سير أعلام النبلاء» (8/ 408).
([3]) «الرد الوافر» (ص 197).
([4]) رواه البخاري في «صحيحه» (7/ 190).
([5]) «سير أعلام النبلاء» (14/ 159).
([6]) «تحفة الطالبين» (ص 115- 117)، و«المنهاج السوي» (ص 74-76).
([7]) خرج من الفم واسترخى، وسقط على العنفقة، وهي الشعيرات بين الشفة السفلى والذقن.
([8]) «الدرر الكامنة» (4/ 106).
([9]) «المعيد في أدب المفيد والمستفيد» (ص 71).
([10]) «تبين كذب المفتري» (ص 28).
([11]) «جامع بيان العلم» (264) (ص 236).
([12]) «فتح المغيث» (2/ 320).
([13]) «تفسير الطبري» (14/ 333-335).
([14]) «تصنيف الناس بين الظن واليقين» (ص 94).
([15]) «التعالم» (ص 91).
([16]) حسن - أخرجه ابن ماجه (237)، وابن أبي عاصم في «السنة» (رقم (297)، وحسنه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- بطرقه في «الصحيحة» (رقم 1332).
([17]) انظر: «المنهج المسلوك في سياسة الملوك» (ص 447).
([18]) «الطبقات الكبرى» لابن سعد (3/ 80).
([19]) «الكامل» لابن الأثير (3/ 51).
([20]) «الزهد» للإمام أحمد (ص 289).
([21]) وانظر صورًا مماثلة من تهور الخوارج وانتهاكهم حرمات الإسلام مع تورعهم مع الكافرين في «تلبيس إبليس» لابن الجوزي (ص 128-129).
([22]) «سير أعلام النبلاء» (7/ 366).
([23]) «سير أعلام النبلاء» (4/ 561).