شهاب الدين الإدريسي
:: عضو مؤسس ::
- انضم
- 20 سبتمبر 2008
- المشاركات
- 324
- التخصص
- التفسير وعلوم القرآن
- المدينة
- مكناس
- المذهب الفقهي
- مالكي
أسباب ظاهرة التطاول على العلماء الجزء الأول
للشيخ سليم بن عيد الهلالي
للشيخ سليم بن عيد الهلالي
جماعها: الانحراف عن هدي السلف الصالح في التربية والتأديب، والتعليم والتهذيب، أما بيانها؛ فدونكه:
السبب الأول: تشييخ الصحف، وافتقاد القدوة:
فقد كان السلف يمنعون من كانت وسيلته إلى الفقه الكتب من الفتوى، ومن التدريس، كما يمنعون من تلقي القرآن من المصحف من الإقراء.
قال أبو زرعة: «لا يفتي الناس صحفي، ولا يقرئهم مصحفي»([1]).
وقال بعضهم: «من أعظم البلية: تشييخ الصيحفة».
وقال الإمام الشافعي -رحمه اللَّه-: «من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام».
من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة *** يكن من الزيغ والتحريف في حرم
ومن كان أخذه للعلم عن كتب *** فعلمه عند أهل العلم كالعدم
وقال الإمام ابن جماعة -رحمه اللَّه-: «وليجتهد على أن يكون الشيخ ممن له على العلوم الشرعية تمام الاطلاع، وله مع من يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع، لا ممن أخذ عن بطون الأوراق، ولم يعرف بصحبة المشائخ الحذاق»([2]).
قال القاضي عياض([3]) -رحمه اللَّه- في ترجمة أبي جعفر الداودي الأسدي: «بلغني أنه كان ينكر على معاصريه من علماء القيروان سكناهم في مملكة بني عبيد، وبقاءهم بين أظهرهم، وأنه كتب إليهم مرة بذلك فأجابوه: اسكت لا شيخ لك! أي: لأن درسه كان وحده، ولم يتفقه في أكثر علمه عند إمام مشهور، وإنما وصل إلى ما وصل بإدراكه، يشيرون أنه لو كان له شيخ يفقهه حقيقة الفقه؛ لعلم أن بقاءهم مع من هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقية صالحة للإيمان».
وأصل هذا الجواب قديم، قائم في نفوس العلماء سلفًا وخلفًا، وممن روي عنه من الأئمة المتقدمين: أبو حنيفة -رحمه اللَّه تعالى-، فقد أسند الخطيب: قيل لأبي حنيفة: «في المسجد حلقة ينظرون في الفقه»، فقال: «لهم رأس؟»، قالوا: لا، قال: «لا يفقه هؤلاء أبدًا»([4]).
وقال الإمام أبو إسحاق الشاطبي -رحمه اللَّه تعالى-: «وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان:
أحدهما: المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ لوجهين([5]):
الأول: خاصية جعلها اللَّه -تعالى- بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء، فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه، فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة؟ وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه اللَّه للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم، ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه.
وهذا ليس ينكر؛ فقد نبه عليه الحديث الذي جاء: «إن الصحابة انكروا أنفسهم عندما مات رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم»([6]).
وحديث حنظلة الأسدي حين شكا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حال يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم: «لو أنكم تكونون كما تكونون عندي؛ لأظلتكم الملائكة بأجنحتها»([7]).
وقد قال عمر بن الخطاب: «وافقت ربي في ثلاث»([8])، وهي من فوائد مجالسة العلماء؛ إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وتأدبهم معه، واقتدائهم به؛ فهذا الطريق نافع على كل تقدير.
وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل، وكانوا يكرهون ذلك، وقد كرهه مالك، فقيل له: فما نصنع؟ قال: «تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة».
وحكي عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان، وخيف على الشريعة الاندراس.
الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو
-أيضًا- نافع في بابه؛ بشرطين:
الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول، ومن مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: «كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال»، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئًا، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد.
والشرط الآخر: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر.
أما التجربة؛ فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما يبلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري، فأعمال المتقدمين -في إصلاح دنياهم ودينهم- على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم، وأقوالهم، وحكاياتهم؛ أبصر العجب في هذا المعنى.
وأما الخبر؛ ففي الحديث: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»([9]).
وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك.
وعن ابن مسعود؛ أنه قال: «ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخضب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيهدم الإسلام ويثلم([10]).
ومعناه موجود في «الصحيح» في قوله: «ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم؛ فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون»([11]).
والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا، وأعظم ذلك العلم؛ فهو إذًا في نقص بلا شك.
فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم؛ أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصًا علم الشريعة، الذي هو العروة الوثقى، والوزر الأحمى، وباللَّه تعالى التوفيق»([12]).
وفصل بكر بن عبداللَّه أبو زيد أهمية التلقي عن الأشياخ فقال: «الأصل في الطلب أن يكون بطريق التلقين والتلقي عن الأساتيذ، والمثافنة للأشياخ، والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف وبطون الكتب، والأول من باب أخذ النسيب عن النسيب الناطق وهو المعلم، أما الثاني عن الكتاب؛ فهو جماد فأنى له اتصال النسب.
وقد قيل: «من دخل في العلم وحده خرج وحده»([13])؛ أي: من دخل في طلب العلم بلا شيخ خرج منه بلا علم؛ إذ العلم صنعة، وكل صنعة محتاج إلى صانع، فلا بد إذًا لتعلمها من معلمها الحاذق.
وهذا يكاد يكون محل إجماع كلمة من أهل العلم إلا من شذ مثل: علي بن رضوان المصري الطبيب (م سنة 453 هـ)، وقد رد عليه علماء عصره، ومن بعدهم، قال الحافظ الذهبي -رحمه اللَّه تعالى- في ترجمته له([14]):
«ولم يكن له شيخ، بل اشتغل بالأخذ عن الكتب، وصنف كتابًا في تحصيل الصناعة من الكتب، وأنها أوفق من المعلمين وهذا غلط» ا.هـ.
وقد بسط الصفدي في «الوافي» الرد عليه، وعنه الزبيدي في «شرح الإحياء» عن عدد من العلماء معللين له بعدة علل؛ منها ما قاله ابن بطلان في الرد عليه:
«السادسة: يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم وهي معدومة عند المعلم، وهي التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ، والغلط بروغان البصر، وقلة الخبرة والإعراب، أو فساد الموجود منه، وإصلاح الكتاب وكتابة ما لا يقرأ، وقراءة ما لا يكتب، ومذهب صاحب الكتاب، وسقم النسخ، ورداءة النقل، وإدماج القارئ مواضع المقاطع، وخلط مبادئ التعليم، وذكر ألفاظ مصطلح عليها في تلك الصناعة، وألفاظ يونانية لم يخرجها الناقل من اللغة كالنورس، فهذه كلها معوقة عن العلم، وقد استراح من تكلفها عند قراءته على المعلم.
وإذا كان الأمر على هذه الصورة؛ فالقراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه وهو ما أردنا بيانه...
قال الصفدي: ولهذا قال العلماء: لا تأخذ العلم من صحفي، ولا من مصحفي؛ يعني: لا تقرأ القرآن على من قرأ من المصحف، ولا الحديث وغيره على من أخذ ذلك من الصحف...» ا.هـ.
والدليل المادي القائم على بطلان نظرة ابن رضوان: أنك ترى آلاف التراجم والسير على اختلاف الأزمان ومر الأعصار وتنوع المعارف، مشحونة بتسمية الشيوخ والتلاميذ ومستقل من ذلك ومستكثر، وانظر شذرة من المكثرين عن الشيوخ حتى بلغ بعضهم الألوف كما في «العزاب» من «الإسفار» لراقمه.
وكان أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي([15]) إذا ذكر عنده ابن مالك، يقول: أين شيوخه؟
وقال الوليد([16]): كان الأوزاعي يقول: «كان هذا العلم كريمًا يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله».
ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه خلل، ولا سيما في ذلك العصر، حيث لم يكن بعد نقط ولا شكل، فتتصحف الكلمة بما يحيل المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال، وكذلك التحديث من الحفظ يقع فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتاب محرر.
ولابن خلدون مبحث نفيس في هذا كما في «المقدمة»([17]) له، ولبعضهم:
من لم يشافه عالمًا بأصوله *** فيقينه في المشكلات ظنون
وكان أبو حيان كثيرًا ما ينشد:
يظن الغمر أن الكتب تهدي*** أخا فهمٍ لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها *** غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ *** ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى *** تصير أضل من «توما الحكيم»([18])
السبب الثاني: استعجال التصدر قبل تحصيل الحد الأدنى من العلم الشرعي بحجة الدعوة.
يقول: الدكتور ناصر العقل: «ومن الأخطاء التي ينبغي التنبيه عليها في مسألة الفقه، فصل الدعوة عن العلم، هذه توجد في الشباب أكثر من غيرهم، يقولون: الدعوة شيء، والفقه في الدين شيء آخر، فلذلك نجد أن بعض الشباب يهتم بالدعوة عمليًّا، ويبذل فيها جهده ووقته، لكن تحصيله للفقه والعلم الشرعي قليل جدًّا، مع أن العكس هو الصحيح، ينبغي أن يتعلم، وأن يتفقه، وأن يأخذ العلوم الشرعية ثم يدعو، ولا مانع أن يؤجل الدعوة سنة، أو سنتين، أو خمسًا حتى يشتد عوده، ويكون عنده من العلم الشرعي ما يدعو به، أما أن يبدأ بعض الشباب بالدعوة للَّه -سبحانه وتعالى- بمجرد العاطفة وعلم قليل، ثم ينقطع عن العلم وعن المشايخ، فهذه على المدى البعيد سيكون لها أثرها الخطير في الأمة، سيخرج دعاة بلا علماء، كما حصل في البلاد الإسلامية الأخرى»([19]).
قال عمر -رضي اللَّه عنه-: «تفقهوا قبل أن تسودوا»([20]).
وقال الشافعي -رحمه اللَّه-: «إذا تصدر الحدث؛ فاته علم كثير»([21]).
وعن مالك قال: «أخبرني رجل دخل على ربيعة بن أبي عبدالرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: «لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق»([22]).
قال الإمام الشاطبي -رحمه اللَّه-: «... السائل لا يصح أن يسأل من لا يعتبر في الشرعية جوابه؛ لأنه إسناد أمرٍ إلى غير أهله، والإجماع على عدم صحة مثل هذا، بل لا يمكن في الواقع؛ لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه: أخبرني عما لا تدري! وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل به على سواء، ومثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء، إذ لو قال له: دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء؛ لعدَّ من زمرة المجانين، فالطريق الشرعي أولى؛ لأنه هلاك أخروي، وذلك هلاك دنيوي خاصة»([23]).
السبب الثالث: التعالم وتصدر الأحداث:
فترى «أبتثيا»([24]) صريع الجهل، متشبعًا بما لم يعط، ينصب نفسه مرجعًا للفتيا، ويتملكه العجب؛ فيلمز أكابر العلماء، ويفري أعراضهم، ويسفه أقوالهم، فيصد الناس عن سبيل ربهم، يصدهم عن الأدلاء عليه.
عن عبداللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، قال: «إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كباركم، فإذا كان العلم في صغاركم سفَّه الصغير الكبير»([25]).
وقال معاوية -رضي اللَّه عنه-: «إن أغرى الضلالة لرجل يقرأ القرآن؛ فلا يفقه فيه، فيعلمه الصبي والعبد والمرأة، فيجادلون به أهل العلم»([26]).
ولقد أصاب المأمون عندما قال -متهكمًا بهذا الضرب من الطلبة-: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول: «أنا من أهل الحديث».
وفي هؤلاء يقول أبو الحسن القالي -رحمه اللَّه-:
لما تبدلت المجالس أوجهًا *** غير الذي عهدته من علمائها
ورأيتها محفوفة بسوى الأولى *** كانوا ولاة صدورها وفنائها
أنشدت بيتًا سائرًا متقدمًا *** والعين قد شرقت بجاري مائها
أما الخيام فإنها كخيامهم *** وأرى نساء الحي غير نسائها
ويقول -أيضًا-:
تصدر للتدريس كل مهوس *** بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا *** ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها *** كلاها وحتى سامها كل مفلس
السبب الرابع: الاغترار بكلام العلماء بعضهم في بعض.
فيحاول بعضهم اعتبار ذلك موضع أسوة وقدوة، غافلاً عن القاعدة الجليلة التي أصلها العلماء في ذلك، وهي أن «كلام الأقران في بعضهم البعض يطوى، ولا يحكى»؛ إما لأنه ناشئ عن اجتهاد أو تأويل، وإما لأنه ناشئ عن تنافس ومعاصرة ومنافرة مذهبية، مما لا يكاد يسلم منه بشر، وما ينقل من ذلك إما لا يصح عنهم، وإما يصح فيجب أن نغض الطرف عنه، ونحمله ما أمكن على أحسن الوجوه، وإلا فيجب طيه وكتمانه، والاشتغال بالاستغفار لهم؛ كما رغبنا القرآن الكريم في ذلك.
وقال الحافظ الذهبي -رحمه اللَّه تعالى-: «كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم اللَّه، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس»([27]).
وقال الإمام أحمد بن حنبل: «كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه»([28]).
وقال الإمام الطبري: «لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك؛ للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه»([29]).
وقال الإمام أبو عمر بن عبدالبر -رحمه اللَّه-: «والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة، تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها، من المشاهدة والمعاينة لذلك، بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر»([30]).
وقال الإمام تاج الدين السبكي -رحمه اللَّه-: «... فكثيرًا ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، فيغير على الكتاب والمؤلف ومن عاشره، واستن بسنته مع أن المؤلف لم يرد ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل، فإذا كان الرجل ثقة ومشهودًا له بالإيمان والاستقامة؛ فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفظ كتاباته على غير ما تعود منه، ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله»([31]).
وقال -أيضًا- رحمه اللَّه-: «ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض؛ إلا إذا أتى ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك، وإلا فاضرب صفحًا عما جرى بينهم، فإنك لم تخلق لهذا، فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك، ولا يزال طالب العلم عندي نبيلاً حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين، ويقضي لبعضهم على بعض.
فإياك ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري، أو بين مالك وابن أبي ذئب، أو بين أحمد بن صالح والنسائي، أو بين أحمد ابن حنبل والحارث المحاسبي، وهلم جرًّا إلى زمان الشيخ عز الدين بن عبدالسلام والشيخ تقي الدين ابن الصلاح، فإنك إن اشتغلت بذلك خشيت عليك الهلاك، فالقوم أئمة أعلام، ولأقوالهم محامل ربما لم يفهم بعضها، فليس لنا إلا الترضي عنهم، والسكوت عما جرى بينهم، كما يفعل ذلك فيما جرى بين الصحابة -رضي اللَّه عنهم-»([32]).
فائدة: من يقضي بين العلماء([33])؟
سئل يومًا العلامة أبو العباس عبداللَّه بن أحمد بن إبراهيم الأبياني عن فقيهين من أصحابه وتلاميذه، وهما: أبو القاسم بن زيد، وسعيد بن ميمون، فقيل له: «أيهما أفقه»، فقال: «إنما يفصل بين عالمين من هو أعلم منهما»([34]).
إذا تلاقى الفحول في لَجَب *** فكيف حال الغصيص في الوسط
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) «الفقيه والمتفقه» (2/ 97).
([2]) «تذكرة السامع والمتكلم» (ص 87).
([3]) «ترتيب المدارك» (4/ 623).
([4]) «الفقيه والمتفقه» (2/ 83).
([5]) لم يذكر إلا وجهًا واحدًا؛ فتأمل.
([6]) «صحيح البخاري» (1242).
([7]) أخرجه مسلم (2750).
([8]) أخرجه البخاري (402)، ومسلم (2399).
([9]) رواه البخاري (3651)، ومسلم (2533) بلفظ: «خير الناس قرني».
([10]) رواه الدارمي (1/ 65)، والطبراني في «الكبير» (9/ 109) وغيرهما.
([11]) رواه البخاري (100)، ومسلم (2673).
([12]) «الموافقات» (1/ 145-154).
([13]) «الجواهر والدرر» للسخاوي (1/ 58).
([14]) «سير أعلام النبلاء» (18/ 105).
([15]) مقدمة التحقيق لكتاب «الغنية» للقاضي عياض (ص 16-17).
([16]) «سير أعلام النبلاء» (7/ 114).
([17]) (4/ 1245).
([18]) «حلية طالب العلم» (22- 24).
([19]) «الفقه في الدين» (ص 58).
([20]) «فتح الباري» (1/ 166).
([21]) «فتح الباري» (1/ 166).
([22]) «جامع بيان العلم» (1225/ 2410).
([23]) «الموافقات» (4/ 192-193).
([24]) الذي يعرف حروف الهجاء: أ ب ت ث ... إلخ.
([25]) «جامع بيان العلم» رقم (1059).
([26]) «جامع بيان العلم» رقم (2365) (ص 1203).
([27]) «ميزان الاعتدال» (1/ 111).
([28]) «تهذيب التهذيب» (7/ 273).
([29]) «هدي الساري مقدمة فتح الباري» (ص 428).
([30]) «جامع بيان العلم» (2/ 1093).
([31]) «قاعدة في الجرح والتعديل» (ص 53).
([32]) «طبقات الشافعية» (2/ 39).
([33]) انظر: «الرد الوافر» (ص 14-20).
([34]) «ترتيب المدارك» (2/ 350).